“المحبة لا تطلب ما لذاتها” (1كو 13، 5)
المحبّة، هي أكثر المواضيع التي يجري الكلام عليها ويجري الخلاف حولها أيضاً. تقوم غالبيّة الناس (ربّما دون استثناء) بوصف علاقاتها ودوافعها بأنّها مُحِبّة، بينما يشكّ الآخرون بهذه وبهكذا محبّة! ولعلّه من أقسى العبارات هي تلك التي تجمع بين نقيضين، بين القلب وبين الكذب، أي تلك العبارة: “المحبّة الكاذبة”! لأنّ أجمل ما في المحبّة هو صدقها، فكما لا يجتمع النور مع الظلمة لا تجتمع المحبّة مع عدم الصدق. لذلك لا معنى للـ”المحبّة الكاذبة”، لا بل إنّها أبشع العلاقات الإنسانيّة ومرفوضة بتاتاً.
هناك ثلاث “صدمات” تصعقنا عندما نفحص صدق محبّتنا في علاقاتنا، ودون أن نمرّ بهذه الصدمات ونتجاوزها ونغلبها لن نعرف حقيقة المحبّة وسنبقى في حيّز تلك المفارقة: “المحبّة الكاذبة”. وهذه الصدمات التي علينا أن نواجه ذاتنا بها ونتواجه عندها مع حقيقة المحبّة هي:
أولاً، أنّنا نطلب في المحبة أن نُحَبَّ وليس أن نُحِبَّ. لذلك العديد من الناس يتشكّون دائماً ويعاتبون لقلّة محبّة الآخرين لهم. وعديدون هم مَن يشعرون أنهم يحِبّون أكثر بكثير مما يُحَبّون. وكثيرة هي الخبرات واللحظات والعلاقات التي حين نقيّمها نستنتج أنّنا محبّون جداً لكن الآخرين مقصّرون جدّاً في مقابلة هذه المحبّة. وهذا يلحقه إمّا العتاب أو الصراع أو في أحسن الأحوال الصمت على هذا “الجرح” في القلب، مبررّين هذا الصمت بتقوى مزيّفة فريسيّة.
الوحدة والعزلة، هما الشعور الذي ينتاب مرّات عديدة المحبَّ بهكذا محبّة! غياب المحبّة هو الجحيم. والحقيقة هي أنّ هذا الجحيم هو نتيجة هذه المحبّة الخاطئة. الجحيم هو “محبّة الذات”. لقد شُبّه الجحيم بغرفة كلّها مرايا أينما إلتفَتَ الإنسانُ إليها لا يرى إلا وجهه وحده. وهذه هي حالة تلك المحبّة التي تشعر أنّها تقدم الكثير ولا يقابلها الناس بما يجب أو يكفي. عديدون يظنّون أنّ مشاكلهم في الحياة ناتجة عن “غياب محبّة الناس لهم”! وإنّ أكثر الظواهر برهاناً على الأنانيّة هو ترداد تلك العبارة “أنا أحبّهم كثيراً لكنهم لا يحبّونني”. إنّ فحصاً دقيقاً وعميقاً للأمور في هذه الحالة سوف يفضح هذه “المحبّة الكاذبة” التي نحملها في داخلنا. وهذا الكشف ليس أمراً سهلاً على الإطلاق، لأنّ حامل هذه “المحبّة الكاذبة” هو إنسان مقتنع من أعماقه بأنّه محِبٌّ جداً! لكنّه يجهل أنّه يمارس المحبة بشكل مغشوش!
إنّ مُحِبّاً كهذا يحيا في الألم والانتظار، في ألم العزلة والعتب على الآخرين، وفي انتظار تبدّل الآخرين وتحوّلهم إليه بتلك المحبّة التي ينتظرها. وسوف يطول الانتظار لأنّ السبب الحقيقيّ ليس في محبّة الآخر لنا ولكن في محبّتنا للآخرين.
اللقاء هو عكس العزلة. واللقاء بالآخرين يتمّ عن طريق المحبّة. والعزلة هي الشعور بأنّنا غيرُ محبوبين. لكن الخروج من العزلة واللقاء مع الآخر لا يتمّ بالانتظار وإنّما بالانطلاق، أي بالمبادرة إليهم. وهذه المبادرة هي بداية المحبّة الحقيقيّة. المحبّة المسيحيّة هي التي تعرف أن تُحِبّ دون أن تسأل عن المردود. وإن التطلّب لمحبة الآخرين هو أنانيّة وليس تبادل محبّة. ما يُتعبنا ليس غيابَ محبّة الآخرين (وقد تكون موجودة لكنّنا لا نشعر بها) ولكن روح “التطلّب” لمحبتهم لنا. ونسمي ذلك “محبة” وهو بالحقيقة “حبّ الذات”. المحبة هي حبُّ الآخرين. لذلك لا يستطيع أن يحبّ فعلاً إلا من تطهّر من حبّه لذاته. لهذا المحبّة الحقيقيّة هي مسيرة تبدأ من تطهير حبّ الأنا، أي تفضيل الذات على الآخر. وكلما إنجلىَ القلب وطَهُرَ أكثر كلّما صار قادراً على “المحبّة”.
ثانياً، أنّنا نخلط بين المحبّة الصادقة والمحبّة الكاذبة، أي بين المحبّة للذات عبر الآخر وبين المحبّة التي لا تتطلّب أبداً ما لذاتها بل ما للآخر. يرفض الكثيرون ومرّات كثيرة إدعاءات آخر بمحبّته لهم. ودرج عند كثيرين القول “من الحبّ ما قتل”! ولطالما أحبّتْ أمٌ ابنها فأسرتْه. وأحبّ واحدٌ صديقه فاستأثر به ولم يحرّره. ويخلط الناس بين “إشباع المشاعر” وبين صفاء المحبّة! بولس الرسول يعطي معياراً دقيقاً لتقييم محبتنا: المحبّة تتخلّى ولا تتطلّب! “المحبة لا تتطلّب ما لذاتها”! المحبة هي تخلٍّ عن الذات وليس إشباعاً لها.
يصنّف القدّيس مكسيموس المعترف المحبّة في خمس درجات. أولاها المحبّة من أجل إشباع اللذّة والمشاعر. وثانيها المحبّة من أجل المال، وهي تلك التي تتخلّل الروابط القائمة على المصالح. وثالثها المحبّة من أجل المجد، وهي المحبّة التي يتمتّع بها أصحاب النفوذ من النفوس الضعيفة. فيتعلّق البعض بالناس الذين في المواقع الكبيرة أو الاجتماعيّة. ويكون دافع محبتهم ليس إلا حبَّ المجد الذي سيكسبونه من علاقتهم. ورابعها المحبّة الطبيعيّة، وهي الفطريّة التي عند الأم والابنة والأب والأخ… ولربّما العرق أو الدين أيضاً، هذه تحب في الآخر الرابط وليس الآخر. فإن بدّل الآخرُ الرابط الذي نحبّه تنقلب محبتنا له إلى وبال عليه. فما بالنا مثلاً بابنة تركت والدتها! أو بأخ نسي أخاه؟ بالنسبة للمحبّة المسيحيّة فإنّها تحفظ له المكانة ذاتها، كما حفظ الأب محبته لأبنه الضالّ، بينما محبّة من لون تلك المحبّة الطبيعيّة تنقلب على الآخر بالحقد والانتقام! وخامسها وأخيراً، المحبّة المسيحيّة التي من “أجل الله”.
ثالثاً، أنّ المحبّة تحرّر. وإنّ غياب الحرية دليل على نقص في المحبّة. “أحببْ واصنعْ ما تشاء”! إنّ المحِبّ جريء لا يخشى حتّى الخطأ. لأنّ الخطأ في المحبّة (وإنْ حصل) ليس خطيئةً. وهل كلّ فعل صحيح هو مُحبّ! ليس كلّ ما هو موافق صالح، والعكس بالعكس ليس كلّ أمر غيرِ موافق غيرَ صالح! الصلاح عند الإنسان يقدّر بمقدار ما تحتوي الأفعال فيه من محبّة حقيقيّة. كلّ فعل دون محبّة، ولو وافَقَنا، هو خاطئ. والعكس أيضاً صحيح. أيّ فعل من محبّة ولو أخطأ هو صالح. قيمة الأفعال ليست في ثمارها وحسب، بل بالأصل من دوافعها. فدافع الأفعال هو لونها وجوهرها، والنتائج مرّات عديدة لا تأتي حسب نيّاتها. لهذا يقال: الجرح (الخطأ) في المحبّة كالخدش على سطح الماء ما إن ترفع يدك حتّى يتلاشى! محبّة كهذه لا تشترط لا مصلحةً ولا أتعابَ… محبة كهذه، من أجل الله، تحبّ كلّ آخر فيه صورة الله، وتجد هذا الآخر مستحقّاً للمحبّة، ومن كلّ القلب بغضّ النظر عما يقدّمه لي، وإن كان يُحبّني أو لا، محسناً إليٍّ أو مخطئاً معي…الخ. فقط من منظور هذه المحبّة يمكننا أن نفهم نشيد بولس الرسول الشهير: المحبّة تتأنى وترفق، المحبة لا تحسد، المحبة لا تتفاخر ولا تُقبّح ولا تفرح بأخطاء الآخرين وتحتمل وتصدّق كل شيء وترجو كلّ خير… نعم هذه “المحبّة لا تسقط أبداً”.
Amen