Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
☦︎
☦︎
☦︎

 ” لتخضع كل نفس للسلاطين الفائقة” (رو1:13).

          1  لقد تحدث (القديس بولس) كثيراً عن هذا الأمر في رسائل أخرى، إذ يطلب من المواطنين أن يخضعوا للرؤساء، تماماً مثلما يخضع الخدام للأسياد. وهو يوصي بذلك لكي يظهر أن المسيح لم يضع قوانينه للتحريض على القيام بالانقلاب على الدولة، بل من أجل إصلاح أفضل لها، ولكي يُعلّم بألاّ نشن حروباً مدمرة وبلا داعي. لأن الدسائس التي تُحاك ضدنا بسبب أظهار عن الحقيقة، هي كافية ولا ينبغي أن تُضاف تجارب لا داعي لها ولا تفيد شيئاً. لكن انتبه كيف أنه في اللحظة المناسبة حوّل كلمته إلى هذه الأمور. إذاً بعدما طلب السلوك بتلك الحكمة العظيمة أو تلك الفلسفة العظيمة (أي مواجهة الإساءة بالإحسان) وجعل الجميع يتآلفوا مع الأصدقاء والأعداء في حالة تآلف جعلهم نافعين لمن هم في سعادة، وللذين هم في حالة أسى وحزن، وللمحتاجين، وبشكل عام تجاه الجميع. وأسس المدينة التي تليق بالملائكة، لقد عالج غضبهم ووبخ افتخارهم، وفي كل شيء جعل نفوسهم رقيقة، حينها قدم النصيحة من جهة هذه الأمور. لأنه إن كان أولئك الذين يظلموننا يجب أن يُكافأوا بصورة عكسية، فبالأولى جداً يليق بنا أن نخضع لأولئك الذين يُحسنون إلينا.

          إلاّ أنه أوصي بذلك في نهاية النصيحة، ولم يشر إلى هذه الأفكار التي قالها في البداية، بل أشار إلى الأفكار التي تحث على فعل هذا كدين عليهم. ولكي يُبيّن أن هذه الوصية موجهة للجميع، للكهنة وللرهبان أيضاً، وليس للعلمانيين فقط، لقد جعل هذا الأمر واضحاً منذ البداية، قائلاً: ” لتخضع كل نفس للسلاطين الفائقة “، سواء كان رسولاً، أم كان مبشراً، أم نبياً، أو كان أي شيئاً آخر، لأن هذا الخضوع لا يؤثر في التقوى. ولم يقل “لتطيع” بل قال “لتخضع”. وأول تقييم لهذا التشريع، وهذا الفكر الذي يليق بالمؤمنين، هو أنهم قد أُمروا به من الله. ” لأنه ليس سلطان إلاّ من الله “. ماذا تقول؟ هل كل حاكم هو مرسوم من الله؟ يُجيب بأنني لا أقصد هذا، ولا كلامي الآن هو موجه للحكام بشكل منفصل، لكنه يختص بالسلطان. لأنه أن يوجد سلاطين فهذا يعني أن هناك بالطبع من يَحكم، وهناك من يُحكم، ويجب عليهم ألا يسلكوا في كل شيء بلا هدف وبلا ضابط، وأنه يجب على الشعوب ألا تتأرجح هنا وهناك مثل الأمواج، فهذا السلطان هو عمل حكمة الله.

          لهذا لم يقل، إذاً ليس حاكم إلاّ من الله، لكن يتكلم بشكل عام عن هذا الأمر (أي السلطان)، ويقول ” لأنه ليس سلطان إلاّ من الله. والسلاطين الكائنة هي محددة من الله “. هكذا قال الحكيم ” الزوجة المتعقلة فمن عند الرب “ [1]، هذا ما يقصده، أي أن الله صنع الزواج، وليس أن ذاك يوّحد أي أحد يقيم في علاقة جسدية مع امرأة. خاصةً ونحن نرى أن كثيرين قد ارتبطوا فيما بينهم بالشر، وبزواج غير شرعي، ولا يمكن أن نعتبر ذلك من الله. لكن ذاك الذي قال: “الذي خلق من البدء خلقهما ذكراً وأنثى وقال: “من أجل هذا يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بإمرأته ويكونان الاثنان جسداً واحداً” [2]، نفس الأمر قاله ذلك الحكيم حين فسّره. إذاً نظراً لأن المساواة في الكرامة، تدفع في مرات كثيرة للتصادم، فقد أوجد الله سلاطين وأنواع كثيرة ومتنوعة من الخضوع على سبيل المثال، الخضوع بين الرجل والمرأة، الابن والأب، الشيخ والشاب، العبد والحر، الحاكم والمواطن، المعلّم والتلميذ. ولماذا تتحير لأنه تحدث عن الخضوع بين البشر، مع أنه فعل هكذا أيضاً بالنسبة لنفس الشيء في الجسد؟ إن الله لم يخلق الجسد بأعضائه المتساوية في الكرامة، بل خلق عضواً أصغر، والعضو الآخر أسمى، وجعل بعض الأعضاء تسود، وبعضها يُساد عليها. بل وفي الحيوانات يستطيع المرء أن يرى نفس الشيء، كما في النحل، وفي طيور الكركر، وفي قطيع الخراف المتوحشة. ولا البحر أيضاً حُرم من هذا النظام الحسن، بل هناك أيضاً كثير من الأجناس البحرية، توضع تحت سلطان بعض الأسماك، وهي تُساق أو تُدار هكذا عندما توشك القيام برحلاتها البعيدة. خاصةً وأن الفوضى في أي موضع هي أمر سيء، وتسبب للاضطرابات.

          2  إذاً بعدما تكلّم عن السلاطين ومن أين تأتي، أضاف:

  “حتى أن من يقاوم السلطان يُقاوم ترتيب الله” (رو2:13).

          أرأيت إلى أين يقود هذا الأمر، وممن قد أخافهم، وكيف أنه بيّن، أن هذا قد صار كدين عليهم؟ إذاً لكي لا يقول المؤمنون أنه يُهيننا، ويجعلنا مُحتقرين، مُخضعاً الذين سيتمتعون بملكوت السموات للحُكام، يُظهر أنه لا يُخضعهم للحكام، بل هو يُخضع لله أيضاً، وهذا يتم حين يخضعوا للحكام. لأن كل من يخضع للسلاطين، يطيع الله. لكنه لم يقل هذا، أي أن من يُطيع الله، هو من يخضع للسلاطين، لكنه يُخيفهم من الوجهة العكسية، ويُدلل على هذا بدقة كبيرة، قائلاً أن من لا يخضع للحاكم يُقاوم الله الذي رتب هذه الأمور. وقد حرص على إظهار هذه الحقيقة في كل موضع، أننا لا نمنح هؤلاء الطاعة، بل نحن مدينين بها. وهكذا سيُمكنه أن يجذب الحكام غير المؤمنين للتقوى، والمؤمنين للطاعة.

          لقد كثر الكلام في هذا الشأن في كل مكان، وانتشرت النميمة  على الرسل حول موقفهم من التجديد أو التحدث، وتردد أن هدف كل ما قالوه وفعلوه، يكون تغيير القوانين العامة. وحين اتضح أن إلهنا يؤكد على هذا الأمر لكل أخصائه، فعليك عندئذٍ أن كسرة أفواه الذين وشوا بالرسل كمتمردين، وتتكلم بجرأة كبيرة عن المبادئ الحقيقية. إذاً لا تخجل من مثل هذا الخضوع خاصةً وأن الله هو الذي أمر به، وهو يعاقب بشدة عندما تحتقر ما يوصي به. لأنه لن يعاقبك بعقوبة بسيطة عندما لا تخضع لهذه الأمور، بل بعقوبة كبيرة جداً، ولن تفلت من العقاب، عندما تقاوم، بل ستنال من البشر عقوبة مُخيفة للغاية، ولن يحميك أحد، وسيغضب منك الله بدرجة كبيرة جداً. كل هذا ما يعنيه تحديداً عندما يقول: “والمقاومون سيأخذون لأنفسهم دينونة”.

ولكي يُبيّن بعد ذلك فوائد الخضوع فبعدما أخافهم، يحاول أن يقنع بالمنطق، قائلاً:

“فإن الحكام ليسوا خوفاً للأعمال الصالحة بل الشريرة” (رو3:13).

 إذاً لأنه واجهتهم ضربة قوية وأخافتهم، عاد وظهر شيئاً من المرونة وكطبيب حكيم أعطاهم دواء مناسباً، وأخذ يعزيهم قائلاً: ماذا تخشى؟ لماذا ترتعب عندما تعمل أعمالاً حسنة؟  هل يُقلل هذا من شأنك هل اهتمامك بالفضيلة يقلل من شأنك؟ أمر مخيف؟ ولهذا أضاف: ” أفتريد أن لا تخاف السلطان؟ افعل الصلاح فيكون لك مدح منه “. أرأيت كيف أنه صالح ذاك مع الحاكم، بعدما أظهر أنه يمتدحه؟ أرأيت كيف أنه فرّغ الغضب؟

“لأن الحاكم هو خادم الله للصلاح” (رو4:13).

          بعيد كل البعد عن إخافتك، لأنه يمتدحك أيضاً، ويبتعد تماماً عن أن يُعيقك، طالما أنه يعينك أيضاً. إذاً حين يكون لديك هذا المادح وهذا المعين، فلماذا لا تخضع؟ خاصةً وأنه يجعل الفضيلة بطريقة أخرى أكثر سهولة بالنسبة لك، أي بمعاقبة الأشرار، ويحسن ويكرم الأبرار، وهكذا يكون السلطان متفقاً مع إرادة الله عندما يفعل ذلك دعاه بولس الرسول خادم الله. لكن انتبه، فإني أنصح بالتعقل، والحاكم أيضاً ينصحنا بنفس الشيء من خلال تطبيق القوانين، فهو يحثنا على أنه ينبغي علينا ألا نكون طامعين، ولا خاطفين، ولذلك فهو يجلس ويحاكم، حتى أنه بهذا المسلك يكون عاملاً معنا ومعيناً لنا، ومُرسلاً من الله من أجل ذلك. إذاً فهو من الوجهتين محل تقدير، لأنه مُرسل من الله، ولأنه مُرسل من أجل تحقيق هذا الأمر. ” ولكن إن فعلت الشر فخف “. وبناء على ذلك فإن الحاكم لا يبث الخوف، بل أن مصدر الخوف هو ارتكابنا الشرور. “لأنه لا يحمل السيف عبثاً”. أرأيت كيف أقامه بعدما سلّحه جيداً، مثل الجندي الذي يثير الخوف لدى الذين يخطئون؟ ” إذ هو خادم الله منتقم بالغضب من الذي يفعل الشر ” إذاً وحتى لا تتمرد حين تسمع أيضاً عن إدانة، وعقوبة، وسيف، يقول مرة أخرى، أنه يُتمم ناموس الله. وما هي الأهمية، إن كان ذاك لا يعرف؟ إن الله عيّنه ليتمم ذلك.

          إذاً إن كان يعاقب، يكرم بصفته خادم، وينتقم من أجل أن تسود الفضيلة، مُبعداً الشر، الأمر الذي يريده الله، فلأي سبب تقاومه طالما أنه يحمل كل هذه الخيرات، ويُمهد الطريق من أجلك؟ لأنه يوجد بالحقيقة كثيرون بعدما سلكوا بالفضيلة خوفاً من الحكم أولاً قد سعوا إليها فيما بعد بمخافة الله. وبالنسبة للضعفاء روحياً لا تُخيفهم الأمور المستقبلية، بقدر ما تخيفهم الأمور الحاضرة. إذاً فذاك الذي بواسطة الخوف والتكريم يُعد أنفس الكثيرين لكي لتقبل التعليم يكون تعيينه خادم الله أمراً مُبرراً.

3  “لذلك يلزم أن يُخضع له ليس بسبب الغضب فقط. بل أيضاً بسبب الضمير” (رو5:13).

          ما معنى ليس بسبب الغضب فقط؟ يقول أنه يجب عليك أن تخضع ليس فقط لأنك تقاوم ترتيب الله إن لم تخضع وليس لأنك تُسبب لنفسك أضرار كبيرة من قِبل الله ومن قِبل الحكام أيضاً، بل لأنه صار مُحسناً لك في الخيرات الوفيرة، طالما أنه باعث على السلام وعلى التدبير السياسي. خاصةً وأنه بواسطة هؤلاء السلاطين تتحقق خيرات لا حصر لها في المدن. وإن أبطلت سلطة هؤلاء فإن كل شيء سينتهي، ولن يكون هناك وجود لمدينة ولا لقرية، ولا لبيت ولا لسوق ولا يمكن لأي شيء أن يثبت على حالة بل ستقلب كل الأشياء، إذ أن من هم أكثر قوة سيبتلعوا الضعفاء. وبناء على ذلك فحتى إن لم يصيبك غضب بسبب تمردك، فإنه هكذا أيضاً كان ينبغي أن تخضع، حتى لا تبدو وكأنك بلا ضمير وناكراً لجميل من أحسن إليك.

“فإنكم لأجل هذا توفون الجزية أيضاً. إذ هم خدام الله مواظبون على ذلك بعينه ” (رو6:13).

          بعدما تجنب الكلام بشكل منفصل عن الإنجازات التي يحققها الحكام في المدن مثل الإدارة الحسنة، ونشر السلام، وتقديم الخدمات الأخرى للجنود، ولأولئك الذين يهتمون بالأمور العامة، وأوضح أن الخدمة الواحدة من هذه الأمور، تبين حجم الخدمات التي تُقدم للكل. إذاً فإنك إن تثبت رضاك ومساندتك للحاكم عندما تدفع الجزية.

          لاحظ حكمة وتعقل المطوب بولس. لأن ما كان يبدو مُزعجاً ومُحزناً أي المطالب (التي طلبها)، هذا يجعله دليل اهتمام وعناية نحو هؤلاء. إذاً لماذا يطلب أن نعطي الجزية للملك؟ ألا يجب علينا أن ندفع أجر الوكالة (أي وكالته عنا في إدارة الدولة)، لأنه يعتني بنا، ولأنه يحمينا؟ إلاّ أننا نرفض ذلك إن لم نعرف من البداية أننا نستفيد كثيراً من هذا السلطان. ولهذا فق أقر الجميع من البداية أننا يجب أن نساهم في توفير معيشة الحكام لا يبالون بأنفسهم من أجل الاهتمام بالصالح العام، حتى أنهم ينشغوا بذلك حتى في فترات إجازتهم لكي يتمموا كل ما يخصنا، وبعدما تكلّم عن تلك الأمور التي تأتي من الخارج، يعود مرة أخرى بحديثه إلى الأمور السابقة (لأنه هكذا كان ممكناً بالأكثر أن يُحرك المؤمن)، ويُظهر مرة أخرى أن هذا يبدو أمراً حسناً أمام الله، وفي هذا يختم النصيحة، قائلاً: “ولكي يبين ما يبذلونه من جهد وتعب، أضاف: ” مواظبون على هذا بعينه”. إذاً هذه هي حياتهم، هذا هو اهتمامهم، أي كيف تتمتع أنت بالسلام. ولهذا في رسالة أخرى، لا يأمر فقط بأن نخضع، بل وأن نُصلي من أجل هؤلاء (أي الحكام). ومبيناً في تلك الرسالة أن الربح الفائدة عامة، أضاف: “لكي نقضي حياة مطمئنة هادئة في كل تقوى ووقار” [3].

          لأنه بالنسبة لنا ليس هو بالأمر القليل ما يقدموه لنا من منافع في الحياة الحاضرة، إذ هم يأخذون السلاح ويحاربون، يُبعدون الأعداء، يمنعون أولئك الذين يثورون على المدن، يقدمون حلولاً للمشاكل في كل شيء، إذاً لا تحدثني عن إذا كان يوجد من يُسيء استخدام السلطة، بل عليك أن تلاحظ لياقة هذا الترتيب، وسترى عظمة حكمة الذي قنن هذه الأمور منذ البداية.

” فاعطوا الجميع حقوقهم الجزية لمن له الجزية الجباية لمن له الجباية. والخوف لمن له الخوف والإكرام لمن له الإكرام. لا تكونوا مديونين لأحد بشيء إلاّ بأن يحب بعضكم بعضاً ” (رو13: 7-8).

          ولازال يقيّم نفس الأمور، طالباً من هؤلاء ليس فقط أن يدفعوا أموالاً، بل وأن يقدموا كرامة واحتراماً. وكيف يقول من قبل “أفتريد ألا تخاف السلطان افعل الصلاح ” وهنا يقول ” الخوف لمن له الخوف ” يقول هذا وهو يقصد الكرامة الفائقة، وليس الخوف الذي يأتي من الضمير الشرير، الذي أشار إليه سابقاً. ولم يقل (δ ώ στε) أي امنحوا بل (αποδ ώ στε) أي اعطوا، وأضاف “حقوقهم”. وبالطبع فإنك لا تصنع خدمة، حين تفعل هذا الأمر. لأنه حق، وإن لم تفعله، ستُدان كناكر للمعروف أو كغير معترف للجميل.

          إذاً لا تتصور أنك تُحتقر، وتُضار، فيما يختص بقيم إيمانك، إذا وقفت احتراماً، حين يعبر الحاكم من أمامك، أو إذا خلعت قبعتك عن رأسك. لأنه إن كان قد حدد هذا الأمر في ذلك الحين الذي كان فيه الأمم حكاماً فبالأولى كثيراً الآن ينبغي أن يسري هذا على المؤمنين. ولكن إذا كنت تزعم أنه استأمنك على الأمور الأعظم، فلتعلم أن الآن ليس هو وقتك، لأنك غريب ووجودك مؤقت. سيأتي الوقت الذي سيظهر فيه “لأَنَّكُمْ قَدْ مُتُّمْ وَحَيَاتُكُمْ مُسْتَتِرَةٌ مَعَ الْمَسِيحِ فِي اللهِ مَتَى اظْهِرَ الْمَسِيحُ حَيَاتُنَا، فَحِينَئِذٍ تُظْهَرُونَ أنْتُمْ أيْضاً مَعَهُ فِي الْمَجْدِ” [4]. إذاً يجب ألا تطلب المكافأة في هذه الحياة الحاضرة، بل إن احتاج الأمر، ولتشعر بهيبة ووقار الحاكم عندما تمثل أمامه، لا يتلائم مع أصلك النبيل. لأنه هكذا يريد الله، حتى أن الحاكم الذي أُعطى من الله، تكون له قوته. لأنه حين يقف ذاك الذي لم يقترف أي شر بخوف أمام القاضي، فبالأولى يخاف من يقترف الشر. لكنك هكذا ستصير أكثر بهاءً، لأن الخضوع لا يأتي من الكرامة، بل من الإهانة، والحاكم أيضاً سيكرمك إلى أقصى درجة، وسيمجدك إلهك لهذا السبب، حتى إن كنت غير مؤمن.

” لا تكونوا مديونين لأحد إلاّ بأن يُحب بعضكم بعضاً ” (رو8:13).

          يلجأ مرة أخرى إلى منبع الصالحات (أي المحبة)، إلى تلك التي ما تُعلّم ما سبق الإشارة إليه، والتي تنشيء كل الفضيلة، ويقول كيف أنها نافعة، لكن ليست مثل الضريبة، والجزية، بل بصفة دائمة. لأنه لا يريد مطلقاً بهذه المحبة تُسترجع، أو من الأفضل أن نقول دوماً هو يريد أن تُرد، لا أن تُعوض، فهي فافعة على الدوام. لأن هذا هو الدين، أننا نظل نُعطي، ونبقى مديونين على الدوام. إذاً بعدما قال كيف أنه ينبغي علينا أن نحب، يُظهر فائدة ذلك، قائلاً: “لأن مَن أحب غيره فقد أكمل الناموس”. إذاً لا تعتبر هذا العمل أنه معروفاً، خاصةً أنه دين. لأنك مدين لأخيك بالمحبة بسبب القرابة الروحية. وليس فقط لهذا السبب، بل ولأننا نحن أعضاء بعضاً لبعض. وإن مُحيت منا هذه أي المحبة، فإن كل شيء سيفنى. إذاً فلتحب أخاك. لأنه إن كان بمحبته ستربح الكثير، فحتى تتمم كل الناموس، فإنك مدين له بالمحبة، بعدما تنعم بالإحسان منه.

” لأن لا تزن لا تقتل لا تسرق لا تشهد بالزور لا تشته وإن كانت وصية أخرى هي مجموعة في هذه الكلمة أن تحب قريبك كنفسك ” (رو9:13).

          لم يقل، تُتّمم، بل قال “مجموعة “، أي موجزة وفي كلمات قليلة، يكتمل كل عمل الوصايا. لأن بداية ونهاية الفضيلة، هي المحبة. لأن هذه المحبة لها جذور، هذه هي الأساس، والقمة. إذاً فإن كانت المحبة هي البداية والنهاية، فهل يوجد ما هو مساوٍ لها؟ لكنه لا يطلب فقط محبة، بل محبة فائقة. لأنه لم يقل فقط ” تحب قريبك ” بل قال تحبه “كنفسك”. ولهذا قال المسيح عنها، أن بها يتعلق الناموس والأنبياء [5]. وبعدما أشار المسيح إلى نوعين من المحبة، لاحظ إلى أين قد سما بها. لأنه بعدما قال إن الوصية الأولى هي أن “تحب الرب إلهك” أضاف الثانية، قائلاً: ” والثانية مثلها. تُحب قريبك كنفسك “ [6].

          هل هناك ما يتساوى مع محبة الله للبشر؟ هل هناك ما يتساوى مع هذا الصلاح؟ فبرغم الفارق الشاسع بيننا وبين جعل محبتنا بعضنا لبعض مساوية لمحبتنا له ويقول إن محبة الرب إلهك هي مثل محبة القريب. لهذا تحديداً حدد معايير متساوية تقريباً في الحالتين، فمن حيث محبتنا لله، قال “من كل قلبك. من كل نفسك”، أما بالنسبة لمحبة القريب قال: “كنفسك”. والقديس بولس، أشار إلى أنه عندما لا توجد لدينا محبة للقريب، فإننا لن ننتفع من محبتنا لله. تماماً فكما يحدث معنا، عندما نحب شخصاً، نقول: إن أحببت ذاك، فإنك تحبنا نحن، هكذا المسيح أيضاً، لكي يُعلن عن هذا، قال ” والثانية مثلها”. هكذا قال أيضاً لبطرس ” أتحبني .. ارع غنمي” [7]. إذاً:

“المحبة لا تصنع شراً للقريب. فالمحبة هي تكميل الناموس” (رو10:13).

          أرأيت كيف أنه يحمل الفضيلتين، أولاً الابتعاد عن الشرور، لأنه يقول ” لا تصنع الشر”، ثانياً ممارسة الصلاح، لأنه يقول ” فالمحبة هي تكميل الناموس”، دون أن يهمل الاستفاضة في شرح التعليم   الخاص بالفضائل ينبغي أن نفعلها، بل جعل ممارستها أسهل. لأنه لم يهتم فقط بكيف سنتعلم الأمور التي تعود بالفائدة علينا، الأمر الذي هو عمل الناموس، بل أن يساعدنا أيضاً على ممارستها أيضاً سيساعدنا جداً، طالما أنه يجعلنا نتمكن من ممارسة ليس فقط من جزء واحد من الوصايا، بل من كل الفضيلة.

          4  إذاً فليحب الواحد الآخر، لكي نحب بهذه الطريقة أيضاً الله الذي أحبنا. إن ما يحدث بين البشر هو أنك إذا أحببت من هو موضع محبة، فإن الذي يُحبه سيقاومك، أما هنا فإنه يعتبرك مستحقاً أن تصير شريكاً له في المحبة، وحين ترفض أن تصير شريكاً، فإنه يُبغضك. لأن العشق الإنساني مملوء بالبغضة والحسد، بينما المحبة الإلهية متحررة من كل معاناة عاطفية، ولهذا فإنها تطلب شريكاً للمحبة. إذاً فلتحب بالاشتراك معي، هكذا يقول، وحينها سأحبك بالأكثر. أرأيت عاشقاً يتكلم بهذه القوة؟ فكأنه يقول: إن كنت تحب الذين أحبهم أنا فحينئذٍ أتصور أنني أنا ذاتي، أكون محبوباً بشكل فائق منك. خاصةً وأنه يشتهي خلاصنا جداً، وقد أظهر ذلك منذ البداية. اسمع ماذا يقول حين خلق الإنسان: ” نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا “ [8]، وأيضاً: ” ليس جيداً أن يكون آدم وحده. فأصنع له معيناً نظيره “ [9]. وحين وبّخه، عندما خالف الوصية، لاحظ كيف وبّخه بكل حنو. لأنه لم يقل له أيها الدنس والملوث، برغم من أنك قد نلت إحسانات كثيرة، فإنك آمنت بالشيطان، بعد كل هذه الإحسانات، وهجرت من أحسن إليك، وكرست ذاتك للشيطان الخبيث، بل ماذا قال: “من أعلمك أنك عريان. هل أكلت من الشجرة التي أوصيتك أن لا تأكل منها “ [10]. إن ذلك يشبه أباً أوصى أبنه بألاّ يمسك بالسيف فرفض الابن سماع النصيحة فمسك بالسيف وأصيب بجراح. وعندما أصيب أخذ يصرخ قائلاً عن سبب إصابته. فأجابه الأب قائلاً: أنك جرحت يا أبني بسبب عدم طاعتك لي ولأنك لم تسمعني.

          أرأيت أن الكلام هو من صديق أكثر منه رب؟ لصديق قد احتقر، لكنه برغم ذلك لم يبتعد. إذاً فلنتشبه به حتى عندما نُوبخ أيضاً، ولنتبع هذه الرأفة. كذلك المرأة أيضاً (أي حواء) وبّخت بنفس الرقة. أو من الأفضل أن نقول، إن ما حدث لا يُعد توبيخاً بل كان نصيحة، وتصحيح (للمسيرة)، وتأمين للمستقبل. ولهذا تحديداً لم يقل شيئاً للحية، لأنها كانت هي المخططة للشرور، ولم تستطع أن تنقل السبب إلى شخص آخر، ولذلك فقد عاقبها بشدة، ولم يتوقف عند هذا الحد، بل جعل الأرض مشتركة في اللعنة. وإذ أن الله قد طرد آدم من الفردوس، وحكم عليه بالعمل الشاق، ولذلك يجب أن نسجد له ونُمجده. لأن الشهوة قادت إلى الخمول والإهمال في تنفيذ الوصية، وحاصرت الفرح، وساد الحزن الناتج عن عدم  اللامبالاة، وهذا ما يدفعنا إلى الرجوع إلى محبته.

          ماذا حدث أيضاً في حالة قايين؟ ألم يستخدم معه نفس أسلوب الرأفة؟ كذلك برغم من أنه أُهين منه، لم يرد الإهانة، لكنه تجدث معه برجاء وقال: “لماذا سقط وجهك” [11]. وإن كان ما حدث خال بالطبع من أية مقدرة على صفح، وقد برهن الأخ الأصغر على ذلك. لكن ولا هكذا وبّخ، ماذا قال: ” إن أحسنت أفلا ترفع. وإن لم تحسن فعند الباب خطية رابضة وإليك اشتياقها وأنت تسود عليها “ [12]، ويعني بذلك أخاه. إذاً وإن كنت تخاف، هكذا يقول، ربما بسبب ذبح هابيل سأنزع عنك سلطة البكر، فلتتشجع (أي لا تخف). فكل سلطته سأضعها في يدك. فقط أريد أن تصير أفضل، وأن تحب الذي لم يظلمك أبداً. خاصةً وإني أعتني بكما معاً، على أن ما يفرحني هو ألا تتشاجروا فيما بينكما. ومثلما تفعل الأم الحنون، هكذا يفعل الله، كل شيء يصنعه ويبدعه، حتى لا ينفصل أحد عن الآخر.

          لكن لكي تعلم ما أقوله جيداً، سأذكر لك مثالاً: غليك أن تتذكر رفقة التي أصابها القلق وركضت في كل مكان، عندما حارب ابنها الأكبر، الابن الأصغر. لأنه برغم من أنها كانت تحب يعقوب، إلاّ أنها لم تُبغض عيسو. ولهذا قالت: ” لماذا أعدم أثنيكما في يوم واحد “ [13]. ولهذا تحديداً قال الله آنذاك لقايين: “عند الباب خطية رابضة وإليك اشتياقها”، لكي يجنبه القتل لأنه كان يطلب سلام الاثنين. وحتى عندما ذبحه دون حزن أو أسى، لم تتوقف عنايته لذاك لقايين، بل برأفة، يسأل قاتل أخيه قائلاً: ” أين هابيل أخوك “ [14]. لكي بهذه الطريقة على الأقل يقدم توبة. لكن ذاك جادل في الأمور السابقة، جاعلاً السفاهات أكبر وأفظع. ولا هذا أيضاً جعل الله يبتعد عنه بل حدّثه أيضاً بكلام يليق بمن يحب بقوة، على الرغم من أنه أُهين واُحتقر، فيقول “صوت دم أخيك صارخ إليّ “ [15]. وأيضاً لعن الأرض مع قاتل أخيه، تاركاً غضبه للأرض، قائلاً: ” ملعون أنت من الأرض التي فتحت فاها لتقبل دم أخيك من يدك “ [16]، وقد فعل مثلما يفعل أولئك الذين يدعون شخصاً للرجوع.

          هذا ما صنعه داود، عندما سقط شاول. خاصةً وأن ذاك (أي داود) لعن الجبال التي حدث عليها جريمة القتل الذبح (أي ذبح شاول)، قائلاً: ” يا جبال جلبوع لا يكن طل ولا مطر عليكن .. لأنه هناك طُرح مجن الجبابرة “ [17]. هكذا فإن الله كمن رنم بصوت فردي، يقول: ” صوت دم أخيك صارخ إليّ من الأرض. فالآن ملعون أنت من الأرض التي فتحت فاها لتقبل دم أخيك من يدك “. وقال هذا لكي يضبط غضبه الذي كان محتداً، ولكي يُقنعه على الأقل بأن يحبه حتى وإن لم يكن حياً. هكذا يقول لقد محوت حياته، فلماذا لم تمحو البغضة؟ لكن ماذا يفعل؟ إنه يُحب هذا وذاك، لأنه خلق الاثنين. ماذا إذاً؟ هل سيترك قاتل أخيه بلا عقاب. لكنه في هذه الحالة سيصير أسوأ؟ فهل سيعاقبه؟ إلاّ أنه أكثر حنو من أي أب. لاحظ إذاً كيف أنه يُعاقب ويُظهر رحمة لنفس الشخص، أو من الأفضل أن نقول، لا يُعاقب بل يُصحح فقط. لأنه لم يُميته، بل قيده بالرعب، حتى يطرد العار منه، ليعود على الأقل إلى حنوه وعطفه، لكي يُقيم عهداً على الأقل مع ذاك الذي مات، لأنه لم يُرد لقايين أن يرحل من هناك وهو لازال عدواً، لهابيل الذي قتله.

          إن الذين يحبون يكون مثل هؤلاء. فعندما يصنعون إحسانات، لا يكونون موضع محبة، يصيرون قساة، ويهددون، بالطبع دون أن يريدوا ذلك بل ينقادوا بالمحبة إلى هذه القسوة لكي يجذبوا، على الأقل بهذه الطريقة، أولئك الذين يحتقرونهم. وإن كانت مثل هذه المحبة، تصير نتيجة الحاجة، لكن هذا أيضاً يُعزيهم بسبب محبتهم الفائقة. وبناء عليه فإن العقاب أيضاً يصير بالمحبة. لأن أولئك الذين لا يتضايقوا حين يُبغضوا، لا يفضلوا أن يعاقبوا. ولك أن تلحظ ما يقوله القديس بولس، في هذا الأمر لأهل كورنثوس: “لأنه إن كنت أحزنكم أنا فمن هو الذي يُفرحني إلاّ الذي أحزنته “ [18]. وبناء على ذلك، فعندما يزيد حجم العقوبة جداً، عندئذٍ يُظهر المحبة الفائقة. هكذا فإن زوجة فوطيفار المصرية عاقبت يوسف بقسوة بسبب المحبة الفائقة. لكنها بالطبع عاقبته بدافع أمر سيء، خاصةً وأن المحبة كانت قد أخذت شكل الفجور ولكن الله يعاقب من أجل أمر حسن، لأن محبته أيضاً كانت بالقدر الذي يستحق الذي أحب. ولهذا لم يتجنب أيضاً أن يستخدم كلاماً ثقيلاً، وأن يقدم كلمات الميول الإنسانية، وأن يدعو نفسه، غيور ” لأني أنا الرب إلهك إله غيوراً” [19]، يقول هذا لكي تعلم مدى قدر المحبة.

          إذاً فلنحب الله كما يريد هو، لأنه يعتبر هذا الأمر، هاماً جداً. وإن تحولنا عنه، فيظل يدعو، وإن لم نُرد أن نعود، يُعاقب بمحبة، وليس لأنه يريد العقاب. لاحظ إذاً ماذا يقول في سفر حزقيال، عن المدينة التي أحبها، وأهانته ” هاأنذا أهيج عليك عشاقك وأسلمك إلى أيديهم وسيرجمونك وسيحطمونك. وسأنزع غيرتي عنك. وسأستريح ولن أهتم بعد بك “ [20]. هل هناك قسوة أكثر قسوة من ذلك، يمكن لعاشق أن يقوله يظهرها عندما يُحتقر من معشوقته، وحين يحترق بالنار لأجلها، بعد كل هذا؟ إن الله يصنع كل شيء، لكي يصير محبوباً لنا، ولهذا لم يُشفق على ابنه. لكننا قساة ومتوحشون. ويجب علينا أن نصير ودعاء، ولنحب الله، كما ينبغي أن نحبه، لكي نتمتع بالفضيلة، بفرح، لأنه إن كان أحد يحب أو يعشق امرأة، لا يشعر بأي أمر من الأمور اليومية المحزنة، فكّر في كم السعادة التي سيتمتع بها ذاك الذي يشتهي جداً، هذا العشق الإلهي النقي.

          إن هذا العشق الإلهي لأمر عظيم جداً هو ملكوت السموات، هو تمتع بالخيرات، هذه هي المسرة، هذا هو الابتهاج، هو الفرح، هو السعادة. أو من الأفضل أن نقول، أنه مهما تكلمت فلن أستطيع أن أعرض شيئاً يستحق أن يعادله، لكنني بالخبرة أعرف مدى عظمة هذا العشق الإلهي.

          ولهذا قال النبي ” ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب “ [21]. لنخضع إذاً ولنتمتع بمحبته. لأنه هكذا (من هذه المحبة)، سنرى ملكوت السموات، وسنحيا حياة ملائكية، وعلى الرغم من أننا نحيا على الأرض، إلا أننا ننقص شيئاً عن أولئك الذين يسكنون السماء، وبعد انتقالنا من هنا، سنمثل أمام عرش المسيح أكثر بهاءً من الجميع وسنتمتع بمجده الذي لا يعبر عنه، والذي ليتنا نناله جميعاً بالنعمة ومحبة البشر اللواتي لربنا يسوع المسيح الذي يليق به المجد إلى أبد الدهور أمين.


[1] أم14:19.

[2] مت4:19ـ5.

[3] 1تيمو2:2.

[4] كو3:3ـ4.

[5] مت40:22.

[6] مت38:22ـ39.

[7] يو16:21.

[8] تك26:1.

[9] تك18:2.

[10] تك11:3.

[11] تك6:4.

[12] تك7:4.

[13] تك45:27.

[14] تك9:4.

[15] تك10:4.

[16] تك11:4.

[17] 2صم21:1.

[18] 2كو2:2.

[19] خر5:20.

[20] خر22:23 (س).

[21] مز8:34.

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF

information About the page

Titles The article

content Section

Tags الصفحة

en_USEnglish
Scroll to Top