الله الخالق

“اؤمن باله واحد، آب ضابط الكلّ، خالق السماء والارض، كل ما يُرى وما لا يُرى”. بهذا الإعلان يبدأ دستور الايمان الذي وُضع لتحديد إيمان الكنيسة وصونه من الهرطقات. لم يعرِّف الآباء المشاركون في صوغ هذا الدستور اللهَ الآبَ الإ بكونه خالقاً وأبا ربنا يسوع المسيح الذي هو من جوهره. فهم، ونحن ايضا، لم نعرف الآب الا في حدود ما كشفه الابن ولهذا يسترسل دستور الايمان اكثر في الكلام عن الابن.

اول صورة يقدّمها لنا العهد القديم عن الله هي صورته كخالق”من العدم”، من لا شيء، ذلك انه لم يكن ثمة مادة سابقة لوجود الخليقة، فكل ما هو موجود إنما يأخذ وجوده من الله ويستمد منه ديمومته. يأتي هذا من الصلة الموجودة في العهد القديم بين صورة الله كخالق وصورته كمخلّص. فالاله الذي أخرجهم من ارض العبودية في مصر وأعادهم من جلاء بابل وأنقذهم من ايدي أعدائهم وحرّرهم، هو نفسه الاله الذي خلق العالم. أتى التأكيد على أن الله هو الخالق نتيجة الخبرة التي عاشها الشعب، خبرة الخلاص من العبودية.

يضيف العهد الجديد، على هذا الايمان بالله الخالق، الايمان بأن الله قد خلق كل شيء بواسطة المسيح. يقول اللاهوتي يوحنا في مقدمة إنجيله: ” به (اي بالكلمة) كوِّن كل شيء وبدونه لم يكن شيء واحد مما كوِّن ” (ا: 3)، ” والعالم به كوِّن”(1: 10). وفي الرسالة الى اهل كولوسي يقول الرسول بولس: “…اذ فيه خُلق جميع ما في السموات وعلى الارض ما يُرلا وما لا يُرى…به واليه خُلق كل شيء، انه قبل كل شيء، وفيه يثبت كل شيء” (1: 15- 17). اذا كان كل شيء قد وُجد بالمسيح، فكل شيء يصير اليه ايضا. الخلق تمّ به وهو غاية الخلق.

يرتبط فعل الخلق في العهد الجديد بمفهوم الخلاص. وليست مقدّمة الرسالة الى العبرانيين الا تأكيدا على هذا الامر. فبعد أن تكلم كاتب الرسالة عن الابن “الذي به أنشأ الله العالم”(1: 2) يتابع قائلا: “الذي بعد أن طهّرنا من خطايانا، جلس عن يمين الجلال في الاعالي” (1: 3). فبما ان الخلق قد وُجد بالمسيح فهو قادر على خلاصه.
أدى سوء فهم الصلة الموجودة بين الطبيعة الالهية والخليقة الى وقوع عدد من العلماء في الهرطقة. هذه حال العلامة اوريجانس(القرن الثالث) الذي اعتقد ان عمل الخلق الذي قام به الله إنما هو متأتٍّ من طبيعة الله، وبما أن طبيعته ازلية غير متحولة، لذا لم يكن وقت لم يكن فيه الله خالقا. فالعالم اذا، بحسب منطق اوريجانس، ازلي لان محبة الله وصلاحه كانا بحاجة دائمة الى موضوع لهذه المحبة وهذا الصلاح. وارتبط مفهوم الخلق عنده بموضوع الكلمة، فاذا كان الكلمة أزليا فلا بدّ ان يكون الخلق بدوره أزليا ايضا. أثرت هذه النظرة الاوريجانيّة على آريوس سلبيا فقال بعدم أزلية الخلق وتاليا بعدم أزلية الكلمة وعدم ألوهته ايضا.

لاحظ الآباء خطورة هذا الكلام ووجدوا أن الحل يكمن في التمييز بين إرادة الله وطبيعته. فالخلق، بالنسبة الى القديّسين اثناسيوس وكيرلس الاسكندريين ويوحنا الدمشقي وغيرهم، ليس ناتجا من طبيعة الله بل من إرادته. اي أن الله يبقى حرا في أن يخلق او لا يخلق. وقد بقي الله، بعد الخلق متساميا عن العالم، فهو من طبيعة مغايرة لطبيعة الخلق. وهذا ما علّمه الكتاب المقدس حين شدّد على حرية الله وتساميه المطلَقين في عملية الخلق. وردّاً على قول آريوس بخلق الكلمة وعدم أزليته، يقول القديس اثناسيوس الكبير:” الابن ليس مخلوقا بواسطة إرادة الآب، انه الابن الوحيد لذات الآب”.

خصّ الله الانسان بالسيادة على الخليقة، فالانسان قد صُنع على صورة الله ومثاله”….. ليتسلّط على سمك البحر وطير السماء والبهائم وجميع الارض” (تكوين 1: 26 – 28). ليس من مجد أعظم من هذا أن يكون الانسان، من بين جميع المخلوقات، هو الذي أقامه الله سيدا للخليقة. هذا المجد مُعطى للانسان بقدر ما هو أمين على صورة الله التي فيه، وتاليا بقدر ما هو مشارك في حياة الخالق ومجده.

يبقى العالم موضوع محبة الله وعنايته، فالطبيعة خُلقت لتشارك الله في مجده. يقول القديس مكسيموس المعترف:” الله هو المبدأ، هو المركز وهو الآخِر. هو المبدأ لانه الخالق، هو المركز لانه يعتني بالخليقة، وهو الآخِر لانه هو الغاية ف” كل شيء منه وبه واليه. له المجد أبدَ الدهور” (رومية 11: 36)”.

الهدف الاخير للخليقة هو اجتماع السموات والارض، هذا نتذوقه اليوم في تشارُكِنا في القداس الإلهي، حيث كل المخلوقات، المنظورة وغير المنظورة، البشر والملائكة، الراقدون والاحياء، تقدّم التسبيح للخالق. هذه هبةٌ أُعطيناها فلنفرح بها.

عن نشرة رعيتي 1996

arArabic
انتقل إلى أعلى