قدسية الجسد ودلالات كشف الأبدان

كشف الأبدان، اليوم، بات من العاديّات. الزِيُّ السائد (fashion) بات، إلى حدّ بعيد، قائماً على كشف مَوَاطنَ مختلفة، لافتة من البدن. ومن ذوي الحرص مَن يشتكي أنّ إيجاد الثياب المحتشمة في محالّ الألبسة لم يعد سهلاً. كشف الأبدان، في الوقت الراهن، بات هو المعيار الذي تتبنّاه دور الأزياء ويردّد صداه تجّار الألبسة في كل مكان.

إزاء هذا الواقع، خليق بنا، كمؤمنين بالربّ يسوع، أن نتطارح السؤال في شأن هذه الظاهرة وانعكاساتها في نفوس الناس وعلاقاتهم.

في العلاقات الإنسانية ليس للجسد ما يقوله. كل الكلمة هي للوجه. الوجه هو المطرح الذي يتجلّى فيه الإنسان والناس يتخاطبون وجهاً لوجه. وفي الوجه، العين هي الموضع الذي يستبين فيه حضور الإنسان أو… عدم حضوره. بقية الجسد، والثوبُ الذي يُوشّح به، يُفترض أن يكون مركزُه الوجه، ومن ثمّ العين في الوجه. الجسد هو مدى الوجه. هذه طبيعة علاقة الوجه بالجسد حتى لا يصير الوجه امتداداً للجسد. من هنا أنّ الثوب الذي لا يكون مِحورُه الوجه لا يساعِد، لا بل يسيء إلى الطابع الإنساني للعلاقة بين الناس. حين يكشف اللباس، عمداً، مَواطِن لافتة من الجسد غير الوجه يتحوّل انتباه الرائي، جزئي وكلّياً، من الوجه إلى الموضع و المواضع الظاهرة في الجسد. بعد ذلك حتى لو تكلّف المرء مطالعة وجه صاحبه فإنّه لا يطالعه بصفاء، كمحور اهتمام، لأن ما لفَتَه سَلَبَه وعكَّره وأدخل في وعيه تشويشاً يهتزّ له حشاه. كل إنسان مائل إلى هوى الجسد. هذا ليس عندنا من الطبيعة البشرية بل من خلل أصابها إثر ما نسمّيه سقوط وخروجاً على الله لما خلع الإنسانُ، بعامة، طاعتَه ولم يعد يقيم في كنفه. يتمثّل الخلل هنا في أنّ الجسد صار، في ذاته، هوى ولم يعد مرتبطاً، بنيوياً وبصورة تلقائية، بلقاء القلب للقلب. صار الميل إلى طلب الجسد لذاته. قبل السقوط، كان هناك في الإنسان مركز اهتمام واحد هو القلب، والقلب كان إلى الله، ونور الله حفظ القلب وكلَّ الإنسان واحداً إليه. فلما سقط الإنسان لم يعد القلب هو المبادِر والجامع. تبعثر الإنسان وحلّ محلّ مركز الاهتمام الواحد لديه مراكز اهتمام شتى: العاطفة والفكر والجسد… وصارت تحكم كل مركز آلية خاصة بها. لم تعد هناك إرادة واحدة نابعة من القلب تحكم كلّ الإنسان وتوجّهه، بل صارت هناك إرادة خاصة بالجسد وأخرى للفكر وأخرى للعاطفة وهكذا دواليك. التعاطي الكياني بين الناس على أساس مواجهة القلب القلب لم يعد يحدث، بعد السقوط، بصورة عفوية تلقائية. ما صار يميل الإنسان إليه بصورة عفوية صار هوى الفكر وهوى الجسد وهوى المشاعر. أما العلاقة الإنسانية في مستوى القلب والكيان فصار المرء، كل امرئ، بحاجة إلى جهد يبذله ليتروّض عليها، ليستعيدها بعون الله. حين يكون محور الإنسان الوحد هو إنسانيتَه في القلب، كلُّ شيء فيه، حينئذ، يتأنسن، يصير في خدمة علاقاته الإنسانية، فكرُه وجسدُه وعواطفُه. وحين تتحوّل أبعاد الإنسان إلى نواح في الشخصية ذات مركزية خاصة بها لا تعود هناك وحدة في الإنسان، بل يسوده التضاد. يقول شيئاً ويفعل شيئاً آخر. يصير ظاهرُه شيئاً وباطنُه شيئاً آخر. الجامع الباقي، والحال هذه، يكون عشق الذات (philautie) في مختلف أبعادها: عشق الفكر وعشق الأجساد وعشق المشاعر الخ…

في ضوء ما تقدّم نعود لنقول إنّ كشف البدن عن عمد هو عنصر شَغَب على العلاقات المتكاملة بين الناس. وهو يسيء من ناحيتين: يحرِّك هوى الجسد، في الرائي والمرئي، في آن، ويحوِّل الخطاب بين الناس إلى إيحاءات أهوائية. الفتاة التي تكشف مواطن حسّاسة من بدنها، سواء باللباس المشدود والتعرية النسبية، إنما انتباهها مركَّز، في العمق، على جسدها، تعيه ويغذّي غرورها وتروم لفت الأنظار وإستئسار النفوس. عيون الآخرين عليها مِتعتُها ومعيارُ نجاحها. أما الناظر إليها فمجرَّب، يجتذبه حسنُها. عينُه على غير وجهها وحسّه إلى غير إنسانيتها. تمسي، في ناظريه، كثافة لحم، ويُغيَّب وجهُه ويصبح امتداداً لحمياً يزكّي إيحاءَ جسدها فيدفقُ الهوى من عينيها لتمسي مغلقة، ممسوحة الوجه بمِسحة الغواية وتحدّي شهوة الجسد.

وثَمَّ مَن يلتزمون الزِيّ السائد، عن براءة، أول أمرهم، لشيوعه وهم لا يعلمون مما يجرّهم إليه شيئاً. وإذ يتلبّسونه يُدخلهم مناخاً أهوائياً يجرحهم ويُفسدهم، ويُعثر الآخرين بهم، فيوجدون، من حيث لا يدرون، مساهمين في تحويل العلاقات الإنسانية بين الناس إلى علاقات جسدانية نفسانية.

كل هذا يجعل الجسد مَذلَّة. لا شكّ أنّ مَن تطلّع إلى إنسان كجسد أهانه، جعله، في الحقيقة، لحماً وتعاطاه، في قلبه، لحماً. أحاله مادة استهلاكية. شيّأه.

لا شكّ أنّه لمن رجاسة الخراب أن تحتضن شريحة لا يُستهان بها من شعبنا لحمية المسرى المشيَّع اليوم وأن تمسي كنائسُنا، باسم الحداثة والحرّيات، مَواطنَ لتطبيع كشف الأبدان وعرض الأجساد. لم تعد العيون، من اعتيادها شيوع روح الفسق، تجد، فيما يجري، ما يضير. ثمّة حالة من اللاحرص وحتى من اللامبالاة تسود، سواء بين الإكليروس وبين العامة. هذه باتت تقتل الميل إلى العفّة والغيرة على القويم بيننا. أية شهادة تؤدّى للمسيح من صدور تتزيّى بالصليب وهي عامرة بالفجور؟ بأية مسيحية يُسمَّى مَن يَحَارون كيف يسلبون العيون، عن وعي وغير وعي، برقائع أبدانهم السافرة؟ الحجّة دائماً ما تبدو رعائية أننا لا نريد أن نجفِّل الناس ولا نريد حملَهم على هجران الكنيسة. راعوا ما استدعتِ المراعاةُ وداروا ما طابت لكم المداراة وعلّموا ما بدا لكم العلم لازماً، المهم ألاّ نتعلّل بعلل الخطايا! المهم أن تبقى العفّة بشكل منظور، بشكل محسوس، إطاراً للسيرة بيننا، إطاراً للعبادة بالروح والحقّ. “بيتي بيت صلاة يُدعى وأنتم جعلتموه مغارة لصوص”! لم تعد هناك، في الوجدان، في الإحساس، في الشعور، حدود بين مناخ طقوس الخصب الكنعانية ومناخ الطقوس المسيحية. هذه الهجمة على عفّة المسرى تهدّد البنيان برمّته. باتت الكنيسة أجساداً متراكمة لا حقيقةَ المسيح تُشعّ في صدور المؤمنين. وأنت تعجب أن الإعلانات الشارعية إنما تُسفر عن الأبدان بلا حرج خصوصاً في الأحياء المسيحية، وكأنها مناخات مؤاتية لها. كأن المسيحيين طليعة المنادين بحرّية الفسق. هذا السكوت عن تفجّر العبث، هذا الإغضاء عن الوثنية الجديدة بيننا، في بيوتنا، في كنائسنا، إنما يفضح اللاحسّ الذي بلغناه. لا شكّ أننا إذا لم نتدارك الأمر، وسريعاً، لا تعود لنا فرصة لوقف الانزلاق إلى مسيحية جسدانية نفسانية لا علاقة لها بروح الربّ وغير قابلة للإصلاح. خشيتنا أن نكون قد بلغنا، إزاء تَفَجُّر روح الزنى، من حولنا، حجماً من الإنحراف في النظرة إلى الأمور وصلنا معه حدَّ اللاعودة!!!

الأرشمندريت توما بيطار
نشرة نقاط على الحروف
31 تموز 2005

arArabic
انتقل إلى أعلى