في مديح القديس بولس – سبع عظات للقديس يوحنا الذهبي الفم


العظة الخامسة

وكمثال لإستفانوس الذي واجهه وأعدائه محيطين به يريدون قتله بل كانوا متحمسين لنهش جسده وعظامه لم يسعَ بولس نحو المخاطر، ولم يسقط أيضاً في الجبن أو يهرب. كانت حياته ثمينة عنده بسبب الفرص الصالحة التي أعطيت له وفي نفس الوقت كانت رخيصة عنده بسبب اشتياقه للسماء والاتحاد مع المسيح هناك. وكما ذكرت عنه ولازلت أقول لا يوجد من هو أكثر تناقضاً في ميوله مثله. فهو مستعد دائماً لأخذ الجانب الذي يمنح المميزات الأكثر، فلا يوجد من أحب الحياة هنا على الأرض مثله وعلى النقيض الآخر ولم يُفكر في الحياة هنا كثيراً حتى ولو قارنته بهؤلاء الذين تخلوا عن هذه الحياة.

لقد جّرد نفسه من كل الشهوات البشرية، فلم يربطه شيء على الأرض، فكان كل كيانه متحداً بمشيئة الله. تارة نراه يفكر في أن الحياة على الأرض والخدمة أكثر حاجة من أن يكون مع المسيح، ومرة أخرى نجده يئن ويطلب اللحظة التي فيها يخرج من الجسد، فكانت أمنيته الوحيدة أن يكون فيما يحقق له الربح الوفير مع المسيح حتى ولو كانت النتيجة عكس ما بدأه.

كان إنساناً ذا نواحٍ عديدة وأوجه كثيرة، ولا أعني بذلك أنه متصنعاً، حاشالله. ولكنه صار لكل الناس كل شيءٍ، وكل ما تتطلبه احتياجات الإنجيل وخلاص البشرية. فصار بذلك مُتشبهاً بمعلمه (السيد المسيح).

الله نفسه ظهر كإنسانٍ حينما تطلب الأمر ذلك، وظهر في العهد القديم كنارٍ عندما اقتضى الأمر. نراه في زيّ المحارب المستعد، أو في إحتياج الرجل المسن، أو في نسمة الريح، أو كمسافرٍ كإنسان حقيقي وفي هذه الحالة لم يرفض الموت.

وإني أجد ضرورة تكرار عبارة “حينما لزم الأمر” لئلا يظن أحد أن الله مُلزم أن يفعل ذلك، بل فعل كل تلك الأشياء من نبع حبه للإنسان. تارة جلس على عرش، وأخرى على الشاروبيم، وعمل الله ذلك حسبما تطلب الأمر في ذلك الوقت.

وبولس إذ تمثل بسيده لا نلومه، إذ نراه مرة كيهودي ومرة أخرى كأممي، مرة يدافع عن الناموس وأخرى ضده، تارة يتمسك بالحياة الحاضرة وأخرى يستخف بها، تارة يطلب مساعدته في الاحتياجات وأخرى يرفض العطايا، تارة يقدم الذبائح ويحلق رأسه وأخرى يعتبر من يفعل ذلك أناثيما (أي محروماً)، تارة يسمح بالختان وأخرى يُحاربه ويمنعه. فما عمله بولس يظهر خارجياً نوع من التناقض، ولكن الهدف والحكمة وراء ما عمله مُقنع جداً حسبما يتطلب الموقف.

كان شغله الشاغل واهتمامه الأوحد هو خلاص من سمعوه ورآهم، وبالتالي مدح مرة الناموس وأخرى قلل من أهميته، ربما كان في أعماله وأقواله بعض التناقض والتعقيد ولكن بقى ذهنه وشخصيته بلا تغيير فاحتفظ بشخصيته وكيانه بل حتى كلامه في كل المواقف. ومن أجل هذا يجب مدحه وتعظيمه.

علاج الطبيب يختلف كل مرة، فهو يُشخص ثم يحدد لو وجب الأمر نظاماً غذائياً معيناً أو يأمر ببعض العقاقير أو يمنع بعض المأكولات والشراب. يترك بعض الجراح بلا تضميد بينما يضمد آخرى. يصف بعض المياة الباردة للحمى فلا يُحاسب الطبيب على وحدة طرق العلاج أو على التغيير المستمر للطرق، بل بالأحرى نمدحه بسبب مهارته حينما نجده يصف العلاج بكل ثقة ويقين ويضمن الشفاء، فنعتبر مثل هذا الرجل خبير ومحنك في مهنته.

 فإذا ما مدحنا طبياً ينوّع طرق علاجه فيجب علينا مدح شخصية بولس الرسول في تعامله مع المرضى، لأن مريض الروح يحتاج لطرق علاج مختلفة لا تقل شأناً عن مريض الجسد، لأنه لو تمّ علاجهم بطريقة واحدة مبرمجة لفقدوا خلاصهم.

نتعجب من الذين يفعلون ذلك، لأنه حتى الله كليّ القدرة يستخدم أساليب عديدة للعلاج، ولا يعتمد على طريقٍ واحدٍ مباشر، فهو يريد صلاحنا النابع عن حرية إرادتنا بلا أي ضغط أو كراهية. ولذا يستخدم أساليب متنوعة للتفرب منا وذلك ليس عن عجزٍ ما في قدرته، بل على العكس من أجل ضعفنا. فإشارة صغيرة منه أو حتى مجرد تحرك الإرادة لديه كفيل بتحقيق كل مشيئاته، لكننا أحياناً لا نسلم حياتنا في يدّى الله بكل تفاصيلها، بل نفضل أن نكون سادة لأنفسنا. فإن أجبرنا على فعل أشياء ضد رغبتنا معناه أنه سيأخذ منا ما أعطاه لنا، أي الإرادة الحرّة، وحتى يتجنب فعل ذلك فهو ينوع من طرقه وأساليبه.

ملاحظاتي هذه ليست عشوائية، بل تشرح صعوبة حكمة بولس الرسول، وبالتالي عندما تجده يهرب من المخاطر ستمدحه بنفس المقدار حينما يواجهها، في الأولى يرى ذلك حكمة وفي الثانية شجاعة. وفي استخدامه الكلام بافتخار يحمل نفس معنى التواضع، في الأولى يتحدث بتمييز وفي الثانية بوداعة، امدحوه في كل الأحوال على أعماله الصغيرة والكبيرة. فمرة تجد نفسه صريحة بلا نفاق وأخرى نجد روحه تحمل كل الحب والعطف، وهدف كل أعماله وميوله هو خلاص نفوس الجموع وبالتالي يقول: “لأننا إن صرنا مختلين فللَّه. أو كنا عاقلين” (2 كو 13:5).

لا نجد شخصاً أخر لديه سبباً للافتخار وفي نفس الوقت خالٍ من أي كبرياء وتمجيد. تأمل في كلماته: “العلم ينفخ” (1 كو 1:8) كلمات يلزمنا جميعاً اقتنائها. ولكن بالتأكيد كان هو أكثر من أي إنسانٍ أخر ذا علم أو معرفة، وهذا لم يجعله متكبراً بل متواضعاً: “لأننا نعلم بعض العلم” (1 كو 9:13)، و”أيها الاخوة أنا لست أحسب نفسي أني قد أدركت” (في 13:3)، “فإن كان أحد يظن أنه يعرف شيئاً فإنه لم يعرف شيئاً بعد كما يجب أن يعرف” (1 كو 2:8).

الصوم أيضاً قد ينفخ النفس بالكبرياء، كما قال الفريسي: “أصوم مرتين في الإسبوع” (لو12:18) ولكننا نجد بولس الرسول يدعوا نفسه لا فقط وقت الأصوام بل وهو في اعياء الجوع “كأنه للسقط” (1كو8:15).

لماذا نتحدث عن الحكمة والصوم؟ فإنه بالرغم من كونه متقرباً من الله خلال الصلاة أكثر من أي من الأنبياء والرسل إلا أنه كان أكثر وداعة وتواضع.

لا تقولوا لي عما كتبه في رسائله لأن ما احتفظ به في داخله أكثر مما أفصح عنه فلم يبوح بكل ما في داخله حتى لا يُتهم بالافتخار، ولكنه أيضاً لم يلتزم الصمت في كل شيء، لأن هذا سيقيم عليه ألسنة الأنبياء الكذبة ضده. فلم يفعل شيئاً بطريقة عشوائية، ولكن كل شيء كان بنظام وتخطيط جيد. فكل أعماله بجوانبها المتعددة تتميز بالمديح (العالمي) من الجميع، دعني أستفيض في ذلك إنه لشيء جيد عدم الافتخار بالنفس ولكن بولس تكلم بتلقائية شديدة حتى أنه مُدح على كلامة أكثر من لو بقى صامتاً، لأنه لو التزم الصمت لاستحق النقد أكثر من هؤلاء الذين يمدحون أنفسهم بخزي، لو لم يتغنى بأعماله لفُقد كل شيء ولقوي أعدائه. لقد عرف كيف ينتفع من كل فرصة متاحة وبالطريقة الملائمة عرف ما هو خطأ، ولذا كسب مجد طاعة الوصية.

اكتسب بولس مجداً بافتخاره أكثر ممن اكتسبه أي شخص آخر أخفي أعماله الصالحة، لأنه لا يوجد شخص أخر أخفي أعماله الصالحة، ونال ما حصل عليه بولس الرسول بالكلام (بالافتخار).

الأمر العجيب ليس في أنه تحدث عن نفسه، ولكن أنه تحدث بالقدر الملائم الصحيح، فلم يستفض في وصف المواقف الصالحة حتى لا يقع في مدح النفس، لكنه عرف متى وأين يتوقف. ولم يفعل ذلك إرضاءً لنفسه، ولكنه وصف نفسه كمختل ليوقف الآخرين عن الانغماس في مدح النفس من أجل المديح فقط، لأنه فعل ذلك فقط في المواقف التي تطلبت ذلك.

كثيرون ممن تطّلعوا إليه أرادوا التمثل به بلا تفكير أو تمييز، هذا يحدث أيضاً في مجال الأطباء فنجد ما يصفه الطبيب بعناية لشخصٍ ما يستخدمه الآخر باستهتار فيفقد تأثيره وفاعليته. ولتجنب المزيد من الصعوبة لاحظ كيف أحاط بولس الرسول ممارساته وأفعاله بحدود عظيمة مؤجلاً مدح النفس لا مرة ولا اثنين بل مرات عديدة قائلاً : “ليتكم تحتملون غباوتي قليلاً” (2 كو 1:11) وأيضاً:” الذي أتكلم به لست أتكلم به بحسب الرب بل كأنه في غباوة في جسارة الافتخار هذه” ( 2كو 17:11، 21) “في غباوة أنا أيضاً أجريء فيه”. ولم يجد هذا القول ملائماً ولكن في رفضه لنزعة الافتخار يخفي شخصيته قائلاً: “أعرف إنساناً في المسيح”، وأيضاً “من جهة هذا أفتخر ولكن من جهة نفسي لا أفتخر إلا بضعفاتي”، وبعد كل ذلك يضيف قائلاً: “قد صرت غبيُا وأنا أفتخر. أنتم الزمتوني” ( 2كو 2:12، 5، 11).

حينما نرى هذا الرجل القديس يرفض ويتردد كثيراً في الافتخار بنفسه حتى حينما يقتضي الأمر ويلزمه بذلك دائماً يلجًم حديثه، كحصان جامح ينحدر من على قمة جبل، مستخدماً أقل الكلمات الممكنة، فمن يمكنه التجاسر والحمق في أن ينغمس في مدح النفس بدلاً من ترشيد هذا الافتخار عند الضرورة القصوى إن اقتضى الأمر؟

أتريد أن أقول لك عن ميزة أخرى فيه؟ إننا نُعجب لا فقط بشهادة الضمير بل في أنه كيف أرشدنا في السلوك في كل تلك الظروف. أنه يعتذر من الافتخار بنفسه لأن الحاجة ألزمته بذلك ولكنه أيضاً ينتهز تلك الفرصة لُيعلمنا أن لا نضيع هذا الموقف لو حدث ذلك ولا أن نجتذبه بالقوة للمدح.

أن هدف ملاحظاته هنا توضيح أنه لشر عظيم الإنغماس في الحديث عن النفس. أيها الأحباء إنها علامة غباوة عظمى مدح أعمالنا بلا ضرورة أو بدون سببٍ ملزمٍ لذلك. فمثل هذا الكلام لا يتوافق مع السيد الرب ولكنه علامة حقيقية تجردنا من كل ما اقتنيناه بتعب وجهاد. فمثل هذا التحذير وجهه لجميعنا وخاصة حينما أُلزم على الحديث بافتخار عندما الزمته الحاجة.

الحقيقة التي تسترعي الانتباه أنه لم يتحدث بصراحة عن كل شيء حينما تتطلب الموقف ذلك ولكنه نجح في إخفاء الجزء الأعظم من إنجازاته. “فإني آتي إلى مناظر الرب وإعلاناته. ولكني أتحاشى لئلا يظن أحد من جهتي فوق ما يراني أو يسمع مني” (2 كو 1:12، 6) هذه الكلمات درس لنا تعلمنا ألا نفصح كل شيء عن أنفسنا حتى لو اضطررنا للكلام، ولكن نتحدث فقط عن ما سيفيد سامعينا.

هكذا أيضاً فعل صموئيل، لأن لا شيء يمنع مدح ذلك الرجل البار حتى نستفيد كلنا منه، فهو أيضاً افتخر في بعض المواقف، وتحدث عن أعماله الصالحة، ولكن بأي طريقة وأسلوب؟ تحدث فقط ليفيد سامعيه، فلم يسهب في الحديث عن الوداعة والتواضع ومسامحة الإساءة. ولكن عما تحدث؟ تكلم عما احتاجه الملك في هذا الوقت عن العدل وعن حفظ النفس من الرشوة.

داود أيضاً افتخر بنفسه في نطاق فائدة سامعيه فقط، فلم يخصص فضيلة معينة، ولكنه قاتل أسد ودب لا أكثر (1 صم 34:17). الحديث بلا داعي يكشف عن طموح وافتخار (كبرياء) ولكن الالتزام بما يتطلبه الموقف يشبه عمل صديق يشبع احتياجات صديقه دائماً.

هكذا فعل بولس الرسول، اتهموه بأنه ليس رسولاً وله قوة خارقة فالتزم الأمر دليل على صحة رسوليته واظهار قيمته لاحظ كيف في حديثه لم يكن هناك أي كبرياء بل لاستنارة سامعيه:

أولاً: وضح انه تصرف هكذا كما استلزم الأمر.

ثانياً: دعى نفسه مختل العقل واستخدم تعابير مماثلة كثيراً.

ثالثاً: لم يفصح عن كل شيء بل احتفظ بالجزء الأعظم وأخفاه.

رابعاً: أخفي شخصيته قائلاً: ” أعرف إنساناً…..”

خامساً: لم يظهر كل فضائله كدليل بل فقط ما تتطلب الأمر إظهاره.

 احتفظ بهذا التوازن بين افتخاره لنفسه وعدم مدحه آخرين، لأن توبيخ الآخر وادانته شيء مرفوض ولكن بولس وبخ في أوقات معينة جديرة بالثناء حتى أنها ظهرت كالمديح مثلاً مرة أو مرتين دعا الغلاطيين أغبياء (غل 1:3) و”الكرتيون كذابون وحوش ضاربة بطون بطالة” (تيطس 12:1) وجعل هذا نصاً في كرازته.

وكقدوة لنا أسس تعريف وانون التعامل مع من هم ضد الله والا يجب الترفق بهم ولكن علينا اختيار الكلمات التي تصيب الهدف. في الواقع بولس وضع قوانين عديدة لكل شيء، فكل كلماته وأعماله مقبولة، سواء كانت مدحاً أم توبيخاً قاسياً أو مترفقاً في افتخار بالنفس أو التقليل من شأنها، في مدح أم ذم، ولماذا نتعجب لو كان التوبيخ يستحق المديح لو كان ضد القتل والخيانة والخطية ونجده مستخدماً في العهد القديم والجديد؟ لنتأمل كل تلك الأمور بعناية ودقة لنمدح بولس الرسول ونمجد الله ونقتدي به لنحصل على البركات الأبدية بالنعمة وبصلاح ربنا يسوع المسيح الذي له المجد والقوة الآن وإلى الأبد وأبد الآبدين آمين.

arArabic
انتقل إلى أعلى