06: 31-36 – محبة الأعداء

31 وَكَمَا تُرِيدُونَ أَنْ يَفْعَلَ النَّاسُ بِكُمُ افْعَلُوا أَنْتُمْ أَيْضاً بِهِمْ هكَذَا. 32 وَإِنْ أَحْبَبْتُمُ الَّذِينَ يُحِبُّونَكُمْ، فَأَيُّ فَضْل لَكُمْ؟ فَإِنَّ الْخُطَاةَ أَيْضاً يُحِبُّونَ الَّذِينَ يُحِبُّونَهُمْ. 33 وَإِذَا أَحْسَنْتُمْ إِلَى الَّذِينَ يُحْسِنُونَ إِلَيْكُمْ، فَأَيُّ فَضْل لَكُمْ؟ فَإِنَّ الْخُطَاةَ أَيْضاً يَفْعَلُونَ هكَذَا. 34 وَإِنْ أَقْرَضْتُمُ الَّذِينَ تَرْجُونَ أَنْ تَسْتَرِدُّوا مِنْهُمْ، فَأَيُّ فَضْل لَكُمْ؟ فَإِنَّ الْخُطَاةَ أَيْضاً يُقْرِضُونَ الْخُطَاةَ لِكَيْ يَسْتَرِدُّوا مِنْهُمُ الْمِثْلَ. 35 بَلْ أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ، وَأَحْسِنُوا وَأَقْرِضُوا وَأَنْتُمْ لاَ تَرْجُونَ شَيْئاً، فَيَكُونَ أَجْرُكُمْ عَظِيماً وَتَكُونُوا بَنِي الْعَلِيِّ، فَإِنَّهُ مُنْعِمٌ عَلَى غَيْرِ الشَّاكِرِينَ وَالأَشْرَارِ. 36 فَكُونُوا رُحَمَاءَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمْ أَيْضاً رَحِيمٌ.

 

الشرح، عن نشرة رعيتي:

مقطع من عظة ليسوع قالها “في موضع سهل” أمام جمع من تلاميذه وجمهور كثير من الشعب…” (لوقا 6: 17). يستهلّها يسوع بالتطويبات (لوقا 6: 20 – 23) ثم ينتقل إلى تعليم أخلاقي يفترض في من يؤمنون به أن يحفظوه. أهم ما في هذا التعليم “محبة الأعداء” و”الرحمة”.

المؤمن المسيحي خاضع لناموس المحبة، أما المحبة فهي مجانية غير مشروطة. تجلت بالرب يسوع فيضا يطال الجميع دون استثناء، متجاهلا دوامة المبادلة. أنت دائما ترد بالخير على القباحة. الخير روح وفعل وليس ردة فعل. هي أساس السلوك المسيحي الذي تتضح بعض جوانبه في نص إنجيل اليوم.

“كما تريدون أن يفعل الناس بكم كذلك افعلوا انتم بهم”. هذه الآية تلخص كامل التعليم القديم كما يظهر عند الرسول متى إذ يضيف الرب يسوع قائلا “لأن هذا هو الناموس والأنبياء” (متى 7: 12). هي تتضمن المعنى الآتي أيضاً: “ما لا تريدون أن يفعل الناس بكم لا تفعلوه انتم أيضاً بهم” (انظر طوبيا 4 : 15). هذا الكلام لا يعني أن المسيحي يخدم أهواء الناس وشهواتهم وخطاياهم تبريرا لتتميمها لنفسه، بل يعني أن المسيحي يرتضي للآخرين الصالح الذي يرتضيه لنفسه. أنت بمسيحيتك ترى الآخر بمنزلة نفسك. المسيحي يجد في الآخر ملء كيانه ويجد نفسه امتدادا للآخرين. هذا إحساس وحدة الجماعة المؤمنة بالرب يسوع والتي تشكل الكنيسة.

“إن أحببتم الذين يحبونكم فأية منة لكم”. المسيحي لا ينتظر المبادرة ليفعل بالمثل، هو دائما المبادر. المسيحي سبّاق دائما في المحبة. في النص تكلّم الرب يسوع عن المحبة أولاً ثم ردد بالسياق نفسه كلاما عن العطاء، وكأني بالرب يسوع يقول: أن العطاء هو دليل المحبة الوحيد. العطاء بادرة المحبة، والمحبة تتجلّى به. البشر متعلّقون بالمال حتى التنفس، هذا بسبب الخطيئة أو الخوف من العوز ومحبة السلطان. إذا أعطيت من مالك بقناعة تامة وتواضع جدي تجاري الرب يسوع في محبته وتسمو على المال محطما القيد الذي يفرضه عليك بسبب ضعفك.

“أحبوا أعداءكم وأحسنوا واقرضوا غير مؤملين شيئا”. المسيحي لا يتوقع من الآخرين المبادلة بالمثل، هو يبذل مجانا. مجانية البذل نتعلمها من الرب يسوع نفسه ونتوخى منها تحريك القلوب إلى المجانية نفسها. المسيحي يضع رجاءه في الله، وكل ما يعود عليه من البشر حسنا كان أم سيئاً، لا يغنيه عن افتقاد الرب يسوع له وهذا هو الأجر الذي لا يفوقه أجرٌ. يكون أجرنا كثيرا عندما تنسكب علينا نعم الله التي تنير العقول وتطهر القلوب رافعة إيانا إلى مستوى المعاينة الإلهية، عندها نصبح أولاد الله لأننا نكون سلكنا كما سلك الرب يسوع (ا يوحنا 2 : 6) وسننال أجرنا عند مجيئه إذ نصبح مثله نورانيين (انظر ا يوحنا 3 : 1 – 2).

تفسير هذا في الآيات الثلاثة التالية، التي تقيم مقارنة بين تصرف “الخطأة” والتصرف المفترض في المؤمنين. وتظهر هذه الآيات الثلاث أن تعليم التبادل في المعاملة والتصرف مرفوض ولا قوام له في فكر كاتب الإنجيل. تتكرر في الآيات الثلاثة مقارنة “الخطأة” بسامعي يسوع. ففي حين أن الفريق الأول يعامل الناس بالحسنى أنه ينتظر منهم المعاملة عينها، على الفريق الثاني ألا ينتظر شيئا إلا أجراً من الله نفسه. فسؤال “أي منة لكم؟ يحث السامعين على أن يجعلوا هذه المنة، هذه النعمة، نعمة الله نفسه نصب أعينهم حين يعاملون الناس بالحسنى، لا ردّ الناس على معاملتهم. و”المنة” هنا لا نفهمها إلا في علاقتها مع رجاء سيادة الله الموعود بها، ذلك أن نتيجة التصرف الذي يطلبه يسوع من سامعيه ليست نعمة من هذا الدهر، من هذا العالم، بل أجرا في السموات على حسب ما يرد في الآية 35 “وانتم لا ترجون شيئا، فيكون أجركم عظيما وتكونوا بني العلي”. يعزز هذا أن لفظة “منة” في أصلها اليوناني charis (نعمة) تشير إلى عمل الله الخلاصي الذي يغدقه الله منذ الآن على المختارين. النعمة بهذا المعنى هي التي ينتظرها السامعون حين يتصرفون إزاء الآخرين وفق وصايا يسوع.

أما النقطة الثانية المهمة في تفسير وصية يسوع بمحبة الأعداء فهي في استعمال عبارة “الخطأة” بدلا من عبارة “الأمم” التي يستعملها متى في إنجيله. استعمال عبارة “الخطأة” يشدد على أن تصرف الناس الذين يعاملون غيرهم بالحسنى فقط ينتظرون منهم المعاملة عينها مخالف للمشيئة الإلهية التي يعلنها يسوع. الخطأة هنا هم الأناس الذين لا يريدون “النعمة” الإلهية، بل مقياسهم في تصرفهم مبدأ المبادلة.

“منعم على الشاكرين والأشرار”، “ويشرق بشمسه على الأشرار والصالحين ويمطر على الأبرار والظالمين” (متى 5 : 5). الله لا يفرّق بين البشر، نعمه في متناول الجميع وهذا يعود لفائق رحمته. كل من ذاق رحمة الله مدعو للتمثل به لذلك يقول الرب يسوع “كونوا رحماء كما أن أباكم هو رحيم”. أنت تقبل البشر على ضعفاتهم، تتأنى وترفق بهم علهم يعونها، عندها تسمو وإياهم إلى رحمة الله ومحبته اللامتناهية.

“فكونوا رحماء كما أن أباكم هو رحيم”، في هذه الآية دعوة إلى التشبه بالله من جهة أن يكون المرء رحيما. والحقيقة أن المقطع بكامله الذي يتحدث عن محبة الأعداء ومعاملة الناس دونما انتظار شيء منهم بالمقابل يبلغ أوجه في هذه الآية. فيها صورة لله نجدها في كل عظة يسوع في السهل (لوقا 6)، وهي إنه رحيم ومنعم. وهاتان الصفتان نجدهما في هذا الفصل في الآيتين 35 و 36. وهما تطلقان على الله في مواضع عديدة في الكتاب المقدس وتشير الأولى إلى محبته للعالم كأب عطوف والثانية كسيد محسن. وفي الأناجيل أن رحمة الله تظهر في كونه يريد أن يخلص جميع الناس من الموت وينالوا الحياة الأبدية. يسوع يدعو سامعيه إلى التشبه بالله بهذا المعنى، أي بأن يكونوا رحماء تجاه كل البشر في سبيل خلاصهم وهذا يشتمل على محبة الأعداء وكل الوصايا الأخرى التي تحدد كيفية التصرف مع الآخرين بحسب مشيئة الله.

 

الشرح، عن نشرة مطرانية اللاذقية:

“كما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا أنتم أيضاً بهم هكذا” هذه هي المحبة العملية التي بها ينطلق الإنسان من الأنا، فيحبّ أخاه كنفسه، يشتهي له ما يشتهيه لنفسه، ويقدم له ما يطلب في الآخرين تقدمة له. فكان من المرجح أن يظن الرسل أنه ليس بمقدورهم إخراج هذه الوصايا من حيز الفكر إلى حيز العمل. وقد علم المسيح أفكارهم فاعتمد على غريزة محبة النفس حكماً بين الناس بعضهم ببعض، فأمر كل واحد أن يعمل للآخرين ما يريد منهم أن يعملوه به. فإذا كنا نحب الآخرين أن يعاملونا بالرحمة والشفقة كان لزاماً علينا إذن أن نعاملهم بالمثل. وقد سبق وتنبأ أرميا عن قيام ساعة لا يحتاج فيها المؤمنون إلى أوامر مكتوبة، لأن هذه التعاليم منقوشة على القلوب “أجعل شريعتي في داخلهم وأكتبها على قلوبهم”.

إنه يطالبنا خلال الحب الناضج لا أن نرد معاملة إخوتنا بالمثل. وإنما أن نقدم لهم ما نشتهيه لأنفسنا، بغض النظر عما يفعلونه معنا… إنا نحب من أجل الله، أي الحب ذاته، بكون الحب قد صار طبيعتنا… فنقدم الحب بلا مقابل من جهة الغير، فالمسيح يقدم لنا تعليم يليق بأبناء الملكوت فيطالبنا بحياة فاضلة، فالعالم حين يحب يطلب الأجرة على الأقل مماثل ً ة، أما نحن فأجرتنا العظيمة هي بنوتنا لله، التي تلزمنا الامتثال بالآب السماوي.

ويتابع السيد خاتماً حديثه: “فكونوا رحماء كما أن أباكم أيضاً رحيم” ليس شيء يجعلنا مساوين لله سوى فعل الرحمة. ولنأتِ بأنفسنا وأولادنا وكل من لنا إلى مدرسة الرحمة، وليتعلمها الإنسان فوق كل شيء، فالرحمة هي الإنسان… ويقول القديس يوحنا الذهبي الفم:

“لنحسب أنفسنا كمن هم ليسوا أحياء إن كنا لا نظهر الرحمة بعد” فالرحمة حامية لمن يمارسها، إنها عزيزة عند الّله، تقف دائماً بجواره تسأله من أجل الذين يريدونها إن مارسناها بطريقة غير خاطئة!.. إنها تشفع حتى في الذين يبغضون، عظيم هو سلطانها حتى بالنسبة للذين يخطئون! إنها تحل القيود، وتبدد الظلمة وتطفئ النار، وتقتل الدود، وتنزع صرير الأسنان.

فبدون محبة عملية معاشة بشكل واقعي، وبدون رحمة فعلية ناتجة عن خبرة حياتية يومية يبقى الكثير للمؤمنين ليفعلوه ليصيروا حقيقة أبناء ملكوت الله.

من وحي الإنجيل:

اليوم يرتقي بنا السيِّدُ تدريجياً إلى الحدِّ الأقصى، إلى محبة الأعداء والعطاء بدون مقابل. يبدأ بأمرٍ منطقي “كما تُريدون أن يفعل الناسُ بكم كذلك افعلوا أنتم ﺑﻬم”، يا لها من قاعدة ذهبية! نحن نريد أن يعاملنا الناس بمحبة، أن يعتنوا بنا، ولا يجرحوا مشاعرنا، أن يساعدونا عند حاجتنا وعند مرضنا، أن يغفروا لنا تقصيرنا، أن لا يستغيبوننا في مجالسهم، أن لا يشتموننا أو يهينوننا… حسناً يقول الرب، افعلوا أنتم هذا أولاً. يا أحبة، نحن نعرف أنه صعبٌ على إنسان الحضارة المادية -بعد أن نَمَت فيه الأنانية والقسوة إلى حدٍّ كبير- أن يقبل منطق الغفران والعطاء اﻟمجاني والرحمة! ربما نتساءل: يا ربُّ لماذا تريدنا أن نعمل المستحيل؟! لكن الرب يقول لنا أن هذا ممكنٌ وليس مستحيلاً، لكنه ممكن بقوة الرب. نحن بطبيعتنا ربما لا نقوى على محبة أقرب الناس إلينا، فكيف إذاً نقدر على محبة الأعداء! أيها الأحباء، إننا قادرون على المحبة إذا صلينا كلَّ يوم ليمدَّنا الله بقوةٍ من روحه نكون ﺑﻬا مُحبِّين، وعندما نُحب نكون نحن الرابحين، إذ نشعر بالسلام الداخلي والفرح الذي يفوق كلَّ وصف. دعونا نفكِّر سويًة: ما معنى حياتنا بدون هذه الأمور النبيلة والسامية؟ ما ميزة إنسانيتنا إن لم نُصبِح نبعاً من العطاء والغفران، نبعاً من المحبة، نبعاً من الصلاح! أنأكل ونشرب ونتناسل فقط! لكنَّ الحيوانات تفعل هذه الثلاثة أيضاً! شرفنا هو في أن نصير قديسين (أن نتأله) بالنعمة، على مثال مسيحنا الإنسان والإله. هذا ما يميزنا عن سائر المخلوقات، فقد أعطانا الله إمكانياتٍ تفوق كلَّ تصوُر لنرتقي في معارج الحياة الروحية.

arArabic
انتقل إلى أعلى