المسيح الرب هو مخلّصنا لأنه هو إيّاه الإله الإنسان. في شخصه يصير الإله إنساناً ويصير الإنسان إلهاً. بشخصه الإلهي الإنساني يشكّل المسيح الرب أعجوبة مزدوجة: أنسنةَ الله وتأليهَ الإنسان. هذا هو الخبر السار، خلاصة مجمل العهد الجديد، الذي به يحيا الجسد الإلهي الإنساني للمسيح الكنيسة. فالكنيسة، التي هي ذاك الإعلان الإلهي الحيّ أبداً، تذيع بالكلام ذاك الخبر السار البهج جداً بصوت الآباء القدّيسين وفي صلواتها.
كما في آدم الجديد، كما في زعيم جنسنا البشري، في المسيح الرب، تتألّه الطبيعة البشرية في مبدئها. الواقع أن خلاص الجنس البشري ليس سوى تأليهه في شخص الإله الإنسان، المسيح. إن تأليه الطبيعة البشرية في الإله الإنسان، المسيح، إنما ينجم عن وحدتها الأقنومية مع الإله الكلمة. غير أن الطبيعة البشرية، في هذه الوحدة، لا تفقد ما هو محدود فيها ولا ما يجعلها بشرية. الإله الكلمة، بكلمات القدّيس يوحنا الدمشقي المحكَمة، يتّخذ الإنسان بكليّته وذلك ليعطي الخلاص للإنسان بكليّته. المسيح اتّخذ الإنسان كله، كلَّ ما يختصّ به، ما خلا الخطيئة، ليقدّس الكل.
إن تأليه الطبيعة البشرية في شخص الإله الإنسان، المسيح، يتمّ على نحو تتّخذ معه الطبيعةُ الإلهيةُ للكلمة الطبيعة البشريّة وتُسبغُ عليها كمالاتها. بتألّه الطبيعة البشريّة، على هذا النحو، لم تتغيّر طبيعتها ولا خواصها الطبيعية. إن الطبيعة البشريّة للمسيح الإله، بسبب وحدتها الصميمية، أي وحدتها الأقنومية مع الإله الكلمة، قد تألّهت بفعل القوى الإلهية دون أن تفقد خصوصياتها الطبيعية.
إن صيرورة الإله إنساناً يُعبَّر عنها بكلمتي “تجسّد” و”أنسنة”. فيما يُعبَّر عن صيرورة الإنسان إلهاً بلفظتي “تألّه” و “تأليه”. إن تأليه الطبيعة البشريّة هو ناتج تجسّد الله. وتجسّد الله هو الوسيلة التي بها يكشف الله معنى وجود الكائن البشري ومآله، أي التألّه، كما يوفّر الكيفية الإلهية البشريّة لتحقيق هذا القصد. إن المسيح الرب، بصيرورته إنساناً، حدّد للإنسان هدفاً؛ وإذ اتّخذ البشَرَة، جعل للبشرَة غاية، ولما اخترق المادة، حدّد للمادة مرمى. كذلك إذ صار الرب المسيح إنساناً أعطى كل ما هو بشري معنى: للولادة والحياة والموت. فيه أدركت الطبيعة البشريّة مضمونها الخالد وأصابت مرماها. قبله كانت الطبيعة البشريّة منقطعة عن الله بالخطيئة، كما كانت هوة لا تُردم ممتدّة ما بينها وبين الله. ولكن منذ أن حلّ الكلمة امتدّ جسر فوق الهوّة. أقبل الله في البشرَة، في الطبيعة البشريّة، اتحد نفسه بها في الصميم؛ اتّخذها إلى الأبد.
الله، بتجسّده، صار شريكاً في الطبيعة البشريّة لكي يتسنّى للناس أن يصيروا شركاء الطبيعة الإلهية. بالتجسّد الإلهي صار المؤقّت في الطبيعة البشريّة أبدياً وصار اليسير هائلاً. أو كما ورد في الأقوال الملهمة للقدّيس غريغوريوس النيصصي: “يخرج الإنسان من طبيعته الخاصة، يصير المائت أبدياً والفاني عديم الفناء والمؤقّت خالداً؛ يصير الإنسان، بكلمة، إلهاً”.
إن هدف التدبير الإلهي الإنساني للخلاص، من قِبَل مخلّصنا، هو خلاص الإنسان بالتأليه. هذه هي الحقيقة الإلهية، هذه هي الكيفية الأولى لظهوره للجنس البشري، والكيفية الأولى لتحقيقها هي تجسّد الإله الكلمة. التألّه، بحسب القدّيس إيريناوس، هو معنى تجسّد الله وغايته: “ابن الله يصير ابن الإنسان ليتسنّى للإنسان، بدوره، أن يصير ابن الله… في محبّته الفيّاضة، صار كلمة الله ما نحن إيّاه بالذات لكي يعطينا ما هو إيّاه بالذات…”. وإذ أكّد القدّيس إيريناوس كم أن الخلاص، باعتبار التألّه، مستحيل من دون تجسّد الإله الكلمة، أضاف متسائلاً: “كيف يذهب الإنسان إلى الله إذا لم يأتِ الله إليه؟…”
إن خلاص الجنس البشري من دون تألّه مستحيل. والتألّه من دون تجسّد الإله الحقّ مستحيل. لقد أدخل الإله الكلمة كل الطبيعة البشريّة، بتجسّده، في سيرورة التألّه. الإله الكلمة، كما قال القدّيس أثناسيوس الكبير، اتّخذ البشرّة لكي يجدّدها ويؤلّهها فيه، كونه الخالق، ولكي يأتي بنا جميعاً، إذ لنا بشرة كبشرته، إلى ملكوته السماوي. ولكنْ ما كان بإمكان الإنسان أن يتألّه لو لم يكن الابن قد اتّحد بالخليقة، لو لم يكن هو الإله الحقيقي. ما كان بإمكان الإنسان أن يبلغ الآب لو لم يكن ذاك الذي لبس بشرتنا هو إيّاه الكلمة الحقيقي للآب بالطبيعة. وكما أنه ما كان بإمكاننا أن نتحرّر من الخطيئة واللعنة لو لم تكن البشرة التي لبسها الكلمة بشريّة بطبيعتها – لأنه لم يكن ممكناً أن يكون هناك ما هو مشترك بيننا وبين ما هو غريب عنا – كذلك ما كان الإنسان ليتألّه لو لم يكن ذاك الذي صار إنساناً قد خرج من الآب بحسب الطبيعة، لو لم يكن إيّاه كلمة الآب الخاص الحقيقي. على هذا النحو صار ممكناً حدوث اتّحاد كاتحاد مَن كان إنساناً بالطبيعة بمن هو الإله بالطبيعة، وعلى هذا النحو أيضاً حصل خلاص الإنسان وتأليهه بصورة أكيدة ثابتة.
كما أن الله لما لبس جسداً صار إنساناً، كذلك، نحن البشر، المتّخَذين من الكلمة، نتألّه ببشرته ونرث الحياة الأبدية. فإن الإله الكلمة صار إنساناً ليؤلّهنا. فإنه صار إنساناً من امرأة ووُلد من عذراء لكي يأخذ ولادتنا على عاتقه، الولادة التي خضعت للخطيئة، ولكي نصير جنساً مقدّساًَ، ونشترك في الطبيعة الإلهية [2 بط 1: 4].
كل ما هو من المسيح له مغزاه بالنسبة للناس قاطبة. فبتجسّده اشتمل الإله الكلمة كل الطبيعة البشريّة وقادها على سكّة التبنّي الإلهي. ابن الله صار ابن الإنسان لكي يصير أبناء الإنسان، أي أبناء آدم، أبناءَ الله، على حدّ تعبير أب الأرثوذكسية -القديس أثناسيوس الكبير-.
إن الإله الكلمة، لما صار إنساناً، فتح للطبيعة البشريّة آفاق الكمال الإلهي اللامتناهي، وبالخلاص قاده إلى التألّه الأكمل. لقد تجسّد الإله الكلمة، على حدّ تعبير القدّيس غريغوريوس اللاهوتي، لكي يصير الإنسان إلهاً بنفس القدر الذي صار فيه الإله إنساناً. فباتخاذ اللهِ البشرة فيه أضحى تألّهُ الإنسان ممكناً وتحقّق. إن المسيح الرب، من حيث هو الإله الإنسان، ألّه الإنسان دون أن يحرم الإنسان من إنسانيته الخاصة. والإله الكلمة، كما علّم اللاهوتي القدّيس، صار إنساناً في كل شيء ما خلا الخطيئة. الله يؤلِّه والإنسان يتألّه.
لقد تجسّد الرب لكي يجدّد صورة الله في الطبيعة البشريّة ويقتادها إلى أوج كمالها. المسيح وحّد صورته بصورتنا، كما قال القدّيس غريغوريوس، لكيما بآلامه يعينني الله على آلامي ويجعلني بهيئته البشريّة إلهاً. لقد كان كلمة الآبِ هو الله ولكنه صار إنساناً ابتغاء توحيد الله بنا باتّحاده بأهل الأرض. إله واحد هو بهيئتين. فهو الذي في نطاق إنسانيته جعلني، أنا الإنسانَ، إلهاً.
لقد خُلق الإنسان على صورة الله ليتسنّى له، بجهود إرادته الحرّة، أن ينمو إلى كمال إلهي لا حدّ له، صائراً، على الدوام، إلهاً بالنعمة. ولكن بما أن الإنسان أخفق في أن يصير إلهاً، كما قال اللاهوتي الحكيم، فإن الله نفسه صار إنساناً بالكامل ليعيد، بوساطة ما اتّخذ، خَلق ما سبق أن أعطانا، وأن يمحو، بالكامل، إدانة الخطيئة ويبيد، بذاك الذي اُميت، مَن له سلطان الموت… فإن الكلمة كان هو الإلهَ، منذ البدء، وخالق العالم وفوق الزمن وفوق الألم وفوق اللحم. فلما تجرّح الإنسان بشجرة المعرفة، كما ضرب الحسدُ طبيعتنا برمّتها، وتسنّى أسرُها وإخضاعُها للدينونة، وُلِد الإله الكلمة فيما بيننا متوخّياً سحقَ عجرفة الحسد وترميمَ إيقونته الملطّخة، إذ حُبل به من عذراء نقيّة وتردّد بين الناس كإله، كله إله وكله إنسان، ليخلّص الإنسان كله.
إن الطبيعة البشريّة وقد حُرمت بالخطيئة من الألوهة والقداسة، تألّهت وتقدّست بالإله المتجسّد بالذات. بتعبير القدّيس أمبروسيوس الكلمة صار إنساناً ليصير الإنسان إلهاً. فإن ابن الله تنازل، وهو الذي لا طاقة للإنسان على احتمال ملئه، ليسكب نفسه في الإنسان بقدْر ما للإنسان من طاقة على استيعابه.
في التعليم الإلهي للقدّيس مكسيموس المعترف أن الإله الكلمة، بتجسّده، أعطى الطبيعة البشريّة عطيّة تألّهه. فتجسّدُ الله جعل الإنسان إلهاً بنفس القدر الذي صار فيه الإله إنساناً. لأنه من البداهة القول أن ذاك الذي صار إنساناً، وهو بلا خطيئة، قد ألّه الطبيعة البشريّة دون أن يخسر من ألوهته شيئاً، وأنه رفع الإنسان، بوساطة نفسه، بمقدار ما حطّ نفسه من أجل الإنسان.
إن الكنيسة، بنظرتها الشاروبيمية الثاقبة، رأت في تجسّد الإله الكلمة تأليه الطبيعة البشريّة، وفي هذا التأليه خلاصَ الطبيعة البشريّة وهي تُبرز هذا الأمر، بخاصة، في إدراكها بلا غباشة، لولادة الله في الجسد، وهي في عيد الميلاد تنشد، بقوّة وإلهام، مديح الخبر السار هذا، مديحاً وتمجيداً لذاك الذي وُلد على الأرض ويؤلّه طبيعة الأرضيين. فإن الرب المسيح، بولادته من العذراء، يحمل إلى الناس “كنز التألّه”. الله يتراءى للناس آتياً من العذراء، حاملاً شِبْهنا ومؤلِّهاً بشرتنا. وهو، إذ افتقر بكليّته من أجلنا، ألّه الإنسان باتّحاده بالإنسان ومساهمته له.
إن تأليه الطبيعة البشريّة وإستردادها إلى التمامية التي خلقها الله عليها، وإلى عافيتها وجمالها وقواها، هو مآل تجسّد الإله الكلمة محبّةً بالإنسان. فإنه يولد كاملاً، كما تبدي الكنيسة في حكمتها الفائقة، في خدمة عيد الميلاد اللاهوتية، وذاك الذي بداءة له يرتضي أن يبدأ من العذراء وصولاً إلى تأليه الإنسان. العذراء تلد خالق الطبيعة في مزود، فيما يأخذ هو منها البشرة، على نحو يفوق الوصف، لكي يؤلّه البشريّة. فإن الإله الكلمة إذ اقتبل بشرتنا افتقر ليكون للناس أن يشتركوا في الألوهة. وبطريقة تسمو على كل فكر وقول، صار الإله إنساناً ليؤلّه الطبيعة البشريّة. فإن البشر، وهم الكائنات المائتة، يتألّهون بميلاد المسيح من العذراء القدّيسة.
في ولادة الرب عينها من العذراء القدّيسة، تحقّق تأليهُ الطبيعة البشريّة وتحريرُها من الخطيئة على نحو سرّي إلهي. فإن الرب، لما تجسّد واتّخذ هيئة عبد، ألّه طبيعة البشر المائتة ومجّدها بوساطة نفسه ومع ذاته. وإذ رغب في تأليه الإنسان، الذي كان قد فسُد من زمان، صار إنساناً. إن ذاك الذي وُلد من العذراء كان هو الإله، وقد وُلد من العذراء ليؤلّه البشر المائتين. فإننا نحن نتألّه بوساطة والدة الإله لأنها ولدت، في الجسد، الإله الكلمة. فقط والدةُ الإله ألّهت الناس من حيث إنها ولدت الكلمة المتجسّد.
إن لكل ما ينتمي إلى الحياة الإلهية الإنسانية للرب المسيح قوةً خالقة تُصلح قصور الطبيعة البشريّة، بصورة خفيّة، وتمدّها نحو الكمال جاعلة من الإنسان إلهاً بالنعمة. فإن الإله الكلمة، المحب البشر، صار إنساناً وصُلب ليصير الإنسان إلهاً. إن الصلاح الذي لا حدّ له للإله ينعكس في قصده الإلهي أن يجعل من الإنسان إلهاً بالنعمة بتأنّسه. فإنه لما رغب الإله الكلمة في تأليه الإنسان برمّته، اتّحد، بكليّته، بالعذراء بكليّتها، فنجم عن ذلك سرّ يفوق العقل: العذراء تلد وتلبث عذراء والله يتراءى في الجسد. الله يصير إنساناً ابتغاء تأليه البشريّة.
باشتراك الإله الكلمة بالطبيعة البشريّة أعطى الإنسانَ ألوهته. بظهوره إنساناً بلا خطيئة، نقّى المِثل بمثله. ليس لتجسّد الإله الكلمة سوى هدف واحد هو تأليه الإنسان. في هذا يقوم التدبير الإلهي الإنساني للخلاص بالكامل في أن الله تجسّد وصار إنساناً ليؤلِّهنا. فبطاقة التأليه، كل الطبيعة البشريّة محتواة، بشكل سرّي خفي، في لحظة الحبل بالمخلّص في العذراء القدّيسة: المسيح يأتي ليقيم في والدة الإله القدّيسة ويؤلّه الطبيعة البشريّة بأسرها.
إن الرب المسيح، بتجسّده، ألّه الإنسان كجنس مميّز من المخلوقات.
إن الخطيئة قوّة تزيل القداسة والألوهة، وكلمة الله، الذي هو بلا خطيئة وقدّوس كلّه، يتّخذ الطبيعة البشريّة التي أفسدتها الخطيئة، ليقدّسها ويؤلّهها، ليقتادها إلى القداسة التي لا عيب فيها في الفردوس، ليسير بها نحو الإله ونحو التألّه. الإله الكلمة يتراءى للعذراء القدّيسة إنساناً كاملاً ليؤلِّه الإنسان. وإذ أعطت والدة الله بشرتها لله، بدمها العذري، ألّهت البشريّة. الله يُولد من العذراء القدّيسة ليؤلِّه الإنسان.
تأليه الإنسان في الإله الصائر بشراً كامن. وفي التألّه يكمن الخلاص. لذلك سرّ الخلاص مكنون في سرّ تجسّد الإله الكلمة.
القدّيس يوستينوس بوبوفيتش
نقلها إلى العربية أحد رهبان عائلة الثالوث القدّوس في دوم
عن مجلة التراث الأرثوذكسي