الخلق بالمسيح

نقرأ في رسالة الأحد الثاني من الصوم: “أنت يا ربّ في البدء أسّست الأرض والسموات، هي صنع يديك، وهي تزول وأنت تبقى” (عبرانيّين 1 :10-11). وقد ورد هذا القول قبلاً في المزمور 102 الذي تتلوه الكنيسة في صلاة السَّحر اليوميّة. ويبدأ العهد القديم بالتأكيد في سفر التكوين على كون الله، في البدء، قد خلق السموات والأرض (تكوين 1:1). ولكن ما يضيفه العهد الجديد على هذا الاعتقاد إنّما هو القول بأنّ الله خلق كلّ شيء بالمسيح، ومن دونه لم يكن ثمّة خلقٌ.

ففي الرسالة إلى العبرانيّين يعلن الكاتب أنّ الله قد كلّم البشر في آخر الأيّام “بابن جعله وارثاً لكلّ شيء وبه أنشأ العالمين. هو شعاع مجده وصورة جوهره، وضابط كلّ شيء بقوّة كلمته” (1: 2). هنا، يستعيد كاتب الرسالة ما ورد في سفر التكوين بشأن الخلق بكلمة الله: “قال الله: ليكن نور، فكان نور” (1 :3)… ليجعل المسيح يحلّ محلّ الكلمة الخالقة. فبالمسيح، كلمة الله، أنشأ الله العالمين. أمّا المسيح فهو “ضابط (أو ماسك) كلّ الخليقة” وحافظها. وتؤكّد الرسالة عينها، أيضاً، على كون الخلق من عمل الابن كلمة الله والوسيط الوحيد في الخلق كما في الخلاص الذي هو خلق جديد.

الفكرة ذاتها يوردها الرسول بولس في رسالته إلى أهل كولسّي حيث يؤكّد على دور المسيح الحصريّ في الخلق، فيقول: “ففيه خُلق كلّ شيء ممّا في السموات وممّا في الأرض ما يُرى وما لا يُرى” (1: 16). ومركزيّة المسيح في الخلق تعني في الرسالة مركزيّة المسيح في الخلاص، فالرسالة تؤكّد على أنّ الله صالح “بالمسيح ومن أجل المسيح كلّ موجود ممّا في الأرض وممّا في السموات وقد حقّق السلام بدم صليبه” (1: 20). فإذا كان الخلق قد تمّ بالمسيح، فلا خلاص بدونه. وهذا ما يعيد التأكيد عليه القدّيس بولس في رسالته الأولى إلى أهل كورنثس حين يقول: “وربّ واحد وهو يسوع المسيح، به كلّ شيء وبه نحن أيضاً” (8: 6). هنا يذكّر الرسول بارتباط الخلق بالخلاص، “به كلّ شيء” تشير إلى الخلق، “وبه نحن أيضاً” أي أنّه افتدانا لنصبح به خليقة جديدة.

ثمّة نصّ أساس في هذا الموضوع هو نصّ فاتحة إنجيل يوحنّا. فبعد إعلان الإيمان بأنّ الكلمة الإله هو نفسه يسوع المسيح، وأنّه مساوٍ للآب، يقول الإنجيليّ: “كلٌّ به كان، وبغيره لم يكن شيء ممّا كوّن” (يوحنّا 1 :3). ويكرّر الإنجيل المعنى عينه بقوله: ” والعالم به كوِّن” (1: 10). عدا عن أنّ فاتحة هذا الإنجيل تؤكّد الترابط بين الخلق والخلاص، ذلك أنّ خاتمة الفاتحة تشير إلى أنّ هدف صيرورة الكلمة إنساناً إنّما هو الحصول على النعمة: “أمّا النعمة والحقّ فقد أتيا عن يد يسوع المسيح” (1: 17)، فهي تؤكّد أنّ الله قد خلق كلّ شيء من العدم، من لا شيء إطلاقاً. هذا لأنّ كاتب إنجيل يوحنّا استعمل تعابير وألفاظاً موجودة في الفلسفة اليونانيّة وأعطاها معانٍ جديدة. ومن أهمّ هذه الألفاظ، في سياق حديثنا، لفظ “الكلمة”.

فـ”الكلمة” (لوغوس) لفظ ورد في الفلسفة اليونانيّة للدلالة على العقل الإلهيّ الذي نظّم العالم. واعتبر بعض الفلاسفة أنّ الكلمة إله أدنى، بواسطته خلق الله الكون. فأتت الجماعة المسيحيّة الأولى التي تواصلت مع الثقافة اليونانيّة وقالت إنّ المسيح هو “اللوغوس” الكلمة الأزليّ الذي كان مع الله قبل خلق العالم، والذي به خلق الله العالم. هكذا تكون الكنيسة قد أخذت تعبيراً فلسفيّاً وجعلته في خدمة فكرها وإيمانها. فالمسيح وحده ابن الله الكائن منذ الأزل مع الله، وبه وحده تمّ خلق العالم، كما أنّه به وحده تمّ الخلاص الذي هو “خلق جديد” بحسب تعبير الرسول بولس في رسالته الثانية إلى أهل كورنثس: “فإذا كان أحد في المسيح، فإنّه خلقٌ جديد. قد زالت الاشياء القديمة وها قد جاءت أشياء جديدة” (5 :17).

هذا الخلق الجديد هو الذي يعطي الخلق الأوّل معناه الحقيقيّ. فالمسيح هو مبدأ الخليقة وهو غايتها الأخيرة وهدفها. لذلك يقول الرسول بولس في رسالته إلى أهل كولسّي: “كلّ شيء خُلق به وإليه” (1: 16). “به” تعني أنّه المبدأ، و”إليه” تعني أنّه الغاية أو المرجع حيث يرجع كلّ إنسان فيجد الحياة. ويتابع كاتب الرسالة ذاتها قائلاً: “هو قبل كلّ شيء، وفيه يثبت كلّ شيء” (1: 17)، هو المبدأ، إذاً، وهو الهدف الذي به لا شيء يبقى ولا شيء يستمرّ أو يثبت إلى المنتهى. هذا الدور المتعدّد للمسيح في عمليّة الخلق والخلاص، يعبّر عنه خير تعبير كاتب رؤيا يوحنّا حين يقول إنّ المسيح هو “الألف والياء، الأوّل والآخِر، البداية والنهاية” (22: 13).

“هاءَنذا أجعل كلّ شيء جديداً” (رؤيا يوحنّا 21 :5)، يقول الجالس على العرش الإلهيّ. إنّ عمليّة خلق العالم لم تنتهِ فصولاً في ستّة أيّام، هي عمل مستمرّ. وليس المقصود، هنا، عمليّة الخلق المحسوس، بل الملكوت السماويّ الذي تدخل إليه كلّ خليقة جديدة تائبة ومؤمنة بالخلاص الذي حصل بيسوع المسيح ربّنا.

عن نشرة رعيتي 2004

arArabic
انتقل إلى أعلى