في مديح القديس بولس – سبع عظات للقديس يوحنا الذهبي الفم


العظة الأولى:  بولس صاحب كمال البركات كلها

جمع الرسول بولس في شخصه كل الكمالات، فقد كان أعظم من هابيل ونوح وإبراهيم وإسحق ويعقوب ويوسف وأيوب وموسى وداود وإيليا ويوحنا المعمدان والملائكة.

نقاوة القلب وأنهار الروح

[يقدم لنا القديس يوحنا شخص الرسول بولس المجاهد بالنعمة الإلهية لكي يحيا في نقاوة قلب، فتفيض فيه أنهار مياه الروح التي تحول القفر إلى فردوسٍ روحي مفرح.]

 بحق يمكن للإنسان أن يصف نفس القديس بولس بكونها حاملة بذار الفضيلة وفردوساً روحياً. فقد ترعرعت في داخله النعمة بعمقٍ، كما كان دائماً يهيئ أعماقه لتنمو النعمة فيها وتزدهر. وحين صار إناءً مختاراً دأب على تنقية نفسه فاستحق أن ينسكب عليه الروح القدس بفيض. هكذا صار لنا مصدر أنهارٍ كثيرة وعجيبة، ليست فقط الأنهار الأربعة التي نبعت في الفردوس، وإنما أنهار أخرى كثيرة تجرى كل يومٍ لكل واحدٍ منا لتروى ليس فقط الأرض، بل نفوس البشر فتجعلها تنبت الفضائل.

كمال كل البركات

أية كلمات يمكن أن تفي وصف صلاح هذا الإنسان حقه؟

أو أي لسان يستطيع أن يتغنى بمدائحه؟

كيف نستطيع أن ننظم مديحاً في الإنسان حين تتمتع نفسه بكل الفضائل البشرية، بل أقول ما هو أكثر من هذا بالفضائل الملائكية أيضاً؟ لكن لا يمكننا أن نصمت أمام هذا (العجز)، بل يلزمنا أن نتكلم. لأن هذا هو أعظم أعمال المديح، حين تفوق الأعمال البارعة محاولتنا لوصفها مهما كانت بلاغتنا. وإذ تفشل جهودنا نجد ذلك مرضياً بالأكثر من تسجيل أي عدد من الأعمال الناجحة.

إذاً أين نبدأ في مديحنا؟ أليس من هذه النقطة، وهى أن بولس صاحب كمال كل البركات. أي امتياز نراه جلياً في الأنبياء أو البطاركة أو الصالحين أو الرسل أو الشهداء نجده أكثر غزارة في بولس بطريقة فائقة.

بين ذبيحة بولس الرسول وذبيحة هابيل

 لاحظ هذا. تقول: إن هابيل قدم ذبيحة مقبولة (تك 4:4)، بهذا كان متميزاً. لكن إن اختبرنا ذبيحة بولس نجدها تفوق تلك التي لهابيل كما تعلو السموات عن الأرض. تسأل ماذا أعني؟ ببساطة قدم بولس ذاته ذبيحة يومية كاملة، وكانت تقدمته مضاعفة:

أولاً: كان يموت كل يومٍ (1 كو31:15 ).

ثانياً: كان يحمل في جسده إماتة يسوع على الدوام (2 كو 10:4)، إذ كان دائماً يواجه أخطاراً، وكان راغباً في الاستشهاد، بإماتة جسده صار بالفعل تقدمة ذبيحية، بل وبالحق أكثر من ذبيحة! لأنه لم يقدم ذبيحة غنمٍ أو ماشيةٍ، بل تقدمة جسده ودمه كذبيحة يومية مضاعفة. لهذا تجاسر فقال: “أنا الآن اُسكب في ذبيحة” (2 تي6:4)، داعياً دمه تقدمة.

لم تكفه هذه التقدمات، فبعد أن قدم نفسه بالكامل قرباناً أراد تقديم العالم كله قرباناً: الأرض والبحر، اليونانيين والبرابرة، كل أرض تطوقها السماء، هذه الأرض التي وطأتها قدماه، كأنه كائن ذو جناحين وليس مجرد رحالة! لقد نزع أشواك الخطية التي في الطريق، وزرع كلمة الدين في كل مكان. انتزع الخطأ، وأعاد الحق. جعل البشر ملائكة بل بالأكثر غيَّر البشر من شياطين إلى ملائكة (3). وإذ كان مزمعاً أن يلقى وراءه الصعاب والحرب التي لا ُتطاق قال لتلاميذه معزياً: “لكنني وإن كنت أنسكب أيضا على ذبيحة إيمانكم وخدمته أُسر وأفرح معكم أجمعين، وبهذا عينه كونوا أنتم مسرورين أيضاً وافرحوا معي” (في 17:2، 18).

 أية ذبيحة إذاً تعادل هذه الذبيحة التي قدمها بولس، مقدماً إياها قرباناً بسيف الروح، وتقدمة على مذبحٍ عالٍ فوق السماوات؟!

تقول إن هابيل قد طُرح إلى أسفل وذُبح بيد أخيه الغادرة (تك 8:4)، هذا قد ضاعف من عظمته. لكنني أحصى (لبولس) ميتات لا تُعد، وموتاً في كل يوم، أعلمنا  بها بولس.

إن أردت أن تعلم شيئاً عن الذبيحة التي تبلغ أقصى الحدود تجد هابيل الذي ذُبح بيد أخيه بلا سبب ولم يجنِ قايين أية منفعة من ذلك؛ وبولس أيضا قُتل بيد من أنقذهم مراراً من كل شرٍ، والذين من أجلهم احتمل كل أنواع العذاب.

فلك بولس وفلك نوح

[يرى القديس يوحنا الذهبي الفم في الرسول بولس كقائد لفلك يطوف العالم كله لكي يحمل البشرية لا إلى جبل أراراط بل إلى السماء. لقد فتح نوح أبواب الفلك للحيوانات، أما فُلك بولس فيُحول الداخلين من الطبيعة الحيوانية إلى الطبيعة الملائكية.]

تقول كان نوح إنساناً باراً وكاملاً في جيله (تك  8:6-9)، وفريداً بين جنس البشر، لكن بولس كان بالحق فريداً.

أنقذ نوح نفسه وبنيه فقط، أما بولس فلم ينقذ أثنين أو ثلاثة أو خمسة من ذويه حين اجتاح الأرض طوفاناً، بل أنقذ العالم كله من تحطيم السفينة المحدق، وذلك ليس بوضع ألواحٍ خشبية جنباً إلى جنب لصنع فلكٍ، وإنما بالعمل على ألواحٍ (قلبية) عوض ألواح الخشب. لم يكن فلكه محمولاً إلى موضعٍ واحدٍ، بل ممتداً إلى أقاصي الأرض، فيه حمل كل الشعوب إلى يومنا هذا. فقد صنعه كي يضم فيه الجماعة لتخلص، يلحق به من هم أكثر غباوة من الحيوانات العجماوات، ويجعلهم يتمثلون بالقوات العلوية. هذا يثبت سمو فلكه.

استقبل نوح غراباً (تك  6:8) وذئباً لكنه لم يغير طبيعتهما المتوحشة. أما بولس فمن الجانب الآخر حول الذئاب إلى حملان، والصقور إلى حمامٍ! حوَّل طبيعة الإنسان غير العاقلة المتوحشة إلى رقة الروح، ولا يزال فلكه باقياً لم يتحطم. لم تزعزع عاصفة الشر ألواحه الخشبية، بل تغلبت ألواحه على العاصفة وأعادت الهدوء، لِمَ لا؟ فإن ألواحه لم تُدهن بالقار والحمر (تك  14:6؛ خر 3:2) بل بالروح القدس.

بين جهاد بولس وجهاد إبراهيم

[يقارن القديس يوحنا الذهبي الفم بين الرسول بولس وأبينا إبراهيم حاسباً الأول أعظم من جهة:

 1- الترك… ترك حتى الاشتياق إلى السماء من أجل حبه للسيد المسيح.

 2- إنقاذ للغير من أيدي الشياطين.

 4- تقديم نفسه ذبيحة حب للَّه.]

تقول إن كل البشر يعظمون إبراهيم لأنه ترك بيته وبيت أبيه وأقرباءه حين سمع الوصية: “إبرام، اترك مدينتك (أرضك) وبيت أبيك” (تك 1:12). لقد أمره اللَّه بهذا، وكان هذا يعنى كل شىء بالنسبة له. حقاً فإننا نحن أيضا نعجب منه. لكن هل هذا يجعله مثل بولس؟ لم يترك بولس بيته وبيت أبيه و ذويه فحسب، بل ترك العالم ذاته لأجل يسوع، بل بالأكثر أقول ترك السماء ذاتها. لم تشغل سماء السماوات قلبه، إذ كان هدفه الوحيد هو حب يسوع. لنسمع كلماته الواضحة في هذا الصدد: “لا أمور حاضرة ولا مستقبلة، ولا علو ولا عمق تستطيع أن تفصلنا عن محبة المسيح ” (رو 38:8-39).

تقول إن إبراهيم واجه أخطاراً لينقذ ابن أخيه من البرابرة (تك 5:12)، أما بولس فلم ينقذ ابن أخيه فحسب ولا ثلاث مدنٍ أو أربع، بل أنقذ العالم كله، لا من البرابرة فحسب، بل من أيدى الشيطان نفسه، محتملاً كل يوم أخطاراً لا تُحصى، وبميتات كثيرة تمم خلاص آخرين.

تقول إن تقديم ابنه ذبيحة كان تاج الصلاح وإكليل الفلسفة. هنا نجد بولس أيضا في المقدمة، لأنه لم يقدم ابنه ذبيحة بل قدم ذاته مراراً ومراراً كما قلت.

بين بولس واسحق في حب المقاومين

يعجب الناس من اسحق في أمور كثيرة، خاصة صبره. فقد حفر آباراً (تك 18:26 )، وحين نُزعت عنه أملاكه لم يتشاجر بل سمح بردم آباره، وكان دائم الترحال من مكانٍ إلى آخر. لم يحشد قواته ضد العدو بل كان يرحل تاركاً وراءه ممتلكاته حتى يشبع عدوه رغبته في الظلم. أما بولس فحين رأى ليس آباره تُردم بالتراب بل جسده يُرجم بالحجارة لم يرحل من مكانه كما فعل هذا الرجل بل جرى وراء راجميه وجاهد حتى يقودهم إلى السماء. كلما سُدت الآبار كلما فجَّر بالأكثر فيه أنهار الاحتمال.

 بين بولس ويعقوب في حياة الجهاد

تقول: نجد في الكتاب إعجاباً بيعقوب بن اسحق وذلك لقوته (تك 28:32). لكن أية نفس، مهما بلغت صلابتها، تعادل قوة احتمال بولس؟! لقد احتمل العبودية ليس فقط لمدة أربعة عشر عاماً (تك 18:29، 27) بل كل أيام حياته من أجل عروس المسيح. احتمل ليس حر النهار وبرد الليل فحسب، بل عواصف من التجارب لا تُحصى، من جلدٍ ورجمٍ ومصارعة وحوشٍ مفترسة وأخطارٍ في البحر وأصوامٍ متواصلة نهاراً وليلاً وعُرىٍ وأخطارٍ في كل موضع (2كو23:11 الخ) حتى يتفادى الشباك ويخطف الحملان من بين أنياب الشيطان.

بين بولس ويوسف في العفة

تقول: امتاز يوسف بضبط النفس (تك 19). أخشى أن يكون من السخرية أن نمدح بولس بهذا الأمر. بولس الذي صُلب للعالم (غلا 14:16) والذي حُسب ليس فقط جمال الجسد بل كل شيء تراباً ورماداً، لم يهتز لشيء، فكان كجثةٍ تلتقي بجثةٍ، كان يخمد شهوات الجسد، ولم يخضع قط لأية شهوة منها.

بين بولس وأيوب المجرب

[يقارن بين القديس بولس وأيوب البار من جهة:

 1- مواجهة تجارب بلا حصر.

 2- كرم الضيافة جسدياً وروحياً.

 3- احتمال الآلام.]

تقول: يُعجب كل بشرٍ بأيوب، وهو بحق يستحق ذلك فإنه حارب في معركة عظمى ويمكن أن يقف في مقارنة مع بولس في صبره، وفي طهارة حياته، وشهادته للَّه، وصراعه الشجاع مع الشيطان، ونصرته التي أنهى بها صراعه. لكن صراع بولس استمر ليس بضعة أشهر فحسب بل سنوات طويلة. كان دائماً يندفع في فم الأسد، ويصارع في مواجهة تجاربٍ بلا عدد، مثبتاً أنه أكثر قوة من أية صخرة. لم يلعنه ثلاثة من الأصدقاء أو أربعة بل كل الاخوة الكذبة الخائنين، اُفتري عليه، تُفل عليه وُشتم.

كان كرم ضيافة أيوب عظيماً، كذلك اعتناؤه بالفقراء. هذا لا ننكره، لكن سرعان ما يسقط هذا أمام بولس، كما يسقط الجسد أمام النفس. اعتنى أيوب بالمرضى جسدياً، واعتنى بولس أيضاً بالمرضى روحياً. ففي وقتٍ قاد من هم عرج ومقعدين روحياً، وفي وقت آخر كسى العرايا بثوب الفلسفة (الحكمة).

كان لأيوب الباب المفتوح أمام الزائرين الذين استضافهم في بيته، أما بولس فكان له القلب المفتوح ليسع العالم كله، اتسم كرم ضيافته بالمسكونية. هذا دفعه للقول: “لستم متضايقين فينا بل متضايقين في أحشائكم” (2 كو12:6).

كان أيوب سخياً مع المحتاجين في العطاء من غناه وكثرة مواشيه، أما بولس فلم يكن يملك سوى جسده الذي استخدمه في خدمة المحتاجين ورعايتهم كقوله: “أنتم تعلمون أن حاجاتي وحاجات الذين معي خدمتها هاتان اليدان” (أع 34:20).

تقول إن الدود والجراحات قد أصابت أيوب بآلامٍ حادة غير محتملة. هذا حق، لكن لنأخذ في اعتبارنا الجلدات التي تحملها بولس عبر السنين، والصوم المستمر، والعرى، والقيود، والسجن، والمخاطر، والمكائد من أهل بيته ومن الذين هم في الخارج من الطغاة ومن العالم كله. أضف إلى ذلك خبراته المرة، أي الآلام التي عانى منها من أجل الساقطين، واهتمامه بكل الكنائس، والافتراءات التي تحملتها نفسه بشجاعة وصلابة تفوق الحديد والصخر الذي لا يُكسر. احتمل بولس روحياً ما تألم به أيوب جسدياً. نعم، فقد احتمل حزناً أمر من أي دود يقرض في نفسه من أجل الساقطين. كانت ينابيع دموعه تنهمر نهاراً وليلاً، يتألم من أجل كل نفسٍ أكثر من آلام امرأة في حالة مخاضٍ، هذا قاده للقول: “يا أولادي الذين أتمخض بكم” (غلا 19:4).

[حمل القديس يوحنا الذهبي الفم نفس الروح إذ يقول لشعبه:

إن كان يلزم للإنسان أن يحب أولاده الجسديين حتى يُدعى أباً حسب الطبيعة، فكم بالأكثر يليق بالإنسان أن يحب أولاده حسب النعمة، الروحيين المعمدين، حتى لا يهلكوا في جهنم؟! (4)

إني أب مملوء حنواً… كل أمٍ تصرخ وهى تتمخض في ساعة الولادة، هكذا أفعل أنا أيضا! (5)

ليس شىء أحب إلىّ أكثر منكم. لا ولا حتى النور!

إني اُود أن أقدم بكل سرور عيني ربوات المرات وأكثر – إن امكن – من أجل توبة نفوسكم!

 عزيز عليَ جداً خلاصكم، أكثر من النور نفسه!…

لأنه ماذا تفيدني أشعة الشمس إن أظلم الحزن عيني بسببكم؟!…

أني أحبكم، حتى أذوب فيكم، وتكونون لي كل شيء، أبى وأمي واخوتي وأولادي! (6)]

بولس وأنبياء العهد القديم

من تذكر بعد أيوب يستحق الإعجاب؟ موسى بلا شك! لكن بولس فاقه بمراحل. بين إنجازات موسى العظيمة والكثيرة تتويجه بالمجد حين اختار أن يُمحى اسمه من سفر الحياة من أجل خلاص اليهود (خر32:32)، لكنه اختار أن يهلك مع الآخرين، أما بولس فاختار أن يكون محروماً من المجد الأبدي من أجل خلاص الآخرين دون إشراك أحد آخر معه في هلاكه.

صارع موسى مع فرعون، وأما بولس فصارع مع الشيطان يومياً.

حارب موسى في سباقٍ واحدٍ، أما بولس فحارب من أجل العالم كله في صراع ليس بالعرق بل بالدم الذي أُريق في كل موضع. لقد قاد الجميع إلى الخلاص، الذين في أماكن آهلة وغير آهلة، قاد اليونانيين والبرابرة.

أستطيع أيضا أن أتكلم عن يشوع وصموئيل والأنبياء الآخرين، ولكي لا تخرج العظة عن الحدود اكتفي بعمل مقارنة مع نخبة ممن هم أكثر شهرة تمثلهم. إذا كان بولس يفوق الفائقين منهم، فيكون الشك قليلاً من جهة الآخرين. من منهم يكون اكثر شهرة؟! من نذكر من هؤلاء غير داود وإيليا ويوحنا؟! كان إيليا منهم نذيراً لمجيء المسيح الأول (ملا5:4) ويوحنا للمجيء الثاني (مت11:3). هذا يوضح سبب ذكر اسميهما معاً.

 ما أبرع ما اتصف به داود؟! بلا شك تواضعه وحبه للَّه. حقاً من تفوق في هاتين الصفتين مثل بولس الذي اتسمت بهما نفسه؟!

ما هو عجيب بالنسبة لإيليا؟ إنه أغلق السماء، وسبب قحطاً، وانزل ناراً من السماء (1مل 1:17؛ 2مل12:1)! لست أظن ذلك! بل بالأحرى كان يغار للرب. كان ملتهباً بالحماس. لكن إذا اختبرت حماس بولس تجده فائًقا كتفوقه على بقية الأنبياء. أي حماسٍ يعادل كلماته عن مجد اللَّه: “أود لو أكون أنا نفسي محروماً من المسيح لأجل اخوتي أنسبائي حسب الجسد” (رو3:9). لذلك حينما قدمت له السماء الأكاليل أجَّل ومَّد الوقت، قائلاً: “ولكن أن أبقى في الجسد ألزم من أجلكم” (في24:1). لذلك اعتبر أن العالم المنظور الملموس غير كافٍ لإشباع حبه وغيرته، بل أراد عالماً آخر غير منظور ليمارس ما يودَّه ويتمناه.

تقول: أكل يوحنا المعمدان جراداً وعسلاً برياً (مت4:3)، أما بولس فمع أنه عاش في العالم ولم يسكن البرية ولم يأكل جراداً ولا عسلاً برياً لكنه كان مكتفياً بمائدة أكثر بساطة ونسكاً، متجاهلاً حتى الضرورات من أجل غيرته للكرازة.

تقول: أظهر يوحنا شجاعة عظيمة أمام هيرودس، أما بولس فلم ينتهر واحداً أو اثنين أو ثلاثة فقط بل عدداً لا يُحصى من ذات هذه العينة. لقد واجه بالحق طغاة أسوأ بكثير من هيرودس.

بين بولس الرسول والملائكة

يبقى لنا أن نقارن بولس بالملائكة. لنترك الأرض ونصعد إلى أبواب السماء. لا يقل أحد إن كلماتنا تحمل جسارة فائقة إن كان الكتاب المقدس يدعو يوحنا ملاكاً وأيضاً الكهنة، فلماذا تتعجب حين نقول إن بولس يستحق أن يُدعى هكذا لتفوقه في هذه الفضائل؟!

ما هو سبب عظمة الملائكة؟ طاعتهم للَّه، هذا ما أعجب داود فيهم: “أقوياء في الفضيلة، يطيعون كلمته” (مز 20:102). لكن طاعة بولس لا تُقارن حتى بالكثير من الكائنات غير المتجسدين. ما يجعلهم مباركين هو طاعتهم لوصية اللَّه ورفضهم التام لعصيانه. هذا ما فعله بولس بإخلاص تامٍ. لقد تمم كلمة اللَّه ووصاياه أيضا. ليس فقط وصاياه، بل ما هو أكثر، كما أفصح قائلاً: “إذ وأنا أبشر أجعل إنجيل المسيح بلا نفقة” (1 كو 18:9).

ماذا يرى النبي في الملائكة ما يستحق الإعجاب؟ “الصانع ملائكته رياحاً وخدامه ناراً ملتهبة” (مز 4:103). هذا أيضا نراه في بولس، كنارٍ وريحٍ عبر الأرض طولاً وعرضاً ونقَّاها في ترحاله.

هذا ما يجعل الأمر مميزاً بالأكثر، بينما كان بولس على الأرض في الجسد الفاني أظهر مثل هذه الشجاعة وهزم القوات غير المنظورة.

كم نُحسب في لومٍ إذاً إن لم نجاهد متمثلين بمثل هذا الإنسان على وجه الخصوص الذي اجتمعت فيه كل الصفات الجليلة في إنسانٍ واحدٍ.

لنفكر ملياً في هذه الاعتبارات، فنكون بلا لومٍ.

لنجاهد لكي تكون لنا مثل غيرته، فنشاركه ذات البركات بنعمة ربنا يسوع المسيح ومحبته الحانية، الذي له المجد والقوة، الآن وكل أوان، آمين.

arArabic
انتقل إلى أعلى