هي واحدة من ثلاث رسائل كتبها الرسول يوحنا بن زبدى، بعد أن وضع إنجيله (في آخر القرن الأول) ليثبّت الذين آمنوا بالرب يسوع الذي أتى بالجسد وخلّص العالم، ويبعدهم عن كل تعليم منحرف.
يعتقد بعض المفسرين استناداً إلى لغة الرسالة وما تحتويه من أفكار… بأن يوحنا وجّه هذا المؤلَّف إلى مسيحيين (من أصل وثني) كانوا يقطنون في مقاطعة آسيا الرومانية التي كانت عاصمتها أفسس (المدينة التي عاش فيها الرسول سنواته الأخيرة). ويبدو أن هؤلاء المسيحيين قد انفتحوا على إغراء بعض أشكال الغنوصية الهيلينية، فانحرفوا عن الإيمان القويم وحسبوا أن عندهم معرفة فائقة عن الله…، وميّزوا بين الروح (وقالوا إنها طاهرة) والمادّة (وحسبوها شراً)، وأدّى بهم هذا التفريق، من وجهة عملية، إلى فساد في الأخلاق، إذ لا شيء، في نظرهم، يفعله الجسد يمكن أن يُفسِد الروح ويشوّه صفاءها، وتالياً إلى إنكار طبيعة المسيح الإنسانية.
يكتب يوحنا، وهو يعرف يسوع شخصياً، فيشهد لقرّائه بأن كلمة الله أتى بالجسد حقا وهو يريد أن تكون لهم مشاركة مع الشهود الأوائل (يضم يوحنا شهادته إلى شهادة الذين سمعوا يسوع ورأوه ولمسوه…) ومع الآب “وابنه يسوع” الذي ظهر ليخلّص العالم ويهبه الحياة (1: 1-4). ثمّ يؤكد أن “الله نور”، ويرى أن شرط المشاركة معه(ومع شهوده) أن يترك كلُّ واحد كلَّ شرّ (وتجديف) ويعمل “للحق”. هذا، لا شك، يفترض تطهُّرا واعترافاً بالخطيئة، فمن يقول إنه “بلا خطيئة” يضلّل نفسه ويجعل الله كاذباً، وأمّا من يعترف بخطاياه ويتوب عنها فيغفر له الله ويشفيه” من كل إثم”(5 – 10). هذا يكتبه الرسول لئلا يخطئ أحد، وإن فعل “فهناك شفيع عند الآب وهو يسوع المسيح البارّ، إنّه كفّارة….لخطايا العالم أجمع” (2: 1 – 2).
أن تعرف الله يعن أن “تحفظ وصاياه” (المحبّة). فمن يحبّ يُخلِص للمسيح المصلوب، وذلك أن المسيح الذي بذل نفسه عنّا كان، بموته، الكشف السامي للمحبة (2: 1- 7). والمحبة هي نور العالم، لأنها يبدّد ظلامه وتُبعد مَن اقتناها عن كل “عثرة” (8 – 11). يقول الرسول هذا، ثم يدعو قرّاءه إلى أن يعرفوا الآب والابن ويعيشوا في اتّحاد كامل بهما، وأن يغلبوا الشرير وكل ما يزول (شهوة الجسد وكبرياء الغنى…) ويعملوا “بمشيئة الله” ليبقوا “مدى الأبد” (12 – 17). لقد تعلّم الأوائل أن مسيحاً دجّالاً يأتي قبل “الساعة الأخيرة”. ويرى يوحنا أن مُسَحاء دجّالين كثيرين حاضرون الآن، وهم ينكرون “أنّ يسوع هو المسيح”، وهذه علامة “أن هذه الساعة هي الأخيرة”. ولذلك يحثّ المؤمنين على الثبات في ما سمعوه “منذ البدء” لينالوا الحياة الأبدية. فإن المسحة مقيمة فيهم “وليس بهم حاجة” إلى تعليم آخر (ما يقوله المسحاء الكذبة)، لأن هذه المسحة (التي أقامتهم أعضاء في الكنيسة) “تتناول في تعليمها كل شيء”، وهي “حقٌ” لا باطل فيه (18 – 29).
في الإصحاح الثالث يؤكد الرسول أن من لا يعرف الله لا يعرف أبناءه الذين سيصبحون “عند ظهوره أشباهه”. فيذكّر “كل من كان له هذا الرجاء فيه” بأن لا يأثم (لا يجحد الإيمان كما يفعل المسحاء الكذبة). فهذا (عدم الإثم) ممكن لمولود الله “لأن زرعه (الله) باقٍ فيه”. لقد حرَّرَنا المسيح من كل خطيئة، وعلينا أن نحيا بنور هذه الحقيقة ونعمل البر (1 – 10). ثم يتكلم يوحنا على المحبة الأخوية، فيكشف أن أساسها محبة الله التي تجلّت في ابنه يسوع، لذلك هي تتعدى الكلمات والعواطف، وتفترض بذل النفس وخيرات الدنيا في سبيل كل محتاج. فما يجعلنا “نعرف أننا في الحق” هو أن نؤمن ونحب ونعمل (11 – 24).
ثم يحدد يوحنا مقياس كل تعليم صحيح، بقوله: من لا يعترف بأن يسوع المسيح “جاء في الجسد” لا يمكنه أن يأتي برسالة من الله. ويؤكد أن الروح القدس هو يعطي المؤمن أن يختبر الأرواح ويميّز الحق من الباطل (4: 1 – 6). ثم يعود للكلام على المحبو الأخوية، فيدعو قرّاءه إلى محبة بعضهم البعض ليعرفوا الله، لأن “الله محبة”.ونرى أن يوحنا لا يمكلّمنا في جوهر الله بكلمات مجرّدة، بل يجعلنا نتأمل في تدخّله الخلاصي، وذلك أنّ حبّ الله ظهر في أنه، بمبادرة مجانية صِرْف، “أَرسلَ ابنه الوحيد إلى العالم…كفّرةً لخطايانا”. ويبيّن أن كل مسيحي مدعو إلى أن يُسهم معه حقا في حياته (طبيعته)، أي أن يحب الآخرين مجانا، من دون أن ينتظر أن يبادله الناس هذه المحبة أو أن يستحقوها. فمحبتنا لله لا يمكنها أن تكون محبة صادقة وحقيقية إن لم تكن مشاركة في محبته، وتظهر في محبة الإخوة وخدمتهم. ثم يكشف يوحنا عن منفعة ترابط المحبة والطاعة. فإنْ أحببنا الله وأعطناه فلا حاجة بنا إلى أن نخاف “يوم الدينونة” (7 – 21).
يعطي الرسول في إصحاحه الأخير، اعتراف الإيمان أهمية ظاهرة. ويحثّ قرّاءه على الثبات ليُدرِكوا الغلبة (5: 1 – 4). فمَن “آمن بابن الله” كانت شهادة الله عنده. وهذه الشهادة هي “أن الله وهب لنا الحياة الأبدية، وأن هذه الحياة هي في ابنه” (5 – 11). فمن يؤمن بالابن يحيا ومن يجحده يموت (12). ثم يلخّص يوحنا موضوع رسالته (13)، ويدعونا إلى الاعتراف بأمانة الله وبمسؤوليتنا عن كل ما يغيظه (14 – 17). وفي هذه الحالة تقدر صلاة الجماعة أن تحصل لنا على غفران ذنوبنا، شرط أن نكون قد سقطنا في خطيئة “تؤدي إلى الموت” ونصرّ عليها. ولعله يقصد البدعة التي تجزّئ الرب يسوع (4: 3)، وهي التي تمنع المبتدعين من الاتحاد بالرب وتؤدي بهم إلى الهلاك الروحي. ثم يبيّن أن العالم كله “تحت وطأة الشرير”، غير أن القدرة التي أعطانا الله (“البصيرة”) أن نعرفه بها هي التي تقيم المؤمنين “في الحق”، أي هي التي تمكّنهم من أن يكونوا غرباء في العالم، ويعرفوا أن يسوع هو “الإله الحق والحياة الأبدية”، وأنهم به وحده يُنقَذون من “الأصنام” (كل تعليم غريب منحرف يتعلق به الإنسان ويصنع منه آلهته).
تدعونا هذه الرسالة إلى أن نبتعد عن كل تعليم كاذب، وتنير دربنا لنفهم حقا أن حياتنا التي نعيشها هنا مع الناس اخوتنا هي مرقاتنا إلى الله الذي أرسل ابنه ليموت حباً بنا ويختزل بالحب دستور السماء.
نشرة رعيتي
الأحد 3 كانون الثاني 1999
العدد 1