في مديح القديس بولس – سبع عظات للقديس يوحنا الذهبي الفم


العظة السادسة: الرد على النقد ضد بولس الرسول

ضعفه البشري الواضح (الخوف من الألم) يزيد من عظمة ما أنجزه روحياً.

قوة الإرادة انتصرت على ضعف الطبيعة – تبرير انفعاله في بعض المواقف رفضه لمرقس كان من أجل ازدياد الكرازة التي هي أهم أعماله.

اليوم أيها الأحباء إنها إرادتكم لنناقش جوانب حياة بولس الرسول الحية التي لاقت الكثير من النقد من قبل البعض، وسنرى كيف أن هذه الإنجازات بالإضافة إلى الأعمال الأخرى زادت من عظمته وشهرته.

ما هو الذي يستحق النقد؟ خوفه من الضربات كان واضحاً كما تقولون من المعروف أنه حينما ضُرب بالعصى، ليس هذا فقط بل وأيضاً في منزل بائعة الأرجوان حينما سبب ضيقاً لمن أرادوا مساعدته للهروب من السجن ( أع 14:16، 35-40) فاهتمامه الأول في كل تلك المواقف. لماذا؟ لأنه حينما تتطلب الموقف كشف لنا عن ثبات “الملاك” الروحي في مواجهة ما قد يبدو تهديدات قاسية بالرغم من أن تلك النقائص طبيعية كنفس تواجه الشيطان في تحدٍ ولا تيأس وجسد انسحق تحت الضربات وارتجف تحت الجلدات.

حينما تجده يرتجف أو يخاف تذكر تلك الكلمات التي قالها ناظراً السماء والملائكة قائلاً: “من سيفصلنا عن محبة المسيح؟ أشدة أم ضيق أم اضطهاد أم جوع أم خطر أم سيف؟” (رو 35:8)

استرجع هذه الكلمات الذي اعبر فيها كل شيء نفاية: “لأن خفة ضيقاتنا الوقتية تنشئ لنا أكثر فأكثر ثقل مجد أبدي، ونحن غير ناظرين إلى الأشياء التي ترى بل إلى التي لا ترى. لأن التي ترى وقتية وأما التي لا ترى فأبدية” (2 كو 17:4-18). وأضف إلى ذلك الضيقات والميتات اليومية وليكن في الحساب الإعجاب ببولس وثقة في نفسك.

فإن ضعف طبيعته الظاهر لهو أعظم دليل على فضيلته، فواقع انه وصل إلى هذه القوة دون أن يفقد أي ضعف شائع بين بقية البشر.

إن حجم الأخطار التي واجهها ساعدت على زيادة النقد لموجه ضده، وجعلت النقاد يتشككون أن عظمته نابعة من قوة خارقة ما، وبالتالي سمح له بالتألم حتى تدرك أنت أن طبيعته كانت مثل أي شخص آخر ولكن قوة إرادته جعلته ليس فقط إنسان فوق العادة ولكن صار كواحدٍ من الملائكة. بمثل هذه الروح وهذا الجسد تحمل ميتات كثيرة مستخفاً بالأشياء الحاضرة والمستقبلة وجعلته ينطق بهذه الكلمات الرائعة التي ظنها الكثيرون شبه مستحيلة: ” فإني كنت أود لو أكون أنا نفسي محروماً من المسيح لأجل اخوتي أنسبائي حسب الجسد” (رو3:9).

هذا ممكن لو كان لنا فقط الإرادة لمقاومة لكل ضعف طبيعتنا بقوة الإرادة، وبالتالي لن توجد وصية للمسيح مستحيلة لأي إنسان يود تحقيقها. لو استخدمنا مثل هذه القوة كما يجب سيمنحنا الله معونة كبيرة، ويحفظنا من كل المخاطر التي تهددنا وتعطلنا.

لا يجب التوبيخ على الخوف من الضربات، ولكن ما يُلام فعلاً هو ارتكاب الخطية بسبب الخوف من الضربات. فالذي يخاف بدون اضطراب وفزع من الصراع يستحق الإعجاب أكثر من الذي لا يخاف مطلقاً، لأن ذلك يكشف عن قوة إرادته كدليل واضح. الخوف من الضربات أمر طبيعي، ولكن رفض الخطية الناتجة عن الخوف هو انتصار حقيقي للإرادة على ضعف الطبيعة البشرية، الحزن في حد ذاته لا يُلام، ولكن أن نجدف على اسم الله بسبب الحزن خطية يجب التوبيخ عليها.

لو قلت أن بولس لم يحمل طبيعة جسدنا لاعترضتم بوجه حق على الضعفات البشرية فيه لإثبات عدم صحة كلامي. ولكن لو قلت بل أكدت أنه إنسان مثلنا وليس أفضل منا في الطبيعة ولكنه أسمى في قوة الإرادة فقط فإن كل اعتراضاتكم بلا جدوى أو بالأحرى تتحول لصالح بولس، لأنه بذلك تثبت كيف انتصر على الطبيعة بالرغم من كل الضعفات البشرية. وبالإضافة إلى مدحه فإننا نُسكت شفاه من يعيبون فيه، ملتمسين لأنفسهم عذر ضعف الطبيعة البشرية، ونحثهم على ممارسة تقوية الإرادة.

ربما تعترض أنه في بعض الأحيان خاف من الموت، وهذا أيضاً شيء طبيعي جداً. “فإننا نحن الذين في الخيمة نئن مثقلين” (2 كو 4:5) وأيضاً: “نحن أنفسنا أيضاً نئن في أنفسنا” (رو 23:8). نرى كيف أنه وازن بين ضعف الطبيعة وقوة الإرادة، فكثير من الشهداء وهم في طريقهم للاستشهاد امتلأوا من الخوف ارتعدوا، ولكن هذا هو الذي جعلهم متميزين: حقيقة أنهم خافوا الموت، وبالرغم من ذلك تقدموا لملاقاته من أجل المسيح، وهكذا أيضاً بولس… بالرغم من أنه ارتعد أمام الموت إلا أنه اشتاق أن يفنى ويضمحل.

لم يكن هو وحدة فقط هكذا بل أن رئيس الرسول (؟) نفسه مراراً أنه مستعد للتخلي عن حياته بالرغم من خوفه من الموت (مت35:26) واسمع كلمات المسيح له بهذا الصدد:” متى شخت فإنك تمد يديك وآخر يمنطقك ويحملك حيث لا تشاء”. (يو 18:21) بمعنى ضعف الطبيعة وليس الإرادة.تثبت الطبيعة ضعافتها بالرغم عنا ولا يمكننا نزع هذا الضعف مهما اشتاقت نفوسنا لذلك أو حاولنا باجتهاد. لا يمكن لومنا على مثل هذا الضعف على العكس نستخرج (نستنتج) المدح. كيف نوبخ الخوف من الموت؟ أليس من الحسن الامتناع أن ارتكاب أي خطية بسبب الخوف؟ لا شيء يستحق اللوم بسبب ضعف الطبيعة ولكن نلام في الاستلام لتلك الضعفات فتقديرنا لهذا الرجل وعظمته لأنه تغلب على ضعف الطبيعة بقوة الإرادة وبالتالي كشف عن أهمية الإرادة القوية ويسكت هؤلاء النقاد القائلين: لماذا لم نخلق صالحين بالطبيعة؟ فأي فرق يوجد لو صرنا بالطبيعة ما نستطيع تحقيقه بواسطة الإرادة الحرة؟ في الحقيقة أنه من الأفضل أن نصير صالحين بالاجتهاد أفضل عن الطبيعة لأن هذا يجلب لنا مكافآت أعظم ومجد أفضل.

ماذا لو كانت الطبيعة قوية؟ لو أردنا لاكتسبت في قوتها مساندة قوة الإرادة ألم نرى أجساد الشهداء التي تمزقت بالسيوف، خضعت أجسادهم للحديد ولكن إرادتهم أبت أن تُسحق.

قل لي: ألم ترَ في إبراهيم انتصار الإرادة على الجسد (تك 22) حينما أمر بتقديم ابنه ذبيحة؟ فكانت إرادته أقوى من ارتباطاته الطبيعية. ألم ترى نفس الشيء يحدث للفتية الثلاثة؟ (دا3) ألم تسمع عن المثل المشهور: “الإرادة بالتدريب تصبح طبيعة ثانية”؟ بل أقول أنها طبيعة “أولى” كما أثبت من ملاحظاتي السابقة.

رأيت كيف يمكن أن تقوى الطبيعة وتصمد إذا ما تدربت الإرادة جيداً وتهذبت وأن الصلاح الناتج عن الإرادة الحرة يكسب مديحاً أكثر من لو ولدنا صالحين فالصلاح الذي تم إنجازه بحرية هو الصلاح الحقيقي وأنا شخصياً أحيته حينما يقول:”بل أقمع جسدي وأستعبده” (1 كو 27:9) لأني عرفت أنه اجتهد كثيراً حتى يقتني تلك الفضائل وبالتالي أنهى أي جدال ممن ألحقوه حول الكسل ظانين أنه اقتنى الفضيلة بسهولة بلا تعب. أيضاً حينما يقول: “به قد صلب العالم لي وأنا للعالم” (غلا  14:6) أقدر فيه قوة إرادته. القوة الطبيعية يمكن إنتاجها بواسطة قوة الإرادة لو درسنا كل الفضائل كمثال سنجد أنه صارع بكل ما لديه من قوة الإرادة لتقوية القوى الطبيعية.

تألم عندما ضُرب، ولكن استخف بالضربات مثل الملائكة الذين لا يتألمون، وهذا تراه واضحاً في كلماته التي يمكن تطبيقها على طبيعتنا: “الذي به قد صلب العالم لي وأنا للعالم” (غلا  14:6) وأيضاً: “فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيَّ” (غلا 20:2) فما الذي يقوله عن تركه الجسد: “أُعطيت شوكة في الجسد ملاك الشيطان ليلطمني لئلا ارتفع” (2 كو 7:12) وهذا دليل على أن الألم يمس الجسد فقط.

هذا لا يعني أنها لا تمس الداخل، بل تُرفض بالقوة الأسمى التي للإرادة. وحينما يقول تلك الكلمات الرائعة مثل بهجته بالجلد ومجده في وثقه، فما الذي يعنيه ذلك غير كل ما سبق ذكره حينما يقول: “بل أقمع جسدي وأستعبده حتى بعدما كرزت الآخرين للآخرين لا أصير أنا نفسي مرفوضاً” (1 كو 27:9) فهو يتحدث عن ضعف الطبيعة الذي يصل لسمو الإرادة بالطريقة التي سبق ذكرها.

يؤكد على الناحيتين بهذا الأسلوب حتى لا تظن أن عظمة إنجازاته بسبب طبيعة خارقة للبشرية، مما يسبب لنا اليأس، أو من ناحية أخرى لا تشك في أن ضعفه ينقص من قداسته وهذا يعبر بك من اليأس والشك حول الخلاص فهو أيضاً يؤكد أهمية نعمة الله بتفضيل دقيق ومعرفة جيدة حتى لا تظن أنه نجح من خلال جهوده وإمكانيته فقط.

فهو يذكر الجزء الخاص به حتى لا نترك كل شيء لله ونجلس في تخاذلٍ وكسلٍ بلا عمل أي شيء.

سنجد قوانين وقواعد وضعها بولس الرسول لكل شيء بدقة كبيرة هذا؟ كانت كلماته تصحبها الألم والحزن وليس الغضب مظهره اهتمامه بالحق فقط، لم تكن تلك مشاعره الداخلية التي جُرحت بل شعوره بأنه يقاوم التعليم: “لأنه قاوم أقوالنا جداً” (2تيموا 15:4) لم (يقاومني) بل (التعليم). فتوبيخه عن حبه للحق واهتمامه بتلاميذه لأنه من الواضح افتضاح أمرهم بعد إعلان الحقائق وهروبهم بعد ذلك أكد ضرورية كلمات بولس الرسول.

وأيضاً صلى ضد آخرين: “إذ هو عادل عند الله إن الذين يضايقونكم يجازيهم ضيقاً” (2تس6:1) وليس عن رغبة في الانتقام -حاشا- بل لجلب تعزية للمتألمين وبالتالي يضيف:” وإياكم الذين تتضايقون راحة” (2تس 7:1) وحينما تألم من أي تجربة لاحظ فلسفته في تحويل كل شر للخير:” نشتم فنبارك نضطهد فنحتمل يفتري علينا فنعظ” (1كو12:4،13). لو قلت أن ما عمله أو قاله ناتج عن غضبه فهل باريشوع الساحر أصابه العمى بسبب غضب بولس (أع11:13) وحنانيا وسفيرة ماتا بسبب غضب بطرس (أع4:5،5) فلا يوجد أحد بمثل هذه الحماقة أو الغباوة حتى يظن ذلك.

سنجد بولس الرسول يقول ويفعل أشياء أخرى تبدو مساقة بذراع عالية فتلك المواقف خاصة تكشف عظم تواضعه، حينما سلم زانٍي كورنثوس للشيطان فعلها بكل الحب والمشاعر الصادقة وكشف عن ذلك في رسالته الثانية.

وحينما هدئ أعدائه بكلماته:” ولكن قد أدركهم غضب إلى النهاية” (1تس16:2) لم تحمل كلماته الغضب (لأنك تسمع صلاته الدائمة من أجلهم) بل هو يشتاق أن يردعهم ويجعلهم أكثر حرصاً وتهذيباً.

ولكنك ستقول أنه وبخ الكاهن قائلاً: “سيضربك الله أيها الحائط المبيض” (أع 3:23) نحن نعلم أن بعض الدارسين يقولون أن هذه الكلمات كانت نبوية، فلا أجد خطأ فيما يقوله هؤلاء، لأن هذا ما حدث بالفعل في موت الرجل. ولكن ربما يعترض ناقد آخر يبحث بعمق في هذا القول أنه لو كانت هذه الكلمات نبوية فلماذا يعتذر عنها بولس: “لم أكن أعرف أيها الاخوة أنه رئيس كهنة” (أع 5:23) في رأيي أن كلماته كانت نوع من النصح والتحذير للطاعة للرؤساء كما فعل المسيح. لأن المسيح نفسه كان لديه كثير من الأقوال عن التوراة والفريسيين ولكنه لم يقلها، بل حدثهم قائلاً: “على كرسي موسى جلس الكتبة والفريسيون فكل ما قالوا لكم أن تحفظوه فاحفظوه افعلوه (مت 2:23، 3). هنا أيضاً قام بولس بدور النبي وتنبأ بما سيحدث.

لقد فصل مرقس عنه (أع 38:15) من أجل اهتمامه بالكرازة، فالذي يحمل نير هذه الخدمة لا يمكنه التخاذل أو الضعف، لكنه يجب أن يكون شجاعاً جريئاً. فلا يجب الاقتراب من هذا الخدمة المقدسة ما لم يكن على استعدادٍ تامٍ لمواجهة الخطر والموت مرات عديدة. يقول المسيح نفسه: “من يأتي ورائي فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني” (مت 24:16) فالإنسان الذي ليس على هذا المستوى يخدع الآخرين، والأفضل له لو التزم الصمت وبقي مع نفسه. فمتى صعد إلى خدمة الكلمة يتحمل ثقل مسئولية أعظم من إمكانية قوته، لأن خلاص سامعيه وخلاصه يكونان في خطر. من السخرية لو أن إنساناً لا يعرف كيف يدير سفينة أو يواجه الأمواج يرفض أن يلتزم في المؤخرة مهما حثه الآخرون على فعل ذلك، ولكن نجد واعظاً يباشر عمله في الخدمة بلا هدف ولا ترتيب ولا إعداد، هذا يتعرض لكل أنواع مخاطر الموت.

فلا يوجد قرصان بحري أو مصارع وحوش يحتاج إلى إعداده فكرياً لما يقابله من موت ومخاطر مثلما يحتاجه الكارز الذي يقوم بالخدمة، فالمخاطر هنا أكبر، والمقاومون أكثر ضراوة، لأن الذبح هنا لا يختص بالتفاهات. فالسماء هي المكافأة والجحيم هو العقاب للذين يُفقدون. فهنا إما خلاص أو هلاك للنفس، هذا هو أساس ليس خادم الإنجيل فقط بل يخص كل إنسان علماني لأن يلزم كل شخص أن يحمل الصليب ويتبعه…

إذ يشير لوقا عن النزاع بينهما فلا نظن أنه يستحق اللوم. فالغضب في حد ذاته ليس خطية، ولكن الغضب بفقدان السيطرة بلا حساب وبلا أي سبب خطية، “الغضب الغير عادل لا يبرر؟؟” (سيراخ 1: 28) وأيضاً يقول المسيح: “كل من يغضب على أخيه باطلاً يكون مستوجب الحكم” (مت 22:5) وهذا لا يعني الغضب المجرد. “اغضبوا ولا تخطئوا” (مز 5:4، أف 26:4)

لأنه لو لم يرتد الغضب حتى لو تطلب الموقف لذلك فهو بلا نفع أو فائدة. ولكنه لا يمكن أن يكون بلا فائدة لأن العناية زرعته فينا لتصحيح الخطاة والحث على ترك الكسل الروحي والجمود وإيقاظ النائمين ألا مبالين. فحد الغضب أعطي لنا كحد السيف لاستخدامه عند الضرورة.

ولذا فلجأ بولس أحياناً للغضب بالرغم من أن محبته أكثر من الذين تكلموا برفق فقام بعمل كل شيء من أجل نشر الإنجيل حسبما تهيأت الفرصة.

الترفق ليس دائماً صحيحاً ولكنه ضرورة حينما يقتدي الأمر لذلك فقط لأنه لو كان في غير وقته لصار مرفوضاً وصار الغضب والحزم مطلوبين.

في قولي هذا لا أقدم اعتذاراً على لسان بولس لأنه لا يحتاج إلى كلماتنا، لأن مدحه ليس من الناس بل من الله (رو 29:2) فهدفي هو إرشاد السامعين لي لاستخدام مشاعرهم حسبما يتطلب الموقف كما قلت سابقاً. وبالتالي نكسب مهارة من كل مصدر ونبحر آمنين بمصادر غنية كثيرة حتى نصل الميناء بسلامة ونحصل على أكاليل غير مضمحلة التي نستحقها أجمعين بواسطة نعمة ورحمة ربنا يسوع المسيح الذي له المجد والقوة الآن وإلى الأبد وإلى دهر الدهور آمين.

arArabic
انتقل إلى أعلى