في مديح القديس بولس – سبع عظات للقديس يوحنا الذهبي الفم


العظة الثالثة: المحبة تاج فضائل الرسول بولس

اتسع قلب الرسول بولس كسيده، وانفتح بالحب، ليحتضن إن أمكن الكل. كان مشتاقاً بالحب أن يقود كل إنسانٍ إلى اللَّه، مهتماً باحتياجاته الزمنية والروحية. هكذا قدم لنا الرسول نفسه مثالاً نقتدي به، فالمحبة هي سرّ عظمة قداسته.

بالمحبة نتشبه باللَّه

أظهر الطوباوي بولس قوة غيرة الإنسان التي تمكنه من الارتفاع إلى السماء، دون مساعدة ملائكة أو رؤساء ملائكة، أو أيّة قوات سماوية أخرى.

تارة يأمرنا أن نتشبه بالمسيح، مقتدين به كمثالٍ لنا: “كونوا متمثلين بي كما أنا أيضاً أن نتشبه بالمسيح مقتدين به كمثالٍ لنا: “كونوا متمثلين بي كما أنا أيضاً بالمسيح” (1كو1:11)، وتارة يحذف ذكر نفسه ويقودنا مباشرة إلى اللَّه، قائلاً: “كونوا متمثلين باللَّه كأولاد أحباء” (أف1:15). ولكي يوضح لنا أنه لا شيء يماثل هذه القدوة بأن نفكر في الآخرين وفي الصالح العام، أضاف: “اسلكوا في المحبة” (أف2:5). فبعد حديثه الأول: “كونوا متمثلين بي” ينتقل مباشرة إلى الحديث عن المحبة، موضحاً أن هذه الفضيلة تجعل الإنسان متشبهاً باللَّه.

المحبة أعظم الفضائل

لاحظ كمّ الفضائل الأخرى التي تقل في أهميتها عن المحبة، هذه التي يرتكز محورها حول جهاد الإنسان ذاته ضد الشهوات، ومقاومته للنهم، والجهاد ضد محبة المال والغضب. أما المحبة فهي فضيلة يشترك فيها الإنسان مع اللَّه ذاته. لهذا يقول المسيح: “صلوا من أجل الذين يُسيئون إليكم ويطردونكم، لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات” (مت 44:5-45).

محبة الأعداء كمرضى

[سرّ محبة الرسول لمقاوميه أنه يُمارس حياته كطبيب يترفق بهم كمرضى يحتاجون إلى الحب واللطف كعلاجٍ، أو كأبناء مخبولين في عقولهم يحتاجون إلى من يترفق بهم.]

اكتشف بولس أن المحبة هي تاج الفضائل، فسعى إلى غرسها بعناية فائقة.

لا يمكن لأحدٍ أن يحب أعداءه، ولا أن يحسن إلى مبغضيه، ولا أن يتألم من أجل المسيئين إليه. لكنه إن تذكر الطبيعة البشرية المشتركة بينهم لا يبالي بالآلام التي يسببونها له، فكلما ازدادوا قسوة عليه ترفق بهم. فالأب يحزن بالأكثر ويكتئب على ابنه المختل كلما ازداد جنون الابن وعنفه.

لقد شخّص بولس المرض الذي يسبب تلك الهجمات الشرسة ضده، فازداد اهتمامه بهم ورعايته لهم كمرضى.

نسمعه وهو يخاطبنا بلطفٍ وحنانٍ فائق عن الذين جلدوه خمس مرات (2 كو24:11)، ورجموه وقيدوه وسفكوا دمه، واشتهوا تقطيعه إرباً، فيقول عنهم: “لأني أشهد لهم أن لهم غيرة اللَّه، ولكن ليس حسب المعرفة” (رو2:10). وأيضاً ضيّق على الذين يُسيئون إليهم، قائلاً: “لا تستكبر بل خف، لأنه إن كان اللَّه لم يُشفق على الأغصان الطبيعية، فلعله لا يُشفق عليك أيضاً” (رو20:11، 21). وحينما رأى الدينونة الواقعة عليهم لم يسعه إلا أن يعمل ما يقدر عليه، وهو أنه بكى وناح من أجلهم بلا توقف.

لقد ناح وبكى مراراً عليهم، وقاوم كل رغبة في مقاومتهم، وبذل كل جهده ليجد لهم شبه عذر، ولما فشل في إقناعهم بسبب قسوة عنادهم لجأ إلى الصلاة الدائمة، قائلاً: “أيها الاخوة إن مسرة قلبي وطلبتي إلى اللَّه لأجل إسرائيل هي الخلاص” (رو1:10). ثم منحهم الرجاء في أمورٍ أفضل، قائلاً: “لأن هبات اللَّه ودعوته هي بلا ندامة” (رو29:11)، وذلك لئلا يفقدوا رجاءهم فيموتوا.

هذا كله يبرهن على شخصية اهتمت بخلاصهم واعتنت بهم بدرجة فائقة، فيقول: “سيخرج من صهيون المنقذ، ويرد الفجور عن يعقوب” (إش20:59؛ رو26:11).

كان رؤيته لعقوقهم مصدراً عظيماً لآلامه وحزنه. وكان الملجأ الدائم هو العلاج من الآلام بقوله: “سيخرج من صهيون المنقذ، ويرد الفجور عن يعقوب” (رو26:11). وفي موضع آخر يقول: “هكذا هؤلاء أيضاً الآن لم يطيعوا لكي يُرحموا هم أيضاً برحمتك” (رو31:11).

يفتح باب الرجاء أمام المعاندين

لقد فعل إرميا نفس الشيء، محاولاً التماس المغفرة للخطاة، فقال: “وإن تكن آثامنا تشهد علينا يا رب، فاعمل لأجل اسمك” (إر 7:14). وأيضاً: “عرفت يا رب أنه ليس للإنسان طريقه، ليس لإنسانٍ يمشي أن يهدي خطواته” (إر 23:10)، “يذكر أننا تراب نحن” 14:102).

من عادة المتضرعين عن الخطاة، أنهم إذ لا يجدون أمراً صالحاً يقولونه في حقهم، يبحثون عن أي ظلٍ لعذرٍ لهم حتى وإن كان ليس صحيحاً حرفياً أو لاهوتياً، لأن ذلك يُحسب نوعاً من العزاء للنائحين على عناد الخطاة. إذاً لا تفحص الكلام حرفياً، لكن ضع في ذهنك أنها كلمات تصدر عن نفسٍ مرة تسعى أن تجد فرصة لإنقاذ الخطاة، وحكماً عادلاً لحسابهم.

ترفقه بالجميع

هل تظن أن هذه هي مشاعره نحو أعدائه فقط أم أنه يحمل ذات المشاعر نحو الغرباء؟

كان بولس من أكثر الناس عذوبة نحو الغرباء والأقرباء على السواء. لنسمع كلماته لتيموثاوس: “وعبد الرب لا يجب أن يخاصم بل يكون مترفقاً بالجميع، صالحاً للتعليم، صبوراً على المشقات، مؤدباً بالوداعة المقاومين، عسى أن يعطيهم اللَّه توبة لمعرفة الحق، فيستفيقوا من فخ إبليس، إذ قد اقتنصهم لإرادته” (2تي24:2-26).

أتريد أن تعرف كيف كان مترفقاً بالخطاة؟ اسمع ما يقوله لأهل كورنثوس: “لأني أخاف إذا جئت أن لا أجدكم كما أريد، وأُوجد منكم كما لا تريدون” (2 كو12 : 2). يقول بعد ذلك: “إن يذلني إلهي عندكم إذا جئت أيضاً وأنوح على كثيرين من الذين أخطأوا من قبل ولم يتوبوا عن النجاسة والزناة والعهارة التي فعلوها” (2 كو21:12). وكتب إلى أهل غلاطية: “يا أولادي الذين أتمخض بكم أيضاً إلى أن يتصوّر المسيح فيكم” (غلا 19:4).

وكما ينوح الخاطئ على خطاياه، هكذا بكى بولس على الرجل الذي ارتكب الزنا، مؤكداً له: “لذلك أطلب أن تمكنوا له المحبة” (2 كو8:2). وحتى حين حرمه فعل هذا آسفاً بدموع: “لأني من حزن كثير وكآبة قلب كتبت إليكم بدموعٍ كثيرة، لا لكي تحزنوا، بل لكي تعرفوا المحبة التي عندي ولا سيما من نحوكم” (2 كو4:2). وأيضاً: “فصرت لليهود كيهودي لأربح اليهود، وللذين تحت الناموس كأني تحت الناموس لأربح الذين تحت الناموس، وللذين بلا ناموس كأني بلا ناموس لأربح الذين بلا ناموس، صرت للضعفاء كضعيفٍ لأربح الضعفاء؛ صرت للكل كل شيئاً لأخلص على كل حالٍ قوماً” (2كو20:9-22). وفي موضع آخر يقول: “لكي يُحضر كل إنسانٍ كاملاً في المسيح يسوع” (كو 28:1).

أبوة عملية لكل البشرية

لقد رأيتم إنساناً جاب الأرض كلها، لأن طموحه وهدفه هما أن يقود كل إنسانٍ إلى اللَّه. وقد حقق بكل ما ادخره من قوة هذا الطموح، وكأن العالم كله قد صاروا أبناءه، لهذا كان على عجلة من أمره. كان دائم التجوال، كان دائم الحماس لدعوة كل البشرية لملكوت السماوات، مقدماً الرعاية والنصح والوعود والصلاة والمعونة وانتهار الشياطين، طارداً الأرواح المصرة على التحطيم. استخدم إمكانيته الشخصية ومظهره والرسائل والوعظ والأعمال والتلاميذ وإقامة الساقطين بجهده الشخصي. فكان يسند المجاهدين ليثبتوا في جهادهم، ويقيم كل من طُرح ساقطاً على الأرض. كان يرشد التائبين، ويعزي المتألمين، ويحذر المعتدين، ويراقب بشدة المقاومين والمعارضين. شارك القائد والطبيب الشافي في الصراع، فمدّ يد المعونة ليهاجم أو يدافع أو يرشد حسب الحاجة في ساحة العمل، فكان كل شيءٍ للمنشغلين بالصراع.

دعوة الآخرين لمساعدة الغير

[لم يقف الرسول بولس عند نزوله إلى حلبة الجهاد ليسند كل المصارعين بوسيلة أو أخرى حتى يحقق الكل النجاح، لكنه دعي الآخرين أن ينزلوا معه ليسندوا اخوتهم، مظهرين الحب العملي لهم.]

بذل عناية فائقة لاحتياجات (المصارعين) الزمنية والروحية. اسمعه كيف يناشد الجميع بخصوص امرأة واحدة، فيقول: “أوصي إليكم بأختنا فيبي التي هي خادمة الكنيسة التي في كنخريا كي تقبلوها في الرب كما يحق للقديسين وتُقدموا لها في أي شيء احتاجته منكم، لأنها صارت مساعدة لكثيرين ولي أنا أيضاً” (رو 1:16). وأيضاً: “أنتم تعرفون بيت استفانوس أنهم باكورة أخائية، وقد رتبوا أنفسهم لخدمة القديسين كي تخضعوا أنتم أيضاً لمثل هؤلاء” (1كو18:16).

من خصائص محبة القديسين مساعدة الآخرين في الأمور الزمنية، فإليشع النبي ساعد ماديّاً وروحيّاً المرأة التي استضافته (2مل12:4)، فقال لها: “هوذا قد انزعجتِ بسببنا كل هذا الانزعاج، فماذا يُصنع لكِ، هل لكِ ما يُتكلم به إلى الملك أو إلى رئيس الجيش؟” (2 مل13:4).

اهتمام بولس باحتياجات الآخرين المادية

لماذا تعْجبْ من بولس إن كان يدعو البعض إليه ويهتم باحتياجاتهم المادية، ولا يحسب هذا خارج دائرة مسئولياته، كما يُشير في إحدى رسائله. فقد كتب إلى تلميذه تيطس: “جهّز زيناس الناموسي وأبلّوس باجتهاد للسفر حتى لا يعوزهما شيء” (تي 13:3). فإن كان قد بذل مثل هذه العناية في رسائله فقد ضاعفها بالأكثر حين كان يجد رعاياه في خطر. لاحظ مدى رعايته لأنسيمُس (في10)، وبأي إلحاح واهتمام يذكره في رسالته إلى فليمون. تأمل ماذا كان بولس يفعل للآخرين إن كان قد كرّس رسالة كاملة من أجل عبدٍ هاربٍ بعد سرقة سيده.

اهتمامه بخلاص النفس فوق كل اعتبار

كان يعتبر أمراً واحداً مُشيناً، وهو أن يُهتم بشيء أكثر من الخلاص. لهذا لم يترك حجراً لم يُحركه، ولا ادّخر وسعاً من أجل خلاص الناس، سواء بالوعظ أو العمل، حتى لم يبخل بحياته. لقد عرّض حياته للموت مرات عديدة، ولم يتردد في إنفاق أي مالٍ إن كان يمتلكه! ولماذا أقول: “إن كان يمتلكه”؟ لأنه كان يُعطي بسخاء. ليس في هذا تناقضٍ، لكن اسمعه يقول: “وأما أنا فبكل سرورٍ أُنفِق وأُنفَق لأجل أنفسكم” (2 كو 15:12)، وخاطب أهل أفسس قائلاً: “أنتم تعلمون أن حاجاتي وحاجة الذين معي خدمتها هاتان اليدان” (أع 34:20).

بولس محبة متجسدة!

في عظمته كان أكثر توهجاً وغيرة من أية شعلة نارٍ. ومن جهة إكليل كل الفضائل فقد فاق في المحبة (كل الفضائل). وكما ينصهر الحديد في النار فيصير الكل ناراً ملتهبة، هكذا انصهر بولس في المحبة حتى صار هو نفسه محبة متجسدة. صار كأنه أب عام للعالم كله. نافست محبته محبة الآباء بالجسد، أو بالأحرى فاقهم جميعاً في المحبة الجسدية والروحية، وفي الاهتمام والرعاية باذلاً كل ماله وكلماته وجسده وروحه، بل وكل كيانه من أجل الذين يحبهم.

بولس يهتم بوصية المحبة

لقد دعا المحبة كمال الناموس (رو10:13)، ورباط الكمال (كو14:3)، وأم البركات، وبدء ونهاية كل الفضائل (رؤ6:21). “وأما غاية الوصية فهي المحبة من قلبٍ طاهرٍ، وضميرٍ صالحٍ، وإيمانٍ بلا رياء” (1تي25:1). وأيضاً: “لأنه لا تزنِ لا تقتل لا تسرق لا تشهد بالزور لا تشتهٍ، وإن كانت وصية أخرى هي مجموعة في هذه الكلمة أن تحب قريبك كنفسك” (رو9:13). بالتالي فإن المحبة هي بداية أصل البركات ونهايتها، لنقتدي ببولس في محبته، فإنها سرّ قداسته.

لا تحصوا عدد من أقامهم من الأموات، أو عدد البرص الذين أبرأهم، فإن اللَّه لا يطلب منك تلك الأعمال، فقط اقتنِ المحبة التي لبولس، فتحصل على إكليل الكمال. من قال هذا؟ زارع المحبة نفسه، الذي قدمها بدلائل وعجائب وبركاتٍ لا تحصى. لأنه أكمل دور المحبة بكمال، فعرف قوتها بالتمام. لقد صنعت منه ما كان عليه، ولم يُدعّم صلاحه سوى تلك الفضيلة القوية. لهذا يقول: “جدّوا للمواهب الحُسنى، وأيضاً أُريكم طريقاً أفضل” (1 كو 31:12)، أي المحبة التي هي أسمى السبل وأروعها.

لنحفظ هذا الطريق فنرى بولس أو بالأحرى رب بولس نفسه، فنفوز بالأكاليل غير الفاسدة، وذلك بنعمة ربنا يسوع المسيح ولطفه، الذي له القوة والمجد الآن وإلى أبد الأبد، أمين.

arArabic
انتقل إلى أعلى