الميلاد – ميلاد المسيح

عيد ميلاد المسيح كإنسان هو رأس الأعياد، بحسب ما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم. كل أعياد السيد الأخرى – الظهور، التجلّي، الالام، الصليب، القيامة والصعود – تتبع الميلاد. من دون الميلاد لم كانت القيامة لتكون، وبالطبع من دون القيامة لم يكن هدف التجسّد ليتحقق. كلّ هذه الأعياد واحدة. نحن نفصلها لكي نحتفل بها، ولكي ننظر بوضوح أكبر إلى محتواها. في كل قداس إلهي، نعيش كلّ أحداث التجسّد الإلهي. وهكذا، بحسب الآباء، كل عيد هو الميلاد، وكل عيد هو الفصح وكل عيد هو العنصرة.

ما جرى في البشارة، بدأ يتكشّف عند ميلاد المسيح. عندما نسمّيه إعلاناً نعني أنّ هناك أكثر من شخص، كالعذراء ويوسف وغيرهما، قد كُشِف لهم أنّ المسيح الذي كانت تنتظره كلّ الأجيال قد أتى إلى العالم. على الأكيد، يبقى المسيح مخفياً عندما يظهر، وعندما يظهر يكون مخفياً. نحن نرى هذا في مجمل حياته كما في إعلانه لقديسيه.

-1-

ميلاد المسيح هو حدث تاريخي لأنّه جرى في لحظة محددة من التاريخ، عندما كان أوغسطس قيصر امبراطوراً لروما وهيرودس حاكماً لليهودية. شدد الإنجيليون على تاريخية الحدث، لأنّهم يريدون أن يقولوا أن المسيح هو شخص تاريخي. هذا يعني أن المسيح اتّخذ جسداً بشرياً حقيقياً، وأن التجسد لم يكن مجرّد مظهر خارجي أو خيال. وبالرغم من تاريخيته، يبقى هذا الحدث سرّاً. نحن نعرف أنّ الإله-الإنسان، الإله الكامل والإنسان الكامل، موجود، لكن ما يبقى سراً هو كيفية اتّحاد الطبيعة الإلهية بالطبيعة البشرية في شخص الكلمة. إلى هذا، ما جرى لشخص المسيح، أي اتّحاد الطبيعة الإلهية أقنومياً بالطبيعة البشرية، جرى مرة واحدة فقط. لهذا قال القديس يوحنا الدمشقي أن المسيح هو “الأمر الوحيد الجديد تحت الشمس”. هذا يعني أنّه منذ خلق العالم والإنسان، لم يكن هناك أي جديد في العالم. كل شيء يتكرر. ولادة الإنسان هي نتيجة كلمة الله وثمرتها “لنصنعنّ الإنسان على صورتنا وشبهنا”، و “أَثْمِرُوا وَاكْثُرُوا وَامْلأُوا الأَرْضَ، وَأَخْضِعُوهَا” (تكوين 26:1-28). الجديد الوحيد هو المسيح الإله – الإنسان.

إذاً، حقيقة أن الحدث تاريخي لا تلغي السر، كما أن السر لا يستبعد التاريخية. في عيد الميلاد نحتفل بميلاد المسيح، ولكن في الوقت عينه نختبر سرّياً، في قلوبنا، كل الأحداث المرتبطة به، إذ عندما نكون أحياء في الكنيسة، نشترك في كل مراحل التجسّد الإلهي ونختبرها.

-2-

الفرق بين العهدين القديم والجديد هو أنّ كل الإعلانات الإلهية في العهد القديم هي إعلانات للكلمة من دون جسد، بينما في العهد الجديد هي إعلانات للكلمة المتجسّد. إنّ الذي أعلن ذاته لموسى والأنبياء كان ابن الله وكلمته من دون جسد، الأقنوم الثاني من الثالوث القدوس. لم يكن للأنبياء العهد القديم وأبراره مجرّد شركة مع كلمة الله بل لقد عاينوا أيضاً تجسده. هذا هو معنى أنّهم رأوه كإنسان. آدم، كما يذكر العهد القديم، سمع وطأ قدمي الله الذي كان سائراً في الفردوس. يعقوب تصارع مع الله. موسى رأى الله من الخلف. إشعياء رآه إنساناً جالساً على العرش. دانيال رآه كشبه إنسان وابن إنسان آتٍ إلى قديم الأيام. كل هذه الإعلانات تشير إلى أنّهم رأوا تجسّد الأقنوم الثاني من الثالوث القدوس، رأوا الذي تجسّد لخلاص الجنس البشري.

حقيقة أنّ موسى رأى الله من الخلف تشير بوضوح إلى أنهّ رأى ما سوف يحدث في المستقبل، أي تجسّد الكلمة. الأنبياء لم يروا طبيعة الله بل مثال وصورة ما سوف يجري في المستقبل. فابن الله وكلمته كان آتياً ليصير إنساناً بالحقيقة، لكي يتّحد مع طبيعتنا ولكي يُرى بالجسد على الأرض (القديس يوحنا الدمشقي). بمعزل عن هذه الحالات، هناك أيضاً نصوص رؤيوية في العهد القديم تتنبأ بوضوح، ليس فقط عن تجسّد كلمة الله، بل أيضاً عن وقائع محددة، كمثل أنّه لن يفسد عذرية والدة الإله، وأنّه سوف يجلب السلام على الأرض، وغيرها.

-3-

نحن نحاول في هذه التفسيرات أن ننظر إلى المعاني الخريستولوجية لأعياد السيّد. مع ذلك، يمكننا أن نجد أيضاً وقائع عديدة مرتبطة بحقيقة أنّ المسيح هو مخلّص العالم وبأنّ اختبار هذه الحقيقة يفترض مسبقاً حالة روحية محددة عند الإنسان.

بالإضافة إلى العذراء ويوسف، أوّل مَن سجد للطفل الإلهي هم الرعاة. لقد أعلمهم ملاك الرب بأنّ مخلّص العالم قد وُلِد. هذا لم يكن مصادفة، ولم يعنِ أنّ هؤلاء الرعاة كانوا مستحقين لهذا الإعلان كونهم كانوا أقرب من غيرهم إلى المغارة. بحسب الآباء، هذا جرى لأسباب عديدة. أولاً، بسبب براءة الرعاة الناتجة عن وحدتهم وهدوئهم. ثانياً، لأن الرعاة كانوا يتّبعون طريقة حياة بطاركة العهد القديم وفضائلهم. هذا يعني أنّ الرعاة لم يكونوا أشخاصاً تمّ اختيارهم مصادفة. ثالثاً، لكي يظهر أن المسيح سوف يكون الراعي الحقيقي للإسرائيليين والأمم. رابعاً، لكي يظهر بوضوح أن المسيح اختار أكثر الناس بساطة وأكثرهم قدرة على تلقي هذا الإعلان، وليس الكتبة والفريسيين الماكرين. كلّ هذه الأمور تظهر الطريقة التي يمكن اتّباعها لاختبار سرّ الإعلان.

-4-

“المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام” (لوقا 14:2)، هذا نشيد الملائكة المميّز. السلام الذي امتدحه الملائكة ليس سلاماً اجتماعياً، بل هو تجسد المسيح وحضوره. هكذا، كان الملائكة يسبّحون السلام الذي أتى مع ولادة المسيح وليس السلام الذي سوف يأتي في المستقبل. فالمسيحُ بتجسده أعطى للإنسان السلامَ مع الله ومع أخيه ومع نفسه أيضاً، ذلك بالتحديد لأنّ الطبيعة الإلهية اتّحدت بالطبيعة البشرية في شخصه. بعد سقوطه، خسر الإنسان السلامَ مع الله لأنّه عبد الأصنام العادمة النفس والأحاسيس وليس الإله الحقيقي. الآن، بتجسّد المسيح أُعطي إمكانية عبادة الإله الحقيقي. لقد بلغ السلام أيضاً مع الملائكة ومع إخوته البشر. وبالحقيقة، لقد بلغت قوى نفسه السلام لأن المسيح عمل ما فشل آدم في عمله. كان على آدم أن يبلغ الشركة الكاملة مع الله بالنعمة الإلهية وبجهاده، فكان ينبغي أن تعمل قوى نفسه طبيعياً وفوق الطبيعي. هذا حققه المسيح.

توحي عبارة “في الناس المسرة” بأنّ التجسد كان إرادة الله من قبل. بحسب الآباء، تُكشَف إرادة الله في ما يسبق وما يتبع. ما يسبق هو بإرادته الحسنة، وما يتبع هو بسماحه. عندما يُقال بأنّ التجسّد كان إرادة الله قبلاً، يُفهم أنّه لم يكن نتيجة السقوط. بتعبير آخر، اتحاد الإنسان بالله لم يكن لينجح لو لم يكن هناك شخص محدد فيه تتحّد الطبيعة الإلهية أقنومياً بالطبيعة البشرية. لهذا، التجسد هو إرادة الله السابقة، ما يعني أنّه كان مخططاً لها بغضّ النظر عن سقطة آدم. ما نتج عن السقوط كان آلام المسيح وصلبه. تجسّد المسيح كان نهاية الخلق. كل الخليقة والإنسان هم من أجل الإله- الإنسان. هذا يُقال من وجهة نظر أن الإنسان لم يكن ليتألّه ولا الخليقة لتتقدّس لو لم يكن الإله – الإنسان.

-5-

بالإضافة إلى الرعاة، أعطي المجوس أو حكماء المشرق أن يسجدوا للمسيح المولود جديداً. الأمر المهم ليس متى صار هذا، بل أنّهم اكتشفوا المسيح. الأمر الجوهري هو أنّ الله كُشِف لهم، ما لم يحدث للكتبة والفريسيين الذين كانوا يشكّلون المؤسسة الدينية في ذلك الحين. لم يكن الحكماء منجّمين بالشكل الذي نعرفه اليوم، بل علماء فلك يراقبون النجوم وحركاتها في السماء. في ذلك الحين، كان التنجيم يُعتَبَر علماً. اليوم انفصل علم الفلك عن التنجيم المرتبط بالماورائيات والشيطانيات والذي يرفضه الإيمان الأرثوذكسي.

عرف المجوس المسيح وسجدوا له “بسبب معرفتهم الداخلية”. لقد رأوا طفلاً بأعينهم الجسدية وبنظرهم الخارجي، إنّما بنوسهم رأوا الله الذي صار إنساناً. إذاً، كان المجوس في حالة روحية مؤاتية ليروا الله ويعبدوه. لم يكن الأمر مسألة علم بل مسألة طهارة نوسية داخلية. ما يثبت هذا الكلام هو أنّ النجم الذي رأوه في الشرق والذي قادهم إلى بيت لحم لم يكن نجماً عادياً، بل بحسب القديس يوحنا الذهبي الفم، ملاك الرب قادهم. هذه لم تكن حادثة عادية بل فوق العادية، كما يظهر من صفات هذا النجم. أولاً، هذا النجم لم يكن يتحرّك وحسب بل كان يقف أيضاً. كان يتحرّك عندما يتقدّم المجوس ويتوقّف عندما يتوقّفون. ثانياً، هذا النجم كان يتحرّك منخفضاً أكثر من غيره من النجوم، وعندما بلغ المجوس إلى حيث كان المسيح، نزل وتوقّف فوق المنزل. ثالثاً، لقد كان لامعاً أكثر من النجوم الباقية (القديس نيقوديموس الأثوسي). إلى هذا كان نجم المجوس يتحرّك بطريقة غريبة، من الشرق إلى الغرب، وعند النهاية تحرّك من أورشليم إلى بيت لحم، أي نحو الجنوب. وأيضاً، كما يذكر القديس يوحنا الذهبي الفم، كان يظهر حتّى في النهار، بينما لم يكن أي نجم آخر يظهر في نور الشمس.

إذاً، هذا النجم اللامع كان ملاك الرب، وكما يقول يوسف فريونيوس، لقد كان رئيس الملائكة جبرائيل الذي خدم وشهد السرّ العظيم، سرّ تجسّد ابن الله وكلمته. إذاً، كان المجوس لاهوتيين بالمعنى الأرثوذكسي للكلمة، لأنّهم بلغوا الاستنارة وأحرزوا معرفة الله.

-6-

الخليقة كانت أيضاً حاضرة عند ولادة المسيح، وقد أخذت نعمة من ابن الله وكلمته الصائر إنساناً. تشمل عبارة “الخليقة”: الحيوانات، المغارة، المذود، الجبال، السماء وغيرها. تظهِر أيقونة الميلاد كل الخليقة تتسلّم نعمة من المسيح. يظهر المسيح في وسط الأيقونة، وهو مصدر النعمة غير المخلوقة، ومنه تفيض قوة الله المقدِّسة والمؤلِّهة.

عند ميلاد المسيح، كل الخليقة تمجّد الله خالقها. إنّها تشهد بأن المسيح كإله هو صانع الخليقة وأن الخليقة هي عمل يديه. قلنا سابقاً أن كل الخليقة أخذت نعمة من الله عند لحظة الميلاد. علينا أن نميّز بوضوح أنّه فيما قوة الله هي واحدة، إلا إنّ لها صفات مختلفة بحسب تأثيراتها. وهكذا، نحن نتحدّث عن قوّة مقدِّسة ومؤلِّهة، أو يمكننا أن نتحدّث عن قوة الله التي تهب الكيان وتمنح الحياة وتضفي الحكمة وتقدّس. في هذا الإطار علينا أن نقول أنّ من جهة الأنطولوجيا، تشارك الخليقة في قوة الله التي تهب الكيان وتمنح الحياة، ومن جهة الخلاص تشارك في قوته المقدَّسة. وحدهم المتقدّسون والملائكة يشتركون في قوة الله المقدّسة.

إذاً، الأشخاص الموجودون عند ولادة المسيح، والملائكة أيضاً، اشتركوا في قوة الله المؤلِّهة، بينما الخليقة غير العاقلة شاركت في قوة الله المقدِّسة. نذكر هذا لتلافي أي تشوش في الكلام عن الاشتراك بنعمة الله.

-7-

في الحديث عن ابن الله وكلمته صائراً إنساناً، من الأساسي أن نتفحّص الأسماء التي تُعطى له لأنها تعبّر عن عدّة حقائق لاهوتية. قبل التجسّد، يُسمّى الأقنوم الثاني من الثالوث القدوس ابن الله وكلمته. تشير تسمية “ابن” إلى أنّه وُلد من الآب، وما وُلِد هو شخصه. تُستعمَل أيضاً تسمية “كلمة الله” للإشارة ليس فقط إلى عدم إمكانية الخطيئة عند المولود بل أيضاً إلى وظيفتي الارتباط والإعلان عنده، بحسب القديس غريغوريوس اللاهوتي. إنّه يُدعى “كلمة” لأنّه مرتبط بالآب كما ترتبط كلمة الإنسان بنوسه، أي أنّ الكلمة تعلِن ما في النوس من أفكار وغيرها. إذاً، تسمية “الكلمة” تظهِر لنا الآب أيضاً، لأنّ مَن يفهم الكلمة ويراه يفهم أيضاً الآب ويراه في الكلمة.

بعد التجسّد، أو بالأحرى عند لحظة الحَبَل بالكلمة في رحم العذراء، تمّ اتّحاد الطبيعة الإلهية بالطبيعة البشرية في أقنوم الكلمة الذي يُسَمّى المسيح. إن تسمية المسيح هي اسم الأقنوم ولا تُستَعمَل لطبيعة واحدة، بل هي إشارة إلى الطبيعتين في الإله الذي تجسّد. بما أنّ الطبيعة البشرية مُسحَت من الله، سُمّي الكلمة المسيح. تشير تسمية المسيح إلى الآب الذي مَسَح والابن الذي مُسِح والروح القدس الذي هو الزيت المقدس. في أي حال، بما أن الطبيعة البشرية مٌسحَت من كل الثالوث القدوس، فكلمة الله شارك في المَسْح. فالكلمة مسح نفسَه بألوهته وفي الوقت ذاته، مُسِح كإنسان (القديس يوحنا الدمشقي).

وهكذا، اسم المسيح يعني الله والإنسان، أي المسيح الإله-الإنسان. يمكن استعماله أحياناً لإنسانية المسيح وأحياناً لألوهته. لكن هذا يكون منتهى التكييف، إذ بعد اتّحاد الطبيعتين في أقنوم واحد، دُعي الكلمة المسيح. إذاً، الذي كان ابن الله وكلمته قبل التجسّد، فيما هو دائماً ابن الله وكلمته، سُمّي المسيح بعد التجسّد إشارةً إلى اتّحاد الطبيعتين. إن كلمة “ألوهة” تشير إلى الطبيعة، بينما كلمات “الآب” و”الابن” و”الروح” تشير إلى الأقانيم. من الهرطقة الادّعاء بأنّ الألوهة تجسّدت أو صارت إنساناً. الإيمان الأرثوذكسي هو أنّ الألوهة اتّحدت بالبشرية في أحد أقانيمها، أي أن الآب لم يتجسّد، بل الأقنوم الثاني وحده، ابن الله وكلمته، الذي كان إلهاً حقيقياً، اتّخذ جسداً. (القديس يوحنا الدمشقي).

-8-

للمسيح ميلادان. الأول قبل الدهور، من الآب وبلا علّة ولا كلمة ولا زمن ولا طبيعة، والثاني من أجلنا من البتول “عند الحَبَل” ولكن “فوق نواميس الحَبَل”، إذ حُبِل به من الروح القدس وليس من أي زرع. وُلِد ابن الله وكلمته قبل الدهور من أب بتول من دون أم، وفي الزمن من أم بتول من دون أب بالجسد. كلا الميلادين كانا بلا هوى وبلا سيلان، إذ لا الآب عانى من أي شيء ولا العذراء خسرت عذريتها بالولادة.

كلا الميلادين لا يسبَر غورهما العقل البشري. نحن نقبل الحقيقة المُعلَنة بأنّه وُلِد من الآب من دون سيلان ومن العذراء من دون زرع، من دون أن نعمِل هذه الوقائع عقلياً. إذ، بحسب القديس غريغوروس اللاهوتي، المجهود لفهم الأسرار التي تفوق العقل يمكن أن يؤدّي إلى الجنون. حقيقة أن هذين الميلادين يقدّمان التأكيد اللازب بأنّ الإنسان يمكن أن يخلُص فقط من خلال المسيح، لأنّ المسيح أصلح غلطة آدم وقاد الإنسان إلى الهدف الذي كان آدم ماضياً غليه لو لم يخطأ.

يقدّم القديس يوحنا الدمشقي بعض الملاحظات الإتيمولوجية الدقيقة حول الكلمتين باليونانية “ageneto” و”geneto” (مع n واحدة)، وهي مشتقة من الفعل “أصبح”، والكلمتين “agenneto” و”ageneto” (مع n مكررة)، المشتقتين من الفعل “وَلَد”. هذه الملاحظات الإتيمولوجية تعبّر عن المعنى الأكثر عمقاً في اللاهوت الأرثوذكسي. فالكلمتان “ageneto” و”geneto” (مع n واحدة) تعنيان غير المخلوق والمخلوق على التوالي، لأن غير المخلوق لم يُصنَع، بينما المخلوق صُنِع في وقت ما. بهذا المعنى، الله غير مخلوق وغير مصنوع، بينما المخلوق يشير إلى العالم. تُستَعمَل عبارتا “غير المخلوق” و”المخلوق” للإشارة إلى طبيعة شيء ما. لا تشير كلمتا “agenneto” و”genneto” (مع n مكررة) إلى الطبيعة بل إلى الأقنوم. نرى ذلك في الله والإنسان. الآب هو “agennetos” لأنّه لم يولَد من أحد، الابن في وجوده الإلهي “gennetos” لأنّه وُلِد من الآب قبل الدهور. نلاحظ الأمر نفسه في الإنسان أيضاً لأن الإنسان أيضاً مولود لكنه مخلوق.

استناداً إلى هذه الاقتراضات، الآب هو “agenetos” (مع n واحدة) لأنّه غير مخلوق ولم يوجَد، لا بداية لخلقه، وفي الوقت نفسه هو “agennetos” (مع n مكررة) لأنّه لم يولَد بل هو نفسه وَلَد الابن وأرسل الروح القدس. الابن “agenetos” (مع n واحدة) لأنّه كإله ليس مخلوقاً، وهو “gennetos” (مع n مكررة)، بالضبط لأنّه وُلِد من العذراء مريم في الزمن.

لهذا الأمر أهمية كبيرة في الخريستولوجيا، لأنّه يشير إلى ألوهية كلمة الله وأيضاً إلى حقيقة أنّه بعد الولادة أقنوم. لأنّ المولود “genneto” (مع n مكررة) هي صفة مميّزة للأقنوم، فالعذراء وَلَدَت أقنوماً معروفاً بطبيعتين.

-9-

سؤال أساسي حول تجسّد كلمة الله هو: لماذا صار الأقنوم الثاني إنساناً وليس الأول (الآب) أو الثالث (الروح القدس). بالواقع، الثالوث القدوس عمل كلّه في التجسّد لأن الكلمة اتّخذ الطبيعة البشرية، الآب سُرّ بتجسّد ابنه، والروح القدس تعاون، لأنّ المسيح حُبِل به من الروح القدس. لكن الواقع هو أنّ الأقنوم الثاني هو الذي أخذ الطبيعة البشرية، وذلك لسببين أساسيين.

السبب الأول هو أنّ كلمة الله هو النموذج الأوّل لخلق الإنسان. ابن الله وكلمته هو “صُورَةُ اللهِ غَيْرِ الْمَنْظُورِ” (كولوسي 15:1)، الإنسان خُلِق على صورة الله أي صورة الكلمة. بحسب القديس يوحنا البدمشقي، صُنِع الإنسان على صورة الكلمة، إذ أعطي إرادة نوسية حرة، وكان “على مثاله”، أي أنّه صُنِع على أكمل ما يمكن لطبيعته في الفضائل. لكن، بتجاوزه الوصايا أظلم المثال وعُرّي من الشركة مع الله، وكنتيجة طبيعية دخل الفساد والموت. لهذا صار الكلمة إنساناً، لكي يعيد خلق الإنسان ويقوده إلى حيث يصل بنعمة الله وجهاده الشخصي. بالخلق أعطانا الله ما هو أكثر رفعة، أي أن نكون على صورة الله ومثاله، لكننا لم نحمِ هذه العطية وخسرناها. الآن كلمة الله، النموذج الأول لخليقتنا، أتى واتّخذ ما هو أكثر ضعة، أي طبيعتنا ليحررنا من الفساد وليعيد الإناء الذي صار بلا نفع ومكسوراً، كما ليخلصنا من طغيان الشيطان ويرشدنا في الحياة الجديدة.

كما يعلّم القديس أثناسيوس الكبير، عودة الإنسان إلى الله لم تكن مسألة توبة وحسْب، إذ بعد الخطيئة، دخل الفساد والموت. فقد كان ينبغي التغلّب على الموت. لهذا، ابن الله وكلمته، بتجسده، اتّخذ من العذراء الجسد الأكثر نقاوة، مع أنه جسد قابل للموت ومعرّض للخطيئة، لكي يقهر الموت والشيطان وليكون النموذج الأول للخليقة.

السبب الثاني الذي لأجله صار الأقنوم الثاني إنساناً هو شخصيته التي بقيت غير متغيّرة. لكل أقنوم من الثالوث القدوس شخصيته التي لا تتغيّر. الآب هو الآب وليس الابن، الابن هو ابن الله وليس الآب، والروح القدس هو الروح القدس وليس لا الآب ولا الابن. هذه الشخصية الخاصة لا يمكن أن تتغيّر، ولا أن تنتقل أو تتحوّل. لا يمكن للآب أن يصير الابن، ولا للروح القدس أن يولَد، لأنّه ينبثق من الآب. الأقنوم الثاني الذي وُلِد من الآب قبل كل الدهور، ينبغي به أن يُولَد في الزمان أيضاً، بجسده من العذراء. إذاً، ابن الله صار ابن الإنسان لكي يبقى شخصه غير متغيّر.

السبب الثالث هو أن الأقنوم الثاني هو كلمة الله الذي ينقل إلينا إرادة الآب. فهو مَن كشف لنا في العهد القديم إرادة الله الآب وأعلنها. بالتالي، من خلال الكلمة المتجسّد نصل إلى خلاصنا. نحن نقارب الآب من خلاله. إنّه الباب الذي به ندخل بيت الآب. وكون المسيح هو باب الخراف فالروح القدس هو المفتاح (القديس سمعان اللاهوتي الحديث).

-10-

إن تجسد ابن الله وكلمته هدف إلى تجديد آدم وحواء، وبشكل أساسي إلى تألّيه الإنسان. نجد هذا الأمر نفسه في الطروبارية: “الآن صار الإله إنساناً، لكي يصيّر آدم إلهاً”. لم تكن سقطة آدم أخلاقية بل وجودية، لأن كيانه بالكامل انحرف. بالتأكيد لهذا الأمر نتاج أخلاقية. بالخطيئة عُرِّي الإنسان من النعمة الإلهية، وخسر ثقة الله، وتغطّى بخشونة الحياة (ورقة التين)، ولبس الموت، أي قابلية الموت وكثافة الجسد (الألبسة الجلدية). مطروداً من الفردوس، صار مُداناً إلى الموت وخاضعاً للفساد. الله في رحمته ومحبته للجنس البشري علّمه بطرق كثيرة. في النهاية تجسَّد لكي يغلب الموت ويقود الإنسان إلى التألّه. إلى هذا، هذا كان ضرورياً منذ البداية إذ، كما سبق وشرحنا، لم يكن هناك أي طريقة أخرى ليبلغ الإنسان التألّه.

إن تجسّد ابن الله وكلمته أظهر مدى صلاح الله وحكمته وعدالته وقدرته: صالح، لأنّه لم يغفل عن ضعف المخلوق بل مدّ له يد المساعدة؛ حكيم، لأنّه وجد الحلّ الأكثر ملاءمة لما كان يبدو مستحيلاً؛ عادل، لأنه بعد السقوط لم يخلق إنساناً آخر ليصارع الشيطان، ولا هو قطع الإنسان بالقوة عن الموت بل جعله منتصراً باتّخاذه الموت وآلام الجسد؛ قادر، لأنّه كان قادراً على صنع ذلك، أي على أن يكون إنساناً فيما هو في الوقت عينه إلهاً حقيقياً، مشتركاً بالطبيعة مع الآب والروح القدس (القديس يوحنا الدمشقي).

إذاً، تألّه الإنسان ليس ترفاً في الحياة الروحية، بل هو هدفها وغايتها. من خلال المسيح الإله-الإنسان، يستطيع الإنسان أن يعبر من الصورة إلى المثال الذي هو التألّه. بالمسيح تألّهت الطبيعة البشرية المتّخذة، وعندما يتّحد إنسان بالله، يقدّس أقنومه. كون دواء الخلاص قد وُجِد، يمكن لكل إنسان أن يأخذه ويشفى من مرضه.

أيضاً يُسمّى تألّه الإنسان شفاءً وعلاجاً، لأن هكذا يشفى الإنسان من الخضوع للفساد والفنائية ويتحرر من سلطة الشيطان. في كنيسة العصور الأولى كان هناك هراطقة علّموا أن المسيح اتّخذ نفس الإنسان وجسده ولكن ليس النوس أيضاً. في الردّ عليهم، يقول القديس غريغوريوس اللاهوتي أن المسيح اتخذ كل الطبيعة البشرية، الجسد والنفس والنوس، وكل مكوّنات الطبيعة البشرية، إذ بدون ذلك لما استطاع أن يشفيها. هذا يعني، لو لم يتّخذ النوس لبقي النوس بلا شفاء: “ما لم يُتَّخّذ لم يُشفَ؛ ما يتّحد بالله يخلص”.

بحسب القديس مكسيموس المعترف، هناك خمس تقسيمات في خلق العالم والإنسان، هي بين غير المخلوق والمخلوق، الملائكة والبشر، السماء والأرض، الملكوت (الملكوت الملموس في عدن) والكون، الذكر والأنثى. آدم، بنعمة الله وجهاده الشخصي، كان مفترضاً به أن يتخطّى هذه التقسيمات. ما فشل آدم الأول في صنعه، أنجزه المسيح آدم الجديد. وهكذا منح كل إنسان القدرة على تخطي هذه التقسيمات بنفسه، عندما يتّحد بالله.

-11-

أيضاً يُسمّى تجسّد المسيح إفراغاً للذات (kenosis). إن كلمات الرسول بولس مدهشة “الَّذِي إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ اللهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلاً ِللهِ. لكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِرًا فِي شِبْهِ النَّاسِ. وَإِذْ وُجِدَ فِي الْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ مَوْتَ الصَّلِيبِ.” (فيليبي 6:2-8). ينبغي اعتبار إفراغ الذات عند الكلمة كتنازل “لقد تنازل إلى درجة عبيده، تنازلاً لا يوصَف ولا يُفهَم” (القديس يوحنا الدمشقي). لقد تنازل إلى مستوى الجنس البشري، آخذاً صورة عبد أي الجسد، وبطريقة ما يقلّل من شأن ألوهيته وينقصها، من دون أن يكفّ عن كونه إلهاً، لكي يكون محدوداً (القديس غريغوريوس اللاهوتي). كلمات القديس غريغوريوس اللاهوتي التالية مميزة: “ذاك الكامل يفرغ نفسه، إذ يخلي نفسه من مجده لفترة وجيزة، حتى يكون لي حصة من ملئه”.

ابن الله وكلمته دائم المساواة بالجوهر للآب. هذا طبيعي لأنّه لم يغتصب هذه المساواة بالقوة. بتجسده اتّخذ الطبيعة البشرية، مخفِياً ألوهيته لكي يخلّص الجنس البشري. لقد تنازل “متواضعاً من دون أن يذلّ تعاليه”. (القديس يوحنا الدمشقي). فقط بالتعبير التنزيهي يمكن التعبير عن سر إفراغ الذات العظيم. هذا الإفراغ لم يكمن في أنّه وُلِد فقيراً وعاش في عائلة فقيرة، ومنذ نعومة أظفاره كان في المنفى، وغيرها، بل بالدرجة الأولى من أنّه اتّخذ الطبيعة البشرية، خاصةً الجسد القابل للموت والفساد. أن يتّخذ الإله مخلوقية الطبيعة البشرية، وأن يتّحد غير المخلوق بالمخلوق، هو ما يُسمّى بحقّ إفراغ الذات والفقر عند المسيح.

من دون إفراغه لذاته لما استطاع أن يكون كمال الإنسان وتألهه. إلى هذا، الإفراغ الإلهي يظهِر أيضاً ماهيّة المحبة. المحبة هي إفراغ للذات، تضحية، عطاء، حمل للآخر. لهذا السبب يتواضع الإنسان بقدر ما يستنير والعكس صحيح.

-12-

تتمة ما سبق، أي إفراغ الذات، هي أن في اتّخاذ الطبيعة البشرية، اتّخذ المسيح أيضاً ما يُعرَف بالأهواء الطبيعية غير المعابة. بما أنّ كلمة الله اتّخذ الطبيعة البشرية يعني أنّه اتّخذ أيضاً كلّ ما يخصّ الإنسان، ما عدا الخطيئة. عندما نحكي عن الأهواء غير المعابة نعني تلك التي لا تتوقّف علينا، التي لا تتعلّق بالخيار والتفضيل، بل التي نشأت عن السقوط. إنّها الجوع، العطش، التعب، الألم، الدموع، الفساد، الخوف من الموت، الهلع، القلق، معونة الملائكة بسبب ضعف طبيعتنا. هذه الأمور ليست خطايا، بل نتائج الخطيئة. كون المسيح اتّخذ الجسد الفاسد القابل للموت لكي يغلب الموت والشيطان، وكونه إنساناً حقيقياً وليس خيالياً، لهذا السبب اتّخذ الأهواء المعروفة بالطبيعية غير المعابة. وهكذا نرى أنه جاع وعطش وتعب وبكى وانكمش أمام الموت، إلخ.

لكن المسيح لم يتّخذ وظيفة الزرع لأنّه أتى من الروح القدس وليس من زرع. إلى هذا، الزرع، المقترن بالغريزة الجنسية مرتبط بالأفكار والرغبات وثورات الجسد. لم يعانِ المسيح من أي من هذه المشكلات لأنّه “لَمْ يَفْعَلْ خَطِيَّةً، وَلاَ وُجِدَ فِي فَمِهِ مَكْرٌ” (1بطرس 22:2). فضلاً عن ذلك، كما ذكرنا سابقاً، لقد اتّخذ الأهواء الطبيعية البريئة لا الخطيئة. عندما جُرِّب المسيح من الشيطان، كانت التجربة من الخارج وليس في أفكاره “الشيطان هاجم من الخارج وليس بالأفكار…”

المسيح كان آدم الجديد ” الجديد الوحيد تحت الشمس”، المسيح الإله-الإنسان، ولهذا السبب عملت الأهواء البريئة التي اتّخذها بحسب الطبيعة وفوق الطبيعة. لقد تحرّكت بحسب الطبيعة ما يعني أنّه جاع وعطش مثل كل البشر، ولكن “عندما سمح لجسده تألّم كما يناسب”. الأهواء البريئة عملت في المسيح بما يفوق الطبيعة لأنّه لم يكن ممكناً لها أن تتقدّم على إرادته. لم يكن في المسيح أي شيء إلزامياً. لهذا هو جاع طوعياً، وعطش طوعياً، كما خاف بإرادته، وبإرادته مات. بتعبير آخر، لم تَسُد الأهواء على المسيح، بل المسيح ساد عليها.

إذا توقّفت القوى الجسدانية خاصةً عند معاينة الله حين يبلغ الإنسان التألّه، فكم بالحري يكون هذا مع المسيح؟ لقد مات من أجل الإنسان، لكن عندما أراد أن يموت، ولهذا “صَرَخَ يَسُوعُ أَيْضًا بِصَوْتٍ عَظِيمٍ، وَأَسْلَمَ الرُّوحَ.” (متى 50:27). لا يستطيع الرجل المعلَّق أن يصرخ بصوت عظيم، المسيح أسلم روحه بإرادته، صارخاً بصوت عظيم، ما يعني أنّه لم ينطفئ رويداً رويداً، كما يجري للذين على باب الموت عند الرمق الأخير، بل مات بالقوة التي كانت له كإله.

-13-

لقد كررنا في هذا التحليل أن الطبيعتين الإلهية والبشرية كانت متحدتين في المسيح أقنومياً. علينا أن ننظر إلى هذا تحليلياً قدر الإمكان، بحسب تعليم آباء الكنيسة القديسين. بالطبع إنه سرّ ولا يحقّ لنا أن نقوم بحزازير، ولهذا نحن نتكل على تعليم القديسين المتألّهين، الذين تلقّوا الإعلان لأنهم بلغوا التألّه. وكما أنّ النبي موسى، عند بلوغه إلى رؤية الله، لُقِّن الكثير من الأسرار التي لا تُوصَف، هكذا كان الحال مع كل المتقدّسين في العهد الجديد.

في كنيسة العصور الأولى، كان هناك العديد من الهراطقة الذين استعملوا التفكير الفلسفي لكي يفهموا كيفية عمل طبيعتي المسيح الإلهية والبشرية. يمكننا أن نميّز نظرتين أساسيتين، الأولى هي النسطورية والأخرى هي الطبيعة الواحدة. بحسب النسطورية، تختلف الطبيعتان ودوراهما، فليس ممكناً للطبيعة الإلهية أن تتّحد بالبشرية لأنهما من صنفين مختلفين من الطبائع. وهكذا، بحسب النساطرة، تلتحق الطبيعة البشرية بالإلهية ليس أكثر، فهم يفهمون الوحدة كمثل الوحدة بين شجرتين. على العكس، بحسب أصحاب الطبيعة الواحدة، تمتصّ الطبيعة الإلهية البشريةَ فتفقد الأخيرة كلّ مميزاتها.

الكنيسة، إذ رفضت كلا النظرتين الهرطوقيتين، أعلنت عقيدتها بأن المسيح إله كامل وإنسان كامل، إله-إنسان، أي أن الطبيعة البشرية تتّحد بالطبيعة الإلهية في شخص الكلمة وعليه فالمسيح يُعرَف “بطبيعتين من دون تغيّر أو تشوش أو انقسام أو انفصال”. يوجَد هذا التعليم في إحدى القطع الوالدية في المعزَي من وضع القديس يوحنا الدمشقي “لكنه حفظ خواص الطبيعتين من دون اختلاف أو امتزاج أو تشوّش”، أي أن كلّ طبيعة احتفظت بخصائصها فلم تتغيّر أي منهما ولم تتشوشا مع بعضهما ولا انفصلتا عن بعضهما.

ينبغي أن ننظر تالياً إلى التعابير “من دون تغيّر”، “من دون تشوّش”، “من دون انقسام” بحسب تعليم القديس يوحنا الدمشقي، لأن سر كون المسيح إلهاً-إنساناً مخبأ فيها. “من دون تغيّر” تعني أن أيّاً من الطبيعتين لم تخسر صفاتها. في حادثة موت لعازر وإقامته، ذرفت الطبيعة البشرية الدموع، لأن الدموع هي من صفات الطبيعة البشرية، وأعطت الطبيعة الإلهية الحياة للعازر، لأن منحَ الحياة هي من خصائص الطبيعة الإلهية. إذاً، في المسيح بقي غيرُ المخلوق غيرَ مخلوق، غير مائت، غير مقيّد وغير منظور. “من دون تشوّش” تعني أنه ليس هناك أي تشويش بين قوى كلٍ من الطبيعتين. في حادثة لعازر، لم تعطِ الطبيعة البشرية الحياة، ولا الطبيعة الإلهية ذرفت الدموع. كل العجائب أجرتها الألوهة لكن ليس من دون الجسد، وكل ما هو دونها من الأمور أقيم بالجسد لكن ليس من دون الألوهة. الحقيقة هي أنّ في المسيح ليس من تشوّش بين قوى الطبيعتين. تُضفي الألوهة مجدها على الجسد، لكنها تبقى غير مجرَّبَة وبدون مشاركة أهواء الجسد.

ضروري تفحّص عبارتي “من دون تغيّر” و”من دون تشوّش” بالمقابلة مع العبارة الثالثة “من دون انقسام”. هذا يعني أنّه لا يمكن فصل الطبيعتين أو تقسيمهما، ولا هما منفصلتان. في المسيح، تعمل كل طبيعة “في شركة مع الأخرى”. في مثال لعازر نقول أن الطبيعة البشرية بكَت والطبيعة الإلهية أقامت لعازر، لكن الطبيعتين كانتا متحدتين بسبب الأقنوم. إذاً، المسيح أقام لعازر. عندما تألّم الجسد، كانت الألوهة متّحدة بالجسد، لكنها بقيت بلا تأثّر. وعندما كانت ألوهة الكلمة تعمل، كان نوس المسيح المقدّس مرتبطاً بها، مدركاً لما كان يجري. بسبب الاتحاد الأقنومي، المسيح، لكونه إلهاً، لم يعمل الأشياء البشرية بطريقة بشرية، ولم يعمل الأشياء الإلهية بطريقة إلهية، إذ في الوقت نفسه كان إنساناً. هذا نتيجة لحقيقة أن الطبيعتين كانتا متحدتين أقنومياً، أي من دون تغيّر ولا تشوش ولا انقسام، فيما عملت كل منهما في شركة مع الأخرى في أقنوم الكلمة.

بعد اتحاد الطبيعتين اقنومياً صار هناك شخص واحد، أقنوم واحد. نسطوريوس، بالتفكير الفلسفي، أعلن أن لكل طبيعة شخصها. لقد قال أن باتحاد الطبيعتين، اتّخذ المسيح شخصين، الإلهي والبشري، وصنع شخصاً ثالثاً سمّاه “شخص التدبير” أو “الوجود الشرعي”. وعليه فإن شخص المسيح لا يعيَّن لا بشخص الإله ولا بشخص المسيح، إذ عندما تنفصل الطبيعتان يكفّ الشخصان عن الوجود. لقد رفضت الكنيسة هذه النظرات الهرطوقية. إتّحاد الطبيعتين تمّ في شخص الكلمة. بحسب ما يقول القديس يوحنا الدمشقي، كلمة الله نفسه صار شخصاً في الجسد، “كلمة الله نفسه عُرِف شخصاً بالجسد”. المسيح واحد، إله تامّ وإنسان تامّ، وهو معبود كاملاً مصنوعاً من الطبيعتين الإلهية والبشرية. لهذا نحن نكرّم الجسد أيضاً، بالتحديد لأن كلمة الله صار شخصاً فيه. هذا يعني أن المسيح لم يكن مكوّناً من شخصين، ولا هو أُعطي الوجود الشرعي بعد الاتحاد، بل بما أن الإلهي صار متحداً بالطبيعة البشرية من دون تغيّر أو تشوّش أو انفصال في أقنوم الكلمة، فإن كلمة الله صار شخصاً في الجسد أيضاً.

علاوة على ذلك، اخترقت الطبيعتان بعضهما البعض في المسيح وتداخلتا من دون أن تخسرا هويتيهما. لكن ينبغي أن يُقال هذا الكلام من وجهة نظر أنّ التبادل يأتي من الطبيعة الإلهية، لأنّها تعبر في كل شيء لكونها غير مخلوقة ولا يمكن لأي شيء أن يخترقها. إذاً، هناك وحدة وتداخل للطبيعتين، لكن هذا يأتي من الطبيعة الإلهية، تماماً كما أن الشمس تضفي قواها علينا من دون أن يكون لها أي حصة في قوانا. بالتأكيد، كما أن للمسيح طبيعتين، فله أيضاً قوتين وإرادتين. تنتمي القوى إلى الطبائع وليس إلى الأقنوم. لكن هذه القوى تعمل من خلال الشخص المشترك، أقنوم الكلمة. تماماً كما أن الطبيعتين لا تتحركان بالاستقلال عن بعض في أقنوم الكلمة، الأمر نفسه ينطبق على القوى.

-14-

إن العقيدة الخريستولوجية (المتعلقة بشخص المسيح) مهمة جداً لأنها ترتبط بالإكليسيولوجيا (التعليم حول الكنيسة). لقد علّق الآباء أهمية كبيرة على التعليم الخريستولوجي لأنّه إذا تغيّر، يتغيّر معه تلقائياً التعليم الخريستولوجي الأنثروبولوجي والخلاصي. في تغيّر من هذا النوع تتحوّل الكنيسة إلى مؤسسة بشرية وتنظيم أو تجمّع ديني، ويخسر الإنسان هدف حياته إذ يبتعد عن طريق الخلاص الحقيقية. في شرحنا لبعض أوجه العقيدة الخريستولوجية، علينا أن نشير إلى العلاقة بين عبارتي “طبيعة مركّبة” و”أقنوم مركّب”، لأن مناقشة الفرق بينهما كانت موجودة وما تزال.

يقول أصحاب الطبيعة الواحدة بأنّ بعد الاتّحاد، اتّحدت الطبيعتان في المسيح لتشكّلا طبيعة واحدة يسمّونها “طبيعة مركّبة”. بهذا المنظار يبررون النظرة بأن الطبيعة البشرية ابتلعَتها الطبيعة الإلهية. لكن هذه النظرة تحرّف مبدأ “من دون تغيّر”. بحسب القديس يوحنا الدمشقي، الطبيعة المركّبة، كونها شيئاً مختلفاً عن الطبيعتين الأصليتين، ليست من نفس جوهر أيّ من الطبيعتين الإلهية أو البشرية. مثلاً، هو يشير إلى تركيبة الجسد البشري من أربعة عناصر، النار والهواء والماء والتراب. بعد تكوّنه، يصير الجسد شيئاً مختلفاً عن النار والهواء والماء والتراب. إذاً، إن استعملنا عبارة “طبيعة مركّبة” للمسيح، فلن يكون المسيح من طبيعة الآب في الألوهة، ولا من طبيعة أمه وطبيعتنا في البشرية. وعليه، لن يكون ممكناً أن ندعوه لا إلهاً ولا إنساناً.

القديس يوحنا الدمشقي، وهو ركن أساسي في التقليد الأرثوذكسي، ينبذ عبارة “طبيعة مركّبة” ويُدخِل عبارة “أقنوم مركّب”. بالتأكيد، هذه العبارة بحاجة للتفسير بطريقة أرثوذكسية، إذ يمكن تشويهها أيضاً. فلنرَ كيف يمكننا أن نتكلّم عن “أقنوم مركَب” بطريقة أرثوذكسية.

كان أقنوم ابن الله وكلمته قبل التجسّد بسيطاً، غير مركّب، بلا جسد، غير مخلوق، غير مرئي ولا ملموس، غير محدد، له كل ما كان للآب مختلفاً عنه بشكل الوجود، لأن الآب ليس مولوداً فيما الابن مولود. لكن بعد التجسّد صار كلمة الله مركّباً بمعنى أنّه مكوّن من الألوهة والبشرية. فالآن، بعد التجسّد، أقنوم المسيح، كونه من الطبيعتين، هو غير مخلوق في ألوهته ومخلوقاً في بشريته، غير منظور في ألوهيته منظور في بشريته. إذا رفضنا عبارة “أقنوم مركّب” نقع في النسطورية إذ سوف يكون عندنا شخصان في المسيح، أو في الطبيعة الواحدة إذ سوف نقبل تغيّر الطبيعتين وتشوشهما. إذاً، في المسيح اتّحدت الطبيعتان “في أقنوم واحد مركّب”. في أي حال، في الكلام عن الأقنوم المركَب نعني أنه مركّب من “طبيعتين كاملتين، من الألوهة والبشرية”. بالتأكيد، يمكن للبعض أن يفهم هذه العبارة بطريقة هرطوقية أي أن يقبل أن أقنوماً واحداً مركَباً من أقنومين، إلهي وبشري، أو أن يقبل وجود أقنوم من طبيعتين. لكن عبارة “أقنوم مركَب” تزيل كل أسواء التفسيرات الهرطوقية. فهي عن أقنوم من طبيعتين معروف بطبيعتين. في التقليد الأرثوذكسي، عندما نتحدّث عن “أقنوم مركَب”، نعني ليس فقط الأقنوم المكوّن من “طبيعتين كاملتين”، بل أيضاً الأقنوم الذي يعمل ويُعرَف “بطبيعتين”. وهكذا نتلافى كلاً من النسطورية والطبيعة والواحدة.

-15-

ننشد في سحرية عيد الميلاد “لهذا فيما نقدّم ما هو أفضل من الجزية الأرضية، أعني الأقوال اللاهوتية المستقيمة الرأي”. لا يقدّم التجسّد الإلهي الأفكار التقوية أو التحاليل العاطفية أو النفسية. حتى هذه التحاليل يمكن أن تقدّم شيئاً ما مناسباً لمستوى العصر المادي أو الروحي، لكن في النهاية سرّ التجسد ينبغي دراسته في جو اللاهوت الأرثوذكسي. كيف يمكن أن يكون خلاف ذلك وعندنا اتّحاد للطبيعتين الإلهية والبشرية في أقنوم الكلمة، تألّه الطبيعة البشرية، وأمور جديدة ومتناقضة لا يمكن للفكر البشري أن يدركها؟

بعد كل الذي قلناه، يمكن أن ننظر إلى النقاط الأربع التالية، التي تظهر مقاربة شخصية لهذا العيد العظيم، “رأس” أعياد السيد:

  • أولاً، المغارة التي وُلِد فيها المسيح هي نموذج للكنيسة. يقول القديس أثناسيوس الكبير تصويرياً بأن الغرفة الصغيرة التي انتظرت العذراء فيها ولادة المسيح هي نموذج الكنيسة. المذود هو الهيكل، يوسف هو الخادم، المجوس هم الإكليروس، الرعاة هم الشمامسة، الملائكة هم الكهنة، الرب هو الأسقف، العذراء هي العرش، الحُفَر هي الكؤوس، التجسّد هو اللباس، الشاروبيم هم المراوح، الروح القدس هو القرابين، الآب الذي يظلل كل شيء بقدرته هو الحجاب الذي يغطّي القربان. الكنيسة هي جسد المسيح الإله-الإنسان الذي حُمِل في رحم العذراء، وُلِد، تجلّى، تألّم، صُلِب، قام وصعد إلى السما. يُحتَفَل في القداس الإلهي بهذا السر العظيم ونُعطى إمكانية المشاركة في نعمة المسيح. ليست الكنيسة مؤسسة بشرية ولا هي طقس استذكار وإشباع لحاجة مشاعرنا.
  • ثانياً، الطبيعتان الإلهية والبشرية متحدتان دائماً في أقنوم الكلمة من دون تغيّر أو تشوش أو انقسام أو انفصال. هذا يعني أنّهما لم تنفصلا ولن تنفصلا. كون الطبيعة البشرية غير منفصلة عن الإلهية وكون الإله-الإنسان موجود دائماً في كل زمان، يمكننا الآن أن نشترك في جسد السيّد المؤلَّه، وباشتراكنا بجسد المسيح ودمه الإلهيين نصير جسداً واحداً ودماً واحداً مع المسيح.
  • ثالثاً، كوننا نسجد لسرّ التجسّد العظيم، وخاصةً لأننا نشترك بجسد المسيح ودمه، علينا أن نضلل هيرودوس كما فعل المجوس. يقول الإنجيلي متّى أن المجوس “إِذْ أُوحِيَ إِلَيْهِمْ فِي حُلْمٍ أَنْ لاَ يَرْجِعُوا إِلَى هِيرُودُسَ، انْصَرَفُوا فِي طَرِيق أُخْرَى إِلَى كُورَتِهِمْ.” (متى 12:2). كلمة “هيرودوس” في العبرية تعني “من الجِلد”. لهذا يقول القديس نيقوديموس الأثوسي أنّ علينا أن نضلل أفكار الجسد وملذاته. إلى هذا، علينا أن نخدع شيطان الفكر الذي يمنعنا من السير في طريق الخلاص. علينا أن نعود من طريق أخرى، بالفضائل، إلى أرضنا الأصلية، أي الفردوس. هذا يعني أننا مطالبون بعيش حياة أسرارية ونسكية. كل الذي يحيون نسكياً يُعطَون أن يتّحدوا بالمسيح في الأسرار.
  • رابعاً، عندما يسلك إنسان أسرارياً ونسكياً، في تناغم مع روح التقليد الأرثوذكسي، يختبر روحياً أحداث التجسّد الإلهي، وبصورة أكثر شمولاً في مجمل كيانه. فلا يعود يرى الأحداث خارجياً بل داخلياً. يقول القديس سمعان اللاهوتي الحديث بأنّه عندما يطهّر الإنسان قلبه ويستنير، يستقبل المسيح في داخله ويفهم وثباته كمثل طفل. يُدرَك المسيح كطفل في داخله ويولَد بالفضائل فيحيا الإنسان كل هذه الأحداث في كيانه. بالتأكيد، فقط في المسيح تتحد الطبيعة الإلهية بالطبيعة البشرية أقنومياً. لكن الشخص المتقدّس يتلقّى أيضاً قوة الله في طبيعته ويصير عضواً في جسد المسيح. هكذا، يفهم كيف تعمل نعمة الله في طبيعته وماهية إفراغ الذات وماهية تألّه الطبيعة البشرية.

إن تجسّد الأقنوم الثاني من الثالوث القدوس هدف إلى تأليه الطبيعة البشرية. من ناحية ثانية، ينبغي أن يتألّه أيضاً أقنوم كل منّا. إن لم نستعجل التألّه، يكون الأمر بالنسبة لنا وكأن المسيح لم يتجسّد.

الميتروبوليت أيروثيوس فلاخوس
نقلها إلى العربية الأب أنطوان ملكي
عن مجلة التراث الأرثوذكسي

arArabic
انتقل إلى أعلى