نعود إلى مراحل الكتاب وموضوعاته الكبرى واحدة فواحدة ونبدأ بالمبدأ العميق المطلق: الخلق. إن سفر التكوين بالعبرانية “برشيت” هو سفر “البداية”: |في البدء خلق الله السماوات والأرض…” (تكوين1: 1 وما بعدها). إنها رؤية نيرة مشعة للسر الأول سر الخلق. ولكل كلمة مغزى. “في البدء” أي كان هناك بدء، في وقت معين، والعالم ليس أزلياً. البدء نفسه ابتدأ. الزمن نفسه له بدء. العالم ليس علة ذاته لأن العلة تسبق المعلول. لو كان العالم علة ذاته لكان يسبق نفسه أي كان وجوده يسبق وجوده!. “وقال الله ليكن نور فكان نور…” وقال الله.. وقال الله، إن هذه العبارة المتكررة تعلن ما قرر آنفاً أعني أنها تفسر كيف خلق الله السماوات والأرض. إن الكتاب المقدس، منذ بدايته ومنذ بداية الخلق، يدخلنا إلى سره، إلى سر الكلمة الخالقة. “قال الله”..
لنتوقف قليلاً عند سر كلام الله ونتأمله:
إن الكلام عامة، الكلام البشري الموجه لنا والموجود في داخلنا، سر كبير لا ننتبه إليه عادة (إن العادة هي العدو الأكبر لكل سر. إنها تنشئ معرفة خاطئة فاسدة، لأن المعرفة الحقيقية تحتوي دائماً على شيء من الدهشة). سر الكلام إنه كشف وإعلان في حد ذاته. إنه يزيد على الموجودات وجوداً آخر هو معناها، فالكلام يعطيها معنى ونوراً. بالكلام تدخل الروح إلى المادة. وجود المادة غير كامل لأنها تجهل نفسها، ليس لها الكلام. هذه الطاولة موجودة ولكن وجودها ناقص. إنها كثيفة ولا تعرف أنها طاولة. والحيوان كذلك، وإن كان أرقى من المادة، وهو يتحرك، ولكن غرائزه تحركه، وتحركه من الخارج. الكلام وحده يعطي للمادة معناها وهو خاص بالإنسان وحده. ليس الكلام التعبير الخارجي فقط، لأنه قبل أن يكون كلاماً معبراً فهو كلام داخلي وإلا فلا يكون كلاماً البتة. لأن الكلام لا يمكن أن يأتي من الخارج إذ يجب أن ينبع من معنى، من ذكاء، من نور. إذاً فالكلام بحد ذاته منير وكاشف. قبل أن أصل إليك بكلامي أصل إلى نفسي أعي نفسي بالكلام، من المعروف أن الطفل حتى سن الخامسة ليس له “أنا”، فمعرفة الكلام تنقله من الشيء إلى الذات، الذات الذي له كلمة وبهذه الكلمة يلقي نوراً على ما يحيط به.
والكلام أيضاً خالق شركة وعامل اتحاد، إنه يحطم الانعزال، لنفترض عدم تمتعنا بهبة الكلام: لا إمكانية لنا عند ذاك لأي اتحاد (ليس الاتحاد الخارجي اتحاد الحيوانات الذي هو تجمع لا اتحاد وشركة). لأن أي اتحاد يلاقي قبولاً في الآخر، يعبر مني إليه، يأتي من أعماق الكيان. إنه اتحاد يسبق تحقيقه، ملاقاة في العمق، إنهما روحان ونفسان وإرادتان تلتقيان في عمق كافٍ لتستطيعا القول: بيننا اتحاد حقيقي كامل متين. وبالكلام وحده نستطيع ذلك. بدون الكلام أنت عالم مغلق بالنسبة للآخرين. إن الغريب عن لغة الآخرين يتألم بينهم. فالكلام يوجد وحدة بين الأشخاص، ثم بين أهالي القرية الواحدة والحي والمدينة… ثم بين سكان الوطن الواحد الخ..
أما كلام الله، الكلام الذي خلق به العالم، فسنقف عنده في ثلاث نقاط:
1- في البدء خلق الله. فكان إذاً بدء، وكان الله قبل أن يكون البدء، والكلمة التي خلق بها الله العالم هي سابقة للنطق والتعبير، أي أنها أزلية. وهكذا يتاح لنا أن نرى في سر أزلية الله سر حوار أو بالأحرى اتحاد: إن إلهنا وحيد، ولكنه ليس وحده، إذ عنده الكلمة، الكلمة “الداخلية” منذ الأزل، إن تيوفيلس الأنطاكي توسع في شرح هذه العقيدة العميقة: “الكلمة الداخلية هي عينها الكلمة المنطوقة” والخليقة المحققة بكلمة الله تنقل إلينا شيئاً من الله نفسه، شيئاً من الأزلية. ونستطيع القول بالتالي أن الخلق هو انتقال أول لله إلينا. الخليقة هي الكلمة معلنة ومظهرة، وينجم عن ذلك أن الخليقة لا يمكن أن تكون شيئاً منحطاً. لقد كانت الشعوب جميعاً تعتبر الخليقة إما أزلية، وهذه صنمية، أو حبساً للنفس وشراً وسقوطاً (أفلوتينوس) فنحن الآن إذاً، أمام عقيدة جديدة وهي أن الخليقة ليست فاسدة.
2- في البدء خلق الله، وهذا يعني أن كلام الله خلاق إنه فعال مباشرة. الكلام البشري فعال أيضاً، ولكن بصورة غير مباشرة، إذ ينبغي أن يمر بإرادة آخر ويقبله آخر لكي يتحقق (مثلاً: أعطني كأس ماء..)، لا بد له إذاً من المرور بسلسلة من الأشياء المخلوقة، في حين أن كلمة الله تفعل ليس فقط معنى وإعلاناً بل قوة أيضاً. هي قوة الله نفسها تتدخل في العالم. وهذه النقطة الثانية كان لها التأثير الأكبر على الوعي الإسرائيلي. لقد كان حول إسرائيل شعوب وثنية تقيم مع الأوثان عقوداً تجارية: تصنعها ثم تذبح لها لتنال منها عوناً. ولكن الكلمة الإلهية علمت الشعب اليهودي أنها ليست وثناً جامداً، بل هي قوة تفوق سائر قوات الطبيعة. “صوت الرب على المياه. صوت الرب يحطم أرز لبنان.. صوت الرب يقطع لهيب النار، صوت الرب يزلزل القفار. من صوت الرب تجهض الأيايل، وتكشف الأدغال..” (مزمور 28)، “فاهتزت الأرض وتزلزلت واضطربت أسس الجبال ومادت” (مز17: 6-7). إنه نوع من ظهور إلهي، إن كلام الرب قوة تسمو على ما تعبده الأمم وعلى كل حدث طبيعي، على الجبال والأرض وكل شيء.. ولكن الكلام الإلهي يفوق أيضاً كل فكر بشري. رب أحد يقول أن الله ليس جبلاً ولا أرزاً إنما هو فكرة، لكن سفر أشعياء يجيب: “إن أفكاري ليست أفكاركم، ولا طرقي طرقكم.. كما علت السماوات عن الأرض، كذلك علت أفكاري عن أفكاركم” (أشعياء 55: 8-9). فما هو الموقف الواجب بالتالي تجاه هذه الكلمة الإلهية؟ إنه موقف خوف وطاعة، والعهد القديم يلح كثيراً على ذلك. إن الكلمة متسامية ولذا علي أن أرهب لكي لا أخلط بين الله والأشياء (بدء الحكمة مخافة الله). إنه “آخر” وليس لي مدخل إليه إن لم يرسل هو أولاً كلمته إلي. نحن لا نتصور الله، وإذا صار إلينا يقع علينا خوف عظيم، خوف احترام وخشية واحتشام. إن “الآخر” يأتي إلي. “ليتك تشق السماوات وتنزل فتسيل الجبال من وجهك” (أشعياء 64: 1).
3- الكلمة الخالقة سر محبة وهذا أعمق شيء يمكن قوله عن سر الله. إن المحبة تظهر في العهد القديم من وقت لآخر فقط لأن الله كان يجاهد ضد شعبه لكي يعوده على السير معه إلى أن تجسد الكلمة وتم إعلان المحبة. “عبر كل ظهورات الله في تاريخ إسرائيل كانت كلمة الله تعتاد أن تعيش مع أبناء البشر وتعودهم أن يعيشوا معها” (القديس ايريناوس من ليون). إنه بالتالي حوار محبة يكتمل. وحركة المحبة الأولى كانت بالضبط في إيجاد الخليقة. ما هي المحبة؟ هي ذلك الاتحاد الأكثر إمكاناً بين كائنين يعطيان ذاتهما الواحد للآخر بأكمل ما يمكن. فالمحبة إذاً تفرض وجود آخر وتخرجني نحوه هذا صعب علينا عملياً لأننا محدودون ونظن أن كمالنا في محدوديتنا (في حين يقول الكتاب: ينبغي أن هذا يزيد وأنا أنقص!) نحن نخشى الخروج من ذواتنا خوفاً من الضياع، بل يعسر علينا أن نقبل الآخر كما هو. وأما الله فليس فقط يقبل الآخر بل يوجده. لماذا يوجده؟ لأنه إنما هو سر محبة، وفيه ذلك الاتحاد الداخلي الذي يريد ذاته مساهماً بصورة كلية من قبل آخر. فالله إذاً يخلق الكائن ليعطيه حبه ويتحد به.
منذ صفحة الكتاب الأولى نجد كل ذلك. منذ بدء التكوين تبدأ آلام الله أعني حبه، أعني صلبه. لأنه يعرف أن ذلك ألآخر لن يبادله الحب كلياً. ولذا يتكلم سفر الرؤيا عن “الخروف المذبوح منذ بدء العالم”. إن الخلق يدشن آلام الله. “لقد أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد ليخلص العالم”. أي بذل نفسه. ولما أقدم على ذلك (في الخلق) غامر مغامرة: هي احتمال رفض الناس للكلمة ورفضهم لمحبته “فأحبهم إلى المنتهى”: إن سر الصليب أساس الخلق نفسه. وإذا قابلنا بين بداية الإصحاح الأول من إنجيل يوحنا وبداية الإصحاح الأول من سفر التكوين (1) نرى أنها نوع من سمفونية: كان سر المحبة مخيفاً في التكوين فيعلن في يوحنا بصورة خاصة.
وما دام الخلق سر محبة فالموقف الواجب من الكلمة هو موقف طاعة وانفتاح في المحبة. “الإصغاء” إلى الكلمة معناه الطاعة والامتثال والمعرفة. منظر الشيء لا يكفي فلا بد من الكلام. الظهورات علامات فقط، أما الكلام فيجب أن يُطاع. بالإصغاء الكلي إلى الكلمة أستطيع أن أتعود عليها وأعوّدها علي، أستطيع دخول الكلمة وإدخالها فيّ. “خزنت كلامك في قلبي لكيلا أخطأ إليك” (مزمور 118: 11). الشرود يمنعنا عن الإصغاء، ولذا يجاهد النساك ضده ويسعون وراء “يقظة القلب”. “مستعد قلبي يا الله مستعد قلبي” (مز 107: 1). الكلمة يقرع على باب القلوب: “من له أذنان للسمع فليسمع”.. لقد كان الكلمة يقرع مفتشاً عبر ألوف القرون عن قلب يقبله لكي يتجسد ويحل فينا: “الذي كان من البدء الذي سمعتاه الذي رأيناه بعيوننا الذي تأملناه ولمسته أيدينا” (1يو 1: 1 ). فكان قلب العذراء القائل “ليكن لي حسب (قولك) هاأنذا أمة للرب..” لقد نسيت مريم ذاتها وصارت كلها شوقاً للانفتاح إلى ربها. محت ذاتها كلياً: لجة العذراء تجيب لجة الكلمة. ولذا تقول مدائح العذراء: “يا عمقاً يعسر النظر إليه من الملائكة”.
فيجب إذاً الإصغاء للكلمة وإطاعتها واقتبالها فينا. كان وقت شرود ولا شك ذاك الذي لم تستمع فيه الخليقة إلى محبة الله بل إلى وشوشة العالم. انقطعت لحظة عن الاستماع لكلام الله لتستمع وتطيع وشوشة المجرب في الفردوس. لقد رأت التفاحة شهية للنظر فكانت التجربة وكان التمرد والعصيان. وفقد الإنسان معنى كلام الله. لم يعد يرى العالم في نور كلام الله، أعني في الطاعة الداخلية لمن خلق العالم بفعل محبة. وصار ينظر إلى الكون كإلى خصم. وصارت الحيوانات لا تعود تسمع له. فبدأت الطبيعة تبغض الإنسان، والإنسان يبغض الطبيعة. وفقدت الحياة الداخلية في الوقت نفسه، لأن الكلمة تتجه إلى القلب. وفقد الإنسان الشعور بحضرة الله والسلام الداخلي. فتشرد في العالم تائهاً، مظلماً، وحيداً: إنه السقوط. وصار الإنسان يلتمس صوت الله هنا وهناك، في العالم أجمع (بواسطة العرّافين والسحرة…)، ولكن دون أن يجده. إنها الوثنية والأصنام… ولكن الله لم يتخلّ عن خليقته لأن محبته أبدية. إلى أن حان الزمان وجاء ابراهيم فبدأت معه مرحلة الوعد.
(1) “في البدء خلق الله السماوات والأرض”. “في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله” ـ “وقال الله ليكن نور فكان نور: فيه كانت الحياة والحياة كانت نور الناس ـ وفصل الله بين النور والظلام: والنور يضيء في الظلمة والظلمة لم تدركه..” إلخ.