الفصول الثلاثة: اتفق أن كان في البلاط ثيودروس اسكيذاس أسقف قيصرية قبدوقية ودوميتيانوس أسقف أنقيرة الرها وهما الراهبان الفلسطينيان اللذان رحلا إلى القسطنطينية سنة 563 ليدافعا عمن قال بالأوريجينية الجديدة من رهبان فلسطين فنالا الحظوة لدى الامبراطور ورقيا إلى رتبة الأسقفية وبقيا في العاصمة وأسية وكان ثيودوروس لا يزال يحقد على بيلاجيوس ممثل رومة وجيلاسينوس رئيس أخوية القديس سابا لما أبدياه من النشاط في ملاحقة الرهبان الذين قالوا بالأوريجينية الجديدة في فلسطين. فرأى هذا الأسقف الأوريجيني “الباطني” أن يحقّر سميه ثيودوروس المبسوستي مقابل تحقير اوريجنس لتعلق جيلاسينوس وأتباعه به وتعظيمهم له ولا يخفى أن ثيودوروس المبسوستي كان قد انتقد اوريجنس وتفاسيره الرمزية.
واستدعت رومة بيلاجيوس عام 543 فأضحى الأسقف ثيودوروس أشد المستشارين أثراً في نفس الأمبراطور. وكانت ثيودروة لا تزال تداور زوجها وتدامله لتصلح بينه وبين جماعتها المونوفيسيين فشجعت ثيودوروس على موقفه من سميه المبسوستي ونصحت إليه أن يطلع زوجها على رأيه. فانتهز ثيودوروس ظرفاً ملائماً في إحدى سهراته في مكتبة القصر ولفت نظر يوستنيانوس إلى إمكانية كسب المونوفيسييين بشجب النساطرة الذين تبرأوا في المجمع الخلقيدوني. فأصغى إليه ثم شاور نفسه وصوَّب رأي ثيودوروس وأصدر إرادة سنية جديدة حرَّم فيها تعاليم ثيودوروس الموبسوستي وثيودوريطس القورشي وإيبا الرهاوي.
وجاءت هذا الإرداة الامبراطورية في ثلاثة فصول. ومن هنا القول الفصول الثلاثة. وقد ضاع نص هذه الإرادة ولم يبقَ سوى بعض شذرات منثورة هنا وهناك. ويعود الفضل في جمع هذه الشذرات إلى العلامة شوارتز Schwartz الذي عانى مشقة في مضاهاة النصوص الباقية وضمها بعضها إلى بعض ليؤلف منها مجموعاً موحداً متسلسلاً متواصلاً.
ولا يخفى أن ثيودوروس الموبسوستي جعل من اتحاد الكلمة بالناسوت في المسيح مجرد سكنى وتلطف ومسرة eudaxia لا إتحاداً في الجوهر ousia فأصبحت السيدة في نظره أم إنسان anthropotoxos وأم إله theotoxos! وأهم ما أخذ على ثيودوريطس القورشي اعتراضه على البند الثاني عشر من بنود كيرلس الإسكندري الذي نصَّ على أن “إن الله الكلمة تألم وصلب ومات في الجسد”. أما إيبا الرهاوي فإنه نقل تعاليم ثيودوروس إلى السريانية وفنّد أعمال مجمع أفسس في رسالة وجهها إلى ماري أسقف أردشير. إذاً تنص الفصول الثلاثة على حرم ما يلي:
- كتابات وشخص ثيودور الموبسويستي. معلم نسطوريوس
- كتابات ثيودوريت القورشي ضد كيرلس.
- رسالة إيفا الرهاوي إلى ماريس الفارسي. الذي قال فيها أن تعليم كيرلس هرطوقية
وطلب يوستنيانوس إلى جميع الأساقفة في الشرق والغرب معاً أن يوافقوه على شجب هذه المصنفات والأقوال. فتردد أفراميوسش بطريرك أنطاكية مدة ثم وافق قبيل وفاته. ولم يرضَ أساقفة الغرب على هذه الفصول وجاراهم في ذلك البابا فيجيليوس. ولم يوافقوا في الغرب بسبب أن المجمع الرابع استخدم طوموس لاون في البيان الختامي. فقالوا لو وقعنا على هذه الإدانات التي ضد من مجمع خلقيدونية فنحن ندين خلقيدونية ويعتبر نصر للاخلقيدونيين وإنزال من قيمة البابا لاون الذي عملياً تم اتخاذ كتاباته بشكل أساسي في المجمع الرابع. وأيضاً أن هؤلاء الأشخاص الذين تدينهم الفصول الثلاثة كانوا قد توفوا أرثوذكس فهل من المعقول بعد وفاتهم ندينهم بالهرطقة ونحرمهم. وكتب أسقف قرطاجة إلى الأمبراطور أنه لا يجوز إيقاع الحرم بشخص بعد موته. واستخف المونوفيسيون بعمل الإمبراطور لأن نص الإرادة بتحريم الفصول الثلاثة حوى أيضاً تحريماً مماثلاً لمن فكَّر في إبطال مقررات المجمع الخلقيدوني.
فاستدعى يوستنيانوس البابا إلى القسطنطينية فحضر إليها وانتهى بالنزول عند إرادة الإمبراطور فأنشأ رسالته المعروفة بالجوديكاتوم Judicatum وفيها شجب للفصول الثلاثة (548). وكان هذا تحت ضغط من الأمبراطورة ثيودورة التي ساعدته في اعتلاء سدة الكرسي الروماني. ولكن أساقفته انتقضوا عليه وعينوا له وقتاً للندامة. فلبث فيجيليوس في القسطنطينية ورجع عن قوله في الجوديكاتوم. ثم أصدر يوستنيانوس أمراً ثانيا (551) بشجب الفصول الثلاثة وطلب الموافقة عليه. فأبى فيجيليوس ودخل كنيسة القديس بطرس في قصر الهورميزدا واحتمى بها مستمسكاً بعمود المائدة. فسحبه الجنود بالقوة فانسحب العمود وسقطت المائدة.
دومنينوس البطريرك: (545-559). وتوفي افراميوس في السنة 545 فاهتم يوستنيانوس للأمر اهتماماً بالغاً وأخذ يبحث بنفسه عن خلف صالح للرسولين في أنطاكية. فتقدم عدد من الكهنة مرشحين أنفسهم لهذا المنصب الكبير. واتفق أن أمَّ العاصمة آنئذ دومنيوس رئيس إحدى المؤسسات الخيرية في ليخنيدس في تراقية. وما أن تعرف الإمبراطور إلى شخص هذا الرجل الصالح الوقور حتى أوعز بانتخابه بطريركاً على أنطاكية العظمى. ولنا في كره السريان له واعتباره “أكولاً نهماً لا يعمل شيء سوى ركوب الخيل والاضطهاد” دليل على اندفاعه الشديد في سبيل المحافظة على الإيمان القويم.
المجمع المسكوني الخامس – مجمع القسطنطينية الثاني
(553) ورأى يوستنيانوس أن يضع حداً للنزاع حول الفصول الثلاثة، فشاور في الدعوة إلى مجمع مسكوني خامس ينظر في هذا النزاع وبيت فيه. وتوفي في أثناء المشاورة ميناس بطريرك القسطنطينية، فخلفه افتيشيوس الراهب البونطي. وأعلن افتيشيوس تسلمه عكاز الرعاية إلى البابا فيجيليوس المقيم في القسطنطينية (6 كانون الثاني 553) وأرفق رسالته السلامية هذه ببيان بالإيمان، موقع منه ومن أبوليناريوس بطريرك الإسكندرية وذومنينوس بطريرك أنطاكية وإيليا رئيس أساقفة تسالونيكية. ولمس فيجيليوس أرثوذكسية زملائه فوافق على الدعوة إلى مجمع مسكوني يعقد برئاسته لينظر في أمر الفصول الثلاثة.
وأحب بابا رومة أن يجتمع المجمع في صقلية وإيطالية ليضمن أكثرية غربية إفريقية ولكن يوستنيانوس أوجب المساواة بين البطريركات الخمس ورومة القديمة ورومة الجديدة والإسكندرية وأنطاكية وأورشليم. وذلك بإرسال عدد مماثل من الأساقفة من كل هذه البطريركيات. واحتج البابا ولكن الأمبراطور لم يعبأ به.
واجتمع المجمع في القصر البطريركي في جوار كنيسة الحكمة الإلهية (أجيا صوفيا) في الخامس من أيار سنة 553 برئاسة افتيشيوس البطريرك القسطنطيني وعضوية كل من أبوليناريوس بطريرك الإسكندرية ودومنينوس بطريرك أنطاكية. ومئة وخمسة وأربعين أسقفاً.
الوفد الأنطاكي: وتألف الوفد الأنطاكي من دومنينوس البطريرك ودومنينوس قنسرين وديونيسيوس سلفكية الساحلية وتوما أبامية وثيودوتوس سلفكية أسورية وبولس ادراسوس وبطرس دوميتيوبوليس وبطرس طرسوس وكبريانوس كوريكوس وقوزمة مالوس وايثيريوس عين زربة وباسكاسيوس إيجه ونيقياطيس ابيفانية قيليقية. وثيودوروس منبج ويوحنا قيصرية الجديدة التي على الفرات ويوليانوس بلقيس وأمازون الرها ويوليانوس سروج وتوما قرقيسية وتوما قسطنطينية ونونوس دوسر وسرجيوس هيميرية. وكيرياكوس آمد وثيودوروس إنجل. ويوحنا بصرى وذوريمانيوس درعة. وافسابيوس صور وزوسيموس طرطوس واسينكراتيوس أرواد ولاونديوس عرقة واسطفانوس البترون وثيودوسيوس جبيل وجاورجيوس عكة وانسطاسيوس رخلة. وافستاثيوس دمشق ويوحنا برقش (الغوطة) وثيودوروس جيرود وافلوغيوس مهين وثيودوروس اللاذقية؟ واسطفانوس اللاذقية واسطفانوس بانياس الساحلية ورومانوس جبلة. وابراهيم الرصافة واسطفانوس دارا.
وبالنسبة لتمثيل البابا فكان هذا المجمع خالٍ من ممثل للبابا والسبب أن بابا رومة كان في القسطنطينية إلا أنه لم يحضر هذا المجمع لأنه كان يعرف أن المجمع في طريقه لإدانة الفصول الثلاثة وهذا ما كانت تعارضه كنيسة روما. إلا أن الأمبراطور لم يسمح له أن يذهب إلى رومة قبل أن يوقع البيان. وفي طريقه إلى روما مات.
أعمال المجمع: رئس هذا المجمع إِفتيخيوس بطريرك القسطنطينية، وحضره 163 اسقفا منهم ابوليناريوس بطريرك الاسكندرية، ودمنينوس بطريرك انطاكية، وتليت رسالة يوستنيانوس وفيها استمزاج الأعضاء في أمر الفصول الثلاثة وتلميح إلى أن معظم الأساقفة سبق لهم أن شجبوا تعاليم الأنطاكيين الثلاثة. ثم تقرر أن ينتقل وفد من الأساقفة إلى مقر البابا فيجيليوس ليدعوه باسم المجمع إلى الإشتراك في أعمال المجمع. فقام وفد مؤلف من البطاركة الثلاثة وعدد كبير من الأساقفة واتصلوا بفيجيليوس وأبلغوه قرارا المجمع. فشكا البابا من مرض ألمّ به واستمهل المجمع بعض الوقت قبل القبول والرفض. ثم أعاد الوفد الكرّة في اليوم التالي فأجاب فيجيليوس أنه لا يشترك في أعمال المجمع ما لم يشترك معه أساقفة إيطاليون آخرون. فترأس المجمع بطريرك القسطنطينية وأقرّ جميع أعمال المجامع المسكونية السابقة. ولما كان المجمع الثالث قد تبنى لقب والدة الإله فقد تبنى هذا المجمع لقب الدائمة البتولية. وفي الثاني عشر من أيار والثالث عشر دقق المجمع قضية الفصول الثلاثة.
وفي الرابع عشر من أيار قدم فيجيليوس بابا رومة إلى الأمبراطور مذكرة Constitutum استعرض فيها موقفه من الفصول الثلاثة منذ أن أثيرت قضيتها حتى اليوم الذي حرر فيه مذكرته. وأبان فيجيليوس في هذه المذكرة أشياء عديدة لام فيها ثيودوروس الموبسوستي ولكنه امتنع عن شجب ثيودوروس بعد وفاته ولا سيما وأنه توفي في حضن الكنيسة الجامعة. وامتنع أيضاً عن نبذ ثيودورويطس وإيبا لأن المجمع المسكوني الرابع استمع إليهما وبرَّأهما من النسطرة. ورفض يوستنيانوس تناول هذه الوثيقة الباباوية مدعياً أنها عديمة الجدوى، مؤكداً أن البابا سبق له أن نبذ الفصول الثلاثة. وأنه إذا دافع بوثيقته الجديدة عما نبذ من قبل يكون قد ناقض نفسه وأضعف حجته.
وفي السابع عشر والتاسع عشر من أيار عاد المجمع يدقق قضية الفصول الثلاثة. وفي الثاني من حزيران في الجلسة الثامنة الأخيرة أجمع الأعضاء على نبذ جميع مصنفات ثيودوروس الموبسوستي وعلى استنكار موقف ثيودوريطس من مجمع افسس وبنود كيرلس. وأبانوا بوضوح كفر إيبا وإلحاده في الرسالة التي وجهها إلى ماري. واعتبر يوستنيانوس قرارات هذا المجمع ملزمة وأكره الأساقفة على قبولها. ونفى حاشية فيجيليوس إلى صعيد مصر وترأف بالبابا نفسه لأنه كان يشكو من داء الحصى فأبقاه في القسطنطينية ولم يبعده. وبعد ستة أشهر وافق فيجيليوس على قرارات المجمع وحرر بذلك إلى زميله القسطنطيني وأصدر مذكرة ثانية Constitutum تنقض ما جاء في الأول (شباط 554). وبقي في القسطنطينية سنة أخرى ولم يبرحها قبل أن نال من الأمبراطور موافقته على نظام جديد لإيطالية. وأقلع إلى رومة ولكنه توفي في سرقوصة قبل أن يصل.
الأوريجينية الجديدة: أوريجنس لاهوتي كبير ويعتبر من أكبر لاهوتي مدرسة الإسكندرية. تتلمذ على يد اكليمندوس الإسكندري. كان مشهوراً في فصاحته وبلاغته. في أثناء دراسته للاهوت تقابل مع فلاسفة وجادلهم. فدرس الفلسفة ليرد عليهم. واقتنع أن الفلسفة تساعد على التعبير عن الإيمان المسيحي. وهذا من المآخذ عليه. فأدان هذا المجمع أيضاً القائلين بالأوريجينة الجديدة كالوجود السابق للأنفس، خلاص الكل حتى الشيطان بفضل رحمة الله. فأدان المجمع هذه التعاليم.
وتم اعتبار هذا المجمع مسكونيا في نهاية القرن السادس عندما درس بابا رومة في ذلك الوقت أعمال المجمع فاعترفت به كنيسة رومة.
إن الإمبراطور يوستنيانوس كان لاهوتيا ضليعا، عبر عن إيمانه الخريستولوجي بكلمات شعرية لا تزال إلى اليوم ترتل في كل قداس الهي أرثوذكسي: “يا كلمة الله الابن الوحيد، الذي لم يزل غير مائت، لقد اقتبلت أن تتجسد لأجل خلاصنا من القديسة والدة الإله الدائمة البتولية مريم، وتأنست بغير استحالة، وصلبت أيها المسيح إلهنا، وبموتك وطئت الموت، وأنت لم تزل أحد الثالوث القدوس، ممجداً مع الآب والروح القدس، خلصنا”. وهذا المقطع يوجد كذلك في قداس الكنيسة اللاخلقيدونية.
تعقيب منقول بتصرف عن نشرة رعيتي: ما لا ريب فيه أن الحكم على “الفصول الثلاثة” كان من الواجب أن يتمّ وبإجماع الكنيسة كلها، على الرغم من أن الاقتراح الذي قدّمه ثيوذروس اسقف قيصرية للامبراطور يوستنيانوس كان مغرضا، وذلك أن غايته الحقيقية لم تكن الحكم على الفصول الثلاثة وإنما على “الرؤوس الثلاثة”، أي المعلمين الانطاكيين الثلاثة انفسهم. غير أن هذه الفصول، لو لم تُدَنْ، لكان من الممكن أن تترك مجالا للشك بأن مجمع خليقدونية كان راضيا بها. والواقع أن مجمع خليقدونية -كما يُؤكد الاب جورج عطية- بَرَّأ ثيوذوريتوس اسقف قورش وايفا الرهاوي “ليس على اساس قبوله لأفكارهما”، وإنما لسبب رفضهما إياها صراحة “اذ لعنا نسطوريوس وهرطقته وقَبِلا الإيمان الارثوذكسي”.