هذا هو الترتيب العفيف المحبوب لدى الرب: ألا تتلفت عينا الإنسانِ هنا وهناك، ليكن نظرُه إلى قدامهِ فقط، لا يتكلم كلاماً زائداً، بل ما هو ضروري منه فقط. يستعمل لِباساً حقيراً لكمالِ حاجةِ الجسدِ، ويستعمل القوتَ لقوامِ الجسدِ، ولا يرغَبَه، ويأكل من جميع الأطعمةِ بالنقصِ، ولا يرذل شيئاً. ولا يملأ بطنَه مما يختاره هواه، لأن الإفراز هو أفضل من كلِّ الفضائل. ولا يشرب خمراً، إلا إذا وُجد مع قومٍ أخذوه لعلةِ مرضٍ أو ضعفٍ. لا يقطع كلمةَ ذلك الذي يتكلم ليتكلم هو، مثل غير المتأدب، بل يصير مثلَ حكيمٍ. وكلَّ موضعٍ يصادفه، ليكن فيه صغيرَ إخوتِه وخديمهم. ولا يكشف عضواً من أعضائِه قدامَ إنسانٍ، ولا يدنُ من جسدِ إنسانٍ بغيرِ علةٍ، ولا يدع إنساناً يتقدم إلى جسدِه بغيرِ ضرورةٍ وعلةٍ. وليحذر من الدالةِ كمثل حذره من الموتِ قاتله. ويقتني لمرقدهِ ترتيباً عفيفاً لكي لا تبعد منه القوةُ الحارسةُ، وإذا نام، فإن أمكنَ لا يبصره إنسانٌ. ولا يطرح بصاقاً قدامَ إنسانٍ, وإن أتاه سعالٌ وهو على المائدةِ، فليُدِر وجهَه عنها، وحينئذ يسعل. وبالعفةِ يأكل ويشرب، كما ينبغي لأبناءِ الله. ولا يمد يدَه قدامَ رفيقِهِ بوقاحةٍ. وإن جلسَ معه غريبٌ فليغصبه مرتين أو ثلاثة أن يأكلَ، وبالهدوءِ يأخذ ويضع على المائدةِ ولا يتهاون. وإذا تثاءب فليُغطِ فمه لئلا ينظره أحدٌ. ولتكن ثيابُه ورجلاه مرتبةً على المائدةِ. وإذا دخل قلايةَ معلمِه، أو تلميذِ معلمهِ أو صديقِه، فبالحذرِ يمسك نفسَه لئلا يبصرَ أو يميزَ الذي فيها، وإن كان يُغصَب من صاحبها لينظرَ ذلك، فلا يطاوعه، فمن جسر على هذا فهو غريبٌ لشكلِ الرهبانِ وللمسيح معطيه. ولا يبصر الموضعَ الذي فيه آنية صديقه موضوعةً، وبالرفقِ يفتح بابَه ويغلقَه وكذلك باب غيرِه، دون أن يُسمع صوتُه. ولا يستعجل في مشيتهِ بدون علةٍ ضروريةٍ، كما يكون مستعداً لكلِّ عملٍ، ومطيعاً. ولا يلتصق بالمرتبط بأشياءٍ أو بدرهمٍ، أو بعلمانيين، لئلا يكونَ عبداً للشيطانِ.
وبالسهولةِ يتكلم مع كل إنسانٍ، وبالعفةِ ينظر في كلِّ إنسانٍ، ولا يملأ عينيه من وجهِ إنسانٍ. وإذا ذهب في طريقٍ فلا يسبق من هو أكبرُ منه، وإذا انفصل منه رفيقُه لسببٍ ما، فليبتعد عنه قليلاً، وينتظره حتى يأتي. ومن لا يفعل هكذا فهو جاهلٌ. وإن اتفق أن يلتقي رفيقُه بالناسِ ويتكلم معهم، فليلبث منتظراً إياه دون أن يستعجلَه. ومن هو قويٌ يقولُ لمن هو ضعيف قبل الوقتِ هلمَّ نأكل. ولا يُبكِّت بشرياً على جهالتِه، بل يضع نفسَه عندَ جميعِهم كمخطئٍ. ويختارُ كلَّ عملٍ حقيرٍ ويصنعه باتضاعٍ. وإذا ضحكَ، فلا يكشف عن أسنانِه. وإذا اضطره الأمر إلى الكلامِ مع النساءِ، فليَرُدَّ وجهَه عن نظرِهن عند كلامِه معهن، وليفر من لقاءِ الراهبات ومؤانستهن ونظرهن، كمثل الهاربِ من فخ الشيطانِ، لئلا يتسخ بحمأةِ الأوجاعِ النجسةِ، حتى وإن كنَّ أخواته بالطبيعةِ، فليحفظ نفسَه منهن في كلِّ شيءٍ، كمثلِ الغرباءِ. وليحذر من الاختلاطِ بأقربائه وبني جنسِه، لئلا يبرد قلبُه من محبةِ الله. وليبتعد عن مرافقةِ الشبابِ والدالة معهم، كابتعادِه من محبةِ الشريرِ. وليكن له واحدٌ يتخذه ابنَ سرِّه وابنَ أنسهِ وشريكَه، على أن يكونَ خائفاً من اللهِ، ومهتدياً مع نفسِه ومسكيناً بمسكنتهِ، وغنياً بأسرارِ الله. وليحفظ أسرارَه وتدابيرَه من كلِّ بشريٍ، ولا يكشف أعمالَه وحروبَه. ولا يرمي عنه رداءَه من غيرِ ضرورةٍ في موضعٍ يراه إنسانٌ. وإذا خرج لحاجةِ الجسد، فليكن ذلك بالعفةِ مثل من يستحي من الملاكِ الحافظِ له. وليكن ممارساً هذه كلَّها بمخافةِ اللهِ، غاصباً نفسَه، وإنْ لم يشأ القلبُ. والأصلح له أن يأكلَ سمَّ الموتِ، ولا يأكل مع امرأةٍ، ولو كانت أمه أو أخته. والأصلح له أن يسكنَ مع التنينِ، ولا يتغطى مع آخر بغطاءٍ واحدٍ وينام، ولو كان أخوه. ولا يماري على شيءٍ، ولا يلاجج، ولا يكذب، ولا يحلف باسمِ اللهِ. ويُهان ولا يَهين، وليُظلم ولا يَظلم، لأنه أفضلُ أن يهلكَ ما للجسدِ مع الجسدِ، ولا تعجز واحدةٌ مما للنفسِ. ولا يتكلم بحكومةٍ مع إنسانٍ، بل يحتمل وهو مُزكى أن يدانَ مثلَ السقيمِ. ولا يحب نفسَه في شيءٍ مما لهذا العالمِ، وليُطع الرؤساءَ، وليبعد من مخالطتهم. أيها الشره محبُ البطنةِ، أخير لك أن تجعلَ في بطنِك، لو كان هذا مستطاعاً، جمرَ نارٍ، ولا أطبخةَ الرؤساءِ. ولتكن رحمتُه على كلِّ إنسانٍ، وهو بعيدٌ ومتفرغ من كلِّ إنسانٍ. ومن كثرةِ الكلامِ فليحذر، لأنه يطفئ من القلبِ الحركاتَ النورانية المتحركة باللهِ. وكذلك فليحذر من المجادلةِ مع الخواصِ الغرباءِ، وليفر منها كفرارِه من سبعٍ ضارٍ. ولا يعبر بجوارِ الغضوبين والمتخاصمين، لئلا يمتلئَ قلبُه غضباً، وتملك في قلبهِ ظلمةُ الضلالةِ. ولا يسكن مع المفتخرين لئلا يرتفعَ من نفسِه فعلُ الروحِ القدسِ، ويُصبح مسكناً لكلِّ الأوجاع الشريرةِ.
هذه التحذيرات كلها، إن حفظتها أيها الإنسان، وفي كلِّ حينٍ تستأنس بالهذيذِ باللهِ، بالحقيقةِ، فإنك لن تعمى أبداَ، بل في قليلٍ من الزمانِ، تنظر نفسُك نورَ المسيحِ، الذي له المجد من محبيه إلى الأبد آمين.
جاء إنسانٌ إلى أنبا زينون، وقال له: «هل يكون غفرانٌ لكلِّ خطيةٍ»؟ أجابه الشيخ قائلاً: «إن تابَ الإنسانُ بقدرِ خطيتِه، فإنه يحظى بالغفرانِ». وكان السائلُ يعلمُ أن خطيئَته عظيمة». فقال للشيخِ: «لكني أعجبُ أن لخطيئتي غفراناً». قال له الشيخ: «قد قلتُ إنَّ لكلِّ خطيةٍ غفراناً إن كانت التوبةُ بقدرِ الخطيةِ، فأخبرني يا ابني بخطيئتك ولا تخجل، ولا تكتم مني شيئاً، لأن الذي يخجل أن يقرَّ بخطيئته، لا ينال البرءَ منها». فقال: «يا أبي، إني لما كنتُ علمانياً، نمتُ مع أمي». قال له الشيخ: «حقاً إنك فعلتَ خطيئةً قبيحةً، ولكنك إن تبتَ مقابلها، فأنا أؤمنُ أن اللهَ يغفرُ لك». فقال له الأخُ: «مُرني بما أفعله». فأخذه الشيخ إلى البستانِ وأراه أصلّ شجرةٍ يابساً، وقال له: «اذهب إلى البريةِ إلى المكانِ الفلاني، وكن صائماً هناك، ولا تتوانَ في صلاتِك، وبعد سنةٍ تأتي إلى ههنا، فإن رأيتَ هذا الأصلَ أخرج قلوباً، فتحقق أن اللهَ قبل توبتك». فذهب الأخُ إلى الموضعِ الذي رسم له، وصنع كما أمره الشيخ، ولما أكمل السنةَ أتى فأبصرَ وإذا الأصلُ على حالِه، فأعلم الشيخ أن الأصلَ لم يزل يابساً، فقال له الشيخ: «اعلم أن توبتَك لم تكمل بعد، فاذهب واهتم بنفسِك هذه السنةِ أيضاً». فمضى وبعد سنةٍ رجع إلى الشيخ، ولكن الأصلَ لا زال على حالهِ، فقال له الشيخ: «اذهب أيضاً واهتم بحسياتك، ولا تتوانَ في صلاتِك». وفي السنةِ الثالثةِ، رجع وأبصر الأصلَ، وإذا هو قد أخرج قلوباً. فأتى وأعلم الشيخ، فقال له الشيخ: «هو ذا قد صرتَ مصححاً، فلا تخطئ فيما بعد». فذهب شاكراً الله على عظيمِ رحمتِه.
قال مار إسحق: «ليست خطيةٌ بلا مغفرةٍ إلا التي بلا توبةٍ، وليست موهبةٌ بلا زيادةٍ إلا التي بلا شكرٍ».
جماعةٌ من الإخوةِ أتوْا إلى أنبا إيلاريون وقالوا له: «ما علامةُ فضلِ الراهبِ»؟ فقال لهم: «كثرةُ الحبِّ، والاتضاع، يزينان الراهب ويشرِّفانه في الدنيا وفي الآخرةِ. ويجب أن تكونَ له هذه الخصال، وهي: أن يكونَ عاقلاً، عالماً، محتملاً، صبوراً، طاهراً، عفيفاً، سخياً، جوَّاداً، متريثاً، رحوماً، وقوراً، كتوماً، شكوراً، مطيعاً، مداوماً الصمتِ، متوفراً على الصلاةِ». قالوا: «إن اجتمعت هذه الخصال في إنسانٍ، فهل يُسمى راهباً»؟ قال: «نعم، إنه راهبٌ إذا تعب كذلك وشقي بمقدارِ ما تصل إليه قوته».
سُئل أحدُ الشيوخِ: «ما هو البابُ الضيق»؟ قال: «أن يضيِّق الإنسانُ على نفسِه، ويزيلَ إرادتَه كلَّها لأجل حبِّ اللهِ وطاعتِه، بحسبِ ما قيل: ها نحن قد تركنا كلَّ شيءٍ وتبعناك. لأنه لم يكن لهم غنى وتركوه، بل تركوا مشيئَتهم».
قال أنبا بيمين: «علِّم قلبَك ما تقوله بلسانِك من العلمِ».
وقال أيضاً: «إن كثيرين من الناسِ، يتكلمون بالأشياءِ الفاضلةِ، ولكنهم يفعلون الأفعالَ الدنيئةَ».
قال أحدُ الشيوخِ: «إن الشيطانَ هو العدو، وأنت صاحبُ البيتِ، والعدو لا يزال يُلقي كلَّ ما يجده من سائرِ الأوساخِ، فلا تتغافل أنت، ولا تتوانَ عن إخراجِها، لئلا يمتلئ بيتُكَ من الأقذارِ، ولن تستطيعَ تنظيفه، بل اهتم بالتنظيفِ أولاً بأول، لتبقى نقياً بنعمةِ اللهِ».
قال أنبا أغريبوس: «رأسُ الحكمةِ هو ذلك الوقتِ الذي فيه تلوم نفسَك وحدك».
أبصر أنبا نومين أخاً يضحك، فقال له: «لا تضحك يا أخي، لئلا يبتعد الله منك».
قال شيخٌ: «اقتنِ السكوتَ بمعرفةٍ، اهتم بالله، ولا تهتم بشيءٍ أرضي، وافحص أمورَكَ في قيامِك وفي جلوسِك، استند إلى اللهِ، ومن جهةِ المنافقين لا تفزع».
كان راهبٌ مسكينٌ لا يملك شيئاً، لكنه كان رحوماً، فأتاه سائلٌ يطلبُ صدقةً، ولم يكن عنده سوى خبزةٍ واحدةٍ، فدفعها إليه. ولكن السائلَ قال له: «لستُ محتاجاً إلى خبزٍ، بل إلى ثوبٍ». فأراد الأخُ إقناعَه، فأخذه بيدِه، وأدخله إلى القلايةِ، فلما أبصر السائلُ أنه ليس له شيءٌ غير الثوب الذي على جسدِه، رقَّ له، وصبَّ تليسَ خبزٍ كان معه.
كان أحدُ الشيوخِ يمشي ومعه تلميذه، فوجد في الطريقِ تفاحةً مطروحةً، فأخذها وميَّزها، ثم طرحها تحتَ رجليه وسحقها في الأرضِ، فقال له تلميذُه: «لم فعلتَ هكذا يا أبي»؟ فقال الشيخ: «نعم يا ابني، لأن شهوةَ الثمرةِ أخرجت آدمَ من الفردوس».
قال بعضُ الشيوخِ: «ينبغي للمجاهدِ أن يُبغضَ كلَّ مفرحاتِ العالمِ، ويقاتل الأوجاعَ واللَّذات، ويقضي حياتَه أبداً بالتحفظِ، ويطلب محبةَ اللهِ ورضوانه، ويكون دائماً أبداً حذراً من عاداته القديمة، مبتعداً منها، لا سيما الأفعال الرديئة، وكلِّ الاهتمامات الجسدية والكلام والسمع، وليبتعد أيضاً من الشبعِ، وليس من الشبع من الأطعمةِ اللذيذة والشرابِ فقط، بل ومن الخبزِ والماء، ومن كلِّ امتلاءٍ، وليكن أكلُهُ بقدرٍ. وفي وقتِ الصلاةِ يجمع عقلَه كمن هو قائمٌ بين يدي اللهِ، لأنه في ذلك الوقتِ يحتاجُ إلى أن يجمعَ فكرَه لله بلا طياشةٍ، ويُتم خدمتَه وذبيحتَه الروحيةَ، ولا يغفل عن ذِكرِ الربِّ والتزمير دائماً أبداً، لأنه بهذا تُعتقُ النفسُ من الأفكارِ السوءِ، وليكن مبتعداً عن كلِّ حديثٍ، ونظرٍ، وعملٍ، ليس فيه ربحٌ، وكلَّ ما يعمله، ويتكلم به، يكون لتسبيح الله، لا ليرائي الناس. ولا يفرح بفرح الناس، ولا يُسرُّ بكثرةِ القنيةِ».
قال الأنبا أنطونيوس: «إن أفضلَ ما يقتنيه الإنسانُ هو أن يُقِرَّ بخطاياه قدام اللهِ ويلومَ نفسَه، وأن يكونَ متأنياً لكلِّ بليةٍ تأتيه، حتى آخرِ نسمةٍ».
قال شيخٌ: «الإنسانُ الذي يُسلِّم نفسَه لشدةٍ بهواه من أجلِ اللهِ، فلي إيمانٌ أنه اللهَ يحسبه من الشهداءِ، وذلك البكاء الذي يأتيه في تلك الشدةِ يحسبه الله مثلَ سفكِ دمه».
وقال: «يجبُ على الراهبِ في كلِّ بكرةٍ وعشيةٍ، أن يحاسبَ نفسَه ويقول: ماذا عملنا مما يحبُ الله، وماذا عملنا مما لا يحبه الله، وهكذا يجب علينا أن نفتقدَ حياتنا بالتوبةِ، وبهذه السيرة عاش أنبا أرسانيوس، لأن الإنسانَ إذا عمل الكثيرَ ولم يحفظْهُ، فقد أتلفه، أما الذي يعملُ قليلاً ويحفظه، فإنه يبقى معه».
وقال آخر: «من أجلِ هذا لسنا نفلحُ لأننا لا نعرف مقدرتنا، وليس لنا صبرٌ في عملٍ نبدأ به، ولكننا نريدُ أن نقتني الفضائلَ بلا تعبٍ».
قوتل أخٌ بالزنى، فذهب إلى شيخٍ كبيرٍ وقال له: «يا أبي ماذا أصنعُ فإن قتالَ الزنى قد آذاني»؟ قال له الشيخ: «هذا الشيء لم يقاتلني قط». فتعربس ذلك الأخُ، وذهب إلى شيخٍ آخر، وقال له: «ألا تعجب؟ فإني قد شكوتُ إلى فلان الشيخ أذيتي من قتال الزنى، فأخبرني بشيءٍ يفوق الطبيعةِ، إذ قال لي: لم أُقَاتل أنا بهذا الشيء قط». فقال له ذلك الشيخ: «يا حبيبي، إنَّ ذلك القديس لم يتكلم بذلك جُزافاً، ولكن ارجع وتب إليه واسأله بأن يخبركَ بقوةِ الكلمةِ». فرجع الأخُ إلى الشيخ واستغفر منه قائلاً: «اغفر لي يا أبي، فإني خرجتُ من عندِك بجهالةٍ، ولكني أحبُّ أن تبين لي كيف لم تُقَاتل أنت قط بالزنى»؟ فأجابه الشيخ قائلاً: «إني منذ ترهبت، لم أشبع قط من الخبزِ ولا من الماءِ ولا من النومِ، فشغلتني هذه الثلاثة، ولم تدعني أحس بالقتالِ الذي ذكرتَه».
قال أنبا بيمين: «ممقوتٌ عند اللهِ كلُّ نياحٍ جسدي».
وقال شيخٌ آخر: «لا تشبع خبزاً، ولا تشته شراباً».
قال شيخٌ: «سيرة الراهبِ هي: الطاعةُ، الهذيذُ في ناموسِ الله الليل والنهار، لا يدين، لا يغضب، لا يظلم، لا يُبصر بعينيه سراً، لا يبحث عن عيوبِ الناسِ، لا يسمع بأذنيه نقصَ آخرين، لا يخطف بيديه، لا يستكبر في قلبهِ، لا يملأ بطنَه، لا يفتكر أفكارَ سوءٍ، لا تكن له دالةٌ ولا مزاحٌ مع أحدٍ، ويعمل أعمالَه بمعرفةٍ، ويجعل بالَه في خطاياه، ويطلب من اللهِ أن يَهَبَ له نوحاً واتضاعاً حقيقياً، ولا تكون له دالةٌ مع صبي، ولا خلطةٌ مع امرأةٍ، وإن كلَّمه إنسانٌ فلا يلاججه، وهكذا يكون ساكناً، هادئاً، مسكناً للروحِ القدسِ».
قال شيخٌ: «الذي يلزم السكوتَ لا يُجرَح ولا يُطعَن بسهامِ العدو، أما من يحبُّ الخلطةَ فإنه يُجرَح كثيراً».
قال شيخٌ: «إن أردتَ أن تنجحَ في إطفاءِ الغضبِ والرجزِ، فاقتنِ الاتضاع، ولتكن لك طاعةٌ ورجاءٌ في كلِّ أحدٍ، لأن الغضبَ والرجزَ يسوقان الإنسانَ إلى الهلاكِ، ويُبعدانه عن اللهِ، أما الاتضاع فإنه يحرقُ الشياطين، والطاعةُ هي التي جابت ابنَ اللهِ وسكن في البشريةِ، والإيمانُ خلَّص الناسَ، والرجاءُ لا يُخزي، وأما المحبةُ فإنها التي لا تدع الإنسانَ يسقطُ أو يبتعد عن اللهِ، فالذي يريد أن يخلصَ، عليه أن يقطعَ هواه في كلِّ شيءٍ، ويقتني الاتضاعَ، وليكن الموتُ بين عينيه».
قال أنبا أنطونيوس: «من يجلسُ في البريةِ فقد أراح نفسَه من ثلاثِ حروبٍ: السمع، والوقيعة، والنظر إلى ما يُجرح القلبَ».
قال أبرام تليمذ أنبا شيشاي لأبيه: «يا أبي، إنك قد كَمَلتَ وأرضيتَ الله، فامضِ بنا إلى قربِ العالمِ قليلاً». فقال الشيخ: «ابحث لنا يا ابني عن موضعٍ لا يوجد فيه امرأةٌ فنمضي إليه». قال له التلميذ: «وأيُّ موضعٍ يوجد خالياً من امرأةٍ غير البريةِ»؟ قال: «فاحملني يا ابني وادخل بي إلى داخل البريةِ».
مضى أنبا بيمين في بعضِ الأوقاتِ قاصداً مصرَ، فنظر امرأةً جالسةً على قبرٍ تبكي بكاءً مراً، فقال لمن كان معه: «لو جيءَ لهذه المرأةِ بكلِّ مطربات العالم وكلِّ الملاهي، لما انتقلت عما هي عليه من الحزنِ، وهكذا يجبُ على الراهبِ أن يكونَ حزنُه دائماً أبداً».
قال أنبا شيشاي لتلميذه: «إنَّ لي ثلاثين سنةً، لم أطلب من الله غفرانَ خطيئتي، ولكن في طلبتي وصلاتي أقول: يا ربي يسوع المسيح استرني، فإني حتى الآن أزلُّ وأخطئ بلساني».
وقال أيضاً: «إنَّه بالنميمةِ أغوت الحيةُ حواءَ وأخرجتها من الفردوسِ، وآدم معها، فمَن يقع بصاحبهِ، فإنه يُهلك من يسمعه، ونفسُه لا تنجو».
كان رجلٌ علمانيٌ معه ابنٌ فطيم، فذهب إلى الإسقيط وطالت مدته، فلما كبر الصبي ونشأ رَهْبَنَه، وحدث بعد رهبانيتهِ بقليلٍ أن بدأ الشياطين يُحركون فيه الشهوةَ الرديئةَ، فقال لأبيه: «إني ماضٍ من ههنا إلي العالمِ، لأني لستُ قادراً على أن أصبرَ على هذا القتالِ الصعبِ». أما أبوه فكان يهديه، ويطلب إليه ألا يمضي، ولكن الشابَ كان يعود إليه ويقول: «يا أبي، لستُ قادراً على أن أقيمَ ههنا، اتركني امضي». فقال له أبوه: «أطعني يا ابني هذه المرة فقط، خذ معك ثمانين خبزةً، وخذ كذلك من الخوصِ ما يكفي لعملِك مدة أربعينَ يوماً، وامضِ إلى البريةِ الداخلية، وأقم هناك إلى أن تفرغَ من خبزِكَ وعملِكَ، وبعد ذلك لتكن مشيئةُ اللهِ». فأطاعه الحدثُ، ودخل إلى البريةِ الداخليةِ، وأقام بها يتعبُ ويُضفِّر الخوصَ ويأكل خبزاً يابساً، فلما أتم عشرين يوماً ظهر له الشيطانُ الذي كان يقاتله في صورةِ امرأةٍ سوداء منتنةِ الرائحةِ، زِفرة جداً لدرجةِ أنه لم يستطع أن يطيقَ رائحةَ نتنها. فبدأ الشابُ أن يطردَها، فقالت: «لِمَ تطردني الآنَ؟ ألستُ أنا التي كنتَ أنت تشتهيني؟ ألستُ أنا التي أزرعُ في قلوبِ الناسِ الأفكارَ، وأملأهم شهوةً، كما ملأتُك شهوةً، وأُسقطهم في الزنى؟ أما أنت فمن أجلِ أنك أطعتَ أباك، فإن اللهَ لم يتركني أخدعك وأُسقطك في الهلاكِ، ولكنه نظر إلى خضوعِك وتعبك وأظهر لك رائحةَ نتني بغيرِ هواي». فشكرَ الشابُّ الله، وقام من ساعتهِ وعاد إلى أبيه، وقال له: «لستُ أريد أن أمضي إلى العالمِ بعدُ يا أبي، لأني قد رأيتُ العدوَ وتأفَّفتُ من رائحتهِ». وكان أبوه قد أُعلن له ذلك، فقال له: «لو أنك صبرتَ يا بُني لكمالِ الأربعين يوماً، وحفظتَ تمام وصيتي، لكنتَ رأيتَ أكثرَ من ذلك».
من سيرة الأب باخوميوس: كان لَمَّا مَرِضَ حدثٌ حسن الصورة أن مضوْا به إلى مكانِ المرضى، وكان الأخُ الذي يخدم المرضى ناسكاً يُسمى دويدة، وكان يُحسن فرزَ الأفكارِ، فلما نظر ضميرَه يُنشِّطه لخدمةِ الصبي بمحبةٍ وفرحٍ بأن يعدَّ له الطعامَ باهتمامٍ زائدٍ، صار يتنهدُ مميزاً في ذاتِه وحده قائلاً: «لماذا هذا الاهتمام من نحو هذا الأخِ، هل هو مختارٌ أكثر من كلِّ الإخوةِ أو مريضٌ أكثر منهم كلهم؟ لا». فلما فرغ ذلك الأخ من خدمةِ المرضى، مضى إلى قلايتهِ وبقى صائماً لم يأكل طعاماً، ولا شرب ماءً في ذلك المساءِ، وكان أوانُ الصيفِ، فأقام الليلَ كلَّه مصلياً قائلاً: «يا ربي يسوع المسيح، أظهر لي هذا الأمرَ، حتى أعرف ما هو، لأن هذا النشاطَ الذي صار في قلبي ليس بمستقيمٍ أمامي حسب التعاليم التي علمني إياها عبدُك أنبا باخوميوس». فلما قرب الصباحُ، ودويدة مستمرٌ في صلاته، إذا به ينظر روحاً قائمةً أمامه في شكلِ امرأةٍ حسنة المنظرِ واللِباس، وقالت له: «لماذا تداوم الطلبةَ حتى كُلِّفتُ بغير هواي أن أظهرَ لك، والآن اعلم أني أنا روحُ الزنى،كما أني أنا الذي زرعتُ ذلك الفرحَ والنشاطَ في قلبك لكي تخدم ذلك الصبي بمحبةٍ واجتهادٍ، وهذه هي صناعتي وعادتي في أن أزرعَ في قلبِ النسَّاكِ العظامِ أولاً المحبةَ إما في امرأةٍ أو في صبيٍ، فإذا هم قبلوا الفكرَ، إذ لا يرون أن فيه خطيةً، فحينئذ أبدأ في أن أزرعَ فيهم اللذةَ وأجذبهم قليلاً قليلاً، حتى إذا صاروا غيرَ مفلحين، طرحتهم في دنسِ الشهوةِ». ولما قالت كلَّ هذا، اختفت عن بصرِهِ، أما هو فقد تعجَّب، وبارك اللهَ الرحوم، الذي أظهر له فخَ الشيطان وخلَّصه منه.
قال أنبا بيمين: «إن سكن إنسانٌ مع شابٍ، فإنه فاعلُ خطيةٍ، لأنَّ معاشرةَ الشبابِ مُعطِبةٌ فاحذرها».
قال أبو يحنس: «كلُّ من اجتمع أو تكلم مع صبيٍ فهو زانٍ بفكرِه».
قال شيخٌ: «لأيِّ شيءٍ تُحزن الذي يظلمك، وتُبغض الذي يُحزنك، فاعلم أنه ليس هو الذي ظلمك وأحزنك، ولكنه هو الشيطان، فيجب عليك أن تُبغضَ المرضَ ولا تُبغضَ المريضَ».
قيل عن أنبا يحنس القصير إنه إذا أبصرَ إنساناً أخطأ فكان يبكي بكاءً شديداً، ويقول: «إنَّ هذا أخطأ اليوم، ولكنه ربما يتوب، أما أنا فإني أخطئ غداً، وربما لا أُعطى مهلةً كي أتوبَ»، هكذا يجبُ أن نفكِّرَ ولا ندين أحداً.
قال شيخٌ: «يجبُ على الإنسان أن يلومَ نفسَه في كلِّ بليةٍ تأتي عليه ويقول: هذا جميعُه أصابني من أجل خطاياي، ولا يلوم إنساناً»
سأل شيخٌ أنبا شوشاي قائلاً: «أيُّ شيءٍ هي الغربةُ»؟ فأجابه: «هي الصمتُ في كلِّ موضعٍ يوجد فيه الإنسانُ، ويقول: ما شأني في هذا الأمرِ؟ هذه هي الغربةُ».
سأل أخٌ شيخاً قائلاً: «قل لي شيئاً أحفظُه». فقال له: «احفظ المعيرةَ والشتيمةَ، واصبر على المحقرةِ والخسران الجسدي».
قيل عن راهبٍ إنه إذا شُتم فكان يجري نحو شاتمه ويقول له: «اغفر لي».
أخٌ حريصٌ قامت عليه قتالاتٌ صعبةٌ، سببَّت له حزناً شديداً لدرجةِ أنه كان يخاطبُ نفسَه قائلاً: «ما دامت هذه الأفكارُ معي، فلن أخلص». وكان يتواضع جداً. فذهب إلى شيخٍ كبيرٍ وسأله أن يصليَ عليه لكي يرفعَ الربُّ عنه القتالَ، فقال له الشيخ: «بل هذا خيرٌ لك يا بُني». ولكنه لجَّ عليه، فطلب الشيخ إلى اللهِ، فاستجاب طلبتَه ورفع القتالَ عن الأخِ، وإذا بالأخِ قد صار يَسبح لوقتِهِ في لُجَّةِ العُجبِ والعظمةِ، ولكنه ندم وعاد إلى الشيخ وسأله أن يطلب من الله ليردَّ عليه القتال الذي كان يُسبِّب له الاتضاع.
قال شيخٌ: «تعبُ الجسدِ بكثرةِ القراءةِ يُنقي العقلَ، والسكوتُ يجلبُ النوحَ، والنوحُ يجلبُ البكاءَ، والبكاءُ يُنقي الإنسانَ من كلِّ خطيةٍ».
طلب أحدُ الرهبانِ ممن يسكنون البريةَ المحقرةَ لنفسِه، فقام وجاء إلى ديرٍ من أعمال الصعيدِ، وكان سكانُ ذلك الديرِ كلُّهم قديسين؛ فبعدَ ما أقام عندهم أياماً، قال لرئيسِ الديرِ: «صلِّ عليَّ يا أبي، وأخلِ سبيلي، فإني لست أريدُ البقاءَ ههنا». فقال له: «لأيِّ شيءٍ يا ابني؟» فأجابه قائلاً: «إنه لا يوجد ههنا تعبٌ، والآباءُ كلُّهم قديسون، وأما أنا، فإني إنسانٌ خاطئ، أريد أن أمضي إلى موضعٍ، حيث أُهان وأُشتم، لأنه بالازدراءِ والإهانةِ يخلُص الخطاةُ». فتعجب منه وعلم أنه عمَّال، فأخلى سبيلَه قائلاً له: «امضِ وتقوَّ».
قال شيخٌ: «الاتضاع خلَّص كثيرين بلا تعبٍ، وتعبُ الإنسانِ بلا اتضاعٍ يذهبُ باطلاً، لأن كثيرين تعبوا، فاستكبروا وهلكوا».
قال أحدُ الشيوخِ لتلاميذِهِ عند خروجِ نفسِه: «لا تشتهوا متاعَ الدنيا، فتزدادوا متاعاً كثيراً، كونوا مجهولين من الناسِ، فتصيروا محبوبين من اللهِ، لا تدينوا أحداً من الإخوةِ، وأنتم تقوون على كلِّ أوجاعِ الشياطين؛ تحفَّظوا من كلِّ شيءٍ فيه لذة من لذاتِ هذا العالمِ التي تُحَرِّك الجسدَ بالفكرِ، وذلك ليكونَ الجسدُ دائماً هادئاً ومحفوظاً من الحركاتِ الشيطانيةِ».
قال شيخٌ: «لا تكتم أفكارَك الشريرةَ وخطاياك القديمةَ، فإن وَجد الشيطانُ فيك هوىً واحداً مكتوماً، ففيه يطرحك، لأن الشيطانَ ليست له قوةٌ أن يَجُرَّ إنساناً إلى فعلِ الخطيةِ، ولكنه إذا أبصرَ هواه مائلاً إلى شيءٍ من الخطيةِ، ففيه يطرحه، فإن رآه متحفظاً يستشير في أمورِه كلِّها، ويطيع لِمَا يُشار به عليه، فلا يقوى عليه في شيءٍ بالجملةِ». وكان يقول: «لستُ أعرفُ للراهبِ سقطةً إلا إذا صنع هواه، فإذا نظرتَ راهباً قد سقط، فاعلم أنه وقع بهواه، لأنه فعل برأي نفسِه».
قال شيخٌ: «إنَّ أفضلَ شيءٍ هو السكوتُ، والرجلُ الحكيمُ هو الذي يحبُّ السكوتَ والهدوءَ».
بعضُ الإخوةِ كانوا مجتمعين يتكلمون، وكان بينهم أخٌ له موهبة نظر الخفايا، فلما كانوا يتكلمون عن الروحيات، نظر ملائكةً قد اقتربوا منهم، وكانوا فرحين معهم، ولكنهم لما تكلموا كلاماً غيرَ نافعٍ، ابتعدت عنهم الملائكةُ، واقتربت منهم الشياطين.