1- Introduction
بعد زيارة هؤلاء الآباء الشيوخ الثلاثة والتحدث معهم ومحاولة وصف مناظراتهم للأخ يوخريوس Eucherius، إذ لنا رغبة قوية في الاستطلاع على أجزاء أخرى من مصر يقطن فيها جماعات من القديسين أكثر كمالاً… أتينا إلى قرية [1]Diolcos، تقع على أحد مصبات النيل السبعة. لأنه عندما سمعنا عن أديرة عديدة أسسها الآباء الأولون، أقلعنا على الفور كتجار شغوفين مدفوعين بالأمل في نوال ربحٍ أعظم. وإذ تجولنا هناك لوقت طويل، مثبتين أنظارنا المتلهفة على جبال الفضيلة الشاهقة، وقعت أنظارنا على الأب بيامون، الذي هو أول المتوحدين القاطنين هناك وكاهنهم، وكأنه فنار عالٍ.
إنه يسكن فوق جبلٍ عالٍ، وذلك مثل المدينة المذكورة في الإنجيل (مت14:5)، سرعان ما سلط نوره على وجوهنا، هذا الذي تشهد له حياته ومعجزاته التي رأيناها بعيوننا. كذلك تشهد النعمة الإلهية لسموه، وإذ لا نريد أن نطيل الحديث في هذا المجلد فإننا نشعر أنه يلزمنا أن نعبر صامتين في سكون. لأننا قد وعدنا أن نجمع في ذاكرتنا ما أمكن، ليس من جهة المعجزات الإلهية، بل من جهة تعاليم القديسين وآثارهم، حتى نمد القُراء بالتعاليم الضرورية اللازمة للحياة الكاملة وليس أن نتكلم عن مقدار دهشتنا بطريقة خاملة غير مربحة.
هكذا استقبلنا الأب بيامون بترحابه وغمرنا بعطفه عندما عرف أننا غرباء، وسألنا عن سبب مجيئنا إلى مصر. وإذ عرف أننا قادمون من دير في سوريا نسعى وراء الكمال ابتدأ الحديث.
2- ضرورة استرشاد المبتدئين في الرهبنة بالآباء الشيوخ
يا أولادي، لا يوجد إنسان يرغب في إتقان مهارة ما في أي فن من الفنون إلا ويبذل كل جهده متوخيًا الدقة، فاحصًا الأنماط التي يدرسها، ملاحظًا بإحكام أنظمة أفضل المتخصصين في هذا العمل أو هذا العلم. ومن لا يفعل هذا يكون قد دفع نفسه في حفرة من الأمل الزائف ليبلغ بأشواق غير هادفة أن يكون مشابهًا لمن يتجنب اقتفاء آلامهم وسهرهم.
إننا نعلم أن البعض جاء من بلادكم إلى هذه البقاع لمجرد التجول في الأديرة والتعرف على الاخوة ، دون أن يعزموا على تبني القواعد والأنظمة التي من أجلها يسافرون، ولا يودون الاعتزال في قلالي لينفذوا ما قد رأوه عمليًا. هؤلاء بقوا على حالهم كما هو، وكما قال البعض عنهم أنهم لم يغيروا موطنهم بقصد النفع… وبعنادهم وتشبث أفكارهم لم يتعلموا شيئًا بل ولا استطاعوا الإقامة. وإن كانوا لم يغيروا طريقة صومهم أو ترتيب مزاميرهم ولا حتى لبسهم ، فماذا نظن من جهة غاية مجيئهم إلى هنا؟
3- من أجل هذا إن كانت نعمة الله، كما نعتقد، قد جذبتكما إلى هنا، لتنقلا معرفتنا، فعليكما أن تتجاهلا كل الأنظمة التي تمرستما عليها منذ حداثتكما، وتتبعا بكل تواضع كل ما ترون آباءنا يفعلون أو يعلمون به. ولا يساوركما ضيق، ولا تحيدان بعيدًا عن التمثّل بما ترونه، حتى وإن بدى لكما غامضًا إلى حين أو لأي سبب. لأن من كان له الفكر الصالح وفي تواضع مع شوق يتمثل بإخلاص بما يراه، سواء خلال التعليم أو اقتداءً بما يراه في الآباء، بدلاً من الانشغال في الجدال، بهذا تستقر فيه معرفة كل شيء باختبارٍ عملي. أما الذين ابتدأوا تعلمهم بالجدال، فلن يدخلوا إلى غاية الحق… لذلك فإن عدونا (الشيطان) يدفعهم بسهولة بعيدًا عن معرفة الآباء، حتى لتبدو لهم الأمور المفيدة والنافعة كأنها غير ضرورية، بل ومضرة. بهذا يلعب العدو الماكر بفطنة، جاعلاً إياهم يتمسكون برأيهم الخاص في عناد ، مقتنعين بأن ما يملأ عقولهم النجسة من أخطاء هو صلاح وحق ومقدس.
4- الأنظمة الثلاثة للرهبنة
يجدر بكما أن تسمعا متى بدأ نظامنا؟ وكيف بدأ؟ لأنه من يعرف عظمة مؤسس هذا النظام، يتدرب على هذا الفن ممارسًا إياه بكل اجتهاد.
هناك ثلاثة أنواع من الرهبان في مصر، نوعان يجدر الإعجاب بهما، أما النوع الثالث فيلزم تجنبه.
The first type هو نظام الشركة، وهم الذين يعيشون في مجمعٍ يقودهم أب أكبر، ونجد كثيرين يعيشون بهذا النظام في ربوع مصر.
The second type هو نظام التوحد (أو النساك anchorites) الذين تدربوا في البداية على نظام الشركة، وتكملوا متدربين في الحياة العملية، ثم اختاروا أعماق الصحراء، وإننا نأمل أن نجد لنا مكانًا في هذا النظام.
أما النوع الثالث وهو نظام ملام يدعى بالسرابيين Serabtian.
وسنتحدث عن هذه الأنواع الثلاثة بصورة مفصلة حسب الترتيب. ولكن، كما قلنا، يجدر بنا أولاً أن نتعرف على واضعي هذا النظام، لأنه بهذا إما أن تبرز كراهية ونفور من النظام الذي يلزم تجنبه أو شوق للنظام الذي يجدر بنا السلوك فيه… فإنه من المؤكد أن أي طريق يؤدي بالسائرين فيه إلى النهاية التي وصل إليها مؤسس الطريق.
5- بخصوص مؤسسي نظام الشركة
لقد ظهر نظام الشركة في أيام كرازة التلاميذ، إذ هكذا كانت جموع المؤمنين بأورشليم التي وُصفت في سفر أعمال الرسل: “وكان لجمهور الذين آمنوا قلب واحد ونفس واحدة. ولم يكن أحد يقول أن شيئًا من أموالهِ لهُ بل كان عندهم كل شيءٍ مشتركًا… لأن كل الذين كانوا أصحاب حقولٍ أو بيوتٍ كانوا يبيعونها ويأتون بأثمان المبيعات ويضعونها عند أرجل الرسل، فكان يُوَزَّع على كل واحدٍ كما يكون له احتياج” (أع32:4،34،35). “والأملاك والمقتنيات كانوا يبيعونها ويقسمونها بين الجميع كما يكون لكل واحدٍ احتياج” (أع45:2).
أقول الآن أن كل الكنيسة آنذاك كانت مثل الحفنة القليلة التي تسلك الآن في نظام الشركة، ولكن بعد موت الرسل، وقد بدأت جموع المؤمنين تفتر وتبرد، خاصة الجموع التي جاءت إلى الإيمان من أمم مختلفة، والذين بسبب حداثة إيمانهم وعبادتهم الوثنية المتأصلة فيهم لم يُطالبوا سوى بضرورة أن “تمتنعوا عمَّا ذُبح للأصنام وعن الدم والمخنوق والزنى” (أع 29:15). هذه الحرية التي وُهبت للأمم لحداثة إيمانهم، قللت من الصورة الكاملة التي كانت لكنيسة أورشليم… بل وحتى بعض القادة تهاونوا بعض الشيء ظانين أنه ما قد سُمح به للأمم من أجل ضعفهم مسموح به لهم أيضًا، معتقدين أنهم لن يُضاروا شيئًا إن اتبعوا إيمان المسيح واعترفوا به محتفظين بمقتنياتهم وما يمتلكونه.
أما أولئك الذين بقوا على حمية إيمانهم الرسولي، مراعين الكمال الأول، فإنهم تركوا مدنهم وتركوا الذين ظنوا أن إهمالهم وحياتهم الرغدة مسموح بها لهم ولكنيسة الله، وهكذا ذهبوا إلى بقاع أكثر عزلة، وبدأوا يتدربون على ما أمر به الرسل لكل جسد الكنيسة الجامعة. هكذا فإن هذا النظام الذي نتحدث عنه نابع عن التلاميذ الذين انعزلوا عن الشر. هؤلاء بالتدريج امتنعوا أيضًا عن الزواج[2] وانعزلوا عن الارتباط بأقاربهم… أطلق العالم عليهم “رهبانُا” أو “متوحدين” بسبب حياتهم الصارمة المنعزلة. وقد سموا بالكانوبيين (أي تبع نظام الشركة) من أجل حياة الشركة التي بينهم… وهذا هو أول نوع من الرهبان، لكن ليس من حيث الزمن… وقد استمر هذا النظام لا عوج فيه…
6- النساك أو المتوحدون وأصلهم
من هذا العدد من الكاملين، أو إن أمكن أن أطلق عليهم شجرة القديسين، التي أينعت، فأخرجت زهورًا وثمارًا هم “النساك”.
إن مؤسسي هذا النظام هما الأنبا بولا والأنبا أنطونيوس، رجلين جابا أعماق الصحراء، لا عن وهن الروح أو قلق، إنما رغبة في بلوغ درجات أسمى من الكمال، وبقصد التأمل الإلهي، مع أنه قيل عن الأنبا بولا أنه عرف طريقه إلى الصحراء عن ضرورة متجنبًا مؤامرة أقربائه (خاله) في زمن الاضطهاد.
خرج من نظام الشركة نوع آخر من الساعين وراء الكمال، يُدعون بـ “المتوحدين” أي المنعزلين. وإذ لم يكتفوا بنصرتهم، إذ داسوا حيل إبليس الخفية تحت أقدامهم وهم يعيشون وسط الناس، اشتاقوا أن يدخلوا في حرب علانية ومعركة مكشوفة مع العدو.
هكذا لم يخشوا التوغل في أعماق البرية، مقتفين آثار يوحنا المعمدان الذي قضى كل حياته في الصحراء، كذلك إيليا واليشع، إذ يتحدث الرسول عنهم قائلاً: “طافوا في جلود غنمٍ وجلود معزى معتازين مكروبين مُذَلّين، وهم لم يكن العالم مستحقًّا لهم، تائهين في براريَّ وجبال ومغاير وشقوق الأرض” (عب 37:11، 38).
تكلم عنهم الرب مع أيوب بصورة رمزية قائلاً: “من سرَّح الفراءَ حُرًّا ومن فكَّ رُبُط حمار الوحش، الذي جعلتُ البرية بيتهُ والسباخ مسكنهُ. يضحك على جمهور القرية. لا يسمع زجر السائق. دائرة الجبال مرعاهُ وعلى خضرةٍ يفتّش” (أي 5:39-8). أيضا يقول سفر المزامير: “ليقل مفديو الرب الذين فداهم من يد العدوّ” ثم يكمل قائلاً: “تاهوا في البرية في قفر بلا طريق. لم يجدوا مدينةَ سكنٍ. جِياع عِطاش أيضًا أعيت أنفسهم فيهم. فصرخوا إلى الرب في ضيقهم فأنقذهم من شدائدهم” (مز 2:107، 4-6). يصفهم إرميا أيضا قائلاً: “جيّد للرجل أن يحمل النير في صباهُ. يجلس وحدهُ ويسكت لأنهُ قد وضعهُ عليهِ” (مرا 27:3، 28). وتخرج كلمات المرتل من القلب: “صرت مثل بومة الخِرَب. سَهدتُ وصرتُ كعصفورٍ منفرد على السطح” (مز 6:102، 7).
7- أصل السرابيين وطريقة حياتهم
بينما كانت المسيحية تتهلل بهذين النظامين للرهبنة… ظهر نوع ممقوت وغير مخلص. يرجع هذا النظام إلى ظهوره في شخص حنانيا وسفيرة في الكنيسة الأولى، لكن الرسول بطرس قطعه للحال بقسوة. وبهذا أصبح هذا النظام مكروهًا ولم يتبناه أحد لفترة طويلة، إذ كانت كلمات الرسول العنيفة لاصقة في ذاكرة المؤمنين. هذه الكلمات التي فيها لم يرفض الرسول فقط أن يسمح لها بالشفاء، وإنما قضى على هذه الآفة بالموت العاجل.
وإذ خفَّت آثار هذه الحادث الذي عُوقب بعنف رسولي في حالة حنانيا وسفيرة، فإنه بمرور الزمن مع الإهمال قامـت جماعة السرابيين الذين انشقوا علي مجمع الشركة، وصار كل واحد منهم يهتم بشأن نفسه، ولقبوا بالحق باللغة المصرية “Sarabaites”، هؤلاء خرجوا عن الذين أرادوا الاقتداء بالكمال الإنجيلي، هادفين إليه، مفضلين الفقر التام عن كل أشكال الغنى.
هؤلاء بنفوس ضعيفة يتظاهرون بالخير الأعظم وقد اضطروا بالقوة أن ينضموا إلى نظام الرهبنة مشتاقين إلى لقب “رهبان” وليس إلى مسعاهم. وهم لم يخضعوا للنظام الرهباني في أي صورة من صوره، ولا خضعوا لإرادة الآباء، ولا تعلموا من تقاليدهم، بل اعتمدوا على إرادتهم الخاصة. جاعلين من رفضهم العالم مهنة أمام كل الناس، ذلك إما باستمرار بقائهم في منازلهم مكرسين أنفسهم لمشاغلهم الأولى كسابق عهدهم مع أنهم تكرموا بحمل لقب “رهبان”، أو بناء قلالي لأنفسهم أطلقوا عليها اسم أديرة يعيشون فيها في حرية وهم سادة لأنفسهم، غير خاضعين لأحكام الإنجيل الذي يمنعهم من الانشغال بالقلق على الطعام اليومي أو الشئون المادية، هذه الوصايا التي لا ينفذها بإيمان سوى أولئك الذين جردوا أنفسهم من كل مشتهيات هذا العالم، وخضعوا لآباء الشركة ولم يقولوا أنهم معلمون لأنفسهم.
لكن كما قلنا أولئك الذين خشوا قسوة الأديرة… ورأوا التخلص من نير الآباء، واقتناء حرية تنفيذهم لإرادتهم، يتجولون كيفما شاءوا. هؤلاء شغلوا أنفسهم بالعمل اليومي بطريقة تزيد عما هو في نظام الشركة وبإيمان مغاير وبهدف مختلف، لأن هؤلاء السرابيون يفعلون هذا لا ليقدموا ثمار أعمالهم لإرادة الرب، إنما ليربحوا أموالاً يعتمدون عليها.
الأولون لا ينشغلون بالغد، مقدمين لله ثمار أتعابهم أما هؤلاء فيمتد قلقهم الخالي من الإيمان لا إلى الغد فحسب بل وعبر السنين أيضًا. وهكذا يظنون أن الله كاذب أو عاجز، أو أنه لا يريد أن يهبهم طعامهم اليومي وملابسهم كوعده.
النوع الأول يجاهد في صلاته ليبلغ الحرمان من كل شيء حتى الفقر الدائم. والثاني يجاهد لكي يقتني وفرة في كل شيء. نوع يجاهد بشوق ليتعدى الأحكام الموضوعة للعمل اليومي، مقدمًا ما يفيض عن حاجة الدير المقدسة لكي يوزع، بناء على رغبة أمين الدير (الروبيته), على المسجونين والغرباء والفقراء… والآخر يستخدم الفائض كل حسب رغبته النهمة…وحتى إن وزعوا على الفقراء يأتون منتفخين بعملهم هذا مما يجعلهم يسقطون كل يوم في الإثم…
النوع الأول بصبره ومثابرته يتمسك بالنظام الذي قبله فلا ينفذون شيئًا حسب إرادتهم الخاصة، بل صلبوا للعالم كل يوم وصاروا شهداء أحياء، أما الآخرون فقد ألقوا بأنفسهم إلى الجحيم لسوء هدفهم…
عدد هذا النوع الثالث (السرابيون) يتكاثر في بقاع أخرى حتى صار هو النوع الوحيد في بعض المناطق، حيث أنه في أيام لوكيوس قام أسقف أريوسي في زمن حكم الإمبراطور فالنس بينما كنا نحمل عطايا لاخوتنا الذين أُخذوا من مصر وطيبة إلى مناجم بنطس وأرمينيا[3] بسبب ثباتهم على إيمان الكنيسة الجامعة، وجدنا في الطريق بعض المدن ليس فيها نظام الشركة إلا القليل ومتباعد، بل ولم نقدر أن نستدل على وجود مجرد اسم “متوحدين” أو نساك هناك.
8- النوع الرابع من الرهبان
نوع رابع من الرهبان رأيناه أخيرًا بين أولئك الذين يخدعون أنفسهم بأخذ مظهر النساك المتوحدين، هؤلاء الذين كانوا قبلاً يسعون وراء كمال الشركة، لكنهم فتروا وبردوا وإذ لا يريدون أن يضعوا حدًا لعاداتهم وأخطائهم السابقة، ولأنهم لا يرغبون في حمل نير التواضع والاحتمال والزهد في الخضوع لأحكام الآباء، بحثوا عن قلالي منعزلة، وفضلوا البقاء منفصلين. وإذ لا يثيرهم أحد يظهرون أمام الناس صابرين ودعاء ومتواضعين.
هذا النظام بل هذا الإهمال واللامبالاة لا يمكن أن يقترب بالممسكين به إلى الكمال. إنهم لا يقلعون عن أخطائهم بل تتفاقم في الوقت الذي فيه لا يؤنبهم عليها أحد. وهكذا تصير مثل سم مميت كلما أخفيناه تعمق وأدى إلى مرض عضال.
بسبب احترام الناس لهم لا يجرؤ أحد على تأنيب هذا الإنسان المنعزل، وهو بدوره يهمل خطاياه ولا يعالجها. هذا مع أن الفضائل لا تنشأ بإخفاء الرذائل بل بطردها إلى الخارج.
9- جرمانيوس
هل هناك أي فارق بين “الشركة” و”الدير”، أم هما اسمان يُطلقان على شيء واحد؟
10- الأب بيامون
ولو أن كثيرين يتحدثون عنهما كشيء واحد، إلا أنه هناك اختلاف بينهما، فالدير هو اسم يطلق على المكان، ولا يعني غير ذلك، أي هو مسكن الرهبان، أما “الشركة” فتصف نوع الحياة ونظامها.
قد يعني الدير مسكن راهب واحد، أما الشركة فلا يمكن أن تكون إلا بين جماعة يعيشون معًا. ونحن نسمي بعض الأماكن “أديرة” حيث يعيش فيها بعض جماعات السرابيين (حيث يسير كل راهب منهم على حسب هواه وإرادته الخاصة دون الخضوع لنظام معين).
11- عن التواضع الحقيقي والتواضع المزيف
إنني إذ أرى أنكما قد تعلمتما المبادئ الأولى لهذه الحياة من رهبان أفاضل، أعني مبتدئين بمدرسة الشركة الممتازة هادفين إلى نظام السمو الشاهق الذي للنساك، لذلك يجدر بكما أن تبحثا بإخلاص عن فضيلتي التواضع والصبر. وإنني لا أشك في أنكما قد لُقنتما هاتين الفضيلتين كما ينبغي وليس في صورة زائفة كلامية كما يفعل البعض، ولا بطريقة صناعية…
هذا التواضع المزيف كشفه الأب سرابيون في عمقه، عندما أتاه أحد الرهبان مظهرًا مسكنة عظيمة في ملبسه وطريقة حديثه، فطلب منه الأب الشيخ أن يوزع المزامير كالعادة، لكن الراهب اعتذر محتقرًا نفسه معلنًا أنه خاطئ ولا يستحق حتى أن يستنشق الهواء، ورفض حتى أن يستخدم الحصيرة التي قُدمت له، مفضلاً أن يجلس على الأرض العراء، مظهرًا ميلاً لغسل الأرجل… وبعد العشاء إذ اجتمعوا بدأ الأب سرابيون ينصح الراهب بوداعة ورقة أن يكف عن الأسفار بغير هدف، خاصة وأنه شاب قوى، وأن يبقى في قلايته حسب نظام الآباء، ويعتمد على جهاده وليس على جهاد غيره، الأمر الذي لم يسمح به الرسول لنفسه، فبينما يعمل من أجل الإنجيل لم يقبل أن يأخذ احتياجاته المادية التي هي من حقه، لكنه استحسن أن يعمل من أجل احتياجاته الضرورية واحتياجات الذين يخدمون معه وهم غير قادرين على العمل بأيديهم. احتدم الراهب بالغيظ، حتى انه لم يستطع أن يخفي الضيق الذي ملأ قلبه، فقال له الأب سرابيون “يا ابني إنك حتى هذه الساعة كنت تتهم نفسك بتعديات كثيرة معترفًا بآثام مخيفة تشوه سمعتك. وها أنا أرى كيف إن نصيحتي الممتلئة حبًا لك والتي لم تحوي توبيخًا أثارت كآبة في داخلك وغضبًا لم تستطع ضبطه… فلعلك كنت تطلب منَّا وراء تظاهرك بمظهر المسكنة أن تسمع منَّا مديحًا… لكن ينبغي أن تقتني تواضع القلب الذي لا يأتي من مظهر الكلام بل بمسكنة الروح الداخلية. هذه المسكنة وحدها تشرق بضياء الشهادة الحقيقية، وذلك عندما لا يفتخر الإنسان بالإثم بالتباهي به، بل في هدوء ووداعة روح يغفر لمن يتهمونه متغاضيًا عنهم.
12- كيف نقتني الصبر؟
Germanius: كيف يمكننا أن نقتني الوداعة ونحفظها؟ إننا عندما نمارس الصمت نغلق شفاهنا ونمتنع عن الحديث، حتى نتمكن من حفظ وداعة القلب التي نفقدها أحيانًا حتى ولوصمت اللسان، لهذا فنحن نعتقد أن وداعة الروح لا يمكن أن يحافظ عليها إلا ناسك متوحد في قلاية منعزلة.
13- بيامون
إننا لا نحصل على الصبر الحقيقي والهدوء، ولا نحفظهما بدون تواضع عميق من القلب. فإذا ما نبع الصبر من هذا المصدر لا تكون هناك حاجة إلى الوجود في قلاية (كمعين ضد الغضب) أو إلى حماية البرية، فإنه لا حاجة إلى عون خارجي من أي شيء طالما توجد فضيلة التواضع الداخلية، التي هي أم الصبر وحارسته.
أما إذا اضطربنا من أي إنسان يهاجمنا، يكون من الواضح أن أسس التواضع غير موجودة فينا بإحكام، لذلك فإن هبت أقل عاصفة يهتز البناء كله ويهلك. لأن الصبر لا يستحق الإعجاب والتقدير إن احتفظ بالهدوء عندما لا يهاجمنا عدو، بل يكون عظيمًا ومجيدًا إن بقى بلا تأثير عندما تهاجمه عواصف التجارب. لأنه يزداد قوة حين يضايقه عدو أو يؤذيه، وحيث يظنون أنه سيتضايق إذ هو بالأكثر يتزكى.
لأن كل إنسان يعرف أن “الصبر” يأخذ اسمه من الآلام والاحتمال، بهذا يتضح أنه لا يُمكن أن يدعى إنسان صبورًا إلا ذاك الذي يحتمل كل ما يحل به من متاعب دون أن يتضايق. هكذا لم يمدح سليمان مثل هذا الإنسان بغير بسبب، إذ يقول: “البطيءُ الغضب خير من الجبار ومالك روحهِ خير ممَّن يأخذ مدينة” (أم 32:16). وأيضًا “بطيءُ الغضب كثير الفهم، وقصير الروح معلّى الحمق” (أم 29:14).
إذا انهزم إنسان أمام خطأ واشتعلت فيه نيران الغضب، وجب عليه ألا يعتبر أن مرارة الإهانة الموجهة إليه هي سبب خطيته بل بالأحرى ظهور ضعفه الخفي، وذلك طبقًا لمثل ربنا ومخلصنا يسوع المسيح الذي تحدث فيه عن المنزلين (مت 24:7، 26). أحدهما مؤسس على الصخر والآخر على الرمل. فقد قال عن الاثنين أن عواصف المطر والسيول والرياح هبت عليهما بالتساوي لكن المؤسس على الصخر والصلب لم يتأثر على الإطلاق من قسوة الصدمة، أما الذي تأسس على الرمل الناعم المتحرك فللحال انهار وسقط، والسبب في سقوطه بالتأكيد لم يكن اصطدامه بالعواصف والسيول بل لأنه بُني في غير حكمة على الرمل.
فالقديس لا يختلف عن الخاطئ في أنه ليس مجربًا مثله، بل يختلف عنه في أنه لا يُقهر حتى من الهجوم العنيف أما الآخر فينهزم من أقل تجربة. لأنه كما سبق وقلت أن ثبات أي إنسان صالح لا يستحق المديح بنواله النصرة بدون أن يجرب، لأنه ليست نصرة بدون حرب روحية…
“طوبى للرجل الذي يحتمل التجربة، لأنهُ إذا تزكَّى ينال إكليل الحياة الذي وعد بهِ الربُّ للذين يحبُّونهُ” (يع12:1). وكما جاء في رسالة الرسول بولس أن “القوة تكمل” ليس في الطريق السهل المملوء مباهج، بل “في الضعف” (2كو9:12). ويقول الله “هأنذا قد جعلتك اليوم مدينة حصينة وعمود حديدٍ وأسوار نحاس على كل الأرض، لملوك يهوذا ولرؤَسائها ولكهنتها ولشعب الأرض، فيحاربونك ولا يقدرون عليك، لأني أنا معك يقول الرب لأنقذك”[4] (إر18:1،19).
14- مثال الصبر، تقدمه امرأة تقية
أودّ أن أقدم لكم مثالين للصبر: واحد عن امرأة تقية كانت تصبو نحو فضيلة الصبر بشوق شديد حتى أنها لم تتجنب هجوم التجارب فقط بل في الواقع دبرت لنفسها أوقات تجربة وتعب حتى لا يتوقف امتحانها. هذه المرأة كانت تعيش في الإسكندرية وكان أبواها مقتدرين وكانت تعبد الرب بتقوى في البيت الذي تركه لها والدها. هذه أتت إلى الأسقف أثناسيوس ذو السيرة العطرة ورجته أن يعطيها أرملة تسكن معها تنفق عليها وترعاها. وعندما تحقق الأسقف من قصد المرأة ورأي أن لها استعدادًا لعمل الرحمة أمر بأن يسمح لها بأرملة معروفة بحسن سلوكها وخاف أن يعطيها امرأة لها سلوك سيئ خوفًا من أن تعثرها في إيمانها.
وعندما أتت المرأة إلى بيتها خدمتها بكل أنواع الخدمات وأظهرت لها كل وداعة وعطف، وهكذا رأت أنها بدأت تتقبل شكرًا ومديحًا في كل دقيقة لأجل خدمتها الرحيمة. فذهبت بعد عدة أيام إلى الأسقف وقالت له: “لقد سألتك امرأة أخدمها في طاعة” وإذ لم يفهم الأسقف هدفها ظن أن طلبها الأول قد أُهمل، فسأل عن سبب التأخير ووجد أنهم قد أعطوها أطيب امرأة، فأمر سرًا أن يعطوها أسوأ امرأة، تكون غضوبة وكثيرة المتاعب والكلام، محبة للخمر، تخضع تحت نير هذه الأخطاء،. عندما أخذتها وبدأت تخدمها وتُقدم لها نفس العناية التي قدمتها للأرملة الأولى، عوض الشكر الذي كان يليق تقديمه نظير خدمتها كانت تشتكي على الداوم من أخطاء لا تستحقها، وكانت تسبها بألفاظ سيئة لأنها أحضرتها إلى منزلها لمضايقتها وتعذيبها، وأخذتها من الراحة إلى الجهد والتعب. ولما فاقت شتائمها الحد وتطاولت فمدت يدها عليها، ضاعفت المرأة من خدمتها بوداعة وتواضعٍ أكثر، وتعلمت أن تتغلب على الشر لا بمقاومته بل بضبط النفس والتواضع.
وعندما اقتنت فضيلة الصبر الكاملة التي كانت تتوق إليها أتت إلى الأب الأسقف لتشكره على اختياره الحكيم وبركة التدرب على احتمال مضايقاتها اليومية التي كانت بمثابة زيتًا يلطف من الجرح… وقد قالت له: “لقد أعطيتني حقًا امرأة تعينني وتشددني… أما الأولى فكانت تكرمني بالأكثر وتدللني بخدمتها”.
هذا مثال كافٍ قيل عن جنس المرأة، حتى أننا بهذه القصة لا نتثقف فحسب وإنما بالأكثر نخزى، لأننا لا نستطيع أن نحفظ الصبر إلا إذا لجأنا إلى الكهوف والقلالي كالوحوش.
15- مثال الأب بفنوتيوس
الآن نتكلم عن المثل الثاني الخاص بالأب بفنوتيوس الذي كان مملوءً على الدوام غيرة في وسط برية الإسقيط الشهيرة، والذي الآن هو قس (البرية)، ولقد لقبه بقية النساك [5]“Bubalis” لأنه كان في سكناه في الصحراء مبتهجًا على الدوام كما لو كان يحب هذا بالفطرة.
كان حتى في صبوته صالحًا ومملوءً نعمة، حتى أُعجب مشاهير الرجال وعظمائهم بهيبته واستقامته الدائمة، ورغم صغر سنه كان يُوضع في مصاف الشيوخ بسبب فضائله… لكن الحسد الذي سبق أن أثاره اخوة الأب (البطريرك) يوسف ضد أخيهم، أثار أحد الاخوة بغيرة متقدة آكلة. وإذ أراد الأخ تشويه جمال بفنوتيوس بوصمة… انتهز فرصة تركه قلايته يوم الأحد لذهابه إلى الكنيسة، وتسلل إليها وخبأ كتابه بين السعف…
لما انتهت الخدمة المعتادة، جاء ليشتكي أمام جميع الاخوة للقديس إيسيذورس الذي كان قسًا للبرية قبل رسامة بفنوتيوس هذا قسًا عليها، وأعلن بأن كتابه قد سرق من قلايته، فأثارت شكواه بلبلة في عقول الإخوة وبخاصة القس، حتى توقف تفكيرهم، إذ غلبتهم الدهشة أن يسمعوا عن جريمة لم تُرتكب قبلاً ولا سمعوا عنها، لأنها لم تحدُث من قبل في هذه البرية… حث المدعى أن ينتظر الكل في الكنيسة ويرسل بعض الاخوة المنتخبين للبحث في قلالي الرهبان، راهبًا راهبًا. عهد القس الأمر إلى ثلاثة من الشيوخ الموثوق فيهم، فدخلوا قلايات الجميع، وأخيرًا وجدوا الكتاب في قلاية بفنوتيوس وسط السعف… فلما عادوا إلى الكنيسة أحضروا الكتاب أمام الجميع. أما بفنوتيوس فرغم نقاوته من جهة ضميره، لكنه كان كما لو كان إنسانًا كشفت جريمة سرقته، فطلب منهم تهذيب نفسه وبتواضع طلب التوبة…
ولما خرج من الكنيسة في الحال لم يضطرب فكره، لكنه وثق في حكمة الله، فصار يزرف الدموع في الصلوات ويصوم ثلاثة أضعاف ما كان عليه، ويصنع مطانيات للاخوة في تواضع. وهكذا إذ أذل نفسه بكل أنواع الندامة من جهة الجسد والروح لمدة 14 يومًا، حتى جاء مبكرًا في صباح السبت وصباح الأحد لا ليشترك في الأسرار المقدسة، بل ليطرح نفسه على أرضية الكنيسة طالبًا العفو من إخوته.
لكن الله، الذي يعلم أسرار الأمور ويشهد لها، لم يتركه كثيرًا مُعتديًا عليه… لأن مرتكب الجريمة، اللص الشرير الذي سرق ماله (سرق كتابه هو ونسب السرقة للأب بفنوتيوس) صنع هذا بعيدًا عن الأعين البشرية، فكشفه الله بواسطة نفس الشيطان الذي بث فيه الخطية… فقد صرعه روح شرير عنيف، فاعترف بكل تفاصيل المكيدة السرية المدبرة… وقد بقي زمانًا طويلا متألمًا من الروح النجس، حتى لم تستطع صلوات القديسين الساكنين هناك أن تشفه… بل ولا حتى الموهبة الخاصة التي للقس إيسيذوروس… لأن المسيح كان يحفظ للشاب بفنوتيوس هذا المجد إذ لا يشفي الرجل إلا بصلوات من دُبرت ضده المكيدة.
إنه (بفنوتيوس) بهذا في صبوته المبكرة أظهر ما ستكون عليه شخصيته فيما بعد، فإنه حتى في سن الصبا رسم خطوط ذلك الكمال الذي نما فيه.
إذن إن أردنا أن نحصل على أعلى فضيلة يلزمنا أن نلقي نفس الأساس لنبدأ به.
16- على أي الأحوال يوجد سبب مزدوج يقودني أن أسرد هذه الحقيقة:
أولا : أن نتأمل في هذا الثبات والاحتمال كأمر سهل، فيمكننا أن نحيا في هدوء وصبر مستهينين بحيل العدو (الشيطان).
secondly: لكي ما نؤكد أننا لا نقدر أن نهرب من عواصف التجارب وهجمات الشيطان، إذا ما اعتمدنا في مساندة صبرنا، لا على قوة إنساننا الداخلي إنما على مجرد غلق باب قلايتنا أو التوغل في الصحراء ومصاحبة القديسين أو أي ضمان خارجي من أي نوع.
فما لم يتقَّوَ ذهننا بقوة حماية الله الذي يقول في الإنجيل: “ملكوت الله داخلكم” (لو21:17)، باطلاً نظن أننا قادرون على تفادي هجمات عدونا الخبيث “الشيطان” بمعاونة الساكنين معنا، أو نتخلص منها ببعد المكان، “أي الانعزال عن الناس”، أو نهرب منها بحماية الجدران لنا. فإنه إذ كان القديس بفنوتيوس لا يعوزه شيء من هذا، لكن المجرب لم يغلب في أن يجد له منفذًا لمهاجمته.
النفس الممتلئة حماقة لا تنتفع شيئًا من الاختباء وراء الجدران أو الانعزال عن الناس أو استحقاقات القديسين الذين تعيش معهم.
لكن إذ ثبَّت القديس، خادم الله، رجاء قلبه لا على أمور خارجية بل على الله الذي هو ديان السرائر، لا تحركه مكائد عدو كهذا.
من الجانب الآخر لم يتمتع الإنسان، الذي دفعه حسده إلى خطية عظيمة كهذه بحياة العزلة، ولم يحمه مسكنه المنعزل، ولا استفاد من التحادث مع القديس الطوباوي الكاهن إيسيذورس وغيره من القديسين، وهكذا إذا ما أثار الشيطان عاصفة يهتز البيت ويندثر للحال.
إذن لسنا نحتاج إلى البحث عن سلامنا في الخارج، ولا نظن أن صبر الآخرين يفيد عدم صبرنا. لأنه كما أن “ملكوت الله داخلكم” كذلك أعداء الإنسان هم “أهل بيتهِ” (مت36:10)، فإنه ليس لي عدو أكثر من قلبي، الذي هو بالحق ألصق “أهل بيتي” إليّ.
فإن كنا حريصين، فإنه لا يمكن أن نتأذى بسهولة من الأعداء الباطنيين، فإذا لم يقاومني أهل بيتي، عندئذ أضمن وجود ملكوت الله في سلام القلب.
إن فحصت الأمر جيدًا، تجد أنه لا يمكن أن يصيبني أي ضرر من أي إنسان مهما كان مؤذيًا، ما لم أحارب نفسي… فإن لحقني الضرر، فالخطأ ليس بسبب هجوم الآخرين إنما لعدم احتمالي. وذلك كالطعام الدسم جدًا، مفيد للإنسان المتمتع بصحة جيدة إلا أنه مضر للمريض، فهو لا يضر الإنسان الذي يتناوله ما لم يكن هو مريض أصلاً. ومهما يكن الأمر، فعليكم أن تعرفوا أن خطية الحسد يصعب الشفاء منها أكثر من بقية الخطايا، فهي الوباء الذي رمز له النبي: بالحيات “لأني هأنذا مرسل عليكم حياتٍ أفاعيَ لا تُرقَى فتلدغكم يقول الرب” (إر17:8).
بحق قارن النبي لدغات الحسد بسم الأفاعي المميت… فهي مصدر سموم، لكنها تَهلك وتموت بعد لدغها للشخص. فالحاسد لا يضر المحسود، بل يُهلك نفسه بنفسه قبل أن يؤذي المحسود، يُهلك نفسه قبل أن يصب سم الموت على الغير، لأنه “بحسد إبليس دخل الموت إلى العالم فيذوقه الذين هم من حزبه” (حك 2: 24-25). كما أن أول من هلك (إبليس) بواسطة الحسد لا يجد علاجًا للتكفير ولا الشفاء، كذلك الذين يسمحون لأنفسهم أن يكونوا حاسدين، تُستبعد عنهم مساعدة أي راقٍ مقدس، لأنهم لم يُعذبوا بخطايا الآخرين، إنما تعذبوا بتفوق ونجاح من يحسدونهم. وهم يخجلون من إظهار الحقيقة، فيبحثون عن عللٍ خارجيةٍ تافهة يبررون بها الخطية، وإذ على الدوام يزيفون الحقيقة، لذلك يبقى رجاؤهم في الشفاء باطلاً، بينما يسري في شرايينهم السم المميت الذي لا يفرزونه “بل ينبعث فيهم بسبب نجاح الآخرين”.
الحسد يصعب شفاؤه، لأنه بالبحث عن أسبابه، يصير إلى حال أردأ. يبحث في الأسباب الخارجية لا الحقيقة الداخلية، ويزداد شدة بتقديم الخدمات والهدايا للحاسد، لأنه كما يقول سليمان نفسه “أَنه يقف قدام الحاسد” (أم 4:27). على قدر ما ينجح الآخر (المحسود) في الخضوع والتواضع أو في فضيلة الصبر أو الكرم، تزداد وخزات حسد الآخر، إذ لا يود إلا هلاك المحسود وموته.
أخيرًا لم يكن يوسف قادرًا أن يخفف من حدة حسد إخوته الإحدى عشر، الراغبين في موته مع أنه لم يؤذهم في شيء.
من الواضح أن الحسد من أسوأ الخطايا وأصعبها شفاءً، لأنه يلتهب بنفس الأدوية التي بها تهلك بقية الخطايا، فمثلاً الإنسان الذي يحزن لخسارة قد لحقت به، يشفي بتعويضها، والمتضايق بسبب خطأ أصابه فإن اعتذار متواضع كافٍ لرضائه، لكن ماذا تفعل لإنسان تزداد معصيته كلما ازددت تواضعًا ورحمة، هذا الذي لا يغضب طمعًا في رشوة ينالها… أو ليحصل على خدمات، إنما يغضب بسبب نجاح الآخرين وسعادتهم؟
من ذا الذي يستطيع أن يُرضي الحاسد، الذي يتمنى ضياع ثروة الآخرين، ويعمل على فشلهم، أو يسبب لهم مصائب؟
إننا محتاجون إلى عون إلهي، الذي ليس لديه شيء غير مستطاع، حتى لا تُهلك الحية بعضتها الوحيدة ما هو مزدهر فينا، بل نحيا بحياة الروح القدس الفعَّالة وقوته!
أما فيما يختص بسموم الحية الأخرى، أعني الأخطاء والضعفات الجسدية التي يقع فيها الضعف البشري بسهولة ويشفي منها أيضًا بسهولة، فإنها تترك بعضًا من آثارها على الجسد. وبالرغم من قروح الجسد إلا أن الطبيب الروحي المتمرس يمكنه أن يهب العلاج بكلمات الخلاص الشافية فلا تموت النفس موتًا أبديًا من سم هذا الشر.
عندما تنفث الأفاعي سم الحسد تحطم حياة التقوى والإيمان حتى قبل ظهور أثر الجرح على الجسد، فالحاسد لا يلوم الآخرين بل الله. وهو لا يسعى لتوبيخ إثم الإنسان إنما يستهين بدينونة الله، لأن الحسد هو أصل المرارة، الصاعد إلى السماء، مزدريًا بالله الذي يهب كل صلاح للناس…
الله ليس جابل للحسد، إلا أنه بعدل الحكم الإلهي تُعطى المواهب الصالحة للمتواضعين وتُمنع عن المتكبرين المرفوضين الذين يقول عنهم الرسول أنهم يستحقون أن يُسلَّموا إلى “ذهن مرفوض” (رو28:1)، ويجعل الحسد يسحقهم ويفنيهم كما لو كان من عند الله، كما يقول “هم أغاروني بما ليس إلهًا. أغاظوني بأباطيلهم. فأنا أغيِّرهم بما ليس شعبًا” (تث21:32).
بهذا الحديث زوَّد الأب بيامون شوقنا الذي بدأ ينمو فينا من حياة الشركة إلى مستوى حياة النساك، وبإرشاد تعاليمه بدأنا الخطوة الأولى في الحياة المنعزلة، وتبعنا خطى تعاليمه بعد ذلك في الإسقيط بكل دقة.
Summary of principles
رهبنة الشركة الحقيقية ليست شيئًا غريبًا، بل هي المسيحية كما ينبغي أن تكون… والدافع إليها هي الحياة مع ربنا يسوع في حياة شركة وحب مع الإخوة مع موتٍ عن أمور هذا العالم وحب الاقتناء.
رهبنة التوحد السليمة هي زهور أينعت في شجرة القديسين الحيَّة، فيها يبغي النساك حياة التأمل الدائم والانطلاق بالنفس نحو الرب بلا عوائق.
رهبنة السرابيين هي انحراف للرهبنة وانتكاس لها، يحيا فيها كل راهب حسب هواه وإرادته بغير خضوع لأبيه الروحي، فيصير الدير ليس شركة مجمع، بل مجموعة من الرهبان المستقلين في فكرهم وهدفهم وطريقة حياتهم.
المتوحدون الذين هربوا إلى العزلة لا لعشقهم في الرب، وبعد نجاحهم في الطاعة والخضوع في نظام الشركة… بل هروبًا من حمل هذا النير (حب الإخوة وطاعة القوانين وأب الاعتراف)، هؤلاء ليسوا متوحدين حقيقيين بل مهملين يحملون سم خطاياهم في داخلهم، يخدعون أنفسهم وغيرهم.
التواضع الحقيقي للراهب هو الذي ينبع عن مسكنة الروح الداخلية ولا يتوقف على مجرد مسكنة المظهر والكلام الزائف.
الحرب ضد الخطية ميدانها في داخل النفس فلا نلوم الآخرين أو الظروف بل ضعف نفوسنا.
خطية الحسد تضر الحاسد لا المحسود، وهي أشر الخطايا يصعب علاجها إذ تَطلب الضرر للآخرين.
[1] المؤسسات 36:5.
[2] ليس كشرٍ لكن لأجل السمو.
[3] كان المعترفون بإيمان الكنيسة الجامعة المستقيم يرسلون للعمل في المناجم كنوع من الاضطهاد. راجع صلوات القديس مرقس في قداسه للذين في السجون…
[4] يستخدم الآباء مثل هذه النصوص بمعنى رمزي لنفعنا الروحي.
[5] أو Bufflo راجع مناظرة 3.