Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
Email
☦︎
☦︎

قال شيخٌ: «إذا جلستَ في قلايتِك، فلا تكن مثلَ قبرٍ مملوءٍ من النجاسات، ولكن كن مثل إناءٍ مملوءٍ ذهباً كريماً، ولك حافظُك، حافظُ النهارِ والليلِ، التي هي قوةُ الربِّ، التي تحفظ عقلَك».

وقال أيضاً: «الذي يريدُ الاختصاصَ بالملكِ، لا يفعل أمورَ السوقةِ والعوام، ومن يختارُ المقامَ في معركةِ الأبطالِ، لا يفعل أمورَ الصبيانِ والأطفالِ».

وقال أيضاً: إذا مدحك الفكرُ قل له: «لماذا تمدحني؟ إنَّ السائرينَ في البحرِ، حتى ولو هدأ عنهم هيجانه، فما داموا بعد في اللجَّةِ، فإنهم يتوقعون رَجَفَاته وغرقه. كما لا يتنعمون بذلك الهدوء الذي كان له أولاً، لأنهم لا يطمئنون جملةً، حتى يصلوا إلى الميناءِ»، نعم لأن كثيرين كانوا على فمِ الميناءِ، ولكنهم عطبوا.

وقال أيضاً: «إذا نال إنسانٌ طِلبتَه، فلا يُعجب بنفسِه، بل يتضع بالأكثرِ، ويتعجب من رحمةِ اللهِ».

وقال كذلك: «إن الذي يلتقي بالناسِ، أما بوجهِهِ فيجبُ أن يكونَ باشاً، وأما بقلبهِ، فليتنهد».

قال شيخٌ بخصوصِ قبولِ الغرباءِ: «إن كنتَ نبياً وصدِّيقاً، ولا تقبل من يأتيك مثل نبيٍ وصديق، فليس لك أجرٌ، وإن لم تكن نبياً ولا صدِّيقاً، ولكنك قبلتَ من أتاك مثلَ نبيٍ وصديق، فأجرُ نبيٍ وصديقٍ تأخذ».

وقال أيضاً: «إذا تقدمتَ لأخذ القربان لا تفكر أنك أهلٌ لذلك، ولكن اعتبر أنك خاطئٌ، واجعل في نفسِك أن الخاطئَ إذا تقدم إلى المخلصِ بإيمانٍ، وتحفَّظَ كنحوِ قوَّتِه، استحق أن ينالَ مغفرةَ خطاياه. فتقدم بتوبةٍ، واعتقد في نفسِك أنك مريضٌ وغيرُ مستحقٍ، بل مثل مجروحٍ ومحتاجٍ إلى الشفاءِ، وآمن أنك تتقدَّس بأخذ القربان، إذا كنتَ على توبةٍ، لأن كلَّ الذين تقدموا إليه بإيمانٍ شُفوا».

قال القديس غريغوريوس: «إن كنتَ غيرَ مذنبٍ عند الإله، فلا تغفر للمذنبين إليكَ، وإن كنتَ تعلم أنك مذنبٌ، فَسَلِّف الرحمةَ وقدِّمها قدامك، فإن اللهَ يضاعف الرحمةَ للرحومين».

قال القديس فم الذهب: «إن أردتَ أن لا يتأتى لك حزنٌ فلا تُحزن إنساناً ما».

قال مار أفرام: «إنَّ أعظمَ الناسِ قدراً من لا يبالي بالدنيا، في يد من كانت؟».

وقال أيضاً: «ازهد في الدنيا فيحبك الله، وازهد فيما بين أيدي الناسِ، فيحبك الناسُ».

كما قال: «خبزٌ وملحٌ مع سكوتٍ وراحةٍ، أفضل من أطعمةٍ شريفةٍ مع همومٍ وأحزانٍ».

من أقوال مار إسحق بخصوص التوبةِ: «التوبةُ هي أمُّ الحياةِ، تفتح لنا بابَها بواسطة الفرارِ من الكلِّ. نعمةُ المعموديةِ التي ضيعناها بانحلال سيرتنا، تجددها فينا التوبةُ بواسطةِ إفرازِ العقلِ. من الماءِ والروحِ لبسنا المسيح ولم نحس بمجدِهِ، وبالتوبةِ ندخلُ نعيمَهُ، بنعمةِ الإفرازِ التي بنا تظهر. العادم من التوبةِ، خائبٌ من النعيمِ المزمع أن يكونَ. القريبُ من الكلِّ بعيدٌ من التعزيةِ، أما المبتعدُ من الكلِّ بإفرازٍ، فهو تائبٌ بحقٍّ. بدءُ التوبةِ هو الاتضاع الذي بلا (      ) ولا زيٍّ كاذبٍ مسجس. التوبةُ هي لِباس الثياب الحسنةِ الضوئية. طريقُ الحكمةِ هي ترتيب الأعضاء. طموحُ الجسدِ هو تخبط الحكمة.

الحكمةُ الحقيقيةُ هي النظرُ باللهِ، والنظر بالله هو صمتُ الأفكارِ. الإحساس بالله هو عمقُ الاتضاعِ. ثاؤرية تصور الحق، هي ميتوتة القلبِ. القلبُ الذي بالحقيقة مات عن العالمِ فباللهِ يتحركُ جميعُه، الذي يبني نفسَه أخْـيَر له من أن ينفعَ المسكونةَ جميعَها، أخْـيَر له أن يأخذَ هو الحياةَ، من أن يقسمَ الحياةَ لآخرين. من قد ماتت أعضاؤه الخارجية، فقد عاشت أعضاؤه الداخلية. التواضع بإفرازٍ هو بمعرفة الحقِ، ومعرفةُ الحقِ هي ينبوع الاتضاع. المتضعُ بقلبهِ متضعٌ بجسدهِ أيضاً، والمتوقح بجسدِهِ متوقحٌ كذلك بقلبهِ. والمضطرب بجسدِهِ، مضطربٌ أيضاً بقلبهِ، والمضطربُ بقلبهِ جاهلٌ بعقلهِ، ومن هو جاهلٌ بعقلهِ رديئةٌ هي طرقهُ، ومن كانت طرقهُ رديئةً فهو مائتٌ بالحياةِ.

إن كنتَ محباً للتواضعِ فلا تكن محباً للزينةِ، لأن الإنسانَ الذي يحبُ الزينةَ، لا يقدر أن يحتملَ الازدراءَ، ولا يسرع إلى ممارسةِ الأعمالِ الحقيرةِ، ويصعب عليه جداً أن يخضعَ لمن هو دونه، ويخجل من ذلك. أما المتعبدُ للهِ، فإنه لا يزيِّن جسدَه. واعلم أنَّ كلَّ من يحبُ زينةَ الجسدِ فهو ضعيفٌ بفكرتِه، ولا تَرى له حسناتٍ. وكل من يحبُ الربحَ المنظورَ، لا يقدر أن يقتني محبةً حقيقيةً مع أحدٍ، وكل من يُسرع إلى الكرامةِ، فإنه متعبدٌ لهذا العالمِ، إن كنتَ تكره فاعلي هذا، فابعد عن فعلهم.

الاتضاع والعفة يتعاضدان بالمحقرةِ، والذي يحب الزينةَ والكرامةَ لا تسأله عن حقيقتهما. إن كنتَ محباً للعفةِ فلا تكن محباً للطياشةِ، لأن الملاقاة التي تعرض لك بواسطةِ الطياشةِ، لا تتركك أن تمسكَ العفةَ في نفسِك باحتراسٍ، لأن كلَّ من يحبُ الطياشةَ، لا يكون عفيفاً، وكلُّ من يشتبك بالعلمانيين، لا تصدق بأنه متواضعٌ، وكلُّ من هو محبٌ للهِ، فهو يحبُ الحبسَ والجلوسَ في القلايةِ، إنسانٌ طياشٌ لا يمكنه أن يحفظَ الحقَ في نفسِه من غيرِ دنسٍ.

التوبةُ كثيرون يَعِدُون ويتظاهرون بها، وليس من يقتنيها بتحقيقٍ إلا المحزون. وكثيرون يُسرعون نحو الحزنِ، فلا يجده في الحقيقةِ، إلا الذي قد اقتنى الصمتَ على الدوامِ، كلُّ من هو كثيرُ الكلام، ويخبر بأمورٍ عجيبةٍ، اعلم أنه فارغٌ من الداخلِ، الحزن الجواني هو لجامُ الحواسِ.

إن كنتَ محباً للحقِّ، فكن محباً للصمتِ، لأنه كمثلِ الشمسِ، يجعلك الصمتُ تنير باللهِ، ويخلِّصك من تخايل المعرفةِ، والسكوت يجعلك في عشرةٍ مع اللهِ. الذي يحبُ الحديثَ مع المسيحِ، يجبُ أن يكونَ وحده، والذي يريد أن يكونَ مع كثيرين فهو محبٌ لهذا العالمِ. إن كنتَ تحبُّ التوبةَ، فأحبَّ السكوتَ لأنه بدونهِ لن تَكْمُلَ التوبةُ، ومن يقاومك على هذا فلا تلاججه، لأنه لا يعرف ماذا يقول، لأنه لو كان يعرفُ ما هي التوبةُ، لكان يعرفُ أيضاً موضعها، إنها لا تَكْمُل في السجسِ. إنَّ من قد أحسَّ بخطاياه، لأخيرَ له من أن ينفعَ الخليقةَ بمنظره، والذي يتنهد على نفسِه كلَّ يومٍ، أخير له من أن يقيمَ الموتى بصلاتهِ، والذي أُهِّل لأن ينظرَ خطاياه، أخير ممن ينظر الملائكةَ، والذي بالنوحِ يطلبُ كلَّ يومٍ المسيحَ بالوحدةِ، أخير من الذي يمدحونه في المجامعِ».

وقال أيضاً: «إذا ما أفرزتَ نفسَك للتوبةِ، فكلُّ يومٍ لا تصادفُك فيه محقرةٌ لا يكون له حسابٌ عندك، وكلُّ يومٍ لا تجلس فيه ساعةً بينك وبين نفسِك، متفكراً بأيِّ الأشياءِ أخطأتَ، وبأيِّ أمرٍ سقطتَ، لتقوِّم ذاتَك فيه، فلا تحسبه من عِدادِ أيامِ حياتك. الويلُ لمن لا يبكي، ولا يتضايق، ولا ينقي عيوبَ نفسِه، مادام هناك وقتٌ للتوبةِ، لأنه هناك بغيرِ إرادته، بأمواجِ النارِ ينقيها، حتى يوفي آخرَ فلسٍ عليه، الذي هو الزلة الصغيرة.

الذي يتهاون بالصلاةِ ويظن أن هناك ثمة بابٍ آخر للتوبةِ، فهو محلٌ للشياطين، والذي لا يداومُ قراءةَ الكتبِ، ففي التيه سائرٌ، لأنه إذا أخطأ لا يحس. ومن هو متنسِّكٌ من المآكلِ وفي قلبهِ حقدٌ وأفكارٌ رديئةٌ على أخيه، فإنه آلةٌ وأرغن للشيطانِ. احذر من هذه الخِلةِ أن تكونَ جالساً وأنت تدينُ أخاكَ، لأن هذا يقلعُ جميعَ بُنيانِ برجِ الفضيلةِ العظيمِ.

مَن اقتنى الفضائلَ العظيمةَ، مثلَ الصومِ والسهرِ وخلافه، ولكنه لم يقتنِ حراسةَ القلبِ واللسانِ، فإنه في الباطلِ يتعبُ ويعملُ. إذا وضعتَ كلَّ أعمالِ التوبةِ في ناحيةٍ، والحفظ في ناحيةٍ أخرى، فإن الحفظَ يرجح، فإن المسيحَ وضع فأسَ الوصايا على أصلِ الأفكارِ القلبيةِ، وموسى على الأعمالِ المحسوسةِ. الويلُ لمن له وقتٌ واستطاعةٌ، ويساعده جسده، ويتهاون بأعمالِ التوبةِ، لأنه يبكي وينتحب عندما ينتبه، ويطلب زمانَ الراحةِ فلا يجد. سمادُ وماءُ التوبةِ هما الضيقات والمحقرات والتجارب، وموتها حبُّ الأرباحِ والكرامةُ والراحةُ، لأنه من الضيقاتِ الخارجية تتولد الراحةُ الداخلية، ومن الحزنِ والكآبةِ اللذين من أجلِ اللهِ، يتولد الفرحُ وعزاءُ النفسِ، وبإيجازٍ فإن السلامةَ التي لم تتولد من هذه الأعمالِ، فهي ضلالةٌ.

أساس تدبير الوحدةِ، هو الصبرُ والاحتمالُ بالتغصبِ، وبها يبلغ الإنسانُ إلى كمالٍ تامٍ، وهي تُصلح قدامه سُلَّماً، يصعد به إلى السماء. رباطات النفس هي العوائد، التي بها يعتاد الإنسانُ، إن كانت بالجيد أو بالرديء».

سُئل شيخٌ: «بماذا تشبِّه رهبنةَ القدماءِ، ورهبنةَ زمانِنا هذا»؟ فأجاب قائلاً: «كان إنسانٌ غنياً وحكيماً، وكان يطلبُ المِسكَ الخالصَ، فلما لم يجد المسكَ الحقيقي الذي يريده، قطع المسافات براً وبحراً حتى وصل إلى الصينِ، حيث قدَّم هدايا للملكِ الذي هناك، وسأله أن يعطيه مِسكاً، وطلب إليه أن يقطعَه هو بيدِهِ، فلما أخذ المسكَ ورجع، أعطاه لأولادِهِ، وأولادُه بدورِهم أعطوه بعضُهم لبعضٍ، وقليلاً قليلاً غشُّوه وخلطوه بما يُشبه المسكَ الحقيقي في اللونِ، ويختلف عنه في الرائحةِ، ومع تمادي الزمن بقي الزَّغلُ (أي المغشوش) موضعَ المسكِ الحقيقي، وعدمت رائحتُه، وبقي الشكلُ والاسمُ فقط.

كذلك الآباء القدماء، فإنهم جسروا على الحياةِ والموتِ، وذاقوا كلَّ التجاربِ، واحتملوا الضيقات، وقدموا ذواتَهم ذبيحةً حية ًروحانية، ووُهبت لهم المعرفةُ الروحانية، وصاروا مسكناً لله، وأحسُّوا بالأسرارِ. واتصل السرُّ شيئاً فشيئاً، حتى انتهى إلينا نحن الذين بالاسمِ والشكلِ فقط. إن أمورَ سيدنا مراراتٌ تعقبها حلاوات، مظلماتٌ تعقبها نيرات، محزناتٌ تعقبها مبهجات، أما أمورُ العالمِ فهي حلاواتٌ تعقبها مرارات، نيراتٌ تعقبها مظلمات، مبهجاتٌ تعقبها محزنات. يعرفُ الحقَّ، ذاك الذي ذاق تجربةَ هؤلاءِ، لا من سماعِ الآذان فقط».

قال القديس برصنوفيوس: غرباءُ نحن، فلنكن غرباءَ بالكمالِ، ولا نحسب أنفسَنا شيئاً، ولا نشاء أن يحسبنا أحدٌ فنتنيح. جاهد أن تموتَ في القبرِ من كلِّ إنسانٍ، وقل لفكرِك: «لقد متُّ ووضعتُ في القبر»، وأنت تخلص. وليس غلق الباب هو الموت، بل غلق الفم والطاعة هي أيضاً مُطفِئةٌ لجميعِ سهام العدو المحماة. أما الذرور العظيمة (أي الأربطة) والأعصاب التي تشدِّد كلَّ الأعضاءِ، وتشفي كلَّ مرضٍ واسترخاء، فهي المحبةُ التي أعطانا الآبُ وأحيانا بها.

وقال أيضاً: «هذا هو الوقت الذي فيه نفتشُ عن أوجاعنِا وننوحُ ونبكي ونلومُ أنفسَنا في كلِّ شيءٍ، ونُلقي ضعفَنا قدام الله، وهو يعيننا ويقوينا».

وقال كذلك: «إن كنتَ تحب أن تخلصَ من الأوجاعِ النجسةِ، اقطع منك الخُلطةَ والدالةَ مع كلِّ إنسانٍ، ولا سيما من ترى قلبَك مائلٌ إليه بشيءٍ من الأوجاعِ، وهكذا يُعتق من السبحِ الباطل، لأن السُبحَ الباطل ملتصقٌ بالرياءِ، والرياءُ يلدُ كلَّ الأوجاعِ، لأن المجاهدين، إن لم يحرصوا فلن يُكلَّلوا، والفرسان إن لم يجاهدوا في معركةِ الحربِ، فلا يُمدحون من الملكِ».

وقال أيضاً: «لا تأخذ ولا تعطي مع إنسانٍ يُقاتلك به العدو، بل انظر لنفسِك، واعلم أن مصيرَك أن تموتَ وتلقى الديانَ».

كان شيخٌلا يأوي تحتَ سقفٍ، بل كان يقيمُ في حرِّ الشمس وبردِ الليل، فقال له أحدُ الإخوةِ: «لماذا يا أبي، لا تأوي تحت سقفِ بيتٍ، فتستريح قليلاً من هذا التعبِ»؟ فأجابه الشيخ: «إن لصوصاً أخذوا مالي وسلبوني سُترتي، ولهذا لا آوي تحتَ ظلالِ بيتٍ، بل تائهاً، أبيتُ تحت الحرِّ والبردِ، وأصرخُ إلى إلهي ليلاً ونهاراً، ولا أهدأ حتى يتحنن عليَّ وينتقم لي من أعدائي، ويردَّ لي ما قد سلبوه مني».

قال أنبا سرابيون: «كما أن أجنادَ الملكِ وقوفٌ بين يديه، ولا يقدرُ واحدٌ منهم أن يلتفتَ يميناً أو شمالاً، كذلك الإنسانُ، إذا كان واقفاً قدامَ اللهِ في الصلاةِ، يجبُ عليه أن يكونَ عقلُه مجموعاً بخوفٍ، وإذا كان كذلك، فلا يستطيع العدو أن يضرَّه أو يُرهبه».

قال شيخٌ: «لتكن همَّتُكَ في ملكوتِ السماواتِ، وأنت سريعاً تخلص، وترثها».

وقال أيضاً: «إن لم يحفظ الإنسانُ التعليمَ الروحي، ولم يُنَقِ قلبَه من الأفكارِ القذرةِ، فكلُّ تعليمٍ ينساه ويذهب عنه. وعند ذلك يجدُ العدو فيه مطمعاً فيسقطه، لأن النفسَ تشبه مصباحاً مضيئاً، إن توانيتَ عنه ولم تتعهده بالزيت انطفأ».

قال شيخٌ: كما أنَّ الإنسانَ لا يستطيعُ أن يؤذي رفيقَه وهو واقفٌ معه قدام السلطانِ، كذلك العدو لا يقدر أن يؤلمنا بشيءٍ من الشرِّ، ما دامت نفوسُنا قريبةً من اللهِ، كما هو مكتوبٌ: «اقتربوا من اللهِ، يقترب الله منكم»، ولكننا إذا كنا في كلِّ حينٍ نتنزه، ونشتغل بما لا ينبغي، فإن العدوَ يتمكن منا، ويُلقي بنا في أوجاعِ الخطيةِ.

قال دوروثاؤس: «من يضجر من شدائدِ هذا الدهرِ، فهو جاهلٌ بشدائدِ الدهرِ العتيد، وافتراقِ النفسِ من الجسمِ، والصعوبات التي تنالها. وكيف ننسى تصرف هذا الدهرِ (العتيد)، ونستمر في تذكر الأعمالَ التي نُدان عليها، بلا نسيانٍ».

من أقوال مار إسحق: الراهب الذي في زمانِ الطاعةِ والخضوعِ، يختارُ لنفسِه الراحةَ والحريةَ، فإنه في زمانِ الراحةِ الحقيقية، بالعدلِ يبكي ويجوع ويشقى بالندامة. الراهب الذي في وقتِ الحصادِ والفرحِ، يملك عليه الندمُ والكآبةُ، فهو شاهدٌ على ذاتهِ أنه في أوانِ الزرعِ والخضوعِ والعملِ، لم يُغصب نفسَه على أن يصبرَ ويحتملَ حدة البردِ والجليد، ليشقَّ بالمحراثِ خطوطاً عميقةً في بابِ قلبهِ، ويطمر فيها زرعَ خبزِ الحياةِ، لذلك فهو الآن يشقى بالجوعِ في وقت الحصادِ. أعمالُ التوبةِ والصلوات والدموع باتضاعٍ وكسر القلبِ، لا تغلب الآلام من النفسِ فقط، بل ومن الموتِ يقيمونها. حفظُ الحواسِ يقلعُ الخطايا، وحفظُ القلبِ يقطعُ الآلامَ التي تلدُ الخطايا. الراهبُ الذي يحاربُ قبالة الآلام، يحفظُ الوصايا لكي تُقطع الآلام من القلبِ، ولا تهدأ النعمةُ، إذ تساعده خفيةً. بالقراءةِ المفروزةِ اجمع قلبَك من الكلِّ، وقم للصلاةِ، وفي وقتِ الصلاةِ أَلفِت نظرَك إلى البشارةِ، وانظر الصليبَ والمساميرَ والحربةَ، واحزن وتنهد، وابكِ وأنصت إلى الجموعِ الصارخة: «اصلبه»، واعجب من مخلصِ الكلِّ كيف يصرخُ بنوعِ الصلاةِ: «يا أبتِ، لا تحسب عليهم هذه الخطيةَ»، وتشبَّه به بأكثرِ قوتِك، وابدأ بالصلاةِ والدموع.

وقال أيضاً: الاتكالُ على البشرِ، يمنع كليةً الاتكالَ على المسيحِ، والعزاءُ الظاهرُ يمنع العزاءَ الخفي، وهكذا بقدر ما يكون الراهبُ منفرداً، وفي وحشةٍ، بقدر ما يُخدم من العناية الإلهية. كن حقيراً ومزدرى في عيني نفسِك، فيكون رجاؤك عظيماً باللهِ. محاسن الصلاةِ هي: الاغتصاب والصبر والاحتمال وطول الروح والتجلد، والصلاة هي صراخ العقل الذي يصرخ من حرقةِ القلبِ. يا ابني إن أسلمتَ ذاتَك لجميعِ التجاربِ، فاصلب ضميرَك وأفكارَك مقابل الآلامِ بواسطةِ عملِ الوصايا بتغصبٍ وقسرٍ. بدء تدبير سيرة الصلبِ هو الصبر بتغصبٍ والانقطاع من كلِّ محادثات الوجوه، على أن يكون بغيرِ اهتمامٍ، وعدم ذِكرِ كلِّ جيد ورديء، وبغضة الكرامة، والصبر بشجاعةٍ على الظلمِ والعار والهزءِ، متمثلاً بذلك الذي هزءوا به بالصلبِ، وهو الذي يعطي الحياةَ للعالمِ. إن كنتَ مشتاقاً لسلامةِ القلبِ، ونياح الضميرِ الذي هو أثمار شجرةِ الحياةِ، فاخلع من قلبك شجرةَ تمييز الجيد والرديء، تلك الشجرة التي أُمر مبدأُ جنسنا (آدم) ألا يتذوق منها لئلا يموت، لأنها تولِّد سجساً في النفسِ وتقلع السلامةَ من القلبِ.

وقال كذلك: الإنسانُ الذي قد عرفَ ضعفهَ وعجزهَ، فقد حصل إلى حدِ الاتضاع. مرشد أنعام الله إلى الإنسانِ، هو الشكر المتحرك في القلبِ على الدوام، ومرشد التجارب إلى النفسِ هو التذمر. إنَّ اللهَ عز وجل يحتمل كلَّ ضعفٍ من الإنسانِ، ولا يحتمل إنساناً يتذمَّر دائماً، إن أدَّبه. فمٌ يشكر دائماً، إنما يقبلُ البركةَ من اللهِ تعالى؛ وقلبٌ يلازمُ الحمدَ والشكرَ، تحلُ فيه النعمةُ.

الاتضاع يتقدمُ النعمةَ، والعظمةُ تتقدم الأدبَ. إن المتعظمَ بالمعرفةِ بضميرهِ، يسقط بالتجديفِ، والمبتهجَ بفضيلةِ العمل، يسقطُ في الزنى، والمترفعَ بالحكمةِ يسقط في فخاخِ الجهلِ المظلمة. إن الإنسانَ البعيدَ عن ذِكرِ اللهِ، لا همَّ له إلا في قولِ السوءِ على قريبهِ. الذي يُكرمُ كلَّ إنسانٍ، من أجلِ اللهِ تعالى، يجدُ معونةً من كلِّ إنسانٍ بإشارةِ الله الخفيةِ. المعتذرُ عن المظلومِ، يجدُ الله تعالى مناضلاً عنه. من عاضدَ قريبهَ يعاضده الله سبحانه بذراعِه، ومن سبَّ أخاه برذيلةٍ، كان له الله ساباً ومبكِّتاً. التاجر إذا أكملَ وأتم ما يخصه، فإنه يجتهد في أن يمضي إلى منزلِه، والراهب بمقدارِ ما يعوزه من زمانِ العملِ، على ذلك الحدِّ يحزن أن يفارقَ نفسَه. وإذا أحسَّ في نفسِه، أنه حصل على الوقتِ وأخذ العربونَ، فإنه يشتاق إلى العالمِ الجديدِ. إن التاجرَ ما دام في البحرِ، فالخوفُ منبثٌ في أعضائه، لئلا تتعالى عليه الأمواجُ فيغرقَ ويخيبَ أملُه من عملهِ، والراهبُ ما دام في بحرِ هذا العالمِ، فالخوفُ يستولي على سيرته لئلا تثب عليه أذيةٌ وراموز (أي اضطراب)، فتُهلك عملَه منذ الشبابِ حتى الشيخوخةِ. التاجرُ عينُه نحو البحرِ، والراهبُ يرمُقُ ساعةَ الموتِ. إنَّ السابحَ يغوصُ غائراً في البحرِ، إلى أن يجدَ اللؤلؤَ، والراهبَ الحكيمَ يسيرُ في الدنيا عارياً، إلى أن يصادفَ فيها الدرةَ الحقانيةَ، التي هي يسوع المسيح، وإذا ما وافاه، فلن يقتني معها شيئاً من الموجوداتِ.

إن الجوهرَ يُصانُ في الخِزانةِ، ونعيمَ الراهبِ يُصانُ في السكونِ والهدوءِ. إن العذراءَ لتتأذى بالمجامعِ والمحافلِ، كذلك فكرُ الراهبِ، تضره المحادثةُ مع الكثيرين، والنظرُ إليهم. إن الطائرَ يُسارعُ إلى وكرِه، بعيداً عن كلِّ مكانٍ، وذلك ليفرخَ، كذلك الراهبُ ذو الإفرازِ، يبادرُ إلى قلايته، ليصنعَ فيها ثمرةَ الحياةِ. إن السحابَ يحجبُ نورَ الشمسِ، والأقوالُ الكثيرةُ تبلبل النفسَ. إن الشجرةَ إن لم ترمِ أولاً الورقَ العتيق، فلن تأتي بأغصانٍ جديدةٍ، كذلك الراهبُ، إن لم يرمِ من قلبهِ ذكرَ الأمورِ والأعمالِ السالفةِ، ويبعد عن ملاقاةِ الكلِّ، فلن يقدِّم ليسوعَ المسيحِ أثماراً جديدةً. إن الهواءَ يُسمِّن الأثمارَ، والاهتمامَ بأمورِ الله عز وجل، يُسمِّن أثمارَ النفسِ. إن أثمارَ الشجرةِ فجهٌ ومرةٌ، ولن تصلحَ للأكلِ حتى تقع فيها الحلاوةُ من الشمسِ، كذلك أعمال التوبةِ الأولى فجةٌ ومرةٌ جداً، ولا تفيدُ الراهبَ حتى تقع فيها حلاوةُ الثاؤريا، فتنقلَ القلبَ من الأرضياتِ. حلاوةُ الكلامِ من غيرِ أعمالٍ لا تنفعُ، لأنه إذا ما انتقل عنها الإنسانُ، يخزى بالأكثرِ. كما أنه لا يمكنُ أن يشربَ الشابُ الخمرَ، ولا تفوح رائحتُه من فمهِ، هكذا لا يستطيع الإنسانُ أن يؤهَّل للنياحِ الروحاني بتدبيرِ سيرتهِ، ولا تظهر مغايرات أمورهِ لحكماء القلب. إن الذي قَبِلَ الزرعَ السمائي مغايرٌ بكلامِه، ومغايرٌ بضميرِه، ومغايرٌ بسيرتِه، ومغايرٌ بحواسهِ، ومغايرٌ في كلِّ شيءٍ لبقيةِ الناسِ. وهو كإنسانٍ كان نائماً وانتبه من نومِه، إن الراحةَ والبطالةَ هلاكٌ للنفسِ، وهما يؤذيان أكثرَ من الشياطين.

وقال أيضاً: إنسانٌ مماحكٌ لا يظفرُ بسلامةِ الفكرِ، والعادمُ من السلامةِ، هو العادمُ من الفرحِ. الإنسانُ الذي يطلِقَ لسانَه على الناسِ بكلِّ جيدٍ ورديءٍ، لن يُؤهل للنعمةِ من اللهِ. توبةٌ مع أحاديث تشبه خابيةً مثقوبةً. عفةٌ ومحادثةٌ مع امرأةٍ، كلبؤةٍ وخروفٍ في بيتٍ واحدٍ. أعمالٌ مع قساوةٍ قدام الله تعالى، كإنسانٍ يضحي ولداً (أي يذبح ولداً) قدام أبيه. المريضُ الذي يقوِّم رفاقَه، يشبه إنساناً أعمى يُري آخرينَ الطريقَ، إن الحقودَ يستثمرُ من صلاتهِ ما يستثمره الزارعُ في البحرِ من الحصادِ، وكما أن شعاعَ النار لا يمكن إمساكه عن الطلوعِ إلى فوق، هكذا صلاة الرحومين لا يمكن إلا أن ترقى إلى السماءِ. وكما أن جريانَ الماء يتجه إلى أسفل، هكذا قوةُ الغضبِ إذا ما ألِفَت موضعاً في فكرِنا. من واضَعَ قلبَه، فإنه قد مات عن العالمِ، ومن مات عن العالمِ، فقد مات عن الآلامِ، ومن مات بقلبهِ عن أصحابهِ، فقد مات المحتالُ عنه. ومن وجدَ الحسد، فقد وجد معه الشياطين الذين أوجدوه منذ القديم. إنَّ جمعَ المتواضعين لمحبوب عند الله تعالى كجماعةِ السارافيم. إن الجسمَ العفيفَ لكريم عند الله تقدس اسمه أكثر من الضحية الطاهرة، وذلك أن هذين، أعنى الاتضاع والعفة، ضامنان للنفسِ بحلولِ الثالوثِ المقدس فيها.

تخوَّف من العاداتِ أكثرَ من الأعداءِ. إن من يربي عنده عادةً، هو كإنسانٍ يربي (أي يُشعل) ناراً بكثرةِ الوقود، وذلك لأنَّ قوةَ الاثنينِ تتقوَّم بالمادةِ، أما العادةُ فإنها إذا ما طالبت دفعة، ولم تُجبها إلى طلبها، فإنك تجدها في وقتٍ آخر ضعيفةً، أما إن صنعتَ مرسومها دفعةً، فإنها تتقوى عليكَ في الثانيةِ أكثر مما سلف. لا تكن صديقاً لمحبِّ الضحكِ والمؤثرِ أن يهتكَ الناسَ، لأنه يقودك إلى اعتيادِ الاسترخاء. لا تُظهر بشاشةً في وجهِ المنحلِّ في سيرتِهِ، وتحفَّظ من أن تبغضَه. عبِّس وجهكَ لدي من يبدأ في أن يقعَ بأخيه قدامك، فإنك إن فعلتَ هكذا، تكون متحفظاً لدي الله تعالى ولديه. صديقٌ ليس بحكيمٍ يشبه سراجاً في شمسٍ. صلاة الحقودِ كبذارٍ على صخرةٍ. ناسكٌ غيرُ رحيمٍ كشجرةٍ لا ثمرَ فيها. ورعٌ صادرٌ عن حسدٍ كسهمٍ مسمومٍ. مشيرٌ أحمقُ كضريرٍ مرشدٍ. تَفتُّت القلبِ في مجالسةِ غير الحكماءِ. فخٌ مخفي هو مدحُ الغاش. ينبوعٌ عذبٌ، محادثةُ الفضلاءِ. والمشيرُ الحكيمُ كسورِ رجاءٍ. صديقٌ جاهلٌ، ذخيرةُ خسرانٍ. مشاهدة النادبات في منزلِ البكاءِِ، أفضلُ من رؤية حكيمٍ تابعٍ لأحمقٍ. جالس الضباع ولا تجالس الشره الذي لا يكتفي. التحدث مع الخنازير ذات الحمأةِ، أفضل من فم الأكولين. جالس المجذومين ولا تجالس المتعظمين. كن مطروداً لا طارداً. وكن مظلوماً لا ظالماً. أبسط سربالك على المذنبِ، واستره إن كنتَ لا تقدر أن تحتملَ وتضعَ على نفسِك أوزارَه، وتقبل الأدبَ وتتجشَّم الأتعابَ من جرائهِ. لا تماحك ولا تخاصم من أجلِ البطنِ، ولا تبغض من أجلِ أن تُكرَّم، ولا تحب الرئاسةَ. التمس فهماً لا ذهباً. البس الاتضاع ولا تلبس الأرجوان. اقتنِ سلامةً لا مُلكاً.

كما قال: «إن أردتَ أن تعرفَ رجلَ اللهِ، فاستدل عليه من سكوتِه ومن بكائِه ومن انقباضِ نفسِه على ذاتهِ، وإن أردتَ أن تعرفَ الرجلَ السائبَ القلبِ، فاستدل عليه من كثرةِ كلامهِ ومن تخبط حواسهِ ومن مقاومته لكلِّ شيءٍ، يقول ويريد أن يغلبَ».

سأل أخٌ شيخاً: «لماذا أضجر في قلايتي؟»، فقال له: «ذلك لأنك لم تحس بعد بنعيمِ القديسين وعذابِ الخطاة، ولو عرفتَ ذلك لصرتَ بلا ضجرٍ حتى ولو كنتَ منغمساً في الدودِ والنتِن في قلايتك لحد حلقك، لأن قوماً بسببِ ضجرِهم يتمنون الموتَ، ولا يعلمون شدةَ الصعوبةِ عند ملاقاة الله مع خروجِ القضيةِ اللازمةِ عليهم، وشدة العقوبةِ الحالةِ بالخطاةِ».

قال راهبٌ لشيخٍ: «لي ثلاثونَ سنةً لم آكل لحماً». فأجابه الشيخ: «وهل لك ثلاثون سنةً لم تخرج من فمِك لعنةٌ، تلك التي نهانا اللهُ عنها؟». فلما سمع الأخُ ذلك قال: «بالحقيقةِ هذه هي العبادة المرضية لله».

قال القديس مكسيموس: «من غلبَ الحنجرةَ فقد غلبَ كلَّ الأوجاعِ، ومن أحكمَ الاتضاعَ، فقد أحكم كلَّ الفضائلِ».

قال أنبا إشعياء: «ينبغي للراهبِ أن يقتني له مخافةَ اللهِ، وما دامت ليست فيه مخافةُ اللهِ، فهو بعيدٌ من رحمةِ اللهِ، فإذا كان يميلُ إلى الخطيةِ ويستأنس بها، فليعلم أن مخافةَ اللهِ ليست فيه».

قال أنبا بيمين: «الإنسانُ يحتاج إلى خوف الله كمثل احتياجه إلى نسمته ليتنفسَ بها».

قال إقليمس: «من لا يجد في نفسِه خوفَ اللهِ، فليعلم أن نفسَه ميتةٌ».

قال مكسيموس: «الخوفُ الإلهي هو غايةِ اهتمام الإنسانِ بأن لا يقعَ في عقوبةِ الآخرةِ بسببِ خطاياه».

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
☦︎

معلومات حول الصفحة

عناوين المقال

محتويات القسم

وسوم الصفحة

انتقل إلى أعلى