رسالة يهوذا الرسول

رسالة يهوذا الرسول (نعيّد له في الـ19 من شهر حزيران) واحدة من الرسائل الجامعة التي تذكّر ببعض مشاكل عرفتها الكنيسة الأولى، لنتجنّبها، ونقتني الحقّ.

في فاتحة الرسالة، يقدّم يهوذا نفسه باعتراف جليل. يقول: إنّه “عبد يسوع المسيح”، فيدلّ على إيمانه الكلّيّ بسيادة الربّ، وإنّه، تاليًا، “أخو يعقوب”، وهو يعقوب أخو الربّ (أحد أقربائه) القائد البارز في الكنيسة الأولى. ويوجّه رسالته إلى “الذين دعاهم الله الآب وأحبّهم”، ووضعهم تحت رعاية يسوع ديّان العالم. ويضمّن الفاتحة ثلاثة عناصر ليتورجيّة، فيرسم صورة موجزة عن الحياة المسيحيّة التي تتأسّس على رحمة الله وسلامه ومحبّته (2). ثمّ يشير إلى أنّه كان يرغب في أن يكتب لقرّائه إرشادات “في موضوع خلاصنا المشترك”. 

بعد هذا، يقتبس الرسول ثلاثة أمثلة من العهد القديم، ويريد منها أن يؤوّن حقّ الله. فيرتكز، في الأوّل، على إيمان شعب الله، ليرينا مصير الخطأة، فيحذّر الكافرين بتأكيده أنّ دينونة الله من المسلّمات (5). ويستلهم، في الثاني، قصّة أبناء الله الذين استحسنوا بنات الناس (تكوين 6: 1- 4). فيلمح إلى الفوضى الجنسيّة التي ترصف المعلّمين الكذبة مع الملائكة الساقطين. وهدفه التأكيد أنّ الله، الذي لم يعفُ عن ملائكة سقطوا، لن يترك الكفرة بلا عقاب (6). ويصف، في الثالث، زوال مدن السهل الخاطئة التي “سعت إلى كائنات من طبيعة مختلفة”. وهذا تحذير آخر إلى من يتشبّه بلواطيّي سدوم وعمورة الذين أرادوا أن يفعلوا بملائكة ما لا يجوز فعله (تكوين 9: 15)، وإلى كلّ من لا يهاب الله، ولا يعتبر بما نالته المدن الخاطئة التي “لقيت عقاب النار الأبديّة” (7).

يؤكّد يهوذا، في الآية الـ8، أنّه كان يريد، من عرضه أمثلته، أن يعطي الذين يعتمدون تعليمًا هذيانيًّا، ليبرّروا خطاياهم، دروسًا لا يجيدون قراءتها. ويبيّن قذارة الخطايا التي ذكرها قبلاً، يقول: “ينجسّون الجسد”، وهي: “يجعلون نعمة إلهنا فجورًا”؛ “ويزدرون العزّة الإلهيّة”، ويقصد: ينكرون سيادة الربّ يسوع (4)؛ “ويجدّفون على أصحاب المجد”، أي يسخرون بالمجد الإلهيّ الذي يشهد له ألوف الملائكة. ثمّ يذكر قصّة وردت في كتاب منحول من القرن الأوّل ب.م. (صعود موسى) عن خصام ميخائيل رئيس الملائكة مع إبليس الذي لمّا جادله “في مسألة جُثّة موسى، لم يجرؤ على أن يحكم عليه حكمًا فيه شنيعة، بل قال: خزاك الربّ” (9)، ويريد، بها، أن ينتقد الذين لا يتشبّهون بميخائيل (أي بعفّة لسانه)، وينتقد، تاليًا، جهلَهم وانحرافاتهم التي تدلّ على أنّهم يعيشون مثل البهائم التي لا عقل لها (10).

في الآية الـ11 يشبّه يهوذا الكفرة بأشخاص رمزوا إلى القيادة الشرّيرة، وهم: “قاين” قاتل أخيه، و”بِلْعام”، وهو معلّم كذّاب حرّض الشعب على أن يخون الله ويتبع البعل، و”قورح”، وهو متمرّد شكّك بسلطة موسى وهارون. ثمّ يذكر “المآدب المشتركة” التي كان ينظّمها المسيحيّون الأوائل قبل عشاء الربّ تذكارًا لما فعله يسوع قبل صلبه، والتي كانت ترمز إلى الوحدة، وإعانة الفقراء، والفرح الأخير، وهدفه أن يفضح المضلِّين الذين يهتمّون، حصرًا، بالطعام من دون أن يلتزموا معاني الممارسة. ويزيد في وصفهم، بقوله: “إنّهم غيوم لا ماء فيها، وأشجار لا ثمر عليها…” (12)، أي لا ينفعون شيئًا. أمّا الآية الـ13: “هم أمواج البحر العاتية زبدها خزي نفوسهم…”، فيريد بها أن يزيد في تصوير فساد أخلاق الكفّار الذين لا يتركون، وراءهم، سوى عار نفوسهم.

إلى ما جاء في كتاب أخنوخ (1:1-3)، يسند يهوذا كلامه (14 و 15)، ليؤكّد حقيقة دينونة الربّ الآتي “في ألوف قدّيسيه” (أي الملائكة)، لـ”يخزي الكافرين جميعًا”. ثمّ يسجّل خمس رذائل تشبه، جزئيًّا، الاتّهامات الآنفة: 1) “هم الذين يتذمّرون”: يعترضون، ويكفرون بالمسيح؛ 2) “ويشكون”: يحتجّون على تدبير الله الخلاصيّ؛ 3) “ويتبعون شهواتهم”: يبرّرونها بانتقادهم نظام الله؛ 4) “تنطق أفواههم بالعبارات الطنّانة”: يهينون الله بأقوالهم المترفّعة؛ 5) “ويتملّقون الناس طلبًا للمنفعة”: أي يحابون الذين يتبعونهم، ولا سيّما الأغنياء، ويكرهون من يرفض كذبهم (16).

ثمّ يعود إلى قرّائه طالبًا أن يذكروا ما أنبأ به رسل ربّنا: “إذ قالوا لكم: سيكون في آخر الزمان مستهزئون يتبعون شهوات كفرهم…” (17- 19). فيحثّهم على العودة إلى تعليم الرسل الحيّ فيهم، ليكونوا يقظين وأمناء للربّ، ويتمكّنوا من فضح كلّ استهزاء وكفر يراد بهما ضياعهم وشرذمتهم.

في المقطع التالي (23-20)، يوجّه يهوذا إرشادات أخيرة إلى قرّائه، فيعدّد الفضائل التي يجب أن يحوزها كلُّ مَنْ ينتظر رحمة الربّ “من أجل الحياة الأبديّة” (21). فيحضّهم على أن يبنوا أنفسهم على “الإيمان المقدّس”. ثمّ يطلب: “وصلّوا بالروح القدس” الذي يكفل ثباتهم في وحدة الإيمان. ويضيف: “واحفظوا أنفسكم في محبّة الله”، أي بالإخلاص لخلاصه الحيّ.

هذا يدفع الرسول إلى تذكير المؤمنين ببعض مسؤوليّاتهم داخل الجماعة، يقول: “أمّا المتردّدون فارثوا لهم، بل خلّصوهم منتشلين إيّاهم من النار، وأمّا الآخرون فارثوا لهم على خوف، وأبغضوا حتّى القميص الذي دنّسه جسدهم” (22 و23). وهذا يجعلنا نعتقد أنّ يهوذا يعتبر أنّ الخطأة المتردّدين يمكن العمل معهم وإنقاذهم. وأمّا الآخرون، فلا.

ينهي يهوذا رسالته بمجدلة 24 و25، توافق وضع قرّائه، وتربط بشكل وثيق بين وحدانيّة الله وعمله الخلاصيّ. فالله المثلّث الأقانيم، الذي يليق به المجد والجلال والعزّة والسلطان، هو الذي يصون شعبه من كلّ زلل، ويحضرهم لدى مجده بلا عيب، ويهبهم أن يذوقوا فرحه الأخير “الآن ولأبد الدهور”.

يردّ يهوذا، بهذه الرسالة، على انحرافات يمكن أن تنبت في كلّ جيل. ومراده أن يبيّن أنّ الإيمان الحقيقيّ هو الذي لا يفرّق بين التعليم والحياة. أي أن يؤكّد أنّ الحياة البارّة، التي تستند إلى الحقّ، هي التي تنجّي المؤمنين من دينونة الله، وتقيمهم في فرحه دائمًا.

نشرة رعيتي
الأحد 24 حزيران 2007
العدد 25

arArabic
انتقل إلى أعلى