Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
☦︎
☦︎

قال أنبا يوسف لأنبا بيسير: «إني لا أقدِرُ أن أضبطَ لساني». فقال الشيخ: «وإذا تكلمتَ فلن تستريحَ».

قيل إن أحدَ رؤساءِ أديرة البريةِ نزل في بعضِ الأيام، قاصداً المدينةَ، فوجد طفلاً مُلقىً على جانبِ الطريقِ، فأخذه إلى الديرِ ورباه على (لبنِ) شاةِ، حتى كبر ولم يكن يعرف سوى الرهبان. وحدث أن خرجَ الرئيسُ مرةً لقضاءِ أمرٍ ما، فأخذه معه، وبينما هما يمشيان في الطريقِ، إذا بمواشٍ ترعى، فلما رآها الغلامُ قال لمعلمِه: «ما هذه الأشياء يا أبي؟» فقال له: «هذا بقرٌ، وتلك جمالٌ، وهذه حميرٌ، وهذا كذا …»، وهكذا استمر الغلامُ يستفهم من معلمِه عن كلِّ شيءٍ يبصره، حتى لقيتهما جاريةٌ شابةٌ جميلةٌ، فقال الغلامُ: «ما هذه يا أبي؟» فقال له: «هذه هي الشيطانُ»، فلما قضوا حاجتهما ورجعوا إلى الديرِ، سأل الشيخ الغلامَ قائلاً: «ماذا أعجبك يا ابني من كلِّ ما رأيتَ؟» فقال الغلام: «لم يعجبني شيءٌ إلا الشيطان وحده»، فلما سمع الشيخ تعجب كيف أن المرأةَ تفتن حتى الذين لا يعرفون شيئاً.

قال أنبا بنيامين: «كما أن الملحَ من الماءِ يخرجُ، وفي الماءِ ينحلُّ ويذوب، كذلك الرجالُ من النساءِ يخرجون، ومن النساءِ يهلكون».

سأل أخٌ شيخاً قائلاً: «لماذا إذا مشيتُ في البريةِ أكونُ مرعوباً خائفاً»؟ فقال له الشيخ: «ذلك لأنك لا زلتَ حياً في أمورِ الدنيا».

قيل لشيخٍ: «لماذا لا تضجر يا أبتاه؟» فقال: «لأني في كلِّ يومٍ أتوقع الموتَ».

قال شيخٌ: «إن حزني لكثير على راهبٍ، يكون قد ترك أهلَه ومقتنياته، وألزم نفسَه الغربةَ من أجلِ اللهِ، ثم يرجع يسترخي في وصاياه، فيذهب بعد ذلك إلى العذابِ».

قال شيخٌ: «كما أنَّ عيني الخنزير تنظران إلى الأرضِ ولا يرفعهما، كذلك كلُّ من أحبَّت نفسُه اللَّذات العالمية، فبشدةٍ يرفعُ عقلَه إلى اللهِ، ويهتمُ بشيءٍ مما يرضيه».

قال شيخٌ: «إن كان إنسانٌ ساكناً في موضعٍ، وهو لا يعملُ فيه ثمرةً، فإن الموضعَ نفسَه يطرده».

أبصَرَ شيخٌ أخاً يضحك، فقال له: «يا ابني إننا مزمعون أن نعطيَ للهِ جواباً، أمام الملائكةِ والسماءِ والأرضِ، عن كلِّ أمورِنا وسيرتنا، وأنت تضحك».

سأل أخٌ شيخاً قائلاً: «ماذا أصنعُ لأخلصَ»؟ قال له: «يجب أن تبكي دائماً».

قال شيخٌ: «الصلاةُ الكاملةُ هي أن تخاطبَ الله بلا طياشةٍ ولا سجسٍ، ولو تسجَّس العالمُ كلُّه، لأن المصلي بالكمالِ قد مات من العالمِ وكلِّ نياحِه، وكلَّ شيءٍ يعمله يكون بغير طياشةٍ، وأما القراءةُ فتكون في قصصِ الشيوخِ، وتعليمهم، لأنَّ بهذا يسيرُ العقلُ نحو اللهِ».

وقال شيخٌ: «إنَّ الراهبَ الذي يعرفُ موضعاً فيه منفعةٌ لنفسِه، وكانت حوائجُ الجسدِ في ذلك الموضعِ عسيرة، ولهذا السببِ يمتنع عن الذهابِ إلى ذلك الموضعِ، فإن ذلك الإنسانَ ليس فيه إيمانٌ بالله».

وقال شيخٌ: «إن كان الإنسانُ منتبهاً فهو يستطيعُ أن يحفظَ الإنسانَ الجواني. وإن كان، فلا بد أن نحفظ لسانَنا بقدرِ قوتنا».

قال شيخٌ: «إياك أن تقولَ في قلبك من جهةِ إنسانٍ، إنك أحرصُ منه، أو أكثرُ منه معرفة، أو أبر منه، بل اخضع لنعمةِ اللهِ، ولروح الحكمةِ، والحب الذي ليس فيه غشٌ، لئلا تنطفئ بالعظمةِ، وتُضَيِّعَ تعبَك، لأنه مكتوبٌ: يا من تظن أنك قائمٌ، احذر لئلا تسقط».

حَدثوا عن رهبان المصريين، بأنه إذا عرفَ الناسُ سرَّ عملِهم، فما كانوا يحسبونه فضيلةً، بل خطيةً.

سأل أخٌ أنبا بيمين: «ماذا أصنعُ لأن نفسي قاسيةٌ، ولا تخافُ اللهَ؟» قال له الشيخ: «اذهب واجلس مع إنسانٍ يخافُ اللهَ، وهو يعلمك خوفَ اللهِ».

وقال أيضاً: «نِعمَ التجربة التي تعلِّم الإنسانَ».

وقال أيضاً: «الشرُّ لا يَغلِبُ الشرَّ، ولكن إن أساءَ إليك إنسانٌ، فأحسن أنت إليه، فإن إحسانك إليه يستأصلُ الشرَّ، لأنه لا ينبغي أن تكافئ شراً بشرٍ».

سأل أنبا يوسف أنبا بيمين قائلاً: «قل لي كيف أكونُ راهباً؟» قال له: «إن كنتَ تريدُ أن تجدَ نياحاً ههنا وفي الآخرةِ، فقل في نفسِك في كلِّ أمرٍ: أنا ما أنا، ولا تَدِن إنساناً».

وسأله أيضاً أخٌ آخر قائلاً: «إن أبصرتُ أخاً سقط، فهل من الجيد أن أسترَ عليه»، فقال له: «في أية ساعةٍ سَتَرْنا على سقطاتِ أخينا، فإن الله يستُر سقطاتنا، ومتى أظهرنا سقطات أخينا، أظهر الله سقطاتنا».

وسأله آخر قائلاً: «ماذا أصنعُ لأن نفسي تصغُرُ، إذا كنتُ في القلايةِ»؟ قال له: «لا تَدِن أحداً، ولا تقع بإنسانٍ، واللهُ يَهَبُ لك الهدوءَ والنياحَ في القلايةِ».

قال شيخٌ: «قلايةُ الراهبِ هي أتون بابل حيث أبصروا مع الثلاثةِ فتية ابنَ الله، كما أنها العمودُ النار، والسحابةُ التي منها كلَّم اللهُ موسى».

أخبرَ أنبا بيمين عن أنبا يحنس القصير إنه طلب من اللهِ فارتفعت عنه الأوجاعُ، وصار متنيحاً بلا قتالٍ ولا همٍّ، فذهب إلى أحدِ الشيوخِ وقال له: «إني أرى نفسي بلا قتالٍ ولا همٍّ»، فقال له الشيخ: «اذهب واطلب من اللهِ أن يردَّ عليك القتالَ، فإن بالقتالِ تدرك نفسُ الإنسانِ وتفلح». ومن ذلك اليومِ، لم يعد يسأل اللهَ أن يرفعَ عنه القتالَ، ولكنه كان يقول: «يا ربُّ، هَب لي صبراً وأعني».

من كلام مار إسحق: سؤال: «ما هو العالم»؟ الجواب: «إن العالمَ هو تجربةُ الخطيةِ، العالمَ هو أن تكمِّلَ إرادةَ الجسدِ، العالمَ هو أن يفتخرَ الإنسانُ بالأشياءِ التي يمضي ويتركها، فلنجاهد يا إخوتي حتى نلبس لِباسَ الفضيلةِ، لئلا نُلقى خارجاً، لأن الربَّ لا يأخذُ بالوجوهِ».

وقال أيضاً: «افحص ذاتَك باستقصاءٍ، وانظر بأيِّ نوعٍ زللتَ، واطلب من اللهِ أن يغفرَ لك، وإذا شئتَ أن تنالَ الغفرانَ، اغفر أنت أيضاً لقريبك. إذا قمتَ باكرَ كلِّ يومٍ، اذكر أنك سوف تعطي جواباً للهِ على كلِّ ما صنعتَ، فلن تخطئَ مرةً أخرى. فكِّر في كلِّ يومٍ، أنه ليس لك في العالمِ، سوى يومِك الذي أنت فيه، فلا تخطئ أبداً. أبغض كلامَ العالمِ، لكي يعاينَ قلبُك اللهَ. أحبَّ الصلاةَ كلَّ حينٍ، لكي يستنيرَ قلبُك باللهِ. احفظ لسانَك كي ما تسكنَ فيك مخافةُ اللهِ. لا تحبَّ التهاونَ، لئلا تحزنْ نفسُك في قيامةِ الصديقين. اذكر ملكوتَ السماواتِ لكي تجذبَك شهوتُها نحوها. اذكر أيضاً نارَ جهنمِ، لكي تُبغضَ أعمالها. دِن نفسَك وحدَك في أعمالِك، حتى لا تنخدع بالإهمالِ والتهاونِ. افحص كلَّ يومٍ فيم أنت عاجزٌ فيه، لئلا تتعبَ وقتَ شدتِك. لا تظن بنفسِك إنك طاهرٌ من الخطيةِ، ولا تثق بنفسِك ما دمتَ في هذا الجسدِ، حتى تعبرَ سلاطينَ الظلمةِ. إذا كنتَ مجاهداً قبالةِ وجعٍ ما، فلا تتخلّ، بل ألقِ بنفسِك قدامَ اللهِ من كلِّ قلبك، وقل: أعني يا ربُّ أنا الشقي، فإني لستُ قادراً أن أقفَ قبالتهم، والله يعينك».

من كلامِ الأب المعروف بالشيخ: «الصيادُ الذي يصطادُ الصيدَ، يَبذر الطُعمَ على فخِهِ، وحينئذ يستطيع أن يصطادَه، والمتوحد بحنجرتهِ يصطاده الماردُ. فمِن أبيك (آدم) افهم وافحص بماذا اصطاده، لتتعلمََ أنت كيف تحاربه. المتوحدُ الذي يملأ بطنَه، هو راعي خنازير، وكثيرةٌ وشريرةٌ هي رعيته. الآلام مشتبكٌ بعضُها ببعضٍ أيها الإخوة، فمن يخضع لوجعٍ ما، فحتماً يكون عبداً لرفيقه، فينبوعُ جميع الآلامِ كبر البطن، فلا تملأ بطنَك كثيراً، لئلا يعذبك الزنى، ولا تُضعف جسدَك، لئلا يفرح بك مبغضوك. أمسك برتبةٍ معتدلةٍ، وأنت سالكٌ في الطريق الملوكي، وحينئذ يكون سيرُك بغيرِ خوفٍ، لأنه كما أن المصابَ بمرض الحمى تنفر نيتُه مما يُقدم له من الأطعمةِ الشهيةِ، فلا تلذ له، كذلك شهوةُ الطبيعةِ إن أُضعِفَت بسببِ نقصانِ الغذاءِ، وجلب لها الشياطينُ ذِكرَ الوجوهِ، والصورَ المحرِكةَ للأوجاعِ، فإننا نَلبَث بغيرِ عيبٍ، إذ تنفر نيتُنا من شهوةِ الزنى، لأن الوجعَ الطبيعي ضعيفٌ من الأغذيةِ الحقيرةِ، فبنقصِ الغذاءِ تضعُف الآلام، وبذكر اللهِ تهلك وتموت، هذا هو السيفُ القاتلُ لها. فمن يملأ بطنَه ويطيعُ هذا الوجع، فإنه عبدٌ إذا خضع، ويصبح جالباً للأوجاعِ. أما إذا غلب هذا الوجعَ، فبسهولةٍ يغلب جميعَها. هذا هو ينبوعُ الزنى وحبّ الفضةِ، وسُبح الناسِ، وطلب كثرةِ الكرامةِ، والحسد والقتل، وجميع الشرورِ بسببها يمتلئ جحيمُها. هذا كلُّه تفعله الذئبةُ المفسدةُ (أي البطن)، فلنعذِّبها لئلا تعذبنا هي، لأننا إذا ملأناها كثيراً، يكثر الزبلُ الذي هو تلك الأثمار المنتنة، التي تصدر عنها. فانظر يا أخي، فإن هذه هي نهاية جميعِ أعمالِ العالمِ، إذن مثلُ حكيمٍ دبِّر حياتَك فيما أنت محتاجٌ إليه».

وقال أيضاً: «الويلُ للمتوحدِ الحرود، إنَّ قلبَه مسكنٌ للأفاعي، وكلُّ يومٍ يشربُ من مرارتِهِ. الذي ينقلُ الكلامَ، يُبعد ذاتَه من اللهِ، والنعمةُ ليست ساكنةٌ فيه. المخربُ متى يوجد له بيتٌ؟ لأنه لذاتِه يقيمُ بلا مظلةِ اللهِ. الحرود مع من يصطلح؟ لأنه دائماً يكدِّر قلبَه، ويُبعد منه روحَ اللهِ، وهناك تلدُ العقربُ وتربي. اهرب من ذي اللسانين، فإنه يرمي السهامَ المسمومةَ في قلبِ من يُنصت له. ابعد عن المتعظِّمين، فإنهم يحاربون الله. غريباً كن من جميعِ الأغنياءِ، لأن عملَهم جميعَه عبادةُ أصنامٍ. لا تكن رفيقاً للمتخاصمين، لئلا يسكن لجيئون داخلَ بيتِك. احذر الحقودَ لأنه شيطانٌ متجسدٌ. من الذي يمدحك قدامك سدَّ أذنيك واهرب، لئلا يُعريك من الله، ويُلبسك ثيابَه المرقَّعةَ الذي هو لابِسُها. في محبِّ الرئاسةِ لا يسكن اللهُ، فلا تسكن أنت أيضاً معه، الذي يقيم هواه بغير ضرورةٍ، يكون مبغضاً لمشيئةِ اللهِ. الوقح يتشبَّه بالحيةِ، ومأكولُهُ ترابٌ. الذي يرفع صوتَه، معروفٌ عنه أنه ليس فيه المسيحُ».

كما قال: «كن محباً لكلِّ إنسانٍ، بالبعدِ عن كلِّ إنسانٍ. أبغِضْ كلَّ أمرٍ رديء في نفسِك، ولا تُبغض ما في الآخرين. مرذولٌ هو قدام الربِّ من يُبغض الخاطئَ. إذ لك موضعٌ قدِّم توبةً لقلعِ خطاياك. اسكب دموعَك قدام ربِّك، لئلا يرُدَّ وجهَهُ عنك في ذلك اليومِ، الذي يرجوه كلُّ محبيه، لنظرتِهِ الممجَّدة التي بها يتنعمون إلى الأبدِ».

وقال كذلك: «إنه لزمان الأحزانِ، وبالكدِّ والتعبِ العظيمِ، يقدرُ إنسانٌ أن يخلِّصَ نفسَه من فخاخِ المكرِ. تسربل يا أخي بالتواضعِ في كلِّ وقتٍ، لأنه يُلبس نفسَك المسيحَ معطيه. أمسك بالورعِ والعفةِ، لأنهما ينقيان من نجاسةِ الأوجاعِ الدنسة. طقِّس حنجرتك ونومك بقدرٍ، ولتتنعم نفسُك في النومِ بالأحلامِ الروحانيةِ، وفي اليقظةِ بالأفكارِ البهيةِ. طقِّس لسانَك من كلِّ كلامٍ فارغٍ، ليتسلط عقلُك على الأوجاعِ والشياطين المنافقين. من الحَرَدِ والحرودين احذر، لأنهم يعدمون النفسَ من النورِ المقدسِ. ممن لا طقس له، ولا تدبير متقن، أبعد نفسَك كلما أمكنك ذلك، لئلا يجعلك عبداً للخطيةِ. ليكن حديثُك مع محبي الله لتأخذَ نفسُك شبهَ طهارتِهم. سبِّح بقلبك في كلِّ وقتٍ، ليكونَ قلبُك هيكلاً للهِ. احفظ عينيك من كلِّ المناظرِ الكاذبةِ المنبهةِ للشهوةِ. ولا تكن محباً لصبيٍ، لأنه يجعل الذي يلتصق به فاعلَ شرٍّ. كن مجتمعاً مع ذاتِك بينك وبين الله، وكن ابنَ سِرٍّ لذلك الذي يفعلُ كلَّ شيءٍ من أجلِ اللهِ. عظيمٌ هذا الرجل الذي يفرز، وأثمارُ عملِه هي حياةٌ مؤبدةٌ. استمع لكلِّ وصايا إخوتك، ومثل حكيمٍ خلِّص حياتَك بمعرفةٍ من الوصايا التي فيها خسران. فهذه التعاليم للحكماءِ تكفي».

من قولِ بعضِ الشيوخِ: «في كلِّ شيءٍ تصنعه، اعلم أن اللهَ ينظرُ إليك دائماً، لتكونَ مخافتُه فيك، لكي تصنعَ مسرَّتَه. اضبط لسانك لئلا تقول كلاماً يُغضب اللهَ. اضبط عينيك لئلا تنظرَ الأرضيات، وتصير غريباً من السمائيات. لتكن الكنيسةُ لك شبه السماءِ، وانظر لئلا تتفكر بالأرضيات، وأنت قائمٌ فيها. تحفَّظ في صلاتِك بمخافةِ الله، لئلا تُغضبه بدلاً من أن ترضيه، فتحتاج صلواتُك لصلواتٍ. احذر من الضحك لأنه يحل الحواس، ويُبطل كلَّ فضيلةٍ».

سألنا أنبا أنانيه أن يقولَ لنا كلمةً، فقال لنا: «عليكم بالمسكنةِ والإمساك، لأني كنتُ في بريةِ مصرَ في شبابي، وحدث أن اشتكى أحدُ الآباءِ بطحالِه، فطلب جرعةَ خلٍّ، فلم يجد في تلك البريةِ كلِّها، وكان فيها ثلاثةُ آلاف راهبٍ، فشكا حالَه لأحدِ الشيوخِ الذي أمر بإحضارِ قليلٍ من الماءِ، ثم قام وصلى عليه ورسم باسم الآب والابن والروح القدس، ودهن به الطحال، فزال الوجع لوقتِهِ برحمةِ السيد المسيح».

قيل عن أحدِ الرهبانِ إنه كان كلُّ يومٍ يبكي على خطاياه، وكان له جارٌ يسمعه، وإذ لم يأتهِ البكاءُ، قال لنفسِه: «لماذا لا تبكي يا شقي؟ لماذا لا تنوح يا مسكين؟ حقاً إنك إن لم تبكِ ههنا طائعاً، فإنك ستبكي هناك كارهاً»، وكان قد أصلح له حبلاً غليظاً يضرب به ذاتَه ليبكي، فتعجب جارُهُ وطلب من اللهِ أن يكشفَ له إن كان تعذيبُه لنفسِه صواباً، فأبصره وهو واقفٌ بين جماعةِ الشهداءِ، وإنسانٌ يقول له: «هذا هو المجاهدُ الصالحُ الذي يعذِّب نفسَه من أجلِ المسيحِ».

قال القديس أنطونيوس: «يجب أن يكونَ خوفُ اللهِ بين أعيننا دائماً أبداً، وكذلك ذِكرُ الموت، وبغضةُ العالمِ، وتجنُّب كلِّ ما فيه راحةُ الجسدِ، وأن نزدري هذه الحياةَ، لنحبَ اللهَ، لأنه سوف يطلب منا هذا في يومِ الدينونةِ، ما إذا كنا قد جُعنا، أو عطشنا، أو تعرينا، أو تنهدنا، أو حزنا من كلِّ قلوبنا، أو امتحنا أنفسَنا هل نحن مستحقون لله، فلنؤثر الحزنَ لكي نجد اللهَ، ولنستهن بالجسدِ لكي تنجو أنفسُنا من العذابِ».

قال شيخٌ: «احذر الغضبَ لأنه يُظلم العقلَ ويلقي من النفسِ لجامَ مخافةِ اللهِ. إن الغضبَ أبو الجنون، فمن يقبله لا يكون وديعاً أمام اللهِ. استعد كلَّ حينٍ لأن تقبلَ الأتعابَ والشدائدَ مع الضيقاتِ الآتية عليك، ولا تصغر نفسُك، ويضعف جسُدك فتُهلك تعبَك، بل اقتنِ صبراً، وثبِّت أفكارَك قائلاً: إن هذه إنما أتت عليَّ بسببِ خطاياي. فإن صنعتَ هكذا، فإن معونة الله ونعمته تدركك سريعاً. طوبى للإنسانِ الذي يحفظُ نفسَه طاهراً في الصغرِ حتى الكبرِ، طوبى لمن له نصيبٌ في قيامةِ الصديقين، فإن الملائكةَ تجمعه إلى أهراء الحياةِ، التي هي فرح ملكوتِ السماواتِ».

من أقوال مار إسحق: «إن حدَّ كلِّ تدبيرِ السيرة يكون بهذه الثلاثة: التوبة، والنقاوة، والكمال».

ما هي التوبة؟ «هي تركُ الأمورِ المتقدمة، والحزن من أجلِها».

وما هي النقاوة؟ «هي قلبٌ رحومٌ على جميعِ طبائعِ الخليقةِ».

وما هو الكمال؟ «هو عمقُ الاتضاعِ ورفضُ كلّ ما يُرى وما لا يُرى، أي ما يُرى بالحواس، وما لا يُرى بالهذيذِ عليه».

وسُئل في وقتٍ آخر: «ما هي التوبةُ»؟ فقال: «قلبٌ منسحقٌ». «وما هو الاتضاع»؟ فقال: «هو ترك الهوى، والسكون من كلِّ أحدٍ». «وما هي الصلاة»؟ فقال: «هي تفرغ العقل من جميعِ أمورِ الدنيا، ونظرُ العقلِ إلى شوقِ الرجاء المُعَد».

وسُئل أيضاً: «كيف يقتني الاتضاعَ»؟ فقال: «بتذكارِ السقطاتِ، وانتظارِ قربِ الموتِ، واتخاذ لِباسٍ حقيرٍ؛ وأن يختارَ موضعاً هادئاً، ويكون له سكونٌ دائمٌ، ولا يُحبُّ ملاقاة الجموع، وليكن غيرَ معروفٍ وغيرَ محسوبٍ، ملازماً أموره بقدرٍ، مبغضاً لقاء الناسِ، والدالة والخلطة، غير محبٍ للأرباح، مانعاً عقله من لومِ أحدٍ، أو الإيقاع بإنسانٍ، فلا يعامل أحداً، ولا يعاشره، بل يكون متوحداً في ذاتِه، منفرداً، ولا يجعل له همًّا بأحدٍ من الخليقةِ غير نفسه، وباقتصار الغُربةِ والمسكنةِ والتصرف بانفرادٍ. فهذه كلها تولِّد الاتضاع، وتطهر القلبَ. والذين قد بلغوا الكمالَ، هذه هي دلائلهم وعلاماتهم، ولو أنهم يُسلَّمون كلَّ يومٍ عشرَ دفوعٍ للحريقِ من أجل محبةِ الناسِ، فلا يشبعون من حبهم».

سؤال: «ما السبب في أنَّ فعلَ الرجاءِ لذيذٌ، وتعبَه خفيفٌ»؟

الجواب: «ذلك لسببِ الاشتياقِ الطبيعي، الذي يستيقظُ في النفسِ، ويسقيها كأسَ الرجاءِ ويُسكرها، ومن تلك الساعةِ، لا يحس ذوو الرجاءِ بتعبٍ أبداً، بل يثبتون غير شاعرين بالضيقات، وفي كلِّ ما جرى في سيرتهم، يظنون كأنهم في الجوِ سائرون بغير أقدامٍ بشريةٍ، ولا تظهر لهم صعوباتُ الطريقِ وخشونتها، فلا يبدو أمامهم أن هناك أوديةً وروابي وتلال، بل حتى الوعر قدامهم يكون سهلاً، والمواضع الحرجة كأرضٍ لينةٍ، لأنهم في كلِّ وقتٍ ينظرون إلى حضنِ أبيهم، والأملُ يشير إليهم كمثلِ الإصبع، ويريهم الأشياءَ البعيدةَ غير المرئيةِ، كما لو كانت قريبةً، ملاحظين بعينِ الإيمانِ الخفيةِ، لأن جميعَ أجزاءِ النفسِ تسخن مثل النارِ بشوقِ الأمورِ العتيدةِ، وإلى هناك يمدون لواحظَ أفكارِهم ويسرعون على البلوغِ. وإذا ما دنوا من عملِ واحدةٍ من الفضائلِ، فإنهم لا يعملونها بالتدريجِ، بل بالتمام مرةً واحدةً، فإنهم في الطريق السلطانية، لا يسيرون مثل باقي الناس، لأنهم اختاروا سبلاً قاطعةً. إنهم أفرادٌ من الجبابرةِ والشجعانِ، أولئك الذين قدروا على السيِر فيها، لأن سعيَهم بالتجبرِ والحرصِ ينتهي، لأن الرجاءَ يُشعلهم مثلَ النارِ، فلا يقللون من سرعةِ جريهم بسبب فرحِهم. ويعرض لهم مثل ما قال إرميا النبي: إني قلتُ لا أعودُ أذكره، ولا أنطق باسمهِ، وصار في قلبي كمثل النارِ المتقدة، وأشعل عظامي. هكذا تكون قلوبُ الذين يَجْرُون برجاءِ اللهِ حتى يدركوا الحياةَ الأبديةِ».

وقال أيضاً: «يتقدمُ الآلامَ جميعَها، عزةُ النفسِ ومحبةُ الذاتِ، ويتقدم كلَّ الفضائلِ احتقارُ الإنسانِ للراحة. الذي يُغذي جسدَه بالراحةِ، فإنه في بلدِ السلامِ ينضغطُ بالضيقةِ، والذي يتنعم في شبابهِ، يكون عبداً في شيخوخته، وفي الآخرِ يتنهد. وكما أنه لا يتمكن مَن قد حَبَسَ رأسَه في بئرٍ عميقةٍ مملوءة ماءً، من استنشاق هواء هذا الجو المتدفق في الفضاءِ، هكذا من غَطَسَ ضميرُه باهتماماتِ الأمور الحاضرةِ، فإنه لا يمكن أن تقبلَ نفسُه استنشاق حُسن العالم الجديد. وكما أن رائحةَ السم المميت تُفسد مزاج الجسد، كذلك المناظر السمجة تخبط سلامة الضمير. وكما أنه لا يُستطاع أن تكون الصحةُ والمرضُ في جسدٍ واحدٍ، ولا يفسد أحدُهما من الآخر، هكذا لا يمكن للحب والبغضة أن يسكنا في إنسانٍ واحدٍ ولا يُفسد أحدُهما قريبَه. وكما أنه لا يثبت الزجاج في تقلبه مع الأحجار بل ينكسر، هكذا لا يمكن أن يكون أحدٌ طاهراً، وهو مداوم النظرَ والكلامَ مع النساءِ. وكما تنقلع الأشجارُ من شدةِ جريان الماءِ، كذلك محبة العالم تنقلع من القلبِ من حدة التجارب الحادثة على الجسدِ. وكما أن الأدويةَ المسهلةَ تنقي الكيموسات (أي الإفرازات) الرديئة من الأجسادِ، هكذا شدة الضيقات تقلع الآلام من القلبِ. وكما أنه لا يمكن أن يكونَ بغيرِ أذيةٍ ذاك الذي يُشفق على عدوِهِ المحارب له في صفوف القتالِ، هكذا لا يمكن أن يُشفِقَ المجاهدُ على جسدِه، وتنجو نفسُه من الهلاكِ. من اقتنى دموعاً في صلاتِه، فهو كإنسانٍ يُقدِّم قرباناً عظيماً للملكِ، وقد اقتنى عنده وجهاً بهجاً، كذلك الدموع قدام الله الملك العظيم تزيلُ كلَّ أنواع خطاياه ويقتني عنده وجهاً بهجاً. وكالنعجةِ التي تخرج من الدوّارِ وتمضي لتقيمَ في جحرِ الذئابِ، هكذا الراهب الذي يترك موافقة إخوته، ويداوم الطياشةَ والنظرَ في الخليقةِ. وكمثلِ من هو حاملٌ جوهرةً ثمينةً، ويمضي بها في طريقٍ، وتُشاع عنها أفكارٌ سمجةٌ، فيصبحَ في كلِّ وقتٍ مرعوباً من السالبِ، هكذا الذي قد اقتنى جوهرةَ العفةِ، ويسيرُ في العالمِ الذي هو طريق الأعداء فهذا ليس له رجاءٌ في أن يفلتَ من اللصوصِ السالبين، إلى أن يدخلَ منزلَ القبرِ (أي القلاية)، الذي هو بلد الثقةِ. وكما أنه لا يمكن لذاك أن لا يخاف، كذلك أيضاً ولا هذا؛ لأنه لا يعرف بأيِّ بلدٍ وبأيِّ وقتٍ يخرجون عليه بغتةً ويُفقرونه من جميعِ مالهِ، لأنه هناك من يُسلبُ في بابِ دارهِ، الذي هو زمانُ الشيخوخةِ».

«وكما أنه من بذارِ عرقِ الصومِ ينبتُ سنبلُ العفةِ، كذلك أيضاً يتولد من الشبعِ الفسقُ، ومن الامتلاءِ النجاسةُ، أما الأفكارُ المشاغبة (الشهوانية) فلا تجسر على البطنِ الجائعةِ المتذللة قط. كلُّ مأكولٍ يتحصل داخلنا يتسبب عنه زيادة كيموس الزرع الطبيعي المجتمع في جسدنا، وإذا امتلأت الأعضاءُ التي هي أواني الزرع من السائل الذي من جميع الجسدِ، فإنه يسيل إلى هناك، إذا عرضَ له أن ينظرَ جسداً ما، أو تحرَّك فيه ذِكرُ شيءٍ من غيرِ الإرادةِ مع ما يتحرك بالفكرِ في ساعتهِ من مادةٍ بلذةٍ، تتحرك من هناك وتنطلق في جميع الجسمِ، حتى ولو أن الفكرَ يكون شجاعاً جداً وعفيفاً ونقياً بحركاته، ولكن بسببِ ذلك الإحساس في الأعضاءِ، فلوقته يضطرب إفرازه، وعفة أفكاره النقية تتسخ وطهارته تتنجس، لأجل اضطراب تلك الآلام التي تتحرك في القلبِ من توقد الأعضاء، وفي الحالِ تذهب نصفُ قوته، ويوجد مغلوباً مخصوماً بغير قتالٍ. ولن يتعب عدوه في الجهاد معه لأنه غُلب تحت إرادة الجسد المشاغب، وهكذا يجمع أفكاراً متلبسة بأشكالٍ مشاغبة محيطة به، أثناء رقاده وحده، ويبقى سريره الطاهر فندقاً للزواني، وتتدنس أعضاؤه الطاهرة من غير أن تدنو منه امرأةٌ. أيُّ بحرٍ يضطربُ هكذا، ويتسجس من الراموز، مثل اضطراب العقل المتقن السديد، بقوة الأمواجِ الثائرة عليه في جسمهِ، من امتلاءِ البطنِ».

أيتها العفةُ، ما أنقى حسنك بالرقادِ على الأرضِ، وألم الجوع الذي يشتت النومَ عنه لأجل نشوف الجسد، وخلو البطن. من كلِّ مأكولٍ، تصدر داخلنا أشكالٌ مرذولةٌ، وصورٌ مشاغبةٌ تتشكل منه، فتخرج وتظهر لنا في بلدِ عقلنا الخفي، جاذبةً إيانا إلى مشاركتها بأفعال الفسق، أما خلو البطنِ فإنها تكون كمثل بريةٍ مقفرةٍ للضمير، هادئة من سجس الحسيات؛ والبطن الملآن، فهو بلد الفُرجات والمناظر، حتى نحن الذين في البريةِ والقفرِ، وجدنا الشبعَ يسبب الكثيرَ من أمثالِ ذلك».

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF

معلومات حول الصفحة

عناوين الصفحة

محتويات القسم

الوسوم

arArabic
انتقل إلى أعلى