Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
☦︎
☦︎

” فإنه كما في جسد واحد لنا أعضاء كثيرة ولكن ليس جميع الأعضاء لها عمل واحد. هكذا نحن الكثيرين جسد واحد في المسيح وأعضاء بعضاً لبعض كل واحد للآخر ” (رو12: 4-5).

          1  مرة أخرى يستخدم نفس المثال الذي استخدمه لأهل كورنثوس، لكي يُحارب نفس الشهوة تحديداً. خاصةً وأن قوة الدواء هي كبيرة، كما أن لهذا المثال تأثير قوي في علاج مرض الافتخار. إذاً لأي سبب تفتخر أنت؟ أو لماذا أيضاً آخر نفسه يُهين ؟ أليس نحن جميعاً جسداً واحداً، كبار وصغار؟ إذاً طالما أن هناك أهمية في أن نكون أعضاء بعضاً لبعض، فلماذا تعزل نفسك بالافتخار؟ لماذا تحتقر أخاك؟ لأنه تماماً كما أن ذاك هو عضو لك، هكذا أيضاً أنت عضو له. ومن جهة هذا الأمر فإن مساواتكم في الكرامة هي شيء عظيم. إذاً فقد أشرت إلى أمرين لهما القدرة على تحطيم افتخارهم، إننا أعضاء بعضاً لبعض، ليس الصغير للكبير فقط، بل الكبير للأصغر أيضاً، وأننا جميعاً نُشكل جسداً واحداً. لا تتفاخر إذاً، لأن الموهبة قد أُعطيت لك من الله، لم تأخذها انت، ولا وجدتها. ولهذا حين تكلمت عن المواهب، لم أقل أن الواحد أخذ أكثر، والآخر أقل، لكن ماذا قلت؟ ” لنا مواهب ” ليست أكثر وأقل، بل “مختلفة”.

          كان من الضروري أن يوصيك الرسول بولس بهذه الأمور إذ أن الجسد يبدأ بالمواهب، وينتهي بالتطبيق العملي. لأنه بعدما أشار إلى البنوة والخدمة وكل الأمور المماثلة، انتهي إلى عمل الرحمة، والنية الصادقة، والمساعدة. إذاً لأنه كان من الطبيعي أن يسلك البعض بالفضيلة، دون أن يكون لديهم موهبة التنبؤ، فإنه يُظهر أن هذا أيضاً موهبة، بل وأكبر بكثير من النبوة، تماماً كما أظهر في رسالته إلى أهل كورنثوس، حيث أظهر أنها عظيمة بقدر ان الواحدة لها أجر، بينما الأخرى ليست لها كل مكافأة، كذلك فإن كل هذه، هي عطية ونعمة. ولهذا يقول:

” ولكن لنا مواهب مختلفة بحسب النعمة المعطاة لنا. أنبوة فبالنسبة للإيمان ” (رو6:12).

          إذاً بعدما عزاهم بالقدر الكافي، أراد أن يضعهم في حيرة، ويجعلهم أكثر استعداداً، مبرهناً على أن هؤلاء اليهود المفتخرون أنفسهم هم الذين يحددوا ما إذا كانوا سيحصلوا على موهبة أكبر أو أقل. ولكن الرسول يقول بالطبع إن هذا قد أُعطى من الله: ” كما قسم الله لكل واحد مقداراً من الإيمان “ [1]. وأيضاً ” بحسب النعمة المعطاة لنا “، ذلك لكي يضبط جماح المفتخرين، ولكنه يقول إنه من قِبل هؤلاء اليهود صارت البداية، لكي يحفز الغير المُبالين، الأمر الذي فعله في رسالته إلى أهل كورنثوس متحدثاً عن الاثنين (المفتخرين والغير المبالين).

          أي عندما يقول ” جدوا للمواهب “ [2] ، يبيّن كيف أن هؤلاء هم موضع المواهب المختلفة التي أُعطيت، لكن عندما يقول: ” هذه كلها يعملها الروح الواحد بعينه قاسماً لكل واحد بمفرده كما يشار “ [3] ، يُبيّن أنه لا ينبغي أن يفتخر أولئك الذين أخذوا الموهبة، مُخففاً آلامهم من كل اتجاه، تماماً كما فعل هنا. وأيضاً ولكي يُشدد اليائسين يقول: إن كان لدينا نبوة فلنستخدمها بحسب إيماننا. لأنه وإن كانت تعتبر نعمة، إلاّ أنها لا تُعطى جزافاً، بل هناك شروط لابد أن ينفذها من يأخذها. فإن مقدار النعمة التي يُسكب يتوقف على سعة وعاء الإيمان الذي يستقبلها.

” أم خدمة ففي الخدمة ” (رو7:12).

          هنا يشير إلى أمر عام. وهو يُسمى العمل الرسولي خدمة. وكل عمل روحي خدمة. إن هذه التسمية تتعلق بالطبع بعمل يتسم بعناية خاصة، لكنه يذكر هنا بصفة عامة ” أم المعلّم ففي التعليم “. لاحظ الطريقة التي يُشير بها إلى هذه الأمور، فهو يُشير أولاً إلى الأبسط، ثم إلى ما هو أعظم، لكي يركز تعليمه على موضوع واحد، ألاّ يتباهوا، أي ألاّ يتفاخروا ” أم الواعظ ففي الوعظ “. وهذا أيضاً نوعاً من التعليم. ” إن كانت عندكم كلمة وعظ للشعب فقولوا “ [4].

          ثم لكي يُظهر أن ممارسة الفضيلة لا يفيد كثيراً ما لم يكن مرتبطاً بقانون خاص بذلك ” المعطي فبسخاء “. لأنه لا يكفي أن نُعطي، بل ينبغي أن يكون العطاء بسخاء. لأننا نحن نعرف هذا في كل موضع، لأن العذارى أيضاً كان لديهم زيتاً، ولكن لأنه لم يكن كافياً، فقدوا كل شيء إذ يجب أن يكون “المدبر فباجتهاد”. لأنه لا يكفي أن يكون مُدبراً. ” الراحم فبسرور”. لأنه لا يكفي المرء أن يرحم، بل يجب أن يفعل هذا بسخاء وبرغبة وبدون حزن، أو من الأفضل أن نقول، ليس فقط برغبة وبدون حزن، بل وبشكر وبفرح أيضاً. لأن عدم الحزن ليس معناه الفرح. وهذا تحديداً قد شدّد عليه بدقة، عندما كتب إلى أهل كورنثوس حاثاً إياهم على السخاء، قائلاً: ” إن من يزرع بالشح فبالشح أيضاً يحصد ومن يزرع بالبركات فبالبركات أيضاً يحصد ” ثم يصحح الرغبة، فيضيف ” ليس عن حزن أو اضطرار “ [5]. لأن مَن يرحم يجب أن يتحلى بالشكر والسخاء معاً.

          إذاً لماذا تحزن حين تقدم على عمل الرحمة؟ ولماذا تتضايق عندما ترحم، وتخون هكذا ثمر عملك، خاصةً، وأنك إذا تضايقت، لا تكون تفعل عمل الرحمة، بل تصبح قاسياً ومتوحشاً. لأنه إن تضايقت، كيف تستطيع أن تساند الحزين؟ لأن من الضروري ألاّ يتشكك من هو حزين من وجود مشاعر غير صريحة (أي الحزين)، ولذلك فعليك أن تعطي بفرح. لأنه لا شيء أمام البشر يبدو بهذا القدر من القبح سوى أن يأخذون من الآخرين، قبل أن تُلاشي التشكك بفرح فائق (حين تُعطي) وما لم تُظهر أنك تأخذ أكثر من أن كونك تعطي، إن لم تفعل هذا فإنك تُحقّر من شأن الذي يأخذ، أكثر من أن تجعله يستريح ويهدأ. ولهذا يقول: ” الراحم فبسرور “. لأن هل يمكن أن يأخذ أحد مملكة ويظل عابساً؟ أو مَن ينال غفران للخطايا، ويبقى مُتجهماً؟ إذاً لا تدقق في نفقات الأموال، بل في الربح الذي يأتي من وراء النفقات. لأنه إن كان الذي يزرع يشعر بفرح، على الرغم من أنه يزرع دون أن يرى ثماراً، فبالأولى جداً ينبغي أن يفرح  ذاك الذي يزرع في السماء. فسيكون عطاءك كثيراً إن أعطيت بسخاء حتى لو كان العطاء قليلاً، هكذا فإنك ستجعل العطاء الكثير قليلاً إن أعطيت بوجه عابس. فإن المرأة صاحبة الفلسين، تجاوزت عطاء الكثيرين، لأنها أعطت بسخاء.

          ولكن كيف يمكن للمرء أن يعطي بفرح وسخاء، إذا كان يعيش هو في أسوأ درجات الفقر ويُحرم من كل شئ؟ اسأل الأرملة وستسمع منها الطريقة، وستعرف أن الفقر لا يصنع التعاسة، بل الرغبة هي التي تصنع هذا أو عكسه. لأنه يمكن للمرء وهو في الفقر أن يكون كريم النفس، وفي الغنى يمكن أن يكون تافهاً. ولهذا فإن الرسول بولس يطلب السخاء في عمل الصلاح، وفي عمل الرحمة يطلب الفرح، وفي الدفاع (عن الإيمان) يطلب الغيرة. لأنه لا يريد أن نُساعد من هم في احتياج بالأموال فقط، بل وبالكلام أيضاً (أي بالتبشير)، وبالجسد (أي بالجهد الجسدي)، وبكل الأمور الأخرى. وبعدما تكلّم عن الحماية أو الوقاية الأولى التي تتوفر بالتعليم وبالنصيحة (لأن هذه هي ضرورة مُلّحة، طالما أنها غذاء النفس)، ينتقل إلى الحماية عن طريق المال وغيره. ثم لكي يُظهر بعد ذلك كيف يمكن أن يُحققوا كل ذلك، أخذ يعرض لأم الصالحات، المحبة.  ” المحبة فلتكن بلا رياء “، فما يقوله هو أنك لو كنت تمتلك هذه المحبة، فلن تُعطى أهمية لما ينفق من المال، ولا لمتاعب الأجساد، ولا للجهد الذي يبذل في الإقناع، ولا للتعب والخدمة، بل ستتحمل كل هذه الأمور بنبل وشهامة، سواء كان ذلك بالجهد الجسدي، أو بالمال، أو بالكلام، أو بأي شيء آخر، فيكون الشيء الأهم هو مساعدة القريب. إذاً تماماً كما أنه لم يطلب فقط مجرد نشر الصلاح، بل نشره بسخاء، ولم يطلب فقط الحماية، بل الحماية من خلال الآخر، ولم يطلب فقط عمل الرحمة، بل طلب عمل الرحمة بفرح، هكذا فإنه لا يطلب فقط المحبة، بل يطلب محبة بلا رياء، لأن هذه هي المحبة، وإن وجدت هذا (أي إذا كانت المحبة بلا رياء) فإن كل الأمور الأخرى ستتبعها. كذلك فإن مَن يقدم عمل الرحمة بفرح، هو يُعطي لذاته (فرحاً)، ومن يحمي فإنه يحمي أو يدافع بغيره، لأنه يساعد نفسه، وذاك الذي يُعطي شيئاً، فإنه يصنعه بسخاء، لأنه يُعطي ذاته.

          2  وبعد ذلك، لأنه توجد محبة لأشياء شريرة، مثل محبة الفجور، محبة المال، السرقة بهدف السكر وإقامة الموائد، ولكي يُنقي المحبة، التي تحدث عنها، من هذه الصور من المحبة، يقول: ” كونوا كارهين للشر “، ولم يقل ابتعدوا عن الشر، بل قال “كارهين للشر”، وليس فقط كارهين، بل كارهين بشدة. لأن كلمة (apÒ) التي تأتي من الفعل (apostugoÚntej) تعني كارهين، مرات كثيرة وتضيف على الفعل معنى القوة عندما تضاف إليه، مثلما يقول apo-karadok…aj أي اقتناص الفرصة المناسبة بقوة، apekdecÒmenoi أي منتظرين بلهفة، apolÚtrwsh أي الخلاص التام.

          ونظراً لأن الكثيرين، وإن كانوا لا يرتكبوا الشر إلاّ أنه تكون لديهم الرغبة في ممارسته، قال ” كارهين الشر بشدة “ [6]. وإن كان الرسول بولس يُريد أن يكون فكرنا نقياً، وأن نواجه الشر بالرفض والبغضة الشديدة والمقاومة، إذاً لا تعتقدوا لأنه قال ” حبوا بعضكم بعضاً “، وهذا كما لو كان ق. بولس يقول إنني أتوقف عند هذه الجزئية، حتى تظنوا أنه يمكن أن تتعاونوا في الشر، بل على العكس تماماً، فيجب أن تكون الرغبة في الشر أمراً غريباً ومكروهاً للغاية. ولا يُكتفى بهذا فقط، بل ويُحدد عمل الفضيلة، قائلاً: ” ملتصقين بالخير”. هذا هو ما أعلنه، بأن يطلب أن يكونوا ملتصقين. وهكذا فإن الله عندما وحّد الرجل بالمرأة، قال: ” ويلتصق بامرأته “ [7]. فيما بعد يُشير إلى الأسباب التي لأجلها ينبغي على الواحد أن يُحب الآخر.

” وادين بعضكم بعضاً بالمحبة الأخوية ” (رو10:12).

          هنا يقول أنتم اخوة، وولدتم بنفس الآلام التي للولادة، وبناء على ذلك ومن أجل هذا السبب، سيكون أمر مُبرر أن يُحب الواحد الآخر. نفس الأمر قاله موسى لأولئك الذين قاوموا في مصر ” أنتم اخوة. فلماذا يظلم الواحد الآخر “؟ [8] وعندما يأتي ذكر غير المسيحيين، يقول ق. بولس ” إن كان ممكناً فحسب طاقاتكم سالموا جميع الناس” [9]. لكن عندما يتكلم مع المؤمنين يقول: ” وادين بعضكم بعضاً بالمحبة الأخوية “. في الآية الأولى يطلب ألا يتشاجروا، ولا أن يكرهوا ويتحولوا عن هؤلاء، أما الثانية فيطلب أن يحبوا أيضاً، وليس فقط أن يحبوا، بل وأن يشعروا بالحنو. لأنه لا ينبغي أن تكون المحبة بلا مودة بل وأن تكون قوية، وفعالة وحارة.

          لأنه ما فائدة المحبة عندما تكون بلا رياء، لكنها بلا بحرارة؟ ولهذا قال: ” وأدين بعضكم بعضاً “، أي أن تحب، وأن تحب بحرارة. ألا تكتفي بأن تكون محبوباً من الآخر، بل نفس الشيء أن تركض أنت نحوه وتصنع البداية أي تبدأ بالمحبة. لأنه هكذا ستربح أجر محبته. إذاً بعدما تكلم عن السبب الذي من أجله يجب أن نحب بعضنا بعضاً، تكلم عن كيف ستصير هذه المحبة ثابتة. ولهذا أضاف: ” مُقدمين بعضكم بعضاً في الكرامة ” لأنه هكذا يجب أن تكون المحبة، وعندما تصبح على هذا النحو فستظل دائمة. ولا يوجد شيئاً يجعل الإنسان قادراً على أن يصنع له أصدقاء، أكثر من محاولته أن يجعل قريبه يتقدم في الكرامة. ويقال عن هذا أنه كرامة عظيمة وليس فقط محبة. لأن كل ما سبق ذكره يأتي من المحبة، بل أن المحبة تصير بالكرامة، تماماً كما أن الكرامة تصير بالمحبة. ولكي يوضح بعد ذلك أنه لا يجب علينا فقط أن نقدم بعضنا بعضاً في الكرامة، فهو يطلب شيئاً أكثر من هذا، قائلاً:

” غير متكاسلين في الاجتهاد ” (رو11:12).

          لأنه بالحقيقة هذا الأمر يلد محبة عندما تظهر من جهة شخص ما، فيجب أن يضيف العناية بجانب الكرامة. كذلك لا يوجد شيئاً يمكن أن يُساهم في أن يصير الشخص محبوباً، أكثر من تقديم الكرامة والعناية. لأنه لا يكفي أن يحب، بل هو يحتاج إلى هذا أيضاً (أي أن يقدم كرامة وعناية). أو من الأفضل أن نقول إن المحبة تؤدي إلى إظهار هذا أيضاً، كما أن المحبة تصبح بذلك أكثر دفئاً. بهذا (أي بالكرامة والعناية). نجد أن الخطوة الأولى تؤدي إلى الثانية، خاصةً وأن كثيرين مماً يحبون، يحبون بفكرهم، لكنهم لا يمدون يد المساعدة. ولهذا فإنه يبني المحبة من كل جهة. وكيف يكون ممكناً ألا نصير متكاسلين في الاجتهاد؟ بأن نكون ” حارين في الروح “. لاحظ أنه في كل موضع يطلب الحماس والحرارة في التطبيق. لأنه لم يقل فقط أن تعطوا شيئاً، لكن أن تعطوا بسخاء، ولا أن تكونوا مُتسلطين بل خادمين بغيره، ولا أن تقدموا عمل الرحمة فقط، بل أن تقدمونه بفرح، ولا أن تقدموا بعضكم بعضاً في الكرامة، بل أن تقدموا الآخرين في هذا العمل، ولا أن تحبوا، بل أن تحبوا بلا رياء، ولا أن تبتعدوا عن الشرور، بل أن تكرهوا الشر، ولا أن تحبوا فقط، بل أن تحملوا أحشاء رأفة، ولا أن يكون لديكم رغبة في الاجتهاد، لكن يجب أن تكون غير متكاسلين، ولا أن تحملوا الروح فقط، بل أن تكونوا حارين في الروح، لكي تكونوا حارين، وفي يقظة. إذاً إن كنت تمتلك هذه الأمور التي سبق الاشارة إليها، فإنك ستجذب الروح، وإن ظل الروح فيك فإنه سيجعلك تركض نحو هذه الأمور، وكل ما يأتي بواسطة الروح والمحبة سيكون أموراً سهلة، فطالما أنه من الجانبين فستكون حاراً. ألا ترى كيف أن الثيران التي تحمل على ظهورها الشعلة حيوانات مخيفة بالنسبة للجميع؟ هكذا أنت أيضاً ستصير غير محتمل بالنسبة للشيطان، إن أخذت الحرارة من الجانبين (الروح والمحبة) “عابدين الرب”. أي أنه بكل هذه الأمور، يكون من الممكن أن تعبد الرب. لأن كل ما تصنعه لأخيك يذهب إلى إلهك، وحين يقدر لك هذا الصنيع، فإنه على الفور يُقرر لك الأجر. أرأيت إلى أي مدى يؤدي التحدث عن من يصنع هذه الأمور؟ وبعد ذلك، ولكي يُبيّن كيف يمكن أن تلتهب شعلة الروح، يقول:

” فرحين في الرجاء. صابرين في الضيق مواظبين على الصلاة ” (رو12:12).

          لأن كل هذه الأمور هي مادة لاشتعال تلك النار (نار الروح). لأن إلهك قد طلب أن تقدم أموالاً، وجهداً جسدياً، وحماية وغيرة وتعليماً، وعليك أن تبذل كل المشاق الأخرى، ثم يعد أيضاً المجاهد بالمحبة، وبالروح، وبالرجاء، لأنه لا يوجد شيئاً يجعل النفس سخية بهذا القدر، وجريئة، إلاّ الرجاء الصالح. بعد ذلك وقبل الخيرات المنتظرة يُعطى مكافأة أخرى. أي لأن الرجاء يتعلق بالمستقبل، يقول: ” صابرين في الضيق “. لأنه قبل أن ننال الأمور المستقبلية، ستربح في الحاضر عطية حسنة جداً، بسبب الصبر على الضيق، وذلك عندما تصير صبور ومختبر. بالإضافة إلى ذلك، يُقدم عوناً آخراً، قائلاً: ” مواظبين على الصلاة “. إذاً عندما يصبح كل شيء سهلاً بالمحبة، والروح يُعين، والرجاء يكون ممكناً، والضيق يجعلك مختبراً وقادراً على أن تحتمل كل شيء بنبل، وعندما يكون لديك بالإضافة إلى كل هذا سلاحاً آخراً قوياً جداً، وهو الصلاة، والمعونة التي تأتي من التضرع، فهل سيكون هناك بعد من المتطلبات ما هو صعباً، بالطبع لا. أرأيت كيف أنه يسند الذي يجاهد بالروح من كل الإتجاهات، ويظهر أن كل المتطلبات تعد أموراً يسيرة وهينة؟ انتبه أيضاً، كيف أنه ينشغل بعمل الرحمة، أو من الأفضل أن نقول ليس فقط بعمل الرحمة، بل بعمل الرحمة تجاه المسيحيين. لأنه بأن يقول فيما سبق “الراحم فبسرور”، فقد فتح اليد للجميع، لكنه هنا يتحدث عن عمل الرحمة تجاه المؤمنين. ولهذا أضاف قائلاً:

” مشتركين في احتياجات القديسين ” (رو13:12).

          لم يقل أن تسددوا إحتياجاتهم، لكن “مشتركين في إحتياجاتهم “، مُظهراً بأن الأعظم أن يشتركوا لا أن يُعطوا، وأن الأمر هو عمل مُشترك، لأنه مختص بالشركة. هل تُقدم أموالاً؟ إن كنت تفعل ذلك، فإن أولئك سيجعلون لك دالة أمام الله. ” عاكفين على إضافة الغرباء “. لم يقل أن تمارسوا، أن “تعكفوا”، مُعلّماً إيانا ألا ننتظر أبداً أن يأتي إلينا من هم في احتياج، بل أن نركض خلفهم ونسعى إليهم.

          هذا ما صنعه كل من لوط، وإبراهيم. فإن إبراهيم قد بذل الكثير في انتظار هذا الصيد الحسن، وعندما رآه قفز وركض لملاقاته وسجد إلى الأرض، وقال: ” إن كنت قد وجدت نعمة في عينيك فلا تتجاوز عبدك “ [10]. وليس مثلنا نحن الذين عندما نرى شخصاً غريباً أو فقيراً، نُخفض عيوننا، ولا نعتبر الفقراء مُستحقين شيئاً، ولا حتى للتحية. وإن كنا نرق ونلين بعد الكثير من التضرع والرجاء، وأصدرنا أمراً للخادم أن يعطى قليلاً من المال، فإننا نعتقد كم أنجزنا الكثير. أما إبراهيم فلم يسلك هكذا، بل أخذ مكان الذي يترجى، والخادم، وإن كان بالطبع لم يعرف أولئك الذين ينوي استقبالهم. ولكننا، وإن كنا نعرف جيداً أننا نستقبل المسيح، إلاّ أننا ولا بهذا نترفق بالفقراء. ولكن إبراهيم أخذ يترجى ويتضرع، ويسجد، بينما نحن نُهين الذين يقتربون منا، وهو (أي ابراهيم) حقق كل شيء وحده برفقة زوجته، بينما نحن لم نُحقق شيئاً، ولا برفقة خدامنا.

          لكن أن تريد أن ترى المائدة التي أعدها، سترى هنا أيضاً سخاء كثيراً. لكن السخاء لا تصنعه وفرة الأموال، بل غنى الإرادة. إذاً كم عدد الأغنياء الذين كانوا موجودين في ذلك الوقت، إلاّ أنه لم يوجد أحد صنع شيئاً مشابهاً لما صنعه ابراهيم. كم عدد الأرامل الذين وجدوا في إسرائيل، ولكن ولا واحدة منهم استضافت إيليا سوى أرملة صرفة وصيدا. أيضاً كم عدد الأغنياء الذين وجدوا في عصر إليشع، والمرأة الشنومية وحدها هي التي جنت ثمر الضيافة. وهذا ينطبق بالطبع على إبراهيم في ذلك الوقت، وهو يستحق المدح لوفرة الخيرات، التي قدمها، وبشكل خاص لأجل هذه النية، أي أنه صنع كل هذا، برغم أنه لم يكن يعرف هوية الزائرين. إذاً لا تفحص كثيراً أنت أيضاً هوية الشخص، لأنك تستقبله لأجل المسيح. وإن كنت تريد على الدوام أن تبحث بالتدقيق، ستهمل في مرات كثيرة عن الرجل الذي سألت عن هويته، وستفقد الأجر بسبب هذا. إن مَن يستقبل شخص غير معروف الهوية، لا يُدان، بل ويأخذ أجراً ” من يقبل نبياً باسم نبي فأجر نبي يأخذ “ [11] ، بينما ذاك الذي بسبب تطّرفه في الفحص، قد يجهل من يستحق التقدير، بل ويُدان.

          إذاً لا تفحص كثيراً طرق المعيشة، والأعمال، خاصةً وأن ما يعتبر سمة تنم عن أسوء أنواع السلوك هو أن تفحص بالتفصيل حياة الشخص بكاملها حتى تعطيه رغيفاً من الخبز. وسواء كان هذا قاتلاً، أو لصاً، أو أي شيء آخر، ألا يبدو لك أنه يستحق قطعة خبز أو قليلاً من المال؟ وسيدك يُشرق شمسه على هؤلاء، بينما أنت تعتبرهم غير مستحقين للطعام اليومي؟ لكنني أحدثك عن مدى آخر: حتى لو كنت تعرف جيداً أن ذاك (المحتاج) ملئ بشرور لا تُحصى، فإنه ولا حتى هذا يعطيك مُبرراً، طالما أنك تحرمه طعامه اليومي. لأنك عبد لذاك الذي قال ” لستما تعلمان من أي روح أنتما “ [12]. أنت خادم لذاك الذي شفى الذين أهانوه، لذاك الذي صُلب من أجل هؤلاء. ولا تقل لي أن (ذاك المحتاج) قد قتل شخصاً آخر. لأنه وحتى لو كان ينوي قتلك أنت، فلا يجب أن تتركه يعاني الجوع. خاصةً وأنك تلميذ ذاك الذي تمنى الخلاص لصالبيه، وهو الذي قال على الصليب: ” يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون “ [13].

          أنت عبد لذاك الذي شفى مَن لطمه، ومَن وضع إكليل الشوك على رأسه، ومَن أهانه وهو على الصليب، فهل هناك ما يمكن أن يوازي هذه المحبة؟ كذلك فإن اللصين (المصلوبين معه) قد أهاناه في البداية، لكنه فتح الفردوس لواحد منهما. وبكى لأجل الذين كانوا ينون قتله، وانزعج عندما رأى الخائن (أي يهوذا)، لا لأنه سوف يُصلب، بل لأن يهوذا قد هلك. إذاً فقد إنزعج لرؤية المشنقة، لرؤية الجحيم الذي أتى بعد المشنقة. وبرغم من أنه كان يعرف الشر الذي يُضمره، فقد إحتمله حتى آخر لحظة، ولم يُبعده، بل قبّل الخائن. سيدك يُقبّل ذاك الذي كان ينوي أن يساعد في سفك دمه الكريم بعد لحظات، ولكنك لا ترى أن الفقير مستحق ولا حتى للخبز؟ ولا تحترم القانون الذي حدده المسيح؟ لأنه قد أظهر بهذا السلوك أنه ليس فقط لا ينبغي أن نتحول عن الفقراء، بل ولا نتحول عن الذين يقودوننا للموت. إذاً لا تقل لي إن فلان سبّب لي شراً، لكن فكر فيما صنعه المسيح قبل صلبه بقليل، في القبلة التي بها سوف يُسلّم. لقد فعل هذا لكي يرجع الخائن إلى صوابه. وانظر كيف يراجعه، يقول له: ” يا يهوذا أبقبلة تُسلّم ابن الإنسان “ [14]. ومن هو الذي لا يرق لهذا الصوت؟ أي وحش وأي حجر؟ لكن هذا التعس لم يلن. إذاً لا تقل لي أن فلاناً قتل فلاناً، ولهذا فإنني أتحول عنه. لأنه حتى وإن كان بعد ينوي أن يُخرج سيفه في وجهك ويضعه على رقبتك بيده اليمنى، فعليك أن تُقبّل هذه اليد، لأن المسيح قبّل فم ذاك الذي سبّب له الذبح. إذاً فأنت أيضاً ينبغي ألا تكره، بل أن تبكي وأن تتراءف بذاك الذي يريد أن يصنع بك شراً. لأن هذا مستحق أن نتراءف به وأن نبكي عليه. إذاً فنحن خدام ذاك الذي قبّل الخائن (ولن أتوقف على أن أكرر هذا الأمر باستمرار). بل وأن الرب قال كلام أكثر رقة من القبلة. لأنه لم يقل أيها الدنس، والخبيث، والخائن، هل هذا هو جزاء إحساناتي الكثيرة؟ فماذا قال؟ قال “يهوذا” مُشيراً إلى الاسم الأساسي، وكانت بالأكثر هي كلمة الذي يهز أو يوقظ ويُعيد إلى المكانة أو الرتبة، أكثر من كونها كلمة غضب. ولم يقل مُعلّمك، سيدك، المحسن لك، لكنه قال: “ابن الإنسان” إذاً إن لم يكن معلّماً، ولا سيداً، فهل تُسلّم ذاك الذي تصرف معك بكل هذه الرقة، وكل هذه الصراحة، حتى أنه في لحظة الخيانة يُقبلك، خاصةً حين كانت القبلة علامة الخيانة؟ مبارك أنت أيها الرب! كم هو عظيم تواضعك، كم هو عظيم مثال التسامح الذي تُعطيه لنا!.

          لكنه تكلم بهذه الطريقة في مواجهة يهوذا هكذا تكلم، فهل يتكلم بهذا الأسلوب أيضاً مع الذين أتوا بعصيّ ومشاعل ليقبضوا عليه ؟ وهل هناك كلام أكثر رقة من الكلام الذي تحدث به معهم؟ لأنه بينما كانت لديه القدرة أن يفنيهم جميعاً، لم يصنع شيئاً مثل هذا، بل حدثهم بهدف أن يضبط سلوكهم، قائلاً: ” كأنه على لص خرجتم بسيوف وعصيّ “ [15]. وبعدما طرحهم أسفل، عندما ظلوا متجمدي المشاعر، فإنه أيضاً سلّم نفسه بإرادته وقبل أن يضعوا في يديه المقدسة سلاسل برغم أنه كان يستطيع أن يزلزل كل الأشياء، ويُلقيها إلى أسفل. لكنك بعد كل ذلك، تسلك بوحشية تجاه الفقير. حتى وإن كان مذنباً بعد لأجل شرور كثيرة قد صنعها، فإن الفقر والجوع، يقدران على تليين تلك النفس التي لم تصل إلى هذه الدرجة من فقدان الأحساس . لكنك لازلت مُصّر على أن تكون قاسياً، وأن تُحاكي غضب الأسود، وإن كانت الأسود لا تأكل أبداً أجساداً ميتة، لكنك لا ترحم الفقير برغم من أنك تراه مُحاطاً بهذا القدر الكبير من الشرور، بل تدوسه بينما هو في وضع سيء، تُمزق جسده بالإهانات، تجمع عليه نكبات فوق نكبات، وذاك الذي لجأ إلى الميناء، تجعله يصطدم بصخرة في الماء، وتُسبب له غرقاً خطيراً، أكثر من هؤلاء الذين هم في البحر. وماذا ستقول أمام الله، هل ستقول ارحمني؟

          وكيف تطلب غفراناً للخطايا، عندما تُهين ذاك الذي لم يُخطئ مطلقاً، وتطلب عقاباً للجوع، وللإحتياج الشديد، وتفوق جميع الوحوش في القسوة؟ لأن هذه الوحوش تأكل الطعام المعتادة عليه لأن البطن تُرغمها ، بينما أنت دون أن يُحرضك أحد، ولا أن يُجبرك أحد، تأكل أخيك، وتعضه وتفترسه، وإن لم يكن بالأسنان، بل بكلام أكثر فتكاً من الأسنان. إذاً كيف ستقبل العطية المقدسة، طالما أنك تغطي لسانك بلون دماء الإنسانية الحمراء ؟ كيف تعطي سلاماً بفم مملوء عداوة؟ وكيف ستتمتع بالطعام الهادئ، عندما تجمع سموماً بهذا القدر الكبير؟ ألاّ يجب أن تُخفف من الفقر؟ ولماذا تُثيرها؟ ألا يعين عليك أن تريح شخصاً يعيش في حالة تعاسة، ولماذا تُهينه وتحتقره؟ ألا يجب أن تنزع الضيق، لماذا تُزيده ؟ أليس من الواجب عليك أن  تُعطي أموالاً، فلماذا تهين بالكلام؟ ألم تسمع كم يُعاقب كل من لا يُقدم طعاماً للفقراء؟ وبأي العقوبات يُدانون؟ يقول: ” اذهبوا عني يا ملاعين إلى النار الأبدية المعدة لإبليس وملائكته “. لكن إن كان الذين لا يُطعمون الفقير يُعاقبون هكذا، فما هي عقوبة أولئك الذين بالإضافة إلى ذلك، يُهينونه أيضاً؟ أي جحيم كبير، وأي جهنم عظيمة سيعانون؟ إذاً حتى لا نجلب علينا الكثير من الشرور، علينا أن نعالج هذا المرض الشرير قدر استطاعتنا ، ولنضع لجاماً على اللسان. وليس فقط ينبغي ألا نشتم، بل وأن نُعزي بالكلام وبالأعمال حتى عندما نذخر لأنفسنا رحمة أكثر من ذي قبل ، أن ننال الخيرات التي وعدنا بها الله، والتي ليتنا ننالها جميعاً بالنعمة ومحبة البشر اللواتي لربنا يسوع المسيح الذي يليق به مع الآب والروح القدس، المجد إلى أبد الدهور آمين.


[1] رو3:12.

[2] 1كو31:12.

[3] 1كو11:12.

[4] أع15:13.

[5] 2كو6:9ـ7.

[6] هذا ما يُشير إليه الفعل اليوناني apostugoÚntej ي البغضة بشدة.

[7] تك24:2.

[8] خر13:2س.

[9] رو8:12.

[10] تك3:18.

[11] مت41:10.

[12] لو55:9.

[13] 34:23.

[14] لو48:22.

[15] مت55:26.

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF

معلومات حول الصفحة

عناوين الصفحة

محتويات القسم

الوسوم

arArabic
انتقل إلى أعلى