Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
☦︎
☦︎

قيل إن أحدَ الآباءِ كان يجلسُ في البراري البعيدة ويسكت، وفي يومٍ من الأيامِ سأله تلميذُه قائلاً: «لماذا يا أبي تفرُّ هارباً في البراري البعيدة، مع أني أسمعُ أن الناسَ تقولُ إن الذي يسكن بقربِ العالمِ ويقاتل أفكارَه من أجلِ اللهِ، يصير أكثرَ أجراً»؟ أجابه الشيخ: «إن الذي ينتفع من قربهِ للعالمِ فهو ذاك الإنسان الذي يصل إلى أن ينظرَ مناظرَ موسى النبي ويصير ابناً لله، أما أنا فإني ابن آدم، وأنا مثل آدم أبي الذي بمجرد أن أبصرَ ثمرةَ الخطيةِ اشتهاها فأخذ وأكل منها ومات. من أجل ذلك كان آباؤنا يهربون إلى البراري، وهناك كانوا يقتلون شهوةَ البطنِ لعدم الأطعمة، إذ كانوا لا يجدون هناك الأشياءَ التي تلد الأوجاعَ كلَّها».

وقال أيضاً: «إن كلَّ إنسانٍ يُسلِّم نفسَه لشدةٍ بهواه من أجلِ الله فلي إيمانٌ أن الله يحسبه مع الشهداءِ، وذلك البكاء الذي يأتيه في تلك الشدةِ يحسبه الله عوضَ الدمِ».

قال شيخٌ: «من لا يقتني تعبَ الرهبنةِ فلن يقتني فضائلها، ومن لا يقتني فضائلها فلن يقتني مواهبها».

قال القديس أنطونيوس: «إن أفضلَ ما يقتنيه الإنسانُ هو أن يُقرَّ بخطاياه قدام الله ويلوم نفسَه، وأن يكون متأنياً لكلِّ بليةٍ تأتيه حتى آخر نسمةٍ من حياتِه».

قال شيخٌ: «يجبُ على الراهبِ في كلِّ بُكرةِ وعشية أن يحاسبَ نفسَه ويقول: ماذا عملنا مما يحبُّه الله؟ وماذا عملنا مما لا يحبُّه الله؟ لأنه يجب علينا أن نفتقدَ حياتَنا بالتوبةِ هكذا، وبهذه السيرة عاش أرسانيوس، لأن من عمل كثيراً ولم يحفظه، أتلفه، ومن يعمل قليلاً ويحفظه، يبقى معه.

وقال أيضاً: «من أجلِ هذا لسنا نفلحُ، لأننا لا نعرفُ أقدارنا، وليس لنا صبرٌ في عملٍ نبدأ به، ولكننا نريد أن نقتني الفضائلَ بلا تعبٍ».

وقال شيخٌ: «إذا حلَّت بليةٌ بإنسانٍ فإن الأحزانَ تحيطُ به من كلِّ ناحيةٍ لكي ما تُضجره وتزعجه، وبيان ذلك في أنه كان أخٌ في القلالي، هذا جاءت عليه بليةٌ لدرجةِ أنه إذا أبصرَه أحدٌ ما، فكان لا يسلِّم عليه ولا يُدخله قلايته، وإن احتاج إلى خبزٍ، ما كان أحدٌ يُقرضه، وإذا جاء من الحصادِ، ما كان أحدٌ يدعوه للكنيسةِ لأجل المحبةِ كالمعتاد. وحدث أن جاء مرةً من ذلك الحصاد فلم يجد في قلايته خبزاً، ومع ذلك كلِّه، كان يشكر الله على ما يأتي عليه من الأحزانِ. فلما أبصر الله صبرَه رفع عنه قتال البليةِ، وإذا إنسانٌ قد جاء فضرب بابَ قلايتهِ ومعه جملٌ موثقٌ خبزاً جاءه من مصرَ، فبدأ الأخ يبكي ويحزن ويقول: يا ربُّ، ما أنا بأهلٍ أن تتركني أحزنُ قليلاً، لكني يا ربُّ أنا مستوجبٌ لذلك، ولستُ أهلاً لشيءٍ من النياحِ، فلما جازت عنه تلك البليةِ، صار الإخوةُ يأخذونه وينيحونه في قلاليهم وفي الكنيسة».

قال شيخٌ: «إن الراهبَ يُدعى راهباً من جهتين: الأولى: أن يبتعدَ من مناظرِ النساءِ، ويرفض العالمَ وكلَّ ما فيه ولا يهتم بشيءٍ البتة. والثانية، أن ينقي عقلَه من الآلام ويتحد بالربِّ وحده، وحينئذ يثمر ثمرَ الروحِ الذي هو الحب والفرح والسلامة والخيرية، وطول الروح والإيمان والود والوداعة والإمساك، ومن كان هكذا فلن يوجد له ناموسٌ يقاومه. وبقدر ما تكون همةُ الإنسانِ ملازمةً لله بلا طياشةٍ، بقدر ما تكون نعمةُ اللهِ متضاعفةً عليه، وبقدر ما نتقرَّب إليه بقدر ما يهتم هو بنا، وبقدر ما نبتعد عنه بهمتنا بقدر ذلك يبتعد هو منا، لأنه جعل الاختيارَ لنا في ذلك، إذ خلق نفسَ الإنسانِ على صورتهِ، فهي بطبعها تحبُّه وتشتاقُ إليه، وهي روحانية، فهي تشتاقُ إلى الأمورِ الروحانية المناسبة لها، وأما الجسدُ فَخَلقَه من الأرض، فهو يحبُّ الأرضيات وإليها يميل بطبعِه، والشيطان بتحريك الشهوات الجَسَدَانية يجذبُ النفسَ إلى الأمورِ الأرضية. فينبغي للراهب أن يكون له إفراز، ويطلب من الله الهدايةَ والمعونةَ حتى لا ينخدع، ويعتمد عليه بإيمانٍ تام، لأنه بغير معونةٍ من الله لا يقدر أن يناصب الشيطانَ ولا يبعد منه الأفكارَ الرديئة. لكنه إذا سلَّم نفسَه لله ولازم الصلاةَ، فإن الله حينئذ يملك على نفسِه ويجعل فيه هواه، ويُكمِّل فيه وصاياه. فالذي يعلم أنه لا يقدر أن يعملَ شيئاً بغير الله، فلا يفتخر كأنه قد عمل شيئاً، لكنه يشكر الله الذي عمل فيه، والشيطان إذا رأى إنساناً مجاهداً، فإنه يُحرِّك عليه الأوجاع الخبيثة، وقد يُفسح الله له المجال في ذلك، حتى لا يتعظم بأنه جاهد، حتى يلتصق به بالصلاةِ الدائمة، فإذا هو عرف ضعفَه، فإن الله يُبطلها عنه، أعني الأوجاعَ الخبيثة، وتصير نفسُه في هدوءٍ وسلامٍ».

من أقوال سمعان العمودي: «كما أن الجسدَ إذا عَدِمَ أصغرَ أعضائه كان ذلك نُقصاناً له، هكذا النفسَ إذا عجزت عن ممارسةِ أصغرِ أجزاء الفضيلةِ، كان ذلك نقصاناً لها. وكما أن الإنسانَ إذا مشى كثيراً نحو المدينةِ ونقص سَيْرُهُ ميلاً واحداً، فقد أضاع كلَّ تعبهِ ولم يدخلها، كذلك الراهب إذا لم يجاهد إلى النفسِ الأخيرِ لا يدرك مدينةَ الأطهار. وكما أن الإنسانَ إذا عَدِمَ آلةً واحدةً لا يقدر أن يُكمِّل الصناعةَ اللازمة لها تلك الآلة، هكذا الراهب إذا عَدِمَ وصيةً واحدةً، لا يقدر أن يُكمِّل سيرته. فليس يكفيه أن يمنع جسدَه من الزنى فقط، بل وأن يضبطَ فكرَه ونظرَه وشهوةَ لسانهِ من الكذبِ والنميمة والشتم والتعيير والمداينة والمزاح والمماحكة، وبالإجمالِ من كلِّ كلامٍ بطَّال، كما ينبغي له أيضاً أن يُعلِّم أعضاءَه الخضوعَ لإرادةِ الله، وليست أعضاء بشريتهِ فقط، بل وأعضاء إنسانه الجواني كذلك. وكما أن الجسدَ يهلك بكلِّ واحدٍ من الوحوش النفاثة إذا ألقى فيه سمَّه، كذلك النفسَ تهلك بكلِّ واحدٍ من الأرواح الخبيثةِ إذا ألقى فيها فكرَه».

وقال أيضاً: «كما أن الخبزَ يُقيتُ الجسدَ ويحييه، كذلك الكلام الروحاني يُقيتُ النفسَ ويحييها، وهو نورٌ للعينين ومرآةٌ للقديسين، يشفي من أمراضِ الخطية، وكلُّ من لا يعمل بكلام الناموسِ فقد احتقر واضعَ الناموسِ. وليس يكفي استماع الناموس والتكلم به من دونِ العمل بما قيل فيه. فكما نؤمن أنّ الله رحيمٌ، كذلك نؤمن أنه صادقٌ وأنه عادلٌ، ويجازي كلَّ واحدٍ كنحو عملهِ، له المجد».

كما قال أيضاً: «لتكن أسماءُ الإخوةِ حُلوةً في فيك، ومناظرهم جميلةً محبوبةً في عينيك، وخدمتهم سهلةً ميسورةً في يديك، اعمل برغبةٍ واتضاع، وعلِّم بلا حسدٍ ولا بُخلٍ، ولا تنحلَّ في الشدائد لتكون مُرضياً لله، عالماً أنه لو أراد لرفع عنك الشدةَ، وإذا لم يرفعها عنك، فإنما يريد نفعَك، فاشكر في كلِّ حالٍ. كما أن الذهبَ لا يمكن أن يُعمل منه إناءٌ مختارٌ للملك بدون سبكٍ وصياغةٍ، وكذلك الشمع لا يقبل الانطباع بالصورةِ الملكية بدون تليين، هكذا النفس لا تصلح لأن تُنقش فيها صورةُ المسيح الملك بدونِ أدبٍ كثيرٍ ظاهر وباطن، ورياضةٍ وافرة، ومحنٍ شديدةٍ».

قال شيخٌ: «كما أن الإنسانَ الذي ترك المملكةَ وترهب يُمدح من كلِّ العقلاءِ والفضلاءِ، لأن الرهبنةَ أفضلُ من كلِّ ما تركه، إذ هي توصِّل إلى المملكةِ السمائية الدائمة، كذلك إذا ترك إنسانٌ الرهبنةَ وصار ملكاً، فإنه يُذمُّ من كلِّ الفضلاءِ».

وقال أيضاً: «لقد كان الإنسانُ في البدءِ شبهَ الملائكةِ، فلما سقطَ صار شبهَ البهائمِ، لكن إذا كانت الطبيعةُ الإنسانية تسوقُ إلى الشهواتِ البهيميةِ، فإن الشريعةَ المسيحية تؤدي إلى الغاية الملائكية، لأن المسيحَ وعد الذين يعملون إرادتَه أنهم سيكونون مثل ملائكةِ الله. فاعلم يا أخي أنه ليس شيءٌ يُقرِّب إلى الله مثلَ الطهارةِ والاتضاع، ويمكن اقتناؤهما بالصومِ والصلاةِ والسهرِ والتعب، وإتمام الخيرات بقطع رأسِ الشرِّ الذي هو حب المقتنيات».

وقال شيخٌ: «كلُّ راهبٍ يجلس في قلايته ويدرس في مزاميرِه، فهو يشبه مَن يجري في طلب الملكِ، والذي يداوم في الصلاةِ فهو يشبه إنساناً يكلِّم الملكَ، وأما الذي يسأل ببكاءٍ فهو يشبه من هو ممسكٌ برجليْ الملك يطلب منه المغفرةَ».

قيل: سَمع أخٌ بأخبارِ القديسين فظن أنه يمكنه أن يقتني فضائلهم بلا تعبٍ، فسأل شيخاً كبيراً، فقال له: «إن أردتَ أن تقتني فضائلَ القديسين، فصيِّر نفسَك مثلَ صبيٍ يكتب كلَّ يومٍ آيةً من معلمِه، فإذا حفظها كتب غيرَها، فافعل أنت كذلك هكذا: قاتل بطنَك في هذه السنةِ بالجوعِ، فإذا أحكمتَ ذلك، قاتل حينئذ السُبحَ الباطل لتبغضه كالعدوِ. وإذا قوَّمتَ هذين فاحرص على أن تزهد في أمورِ الدنيا وتطرح همَّك على الله، فإن تيقنتَ أنك قوَّمت هذه الثلاث خصال، فستلقَى المسيحَ بدالةٍ كثيرةٍ».

سُئل شيخٌ من أحدِ الإخوةِ: «ما هي فلاحةُ النفسِ لتثمرَ»؟ فقال له: «السكوتُ والإمساك وتعبُ الجسد والصلاةُ الدائمة. وأن لا يجعل الإنسانُ بالَه من عيوبِ غيره، بل من عيوبهِ فقط، فمن دام في هذه الخصال، أثمر سريعاً».

قال شيخٌ: «لا تملأ بطنَك من الخبزِ والماءِ، ولا تشبع من نومِ الليلِ، فإن الجوعَ والسهرَ ينقيان أوساخَ القلبِ من الأفكارِ، والجسدَ من قتالِ النجاسةِ، فيسكنه الروح القدس. لا تقل: اليومَ عيدٌ، آكل وأشرب! فإن الرهبانَ ليس لهم عيدٌ على الأرضِ، وإنما فصحهم هو خروجهم من الشرِّ، وعنصرتهم تكميل وصايا المسيح، ومظالّهم حصولهم ملكوت السماوات. فأما الشبع من الخبزِ فإنما هو والد الخطيةِ. حصنُ الراهبِ هو الصوم، وسلاحُه هو الصلاة، فمَن ليس له صومٌ دائمٌ فلا يوجد له حصنٌ يمنع عنه العدو، ومن ليست له صلاةٌ نقية، فليس له سلاحٌ يقاتل به الأعداءَ. كلُّ من يجعل الموتَ مقابله كلَّ حين، فإنه يغلب الضجرَ وصغرَ النفسِ».

وقال أيضاً: «إذا تمسكنت النفسُ فإنها تزداد قوةً على قوتها، كالجلود التي تُدبغ وتداس وتبيَّض وتجفف».

قال أنبا دانيال: «مادام الجسدُ يَنبُتُ، فبقدر ذلك تذبل النفسُ وتضعف، وكلما ذبل الجسد نبتت النفسُ».

طلب إخوةٌإلى شيخٍ أن يترفَّقَ بنفسِه من كثرةِ الجهاد، فقال: «حقاً أقولُ لكم يا إخوتي: كان مصيرُ إبراهيم خليل الله أن يندمَ إذا رأى كثرة مواهب الله، وذلك إن لم يجاهد ويتعب أكثرَ مما فعل».

قال أخٌ لشيخٍ: «إن أفكاري تدور وتحزنني جداً». فقال له الشيخ: «اجلس في قلايتك ولا تخرج منها، والأفكار تعودُ إليك، كمثل حمارةٍ مربوطةٍ وجحشُها يدورُ ثم يرجعُ إليها، هكذا من يصبر في قلايتهِ من أجلِ الله، فإن دارت الأفكارُ فإنها ترجعُ إليه».

وقال أيضاً: «كما أن الغرسَ إذا قُلع من موضعٍ وغُرس في غيرهِ لا يثمر ما لم يثبت في موضعٍ واحدٍ، كذلك الراهب الذي ينتقل من ديرٍ إلى ديرٍ، لا يثمر ما دام متنقلاً».

كان أخٌ يقاتَل بأن يخرجَ من ديرِه، فذهب وأعلم رئيسَ الدير. فقال له الرئيسُ: «اذهب واجلس في قلايتك، وارهن جسدَكَ رهينةً لحائط القلاية، واترك الفكرَ يهيمُ حيثما يشاء، وأنت لا تبرح من القلايةِ قط».

وقال شيخٌ: «ينبغي للراهب أن يقاتل بجهادٍ كثيرٍ شيطانَ الضجر وصِغر النفسِ وبخاصة وقت الصلاةِ، فإذا قَوِيَ على هذا، فليحذر من شيطان الكبرياء، وليقل: إن لم يبنِ الربُّ البيتَ فباطلاً يتعب البناءون، وإن لم يحرس الربُ المدينةَ فباطلاً يسهر الحراسُ. كما يذكر كلامَ النبي: إن الله يعاند المستكبرين ويعطي المتواضعين النعمةَ».

رأى شيخٌمغنيةً مزيَّنةً، فدمعت عيناه وتنهَّد، فسُئل عن السببِ، فقال: «لقد حرَّكني أمران؛ أحدهما إهلاك هذه المرأة لنفسِها، والآخر أنه ليس فيَّ من الحرصِ في سبيلِ إرضاءِ الله، بقدر حرص هذه في سبيلِ إرضاءِ الناس».

قال شيخٌبخصوص لعازر المسكين: «إننا لم نجده عمل شيئاً من الفضيلةِ غير أنه لم يدمدم قط على ذلك الغني الذي لم يرحمه، كما كان شاكراً الله على ما كان فيه، فمن أجلِ هذا فقط رحمه الله».

وقع أخٌ في بليةٍ، ومع الحزنِ أتلف عملَ رهبانيتهِ، وإذا أراد أن يبدأ بالعملِ من الرأسِ، كان يستثقل ذلك ويقول: «متى أبلُغ إلى ما كنتُ فيه»؟ وكان يضجر، وتصغر نفسُه، فلا يقدر أن يبدأ بعملِ الرهبنةِ مرةً أخرى، وأخيراً ذهب إلى أحدِ الشيوخ وقصَّ عليه أمرَه، فلما رأى الشيخ حزنَه، ضرب مثلاً قائلاً له: «كان إنسانٌ له بقيع، فمن توانيه امتلأ ذلك البقيع شوكاً، وإنه بعد ذلك انتبه، وأراد أن ينقي ذلك البقيع من الشوكِ، فقال لابنِه: يا بُني، اذهب إلى البقيع ونقهِ واقلع شوكَه. فلما ذهب ابنهُ وأبصر كثرةَ الشوكِ، سئم وملَّ، ونام. وبعد أيامٍ كثيرةٍ، أتاه أبوه لينظرَ ماذا عمل الغلام، فلما رآه لم يعمل شيئاً، قال له: حتى الآن لم تنقِّ شيئاً؟ فقال الغلامُ: أخبرك يا أبتاه، كلما عزمتُ على البدءِ في العملِ، أبصر كثرةَ الشوكِ فأحزن، ومن كثرةِ الحزنِ كنتُ أضع رأسي وأنام. فقال أبوه: لا يكون الأمرُ هكذا يا ابني، ولكن نقِّ كلَّ يومٍ قدرَ مفرشك فقط، قليلاً قليلاً. ففعل الغلام كما أمره أبوه، وداوم على ذلك حتى فرغ الشوكُ من ذلك البقيع. وأنت كذلك يا حبيبي، ابدأ بالعمل شيئاً فشيئاً ولا تضجر، والله بطيبهِ ونعمتهِ يردُّك إلى سيرتك الأولى». فذهب ذلك الأخُ وعمل وصبر كما علَّمه الشيخ فوجد نياحاً وأفلح.

قال شيخٌ: «احذر أن تصنعَ خطيةً بهواك، لئلا تعتادها فتصنعها بغير هواك، كالضحك».

وسُئل: «كيف أسكنُ في ديرٍ بغيرِ قلقٍ»؟ فقال: «ذلك بأن تَعُدَّ نفسَك غريباً، ولا تطلب أن يكون لك فيه كلمةٌ مسموعةٌ، كما تقطع هواك ولا تحسب نفسَك شيئاً».

كما سُئل عن الغربةِ، فقال: «هي الصمتُ، وترك الالتفاتِ إلى الأمورِ».

قال أخٌ لشيخٍ: «إني أرى فكري دائماً مع الله». فقال له: «الأعجب من هذا أن ترى نفسَك تحت جميعِ الخليقةِ، فلا سقوط مع الاتضاع».

وسُئل: «ما هو الاتضاع»؟ فقال: «أن تحسن إلى من أساء إليك، وتسكت في جميع الأمور».

قال أحدُ الشيوخِ: «إذا صرنا في السلامِ غيَر مُقاتَلين فسبيلُنا أن نتضعَ كثيراً، لئلا نُدخل علينا فرحاً غريباً، فنفتخر وننسب ذلك إلى جهادِنا ونتعظَّم في أنفسِنا فيتركنا من عنايتهِ، ونُسلَّم إلى القتالِ فنسقط، لأن الله لأجلِ ضعفِنا، مراراً كثيرة يرفع عنا القتالَ».

سأل الأنبا آمون الأنبا بيمين عن الأفكارِ النجسةِ التي تتولد في قلبِ الإنسانِ والحسيات البطالة، فقال له: «هل يقطع الفأسُ بغير إنسانٍ يقطعُ به؟ فلا تحادث أنت هذه الأفكار وهي تبطل».

وسأله أيضاً أنبا إشعياء عن هذه المسألة فأجابه: «إن وضع إنسانٌ ثيابَ صوفٍ في صندوق ولم يتعاهدها، أكلتها العثة وهلكت، كذلك الأفكار إن لم تفعلها جسدانياً بطلت».

وأيضاً سأله أنبا يوسفبهذا الخصوص، فقال له: «كما أنه إذا دخلت حيةٌ أو عقربٌ في جرابٍ، فإن ربطتَّه ولم تدعها تدخل وتخرج فهي تموت مع طول الزمان، وإن تركته مفتوحاً فهي تخرجُ وتؤذيك، كذلك الأفكار السوء التي تعرض لنا تبطل بالحراسة والصبرِ».

قال أخٌ لشيخٍ: «إن أصابني ثِقَلُ النومِ أو فاتني وقتُ صلاةٍ ثم انتبهتُ ولم تنبسط نفسي للصلاة حزناً، فماذا أعمل»؟ فقال له: «ولو نمتَ إلى الصباح فقم وأغلق بابك واعمل قانونك، فالنبي داود يقول مخاطباً الله: لك النهار ولك الليل، وإلهنا لكثرةِ جودِه ورحمتِه في أي وقتٍ دُعيَ أجاب».

قال شيخٌ: «الذي يأكلُ كثيراً ويقومُ عن المائدةِ وهو جائعٌ، أفضل من الذي يأكلُ قليلاً ويبطئ أمام المائدةِ حتى يشبعَ».

وقال آخر: «إذا رأيتَ شاباً يصعدُ إلى السماءِ بهواه، فَشِدْ رِجلَه واطرحه فإن هذا أنفع له».

كان أحدُ الرهبانالمجاهدين إذا قالت له الشياطين في فكرِه: «ها قد ارتفعتَ وصرتَ كبيراً»، كان يتذكَّر ذنوبَه قائلاً: «ماذا أصنعُ من أجل خطاياي الكثيرة». وإذا قالوا له: «لقد فعلتَ ذنوباً كثيرةً وما بقي لك خلاصٌ»، يقول: «وأين رحمة الله الكثيرة». فانهزمت عنه الشياطين قائلين: «لقد قهرتنا، إن رفعناك اتضعتَ، وإن وضعناك ارتفعتَ».

أخبر أبٌأنه أبصرَ أربع مراتب مرتفعةً في السماءِ، الأولى: مريضٌ شاكرٌ لله. والثانية: صحيحٌ يضيفُ الغرباء وينيح الضعفاء. والثالثة: منفردٌ في البريةِ مجتهدٌ. والرابعة: تلميذٌ ملازمٌ لطاعةِ أبيه من أجلِ الله. ووجد أن مرتبةَ التلميذ أسمى من المراتب الثلاث الأخرى، وزعم أنه سأل الذي أراه ذلك قائلاً: «كيف صار هذا هكذا وهو أصغرهم، فأصبح أكبرهم مرتبةً»؟ فقال: «إن كلَّ واحدٍ منهم يعمل الخيرَ بهواه، وأما هذا فقد قطع هواه لله، وأطاع معلمه، والطاعة لأجلِ اللهِ أفضل الفضائل».

قال شيخٌ لتلميذهِ: «ويحٌ لي يا ابني، فإنني ربما إذا مضيْتُ بالليلِ إلى موضعٍ يُبعدني من اللهِ، وسمعتُ صوتَ الكلابِ، أخرج لساعتي فزعاً منها، فالخطأ الذي لا يردُّني عنه خوفُ اللهِ، ردَّني عنه خوفُ الكلابِ».

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF

معلومات حول الصفحة

عناوين الصفحة

محتويات القسم

الوسوم

arArabic
انتقل إلى أعلى