والدة الإله

تحظى مريم فتاة الله بمكانة عظمى في قلب معظم الذين انتسبوا الى المسيح المخلّص، ولها في أفئدتهم محبة ووجد كبيران. غير أن هذا لا يمنع القول ان مسيحيّي العالم -وإن قالوا، على العموم، قولا واحدا في حقيقة تجسد ابن الله الوحيد- لا يتفقون في وصف مريم وتكريمها ولا في تحديد مساهمتها في خدمة السرّ “الذي قبل الدهور”. ولا يخفى على مطّلع ان الفكر الارثوذكسي ابى العقائد المستحدثة (مثلا: عقيدة “الحَبَل بلا دَنَس”…)، التي لا سند لها، التي حدّدتها كنيسة رومية، وخطّأ موقف بعض فئات البروتستنتية الذين تجاهلوا حقيقة مريم وتحدثوا عنها باصطلاحات غريبة عن التراث المستقيم. ويبقى أن ثمة بعض الهراطقة أعداء التجسد، امثال “شهود يهوه” اليوم، يحتقرون مريم احتقارا كاملا -وإن أظهروا في بعض المواقف عكس ما هو ثابت في تعليمهم- اذ ينعتونها بما لا يليق بمن حملت في حشاها بابن الله الوحيد ومكّنته من أن يأتي الى العالم بشرا ويفتدينا بدمه.

ماذا تقول الارثوذكسية، التي حافظت على استقامة العقيدة، عن والدة الإله، وما هي مكانتها الحقيقية في العبادة والضمير الارثوذكسيين؟

غنيّ عن البيان، بادئ بدء، أن الكتب المقدسة لا تتحدث عن مريم والدة الله او تذكرها العقيدة الارثوذكسية الا في معرض الحديث عن تدبير الله الخلاصي. غير أن هذا لا يمنع الإشارة الى كون العهد الجديد قد لفت، منذ البدء، الى خصائص جذابة في شخصية مريم جعلتها شفيعة العالم الحارة ومرشدة الذين يعشقون القداسة الى ينبوع القداسة، وذلك انها برزت فيه انها مثال المؤمنة الخاضعة لمشيئة الله (لوقا 1: 38) التي تحفظ كلمات يسوع في قلبها (لوقا 2: 19)، وتتبعه، بإخلاص، حتى النهاية.

ولقد أدركت الارثوذكسية عجز الكلمات البشرية وقصورها عن التعبير عن سر الإله المتجسد، فحاولت، قدر استطاعتها، حصر تحديداتها العقائدية، وبخاصة المتعلقة بمريم، بعبارات قليلة تعلنها في كل خدمة طقسية، اذ تناديها بأنها: “الكلية القداسة، الطاهرة، الفائقة البركات، المجيدة، سيدتنا، والدة الإله، الدائمة البتولية مريم”. وهذا النداء يحوي النعوت الثلاثة الرئيسة التي تخص الارثوذكسيةُ مريمَ بها، وهي: “والدة الإله” theotokos، وهو اللقب الذي منحه اياها المجمع المسكوني الثالث المنعقد في افسس في العام 431؛ “والدائمة البتولية” aeparthenos، وهو اللقب الذي جاء به المجمع المسكوني الخامس المنعقد في القسطنطينية في العام 553؛ واما لقب: “الكلية القداسة” panagia، فلم يحدَّد عقائديا، ولكنه مقبول ويستخدمه جميع الارثوذكسيين في العالم.

هذا وقد ميَّزت الارثوذكسية، في تعليمها، في ما تتكلم عن مريم، بين اصطلاحي “العبادة” و”التكريم”، فهي لا تدعو، مطلقا، الى عبادة مريم كعبادة الله، وإنما تكرمها وتعظّمها لأن “إلهاً حقا وُلِدَ منها” (يوحنا الدمشقي)، وهي بذا تطيع ما جاء على لسانها في انجيل لوقا: “ها منذ الآن (اي منذ قبولي الإلهَ في أحشائي) تكرمني جميعُ الأجيال” (1: 48).

تحمل عبارة “والدة الإله” تراثا إيمانيا ذا قيمة لاهوتية عظيمة، فاللفظة اليونانية تعني “حاملة الإله” اي التي حملت الإله في رحمها، وقد وُضعَ فحواها اولا على لسان أليصابات زوجة زكريا الشيخ التي لفظت ذاك النداء التعظيمي (“من اين لي هذا أن تأتي أم ربّي اليّ؟” لوقا 1: 41-43؛ انظر ايضا غلاطية 4: 4) الذي راج، وفق شهادة كليمنضس الإسكندري، وانتشر انتشارا واسعا، منذ بدء المسيحية. استعمل العبارة الكثيرون من الآباء الأولين، ومنهم: هيبوليتس، واوريجانس الذي شرحها في تفسيره للرسالة الى كنيسة رومية، وديديموس الضرير، وألكسندروس بطريرك الاسكندرية الذي خطّها في رسالة وجهها الى مجمع عُقد ضد بدعة آريوس في الاسكندرية في العام 320 (اي قبل المجمع المسكوني الاول بخمس سنوات)، وكيرلُّس الاورشليمي، وغريغوريوس النيصصي، وكيرلُّس الاسكندري… وغيرهم، مما يؤكد انها كانت معروفة ورائجة قبل أن سطرها الآباء عقيدةً في مجمع أفسس.

يقول الاسقف كاليستوس (وير): إن تسمية والدة الإله “مفتاحُ العبادة الارثوذكسية الموجّهة الى العذراء”، وذلك اننا “نكرم مريم لأنها والدة إلهنا، ولا نكرمها منفصلة عنه وإنما بسبب علاقتها بالمسيح” (انظر الايقونات الارثوذكسية التي تظهرهما دائما معا، ولا تصوّر مريم من دون ابنها). ويتابع الأسقف بقوله: “إن التعليم الارثوذكسي المتعلق بوالدة الاله منبثق من تعليمها الخاص بالمسيح… وحين أكد آباء مجمع أفسس (تسمية مريم بوالدة الإله)، لم يكن ذلك بقصد تمجيدها بل من اجل الحفاظ على العقيدة الحق المتعلقة بشخص المسيح”، ويخلص الى القول: “وأولئك الذين يرفضون تكريم مريم هم انفسهم اولئك الذين لا يؤمنون حقا بالتجسد”.

ليس لقب “والدة الإله”، اذاً، هو فقط لقبا تكريميا لمريم وإنما هو ضرورة لاهوتية تحتّمها، كما يقول القديس كيرلُّس الاسكندري، “حقيقة التجسد”، ولا يمكن لأحد أن يرفض هذه الحقيقة ويُقبَل في الإيمان الحق. فمريم هي ام الرب، وهي أمنا التي لا تنفك تدلنا على أن نتبع يسوع ونطيعه، اذ إن صوتها ما زال يلحّ علينا بقوة: “مهما قال لكم فافعلوه” (يوحنا 2: 5).

عن نشرة رعيتي 1998

arArabic
انتقل إلى أعلى