تحتوي كلمات النشيد المقدسة بعض الأفكار المخفية وكأن عليها نقاب سميك تختفي وراءه فتبدوا صعبة في الفهم. لذلك يلزم أن نوجه اِهتمامًا كبيرا للنص. وفي الحقيقة نحن نحتاج مساعدة من خلال الصلاة وقيادة الروح القدس حتى لا تضيع منا المعاني مثل من يتطلع إلى معرفة أسرار النجوم. فعندما نتطلع إلى جمال النجوم البعيدة لا نعرف كيف خُلقت ولكننا نتمتع بجمالها ونتعجب للمعانها وأوضاعها في السماء. تضيء بعض النجوم التي ذكرت في الكتاب المقدس وتتلألأ وتملأ عينا النفس بالضياء، كما يقول النبي: “لأنه مثل ارتفاع السماوات فوق الأرض” (مز 103: 11). فإذا كان هذا مكان صعود نفوسنا، كما في مثال إيليا حيث تخطف عقولنا إلى أعلى في المركبة النارية (2 مل 2: 11) وترتفع إلى الجمال السماوي. نحن نفهم أن المركبة النارية هي الروح القدس الذي أتى الله ليمنحها للساكنين على الأرض، على هيئة ألسنة قُسمت على التلاميذ. سوف لا نيأس من الاقتراب من النجوم، أي من البحث في الأمور المقدسة التي تضيء نفوسنا بكلمة الله السماوية الروحية.
اُنظر أعلى بعين نفسك، أنا أكلمك أيها المستمع بنفس صوت الله الذي كلم أبونا إبراهيم (تك 15: 5). اُنظر إلى السماء وتطلع إلى النجوم وتأمل في سمو ارتفاعها تأمل في سلطة الملكة (أي العروس) وابحث في قوة أوامرها. إنها تحصل على رغباتها بالصوت الحقيقي لمن أعطى الوعود أنه “الله” الأمين القادر المعطي الذي عيّنه الآب على جميع؟؟؟ (لو 12: 42). وبعدما قبلت هذه السلطة، تحكم الملكة الريح بطريقة ملكية، وتوزعها كما يتراءى لها أنه مناسب، فتأمر ريح الشمال أن تستيقظ وتهب وتنادي ريح الجنوب بلطف وتحفزها لكي تأتي إليها.
يقول النص: “استيقظي يا ريح الشمال وتعالي يا ريح الجنوب” [ع16]. يحمل أن ترتبط هذه الكلمات بأوامر قائد المائة الذي تعجب منه السيد المسيح. وقد دوّن متى البشير ذلك بقوله: “لأني أنا أيضًا إنسان تحت سلطان. لي جند تحت يدي. أقول لهذا أذهب فيذهب ولآخر إيت فيأتي ولعبدي أفعل هذا فيفعل. فلما سمع يسوع تعجب. وقال للذين يتبعون. الحق أقول لكم لم أجد ولا في إسرائيل إيمانا بمقدار هذا” (مت 8: 9-10). وهكذا فاق إيمان قائد المائة إيمان إسرائيل. لا يظهر لي أنه يجب أن نقارن قائد المائة بشعب إسرائيل في موضوع الإيمان ولكن إسرائيل نفسه. يشير الكتاب المقدس إلى صراع يعقوب. “فبقى يعقوب وحده وصارعه إنسان حتى طلوع الفجر. ولما رأى أنه لا يقدر عليه ضرب فخذه. فاِنخلع حق فخذ يعقوب في مصارعته معه. وقال أطلقني لأنه قد طلع الفجر. فقال لا أطلقك إن لم تباركني.
فقال له ما اسمك. فقال يعقوب فقال لا يدعى اسمك فيما بعد يعقوب بل إسرائيل. لأنك جاهدت مع الله والناس وقدرت. وسأل يعقوب وقال اَخبرني باسمك. فقال لماذا تسأل عن اسمي. وباركه هناك” (تك 32: 24-29). اشتبك يعقوب في الصراع ونجا من السقوط بمساعدة الله. ولم تكن عنده مناعة ضد الصراع لأنه جُرح في فخذه. لقد عمل قائد المائة الذي يتكلم عنه النص الآن، على تنفيذ إرادة الملك وتذليل كل عقبة ضد رغباته. لذلك يظهر لي أن قائد المائة يستحق كل إعجاب، لأنه يعطي أوامر لجنوده فيطيعونه ولخَدمه فيقومون بكل ما يطلب منهم من أعمال. توضح كلمات قائد المائة أنه إذا طرد خادمه فإنه لا يُرجعه مرة ثانية إلى منزله بل يُعيّن خادمًا آخر بدلاً منه.
اعتقد أن النص يعلمنا أن العناصر المتضاربة تختلف في طبيعتها ولا يمكن أن توجد في مكان واحد في نفس الوقت. لا توجد شركة للنور مع الظلمة، كما يقول القديس بولس. (2 كو 6: 14)، ولكن إذا انسحب كل الظلام يلزم للنور أن يأخذ مكانه، وأيضًا متى أُزيل الشرّ فإن الفضيلة تأخذ مكانه. وعند ما يتم هذا فإن قوة الجسد لا تتمكن من مقاومة الروح القدس، فإماتة الجسد تفقده معارضة الروح. فيصبح الجسد وديع الطباع في جميع الظروف وخادمًا مطيعًا لحكم الروح القدس. فعندما يختفي الجندي الخبيث القاسي وشره، يحل محله الجندي المسلح بالفضيلة، وهو يلبس درع البرّ على صدره ويحمل سيف الروح القدس ويحميه سلاح الله الكامل وخوذة الخلاص وترس الإيمان وسيف الروح (أف 6: 14-17). لذلك يسلك الجسد كخادم للسيد وهو العقل، ويستجيب لكل أوامره في الفضيلة التي تعمل لخدمة الجسد. ويوضح النص ذلك بقوله أقول لخادمي، اِعمل هذا فينفذه.
دعنا نوجه اِهتمامنا إلى الطريقة التي تجعل بها الملكة ريح الشمال يبتعد عنها ثم يرجع إليها. إنها لا تأمره أن يسكن كما أمر السيد المسيح العاصفة أن تهدأ عندما كان سائرًا على المياه (لو 8: 23-24) ولكنها أمرت ريح الجنوب أن تهب وأن لا تعترضها أي ريح معاكسة قالت لريح الشمال “استيقظي” ما هو السبب في حركة هذه الرياح؟ تتكلم الأمثال عن هذه الرياح: “من يخبئها يخبئ الريح ويمينة تقبض على الزيت” (أم 27: 16) ولكن لا تهب ريح الشمال عن يمين الشخص في اِتجاه الغروب، مشرفة خلفه. وحركة الشمس في اِتجاه الغروب. أنت تفهم حقيقة ما تحتويه هذه الكلمات من أسرار: تشرق الشمس من الشرق وتسرع نحو الغروب أي ناحية قوى الظلمة، يقع الشمال على يمين الشمس ويستقبل إهانات أثناء رحلته التي تنتهي في الظلمة. لذلك يجد الشخص الغير منضبط نفسه كأنه ريح الشمال يسلك ويعمل أعمالاً مشينة. هذه الريح الشريرة على اليمين تمتلئ طمعًا عندما ترفع أكوامًا من الأشياء المالية، كأنها رمل أو تراب، ونتيجة لهذا فإن ريح الشمال تتعاون مع أخطاء كل شخص وتهبّ على جانبيه الأيمن ولكن إذا كانت هذه الريح شديدة جدًا فإنها تغيّر وتقلب الأمور وتزيل متعة الفرح، لذلك تجعل العروس ريح الشمال التي تأتي قوتها من الأهواء أن تهرب تحت مسئوليتها: “اِستيقظي يا ريح الشمال”.
تشير ريح الشمال إلى القوى المضادة (لله)، ويظهر هذا بوضوح لأي شخص يبحث في طبيعة الحق المرئي فمن لا يدري بمسار الشمس بعد شروقها؟ أنها تظهر وكأنها تتحرك نحو الجنوب وتغرب في الغرب. ويقول الخبراء أن الأرض كرويّة، فإذا أضيء نصف الأرض بالشمس يكون النصف المقابل له مظلمًا لوقوعه في منطقة ظل الأرض. ولما كان القطب الشمالي للأرض باردًا باِستمرار ولا تدفئه أو تضيئه أشعة الشمس، فإن القوة المتحكمة في الظلمة تُحجز النفوس وتجعلها جامدة، يسمي النشيد هذا التجمد، “الشمال” أي تأثير ظلام الشتاء. إني أُسميه الشتاء الذي أشار إليه الإنجيل قائلاً: “وصلوا لكي لا يكون هربكم في الشتاء” (مت 24: 20). وفي الشتاء تنطفئ الصفات المزدهرة حسب الفضيلة.
أصابت الملكة حينما أمرت بسلطانها دفع ريح الشمال بعيدًا. ونادت على ريح منتصف النهار الدافئ الذي تسميه ريح الجنوب، وبواسطته يفيض تيار جارف من السرور: “تعالي يا ريح الجنوب، هبِّي على جنتي فتقطر أطيابها”. وتشبِه هذه الريح القوية التي سُميت في العلية عندما كان التلاميذ فيها (أع 2:2) “وظهرت لهم ألسنة منقسمة كأنها من نار، واستقرت على كل واحد منهم”. وكأنهم نباتات حية تساعد هذه الريح حديقة الله على إنتاج الأعشاب العطرة، وتصدر نبوءات يفوح منها روائح ذكية ووصايا الخلاص للإيمان بفم الرسل ويخرج منها عطر تعاليمهم بكل اللغات. لقد جعلت ريح الجنوب هذه تعاليم المائة والعشرين رسولاً الذين كانوا نابتين في بيت الرب تفيض على كل أمم الأرض (أع 1: 15).
تقول العروس الآن لريح الجنوب “هبِّي على جنتي”، لأن عريسها جعلها أمًا للحدائق: ويشمل النص حدائق وينبوع. من أجل هذا يرغب العريس لحديقته، الكنيسة، التي تمتلئ بالأشجار الحيّة، أن تهب عليها هذه الريح، لكي تحمل منها روائح عطورها. ويقول النبي: “الريح العاصفة الصانعة كلمته” (مز 148: 8). تزينت العروس بزينة الملكة البهية، وغيّرت النهيرات التي تفيض عطرًا إلى شيء أكثر جمالاً، فجعلتها تفيض من أشجار الحدائق بواسطة قوة الروح القدس. ويمكننا بهذه الصورة أن نتعلم الفرق بين العهدين القديم والجديد: يمتلئ نهر النبوة بالمياه بينما تمتلئ أنهار الإنجيل بالعطر. وكان نهر القديس بولس يحمل رائحة المسيح العطرة، ويفيض من حديقة الكنيسة بواسطة الروح القدس. والأمثلة الأخرى كيوحنا، ولوقا ومتى ومرقس وجميع الرسل الآخرين كلهم يرمزون إلى نباتات نبيلة في حديقة العروس، وعندما تهب عليها في منتصف الظهيرة تصير ريح الجنوب جميعًا ينابيع عطور لرائحة الأناجيل الذكية.
“ليأت حبيبي إلى جنته ويأكل ثمرة النفيس” [ع16]. أنه لتعبير جريء من نفس ممتلئة حماسًا وروعة ترتفع على كل تعجب. من تدعوه العروس لوليمتها التي تتكون من فاكهتها الخاصة؟ لمن تُجهز العروس ولِيمتها التي أقامتها من مصادرها الخاصة؟ من تدعوه العروس لكي يأكل مما عرضته؟ “هو الذي منه وبه وله كل الأشياء” (رو 11: 36). أنه يعطي كل شخص طعامه في حينه (مز 145: 15)، يفتح يده ويملأ كل كائن حي بالنعيم. هو الخبز النازل من السماء (يو 6: 41)، هو الذي يعطي الحياة للعالم ويجعل المياه تفيض من نبعه الخاص للحياة. هذا هو الواحد الذي تُرتب العروس له مائدتها. وهي الحديقة التي تنبت منها أشجار حيّة. ترمز الأشجار إلينا وتُشير أرواحنا المُخلصة إلى الطعام المُقدم له. وقال لتلاميذه: “أنا لي طعام لآكل لستم تعرفونه أنتم” (يو 4: 32، 34). تتميم إرادة الله المقدسة: “فهو يريد أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون” (1 تي 2: 4). فهذا الخلاص هو الغذاء الذي يُجهز له. تعطي إرادتنا الحرة الثمرة لله وهي أرواحنا، ليقطفها من على غصنها الصغير. تمتعت العروس في البداية بثمرة التفاح حلوة المذاق قائلة “وثمرته حلوة لحلقي” (نش 2: 3). ثم أصبحت هي نفسها الثمرة الجميلة الحلوة التي قُدمت للراعي ليتمتع بها.
تشير الكلمات “ليأت إلى” إلى إعطاء حرية الاختيار مثل “ليتقدس اسمك” “ولتكن مشيئتك” وكما توضح هاتان الفقرتان حرية الاختيار فإن صلاة العروس “ليأت إلى” تشير إلى الله مانح ثمار الفضيلة وإلى نزول العريس من أجل حبه للبشرية. لا يمكن لنا أن ترتفع إلى أعلى السماوات بدون أن ينزل هو إلى الودعاء ويرفعهم (مز 147: 6)، لذلك تنادي النفس التي ترتفع إلى أعلى على الله الذي لا حدود له وتصلي له لكي ينزل من علياء عظمته حتى يتمكن من يعيشون على الأرض أن يقتربوا منه. وبينما كنت تتكلم يجيب الرب “هأنذا” (إش 58: 9). سمع الرب ما كان يدور بخلد العروس، ومنحها سؤل قلبها، وأتى إلى حديقتها عندما كان ريح الجنوب يهب، والتقط ثمار أطيابها، واِمتلأ بثمار الفضيلة وتكلم عن وليمته قائلاً: “قد دخلْتِ جنتي يا أختي العروس. قطفت مرّي مع طيبي. أكلت شهدي مع عسلي. شربت خمري مع لبني. كلوا أيها الأصحاب اِشربوا واِسكروا أيها الأحباء” [ع1]. هل ترى الآن كيف تفوق عطية العريس على ما تطلبه العروس؟ أرادت العروس ينابيع من الأطياب في حديقتها وأن يهبّ على نباتاتها ريح الجنوب في منتصف النهار، وأن ينال راعي الحديقة الثمار التوتية حسب اختياره. يتضح أن كل رائحة طيبة تُدخل السرور عند شمِّها، بينما الثمار التوتية المختارة ليست في مستوى الخبز كغذاء صحي للجسم. غيّر العريس الثمار إلى أنواع أفضل عندما نزل إلى حديقة. ثم جمع منها المرّ والأعشاب العطرة. ويتبعني النبي بكل ما هو جميل في العريس (زك 9: 17). جعل العريس الأشجار تُنتج الخبز الذي خلطه بعسله بدلاً من الثمار التوتية المختارة. (هنا يوجد تقرير نبوي وهو عسل العريس وغيره من المسرات. وتخلط الخمر المشتقة من الأشجار بمثل هذه الثمار، بها! إن التمتع بالإضافة إلى عطر ثمرة العروس هو المرّ المتحد مع الأعشاب العطرة. إنها تُميت أعضائنا الأرضية وتبقى وتنقي الحياة وتجعلها عطرة من أطياب الفضيلة المختلفة.
يجد الشخص الذي يبحث عن غذاء أكثر كمالاً، الخبز الذي لا يأكلونه الآن مع الأعشاب المرة كما تأمر الوصايا (خر 12: 8). هذه الحياة مرة، والاختيار الأحسن يحوّل العسل إلى غذاء جامد في الوقت المناسب وتضيف ثمرة الفضيلة حلاوة إلى حواس النفس. حدث مثل هذا عندما ظهر خُبز السماء للتلاميذ بعد قيامة السيد المسيح. لقد صار طعمها حلوًا بالعسل من قرص الشهد. يقدم للشخص العطشان كوبًا من الخمر واللبن وليس مرارة على إسفنجة مبللة بالخل (مر 15: 36)، كما قدم اليهود لمخلصهم كأس الصداقة على خشبة. حقيقة نحن لا نجهل السرّ الضمني وراء هذه الكلمات، أي كيف كان القديس بولس شجرة تحمل المرّ والذي كان يموت كل يوم (1 كو 15: 31)، الذي وضع نفسه تحت حكم الموت، وأصبح عطرًا الحياة لهؤلاء الذين خلصوا بواسطة رائحته الطيبة ونقاؤه وتفانيه. طحن بولس النباتات الحيّة بالحديقة وحوّلها إلى قمح ليقدمها لله. شهد الجالس على العرش لهذا بقوله: “كنت جوعانًا فاطعمتموني” (مت 25: 35). إن خبز الفرح هو السعادة المحلاة بعسل الوصية. تصب العروس نباتات الحديقة المزهرة كخمر لعريسها الذي قال: “كنت عطشانًا فسقيتموني” خمر ممزوج باللبن، وليس بالماء كما يفعل أصحاب محلات بيع الخمور. اللبن النقي عديم الغش هو الغذاء البسيط للبشر (1 بط 2:2)، أنه غير ممزوج بأي شيء آخر، ونقي من أي مصدر للشر.
وبعدما خاطب العريس العروس، قدم النشيد إلى أصدقاء العروس سرّ الإنجيل قائلاً: “كلوا أيها الأصحاب، اِشربوا وأسكروا أيها الأحباء” [ع1]. فالشخص الذي يعرف كلمات الإنجيل الروحية يجد أنه لا فرق بين هذه الآيه والكلمات التي قيلت عند بدء الخدمة الروحية للتلاميذ. ففي كلا الحالتين تقول الكلمات: “كلوا واشربوا” (مت 26:26-27). ويظهر أن تشجيع العروس لأصدقائها كان أكبر مما كان للتلاميذ. لكن من يفحص النصين بدقة يتبين له أن كلمات النشيد تتفق مع ما جاء بالإنجيل. فالكلمة التي وُجهت للأصدقاء أنتجت ثمرها في الإنجيل. تتغلب الخمر على العقل ويصبح المخمور في حالة من السعادة والفرح. لذلك يُصبح ما يشجع به النشيد حقيقة بواسطة هذا الغذاء والشراب المقدس للإنجيل. لذلك يحتوي هذا الغذاء والشراب الآن ودائمًا القدرة على التغيُّر المستمر والفرح من حالة دنيا إلى حالة أحسن.
وكما يقول النبي: “لأن عندك ينبوع الحياة. بنورك نرى نورًا” (مز 36: 9). فالذين يشربون من غنى بيت الله. من نهر فرحه ينتشون. وأيضًا انتشى داود العظيم لأنه خرج من نطاق نفسه إلى آفاق الفرح والسعادة الغامرة: فقد رأى الجمال الغير منظور، وصرخ بصوته الذي تقوده القوى المقدسة: “لماذا يقول الأمم أين هو إلههم” (مز 115: 2). يشرح داود بهذا التعبير كنوز الله العظيمة جدًا التي تعلو عن التعبير عنها. وقال بولس، بنيامين الجديد، وهو في نشوة السعادة والفرح العظيم: “لأننا إن صرنا مختلفين فللَّه – تُعتبر النشوة والسعادة حركة ناحية الله – أو كنا عاقلين فلكم” (2 كو 5: 13). وأشار بولس بطريقة مماثلة إلى فستوس قائلاً: “لست أهذي أيها العزيز فستوس بل أنطق بكلمات الصدق والصحو” (أع 26: 25).
شارك القديس بطرس في هذا النوع من الغيبة عندما كان جوعانًا ومخمورًا في نفس الوقت. كان بطرس جوعانًا قبل أن يقدم له الغذاء المادي وأراد أن يتذوقه، وبينما كان أعضاء عائلته يجهزون الطعام (أع 10:10) جرب بطرس هذه الغيبة المقدسة الصاحية. وخرج من نفسه بواسطتها ورأى الرؤيا الآتية: “فرأي السماء مفتوحة وإناء نازلاً عليه مثل ملاءة عظيمة مربوطة بأربعة أطراف ومدلاة على الأرض. وكان فيها دواب الأرض والوحوش والزحافات وطيور السماء. وصار إليه صوت قم يا بطرس وإذبح وكل. فقال بطرس كلا يا رب لم آكل قط شيئًا دنسًا أو نجسًا. فصار إليه أيضًا صوت ثانية ما طهره الله لا تدنسه أنت. وكان هذا على ثلاث مرات” (أع 10: 11-15). نتعلم من الصوت الذي ناداه في المرة الأولى أن الله الآب هو الذي يُطهر، وفي المرة الثانية أن الابن الوحيد هو الذي يُطهر وفي المرة الثالثة أن الروح القدس هو الذي يطهر كل شيء. تحدث هذه الغيبة من الخمر الذي يقدمه الله لكل من يجلس على مائدته. فالله يُشجع بحق كل من يعيش حياة الفضيلة ويقترب منه، وليس البعيدين عنه: “كلوا أيها الأصحاب اشربوا واسكروا أيها الأحياء”. “لأن الذي يأكل ويشرب بدون اِستحقاق يأكل ويشرب دينونة لنفسه غير مميز جسد الرب” (1 كو 11: 29)، فهو يطلق كلمة “إخوة” على المستحقين لهذا الطعام. “لأن من يصنع مشيئة الله هو أخي وأختي وأمي” (مر 3: 35).
ينام الإنسان بعد ما يدخل في غيبة، وفي أثناء النوم يتم هضم الطعام وتُحفظ صحة من يشاركون في مائدة الاحتفال. لذلك تنام العروس بعد الاحتفال. ويُعتبر هذا النوم غير مألوفٍ، ويختلف عن النوم العادي الذي لا يكون الشخص فيه غير واعٍ بما حوله. وكلاهما يضادان بعضهما البعض لأن النوم والاستيقاظ يتلو أحدهما الآخر. ونرى في العروس خليط من التعارض المميّز: تقول “أنا نائمة وقلبي مستيقظ” [ع2]، ماذا نفهم من هذه الآية؟ يشبه هذا النوم الموت، وفيه تتوقف كل وظائف الإحساس: فلا توجد رؤية أو سمع أو شم أو تذوق أو إحساس باللمس، ولكن ينخفض ضغط الدم. وينسى الشخص القلق أثناء النوم ويهدأ انفعال الخوف، ويقلل الغضب وينخفض القلق من التجارب المريرة، ويجعل الشخص غير واع بالشرور. لذلك، نتعلم من العروس أنها ارتفعت وتفخر قائلة: “أنا نائمة وقلبي مستيقظ”.
يظهر أن الجسم يُغلب على أمره أثناء النوم وذلك بفقدانه المؤقت للحواس بينما يبقى العقل وحيدًا وغير مضطرب بالحواس. ويمكن أن نقول بحق أن الرؤية تستريح لعدم القيام بوظيفتها بينما تزدري النفس بالرؤى التي تُخيف الأطفال الصغار. إني لا أتكلم فقط على الأشياء المادية مثل الذهب والفضة والأحجار الكريمة التي تثير العيون الطامعة ولكني أقصد العجائب السماوية العظيمة: النجوم المتلألئة وما يظهر من تغيرات على كرة الشمس والقمر وأي شيء آخر مما يبهج العيون.
وجميع هذه سوف لا تبقى إلى الأبد ولكنها تتحرك وتبتعد مع دورة الزمن. ولكن عندما نفكر بعمق في عظمة الله يقل تقديرنا لهذه العجائب، وتتعب العين من النظر إليها ولا تنجذب النفس الكاملة إلى أي شيء مرئي بل تتأمل بالفكر في كل ما يسمو فوق ما هو حسن. وحتى السمع يتوقف عن القيام بوظيفته لأنه يهتم الآن بما وراء الكلام وتبتعد الروح عن حواسنا الحيوانية وهي التي تتمتع بالروائح العطرة وحاسة الذوق التي تخدم المعدة وحاسة اللمس العامة التي تنقصها الرؤية، ويظهر أن اللمس يتبع الأعمى، وإذا توقفت هذه الحواس بالنوم وبقيت دون عمل، يستمر عمل القلب في نقاء، ويتطلع المنطق إلى أعلى دون اضطراب بعيدًا عن حركة الحواس.
يوجد للمتعة وجهان: أحدهما يتأثر بالروح الخالية عن الهوى، والثاني يتأثر بأهواء الجسد. وما تختاره منهما الإرادة الحرة، ويقوى على الآخر. فإذا اِهتم شخص بالحواس واِنجذب ناحية متعة الجسم فسوف يعيش حياته دون أن يتذوق الفرح المقدس، لأن الحق يختفي بما هو دنيء. أما هؤلاء الذين يبغون وجه الله، فإن الخير ينتظرهم، إنهم يعملون بكل جهدهم أن يبتعدوا عن كل ما يرتبط بالحواس. لذلك عندما تتمتع النفس بما هو أسمى من الوجود فإنها سوف لا تهتم بما يؤدي متعه الحواس. إنها تأمر جميع الميول الجسدية بالتوقف، وترى النفس الله في تأملاتها المقدسة برؤية داخلية نقية. ليتنا نتجول ونكون مستحقين من خلال هذا النوم الذي يتكلم عنه النشيد لكي نحفظ أرواحنا مرتبطة بالمسيح يسوع ربنا، له المجد إلى الأبد آمين.