من وحي عيد الغطاس – بين التقليد الشريف والشعبي

تكثر في موسم عيد الظهور الإلهي المعروف شعبيا باسم “عيد الغطاس” المعموديات. فأغلب المؤمنين ينتظرون حلول هذا العيد ليعمدوا أطفالهم الذين ولدوا خلال العام الأول من عمرهم. هي قلة الفئة التي تعمد أطفالها عند بلوغهم الأربعين يوما -كما هي السنّة المسيحية- في أي يوم من السنة وقع. ترافق المعموديات وصلاة تقديس المياه الكثير من العادات التي لا تتوافق مع تقليدنا الكنسي الارثوذكسي. وهاكم في هذه العجالة بعض الأحاديث السائدة.

“يا أبونا، معي قنينة مياه مملوءة من نهر الاردن، من المياه التي اعتمد فيها السيد المسيح، أأستطيع أن أضعها في الجرن؟” تسأل أم الطفل المزمع أن يعمَّد. فيجيبها الكاهن: “هذه المياه التي جلبتها من نهر الأردن هي كالمياه الساقطة من الحنفية الموضوعة في البيت، وهي بحاجة الى أن يصلَّى عليها لينحدر الروح القدس فيقدسها بصلوات الجماعة المتحلقة حولها. ليس من ماء مبارَك بحد ذاته، بل الماء يبارَك بحضور الجماعة وصلاتها. وبحسب علمي، فقد ذهبت المياه التي اعتمد المسيح فيها الى البحر وتغير النهر!”. من هنا أيضا أهمية تقديس المياه في كل معمودية تجري في الرعايا، وليس سكب بعض المياه المبارَكة سلفاً، ولو في أيام عيد الغطاس وكثرة المعموديات. فكون الناس غائبين عن صلاة تقديس المياه يلزم الكاهن بصفته حارس الأسرار ومقيمها أن يجري صلاة التقديس في كل خدمة من خدم المعمودية.

لكن المرأة، وعلى الرغم من اقتناعها بما قاله ال “أبونا”، تضيف: “ولكن على النية تتبارك المياه. والنهر نفسه قد تقدس بنزول المسيح فيه، فما المانع من إضافة المياه الأردنية الى الجرن؟”. فيجيب الكاهن: “ومن يمنعك عن إفراغ قارورتك في الجرن؟ ولكن هذا لا يعني أننا لن نصلي لكي تحل نعمة الروح القدس على المياه قبل تغطيس الولد.

أما بالنسبة الى قداسة النهر، فكنيستنا المقدسة تؤمن بأن الأرض كلها، وليس فقط أرض فلسطين ونهر الأردن، قد تقدست عندما صار إلهنا إنساناً وصلب ومات وقام من أجل خلاصنا. اذا كان المسيح قد تجسد ليجعل جزءاً صغيراً من الدنيا دون غيره مقدساً ومباركاً نكون قد ضربنا كل مفهوم الخلاص. الأرض تتقدس بقداسة الإنسان وتتدنس بخطاياه. من هنا أهمية صلاة الجماعة الحاضرة كلها لاستدعاء الروح القدس على المياه. لقد ذكرتِ أيضا في حديثك موضوع النية. كنيستنا لا تعتقد بالنية ولا بالمقولة الشائعة “على حسب نواياكم ترزقون”، بل تؤمن الكنيسة بالقول الفاعل والفعل المقدِّس أي بالصلاة”.

بعد المعمودية أُلبس معمَّد آخر الصليب وبجانبه خرزة زرقاء “لرد العين الحاسدة وإبعاد الشر عنه!”. فطلب الكاهن من أهل الولد رمي الخرزة الزرقاء في سلة المهملات، ذلك “لأن الصليب وحده هو الحامي وهو الترس الذي يحفظ الولد من كل شرّ. أما الخرزة فهي مجرّد خرزة لا تقدّم ولا تؤخّر، وهي لا تضرّ ولا تنفع ولا حول لها ولا قوة، فكيف يؤمن صحيحو العقل بقدرتها غير المنطقيّة؟ واذا كنّا مسيحيين بالحقيقة ونؤمن بفاعليّة المعمودية، فإننا لتونا قد تلونا الصلوات التي فيها رفضنا الشيطان وكل أباطيله، وطردنا الشيطان خارجاً وسلّحنا المعمّد بقوّة المسيح وصليبه وأعطيناه سرّ الميرون الذي فيه الروح القدس، ثم تناول جسد المسيح ودمه، فلماذا إذاً الخرزة؟”.

أمّا في موضوع تقديس المياه فثمّة كلام. وعلى القياس عينه نستطيع الكلام على موضوع تقديس الزيت والقربان الموزّع في القداس الذي نحمله معنا الى المنازل… يعتقد الناس أن بركة المياه المقدسة تنتقل آلياً الى المنازل في القوارير التي يحملونها معهم، فيشرب منها من كان غائباً فيعتقد أنّ فاعلية المياه قد بلغته، وكأنّ في الأمر سحراً.

المشاركة في الصلاة على تقديس المياه (والزيت والقربان) أساسيّة لكي يحلّ الروح القدس على البشر أولاً وعلى المياه ثانياً. لذلك مَن غاب عن الصلاة والمشاركة -إلا لأسباب محمودة كالسفر والمرض- لن تنفعه نقطة الماء “المقدسة”، كما أنّ القربانة لا تنفع الغائب عن القدّاس… لأنّ ثمة تناغماً بين تقديس الإنسان للمادة وتقديسها له، بمعنى أن مشاركة الإنسان بتقديس المادة تجعل هذه المادة فاعلة في تقديسه، والعكس ليس صحيحاً. من هنا، أهمية الصلاة التي يلقيها الكاهن في المنازل بحضور ساكنيها قبل نضحهم بالماء، لكي يحل الروح القدس عليهم وعلى ما تحتويه منازلهم.

أخيراً، المطلوب أن نميز في كلّ مواسمنا المباركة وأعيادنا ما بين التقليد الشريف من جهة والتقاليد الشعبيّة السائدة من جهة أخرى، تلك التقاليد التي تجعل للعادات التي لا عمق لها شأناً أهمّ من المعنى والمضمون اللذين تحويهما الخدمة الكنسية من أجل تقديس العالم بالحقيقة.

عن نشرة رعيتي
الأحد 28 كانون الثاني 2001

arArabic
انتقل إلى أعلى