الكنائس والحفلات

سألَتْني، منذ أيّام، أختٌ من خارج البلد، رأياً في الحفلات التي ترعاها الكنائس وتعود محصلتها لصندوق الرعيّة فتُنفَق إما في بناء العمارات الكنسية أو ترميمها أو على الفقراء أو تُدَّخر لحاجات أخرى قائمة أو متوقّعة. ما المقبول وما غير المقبول؟لمقبول؟

يا أختاه،

في المبدأ، أبناء الإيمان هم الذين ينفقون على أعمال الإيمان. وهذا يُفترَض به أن يكون في شكل هبات لا تذاع أسماء أصحابها حتى تكون العطايا قائمة لعين الله من دون عباده لتكون للمؤمنين بركة من فوق في خطّ القول الإلهي لمَن يُنفقون: “… وأبوك الذي يرى في الخفاء هو يجازيك علانية”. في هذا السياق يكفي، افتراضاً، أن يُعلِن الرعاة عن حاجة حتى تبادر الرعيّة إلى التلبية وفق طاقتها لا وفق ما لا طاقة لها عليه. المهم، بدءاً، أن ندرك أنّ الرعيّة، بكبارها وصغارها، هي المعنيّة إذ تتسنّى لها فرصةٌ للعطاء لأنّ الطبيعي أنّ الذين مُتِّعوا بالبركات الروحيّة، في اغتذائهم من روح الربّ، يُثمرون، فيما يُثمرون، ويُعبِّرون عن شكرانهم وروحِ الشركة فيهم بالبركات الماديّة يسدّون بها حاجة الكنيسة والفقير. روح المعاضدة تقضي بذلك. فإن كانت الرعيّة في هكذا مستوى من النضج والعطاء فإنما يكون ما تبذله مؤشِّرَ عافيةٍ روحيّة وسلامةٍ قلبية.

ولكنْ، ولو كان هذا هو المرتجى فليس موفوراً، في العادة، اليوم، إلاّ قليلاً أو فيما ندر. لذا نتعاطى الأمر في سياق آخر دون أن يُسقِط الرعاة، من الحسبان، ما ينبغي توخّيه، ولو بعد حين، حتى لا نكون في سعينا الرعائي نخبط خبط عشواء وهمُّنا العطيّة دون المعطي بل أن تكون العطيّة تعبيراً عن سخاء العباد لوجه مَن يعطي العباد “طعامهم في حينه”. من سنين لاحظتُ في الأبرشية الأنطاكية الأميركية حركة ذاتَ مغزى في الاتجاه المنشود هذا. ففي السبعينات من القرن العشرين، وقبل ذلك، كانت القروض المتّخذة لسدّ أثمان الأبنية الكنسيّة في الأميركية تُوفى، أحياناً، بأساليب تبعث على التسآل، وأحياناً الاستهجان. فإنّ رعايا كثيرة كانت تلجأ إلى البينغو الأسبوعية والتومبولا وشتى أنواع الحفلات الموسمية، اللائقة وغير اللائقة، لسدّ المترتبات المالية الشهرية على الكنائس لدى البنوك. هذا درج لسنين إلى أن نمت الطاقات وازداد الوعي وكفّت الرعايا، بإيعاز الرعاة، عن بعض هذه الممارسات على الأقل، فبقي لدى الأكثرين ما يليق وعُفَّ عما يُسبِّب المعثرة. وأذكر، فيما أذكر، أنّي سألت راعي الأبرشية، هناك، المتروبوليت فيليبس صليبا، ذات مرّة: “لماذا لم تفرز الأبرشية، بعدُ، أديرة ورهباناً وراهبات؟” فكان جوابه: “لم نبلغ، بعد، هذا المستوى من النضج، ولكنّنا سائرون في هذا الاتجاه”. لا شكّ أنّ الأبرشية الأميركية قطعت أشواطاً في سبل تنقية المسرى. فبعدما كانت النظرة إلى الرعيّة الأرثوذكسية الأميركية كأنّها ناد اجتماعي يتعاطى الطقوس الكنسيّة، نما الوعي الكنسي وسقطت عادات كثيرة لا تليق بأبناء الإيمان. والسعي حثيث، في الآونة الأخيرة، إلى إنشاء الأديرة هنا وثمّة.

هذا المثل أوردته لأقول إنّ الرعيّة تنمو في وعيها والتزامها الإيمان بحيث تصير إيقونةً لروح الربّ. وَفْرَةُ الرعاة الطيِّبين التراثيّين ووفرةُ المؤمنين الخلّص تُسرِّع الخطى في هذا الاتجاه وتخمِّر العجين. هذا، في كل حال، بحاجة إلى تعليم وإرشاد وإنشاء أجيال واعية ملتزمة. وكلُّ هذا بحاجة إلى تعب واجتهاد، ولا سيما إلى وقت. فإلى أن تزهو الرعيّة العروس، علينا أن نتوقّع ممارسات أقل جودة وبعضَ العثرات، هنا وثمّة. لا نطلبن المستحيل ولا نتذرعنّ بالنماذج السنيّة في الأزمنة الطيِّبة. زماننا صَعْبٌ والنفوس بحاجة إلى الرفق. فإننا لو طلبنا المعالي ونحن على هذا القدر من الجهل وقلّة الالتزام فالخشية هي أن نُسقط أكثر المحسوبين على الرعيّة مكتفين بالقلّة، وفي هذا تخلِّ عن الأمانة الموكلة إلينا. نحن ما نحن وننطلق من حيث نحن. المهم، بواقعية، ولكن بثبات ووضوح في الرؤية، أن نشقّ طريقنا عبر ما يحتفّ بنا من ظلمات حتى نزرع ما نرجو أن يتسنّى للجيل الذي يتبعنا أن يحصده.

خبرة السنوات العشرين الأخيرة دلّت على أنّنا في الاتجاه الصحيح. ربما بشيء من البطء. فلقد باتت الرعايةُ أفضل والعلمُ أوفر والمعرفةُ أوسع. طبعاً لا زال أمامنا الكثير الكثير. ولا نغالي لو قلنا إنّنا لا زلنا في أسفل سلّم النهضة. عندنا بعض الالتماعات، هنا وثمّة، ولكنّنا كثيراً ما نستعيض عن النهضة الحقّ، في التفاصيل، بالتنظير عن النهضة. نستغرق في الفكر أكثر مما نستغرق في العمل الدؤوب محبّةً وصلاةً وصوماً وسلوكاً في الاتضاع والصبر واللطف بثبات.

على أنّ هذا لا يبرِّر كل ممارسة أحياناً. بعض ما يجري أدنى إلى التجارة في بيت الله منه إلى تحفيز المؤمنين على العطاء بلياقة وترتيب. لا أُحِبّ، يا أختاه، أن أدخل في التفاصيل والتحديدات لئلا يظنّ أحد أنّه هو المستهدف لا الممارسة السيِّئة التي يتعاطاها. لا يخفاكِ أنّ شعبنا، في الحال التي هو فيها، مبالِغٌ في الذاتية بحيث يكون عليك أن تحسبي ألف حساب قبل أن توجّهي لأحدٍ ملاحظة. الملاحظة، في قاموسنا الراهن، تعني إهانة. لذا ينبغي الحذر حتى لا نتسبّب في إعثار الضعفاء. ولست أبالغكِ القولَ إذا قلت إن علينا، أحياناً، وهذا ما تفيدنا به الخبرة، أن نماشي المُسيء في شيء من غير المقبول لديه، حتى لا نخسره وحتى تبقى لنا فرصة أن نصلح أوضاعنا وبعضنا بعضاً. الواعي يَسَع غير الواعي. ومَن يعرف أكثر يأخذ مَن يعرف أقل بالرفق واللطف. لعل هذه بعض موهبة طليعة النهضة، اليوم، سواء أكانوا من الرعاة أو من العامة. وإلاّ سنجد أنفسنا يُلغي بعضنا بعضاً ونستكبر بعضنا على البعض الآخر بدل أن نتّضع بإزاء الإناء الأوهى. هذه، لعمري، نعمة يحظى بها المتّضعون اليوم وعليهم يقع أكثر الحمل إلى أن يمنّ علينا الربّ الإله بالمزيد وعياً ودرايةً ومعرفة وتواضعاً. إذ ذاك يخفّ الحِمْل ويكثر الفعلة. وإلى أن نبلغ حالة كهذه حذار أن نغادر موقعنا والاكتفاء، من الموقف، بالنقد والنقض والمرارة، إذن لتخلّينا عن عمل الله ونبذنا المتعِب منه. لسنا، اليوم، في راحة والرعيّة في تعب. نتعب مع التعبين ونريح المتعبين بألطاف الحضرة الإلهية فينا، ثمّ بعد ذلك يرسل الله ما تعلمون وما لا تعلمون.

التفاصيل، يا أختاه، أتركها لضميرك، لصلاتك ولتواضعك. إذ ذاك تجدين نفسك مساهِمة في عمل خلاّق، ويعطيك روح الربّ أن تُثمري في أرض كثيرها مُجدِب حتى تخضرّ بالحبّ والرعاية والثبات واللطف وطول الأناة.

ثبّت الله سعيك ورفقتك في خدمة الرعيّة ونقّى قصدك ورسّخك في محبّته وخدمة بيته.

الأرشمندريت توما (بيطار)
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي – دوما
عن نشرة نقاط على الحروف
26 آذار 2006

arArabic
انتقل إلى أعلى