نحن ولاهوت المسيح

ثمّة هجمات تتالى، اليوم، على الربّ يسوع ليس آخرها كتاب “دافنتشي كود” الذي وضعه دانْ براون وبيع منه ما يقرب من أربعين مليون نسخة، وهو، الآن، على وشك أن يخرج إلى الملأ كفيلم توسيعاً لدائرة انتشار الأفكار التي يعرضها. ورغم أنّ الدراسات أبانت زيف المعلومات التي انبنت عليها الرواية، وقد صيغت على نحو يوحي بأنّ ما ورد فيها أدنى إلى التاريخ المحقّق، فإنّ ما انبثّ في وجدان الناس قد انبثّ، والإمعان في تشويه صورة الربّ يسوع جار على قدم وساق. فكرة الكتاب أنّ الربّ يسوع تزوّج مريم المجدلية وأنّ مَن قيل إنّه يوحنا الحبيب، في لوحة ليوناردو دافنتشي للعشاء الأخير، هو، بالأحرى، مريم المجدلية عينها. حتى إلى العربية تُرجم الكتاب لأنّ ثمّة، من اللسان العربي، مَن يطيب لهم أن يشيِّعوا مؤلَّفاً يطعن بالمسيح والمسيحية لا سيما وقد صدر، أساساً، في أوساط غربية يُزعَم، تقليدياً، في ديارنا، أنّها مسيحية صليبية وليست من المسيحية في شيء. في الغرب مسيحيون ولكنْ لم يعد الغرب مسيحياً.

وما يُعتبَر، هناك، حرّية فكر كثيراً ما ينحدر حتى إلى مستوى الابتذال. ما يجري في الغرب، وما يتردّد صداه في كل العالم، اليوم، إنما هو ثمرة بعض الحركات الإنسانوية humanisms التي تتراوح بين الإلحادية والإيمانية الشكلية مروراً باللاإدرية agnostic غير المبالية بالله، التي كثيراً ما تحسب أنّ التغاضي عمّا ليسوع أو الطعنَ به، وفق اتجاه هذه الإنسانويات، إنّما يرسِّخ ما للإنسان في العالم. الموضوع في هذه الإنسانويات، ولو تباينت في الشكل، إنّما هو واحد وهو عبادة الإنسان لنفسه. طبعاً هذا يلتقي والهياج اليهودي التاريخي على مسيح الربّ، إن لم يكن ثمرة من ثماره. ليست فكرة هذه الهجمات على الربّ يسوع جديدة. العرفانية Gnosticism، التي تؤكّد العقل والوحي الخاص بأصحابها، سعت، منذ فجر المسيحية، ولا زالت، في حلل جديدة، إلى التعرّض للربّ يسوع. الفكرة واحدة ولا زالت إيّاها وهي أنّ يسوع هو أحد المخلوقات وليس هو الله بحال.

يوم الثلاثاء الفائت، الثاني من شهر أيار، ذكرت الكنيسة المقدّسة القدّيس أثناسيوس الكبير، رئيس أساقفة الإسكندرية. في زمانه انوجد العالم آريوسياً. الآريوسية هي، تماماً، القول بأنّ يسوع المسيح هو أحد مخلوقات الله وليس هو الله. أكثر الحكّام دانوا، في أيامه، بالآريوسية وأكثر الأساقفة أذعنوا لها، في شكل أو في آخر، وانغلب معظم الشعب لها. بين الأصوات التي بقيت أمينة كان أحدَّها أثناسيوس الذي نُفي خمس مرّات وبقي مضطهَداً سنين طويلة. رغم كل شيء قاوم بضراوة حتى سرى القول: “أثناسيوس ضدّ العالم!” قاوم الشياطين وقاوم سلاطين هذا الدهر وقاوم الهراطقة وأخيراً غلب. غلب لأنّ كيانه تلظّى بمحبّة الله ولأنّ روح الله كان قوياً فيه. اسمه أثناسيوس معناه مَن لا يموت، الخالد. وفيه استبانت المسيحية خالدة، لا لأنّه إنسان عظيم بل لأنّ روح الله الضامنَ لثبات المسيحية، هو الذي كان عظيماً فيه. القوّة، في القدّيسين، ليست منهم بل من الله. هم يقتبلون ويتعاونون.

بشرياً، كان عمل أثناسيوس أدنى إلى الجنون. الصليب الذي حمله كان فوق التصوّر. ولا غرو لأنّ معرفة الله تستدعي الصليب أنّى يكن ثقلُه. أحبّة الله، في مقاييس هذا الدهر، زمرة جهلة، لكنْ، إذا كانت “كلمة الصليب عند الهالكين جهالة، فهي عندنا، نحن المخلَّصين، قوّة الله” (1 كو 1: 18).

دافع أثناسيوس عن حقيقة واحدة لا تصمد المسيحية من دونها، ولا تعود لها أيّة قيمة، أنّ يسوع المسيح هو إيّاه الإله الكلمة وليس أحدَ المخلوقات، بل “فيه خُلق الكل ما في السماوات وما على الأرض، ما يُرى وما لا يُرى… الكل به وله قد خُلق، الذي هو قبْل كل شيء وفيه يقوم الكل” (كولوسي 1: 16 – 17). ألوهية يسوع هي القضيّة. إن لم يكن يسوع هو كلمةَ الله، وهو والآب واحد في الألوهة، رغم كونه مميَّزاً عن شخص الآب، فالتجسّد لا معنى له ولا قيمة. المسيحية، والحال هذه، لون من الوثنية، ولو الراقية، من حيث إن الوثنية هي عبادة الإنسان لنفسه في كل تعابير أهوائه.

آريوس، في المقابل، كان همّه أن يحطّم القول بأنّ يسوع إله غير مخلوق. يسوع لديه مخلوق. قرأه فلسفياً، وقرأ الكتاب المقدّس كمُعطَى عقلاني.

آباؤنا اعتبروا أنّ الشيطان بعدما عمل، في يهوذا الإسخريوطي، على محو المسيح، عمل، أكثر ما عمل، بعده، في آريوس على محو المسيحية. مذ ذاك، بخاصة، من زمن آريوس إلى اليوم، والسعي قائم، على قدم وساق، لإزالة الفكْر من الأذهان أنّ يسوع هو كلمة الله غير المخلوق وابن الله الوحيد. المسيحية اضطُهدت وتُضطَهَد من الخارج، لكن أشرس اضطهاد عليها كان ولا زال من الداخل، من خلال العمل على إفساد وجدان المؤمنين وحملهم على القبول بأنّ المسيح ليس هو الله. كل الذين اشتركوا ويشتركون في هذه الحملة على مسيح الربّ إنّما فعل ويفعل فيهم الروح عينُه الذي فعل في آريوس، وهم، عن وعي وعن غير وعي، عمّال لضدّ المسيح. أما نحن فلنا أثناسيوس مثال وقدوة. ما علّمه هو ما نعلِّمه وما ينبغي أن نسلك فيه كل أيام حياتنا. لا يكفي أن نقول بألوهية يسوع. علينا أن نتصرّف باعتبار أنّ يسوع هو، لنا، الألف والياء، هو خالقنا، هو حياتنا، هو نَفَسُنا، هو قوّتنا، هو حبيبنا، هو الحقّ الذي نتشوَّف إليه، هو الطريق الذي يقودنا إلى نفسه ومن ثمّ إلى الآب السماوي، هو الكل في الكل. كل مَن قال بألوهية الربّ يسوع وسلك، في حياته، بخلاف إيمانه كان آريوسياً لا بالقول، بالضرورة، بل بالفعل. ما هو أخطر من الآريوسية الكلامية هو الآريوسية العملية. محاولات الشيطان لجعلنا نحيد عن إيماننا، عملياً، في العالم لا تعدّ ولا تُحصى ولها ألف ألف شكل ولون. سعيه، مثلاً، من خلال المؤسّسات العالمية المتنوّعة والمختلطة، سواءٌ منها السياسية أو الاجتماعية أو التربوية، ينصبّ على إقناعنا بأنّ يسوع المسيح إنما هو مبدأ عظيم وفكرة جليلة وإنسان سام ومثال التضحية ومعلّم أخلاق ونبيّ. قل ما شئت، في شأن يسوع، يُسمحْ لك به في مؤسّسات هذا الدهر، ولكن إذا قلت وتمسّكت بأنّ يسوع هو كلمة الله غير المخلوق، المعادل لله الآب، وابن الله الوحيد فإنّ الدنيا تقوم عليك ولا تقعد. تُضطَهد فلسفياً وفكرياً ونفسياً وجسدياً. تصير منبوذاً. وأخبث ما يعرضون عليك النسبية في النظرة إلى يسوع. أنت على حقّ وغيرك أيضاً على حقّ. الميل هو إلى اعتبار الفرق بين الهرطقة واستقامة الرأي، بعامة، فرقاً كلامياً فيما القصد واحد. هذا فيما يحاولون أن يساووا ما بين المسيحية وغيرها من الديانات. يسوع يمسي موضوعاً ثقافياً، له، قليلاً أو كثيراً، ما يقابله في غير ديانات لجهة التعليم أو المزايا الشخصية. الميل هو إلى التعدّدية وإلى اعتبار الجميع في الحقّ، كلاً على طريقته. المهمّ الحدس، المهمّ المبدأ، المهمّ الفكرة. أما عندنا فليس الحقّ والباطل أخوَين. لا يسوع مبدأ ولا فكرة ولا رسالة. ما لم يخطر ببال إنسان ما أعدّه الله للذين يحبّونه، شخص يسوع المسيح ابن الله! في العالم فكرة اسمها “الحقّ” وناس يسعون لأن يكونوا على حقّ. في العالم فكرة اسمها الجمال وأقوام فيهم مسحات من الجمال. في العالم فكرة اسمها الحياة وجماعات تتشبّث بالحياة. أما عندنا فلا مسافة، بعد، بين الحيّ والحياة، بين الحقّ والحقّاني. المسيح هو الحيّ والحياة، هو الحقّ والحقّاني، هو المحبّة والمحبوب. هو إيّاه الطريق والحقّ والحياة. هو الله ولا أحد يأتي إلى الله إلاّ به وحده. ليس فقط أنّه لا حياة لنا إلاّ به، بل لا حياة لنا إلاّ فيه أيضاً. هو لا يأتي بنا إلى ما هو غريب عنه بل إلى نفسه. بالإيمان به، بالسلوك فيه يقيم فينا روح الربّ القدّوس، وفيه أيضاً نمتدّ إلى الآب السماوي. فيه نعرف الله، ونعرفه ثالوثاً قدّوساً، آباً وابناً وروحاً قدساً. الآب حاضر لديك به، بيسوع، في الروح القدس كما العقل حاضر لديك الآن بالكلمة التي تقرأ في نَفَس الكتابة التي إليك.

لكل هذا، علينا، عملياً، أن نطالع وجه الربّ يسوع باعتباره الكل في حياتنا، شخصياً وفي حياة العالم، وهو وحده مقدّمنا إلى الله، إلى الثالوث القدّوس. يسوع شخص. لذا مَن لا يصلّي، أي مَن لا يدخل في علاقة شخصية مع الربّ يسوع، من حيث هو الإله الكلمة، فإنّه مهما اكتنز من أفكار ومهما اعتنق من عقائد لا يمكنه أن يعرف الله. كل العقائد، كل الفضائل، كل الأفكار تصبّ في الصلاة، تُعِدّ للصلاة. المسيحي، تحديداً، هو العابد، هو المصلّي. مَن لا يلتمس وجه يسوع في الصلاة تتحوّل الأفكار التي لديه عن يسوع وعن المسيحية إلى مادة وثنيّات. غير مقبول أن نظنّ أنّ العمل الصالح يمكن أن يحلّ محل الصلاة. ليس هناك، في حياتنا، بديل عن الصلاة. وحين نقول صلاة لا نقصد فروضاً وطقوساً. هذه بإمكان فلان أن يتابعها فيما تتعذّر على سواه لطبيعة حياته. الصلاة التي نقصد هي الصلاة الشخصية، أن نكون في صلة فورية مباشرة مع الربّ يسوع. إذا كان الربّ يسوع هو نَفَس أنوفنا فحالنا كحال المريض الذي يحتاج إلى الأوكسيجين، ويجب إيصال الأوكسيجين إليه بصورة متواصلة وإلاّ يختنق ويموت، بغض النظر عما يعمل أو بماذا يفكّر أو أين يكون. لذلك نصلّي في كل حين لكي نبقى على صلة شخصية بيسوع في كل حين. كل الفكر وكل القلب وكل الجهد، كل ما نفعل وما لا نفعل ينبغي أن يكون له اتجاه واحد: يسوع! كل شيء نقدّمه إليه، نفعله من أجله، نبذله تقدمة، ذبيحة تسبيح. نمجّده في كل شيء. نكون، بالكلية، مشدودين إليه، في كل حين، وفي كل مكان. هذا ما علينا أن نسعى إليه. لا الرهبان وحدهم في الدير بل كل مؤمن بيسوع حيثما وُجد ومهما كانت المَهمّات التي يؤدّيها. فإذا كان هذا الأمر واضحاً لدينا إذ ذاك يصير بإمكاننا أن نتمثّل العقيدة التي عبّر عنها ودافع عنها القدّيس أثناسيوس والكنيسة من قبله ومن بعده. ما كان أثناسيوس ولا كانت الكنيسة لتعبِّر وتدافع عن ألوهية المسيح لو لم تكن ألوهية المسيح هي قاعدة الحياة المسيحية منذ البدء وإلى منتهى الدهر.

إذاً، نحن باقتبالنا ودفاعنا عن عقيدة ألوهية الربّ يسوع إنّما نجدّد الولاء للإله الكلمة وبه للثالوث القدّوس برمّته، نسلك فيه، في روحه، في كلامه، في إثره، في تواضعه، في وداعته، في محبّته، في حياته، في كل حركة من حركاته، في كل نأمة من نأماته. هكذا تكون العقيدة المسيحية الأرثوذكسية قد نشأت من الحياة في المسيح وتصبّ في الحياة في المسيح. حين نتعاطى عقيدة ألوهية الربّ يسوع، نتعاطى حياتنا الجديدة في المسيح. من دون هذه العقيدة لا تكون لنا حياة. العقيدة، عندنا، دليلنا إلى الحياة في المسيح. أثناسيوس كان خالداً لأنّه قال وسلك في ما كشف له روح الربّ في كنيسة المسيح. نحن، أيضاً، نُخلَّد متى سلكنا في ما سلك هو فيه لأنّنا نقتني، إذ ذاك، الروح الذي تكلّم وفعل فيه. “الحقّ الحقّ أقول لكم إن كان أحد يحفظ كلامي فلن يرى الموت إلى الأبد” (يوحنا 8: 51).

الأرشمندريت توما (بيطار)
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي – دوما
عن نشرة نقاط على الحروف

انتقل إلى أعلى