نظرة الكتاب المقدس إلى العائلة أمام تحديات العالم

مقدمة

وفي المسيحية بشكل خاص، لا تشكل البنية العائلية نظاماً (systemنظام-) للحياة، ولكن غايتها وطريقة عيشها. فالحياة في المسيحية ليست حياة الفرد. لأنه، من وجهة نظرنا الأنثروبولوجية، لا يمكن أن تقوم حياة الإنسان وحده “ليس حسناً أن يكون الإنسان وحده، فلنصنعنّ له معيناً بإزائه”، هذه هي الكلمات الأولى للكتاب المقدس. المسيحية  هي دين الشخصانية. فلا تنظر إلى الإنسان ككيان حيواني يطلب معيشته اليومية في إطار الولادة والنمو والموت وحسب. الحياة للمسيحية هي العلاقة- الشخصية التي بدونها ينطبق على الحياة ما يقوله الكتاب “ماذا يفيد الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه”، و”نفسه” هنا لا تعني معيشته ولكن “حياته مع الآخرين” أي شخصيته. وبكلمة ذات خصوصية وشمولية كبيرة في المسيحية، نعني بـ “نفسه” هنا حياته الروحية كشخص مع الله والقريب. وهذا ما تعنيه

بعض العبارات اللاهوتية لدينا، والتي تبدو أحياناً للبعض شبه مقولات جامدة وهي على العكس خبرة إنسانية مشتركة لكل البشر وحيّة، ومنها مثلاً “الخلاص ليس فردياً”.

لا نعالج “موضوع العائلة” مسيحياً كما ندرس بنية اجتماعية وحسب. لأن “العائلة”، وفي مفهومها المسيحي العميق والشامل، هي غاية الخلق الإلهي للإنسان وهي الشكل الأخير الذي يجب أن تصل البشرية كلها إليه في النهاية، فليست هي مجرد شكل من أشكال الروابط الإنسانية، التي يمكننا تبديلها مع الظروف للوصول إلى غاية إنسانية أخرى. إن الغاية الإنسانية الأخيرة هي بناء عائلة، عائلة بين الزوج والزوجة والأولاد، وعائلة إنسانية شاملة. وفي كلتي العائلتين الله هو الأب الحقيقي. لا تبدونَّ لنا هذه النظرية مثاليةً! على العكس، إن تفكك بعض المظاهر العائلية، برأينا، يعود لكون هذا الرابط العائلي الطبيعي لا يتطور باتجاه هذه العائلة الروحية. وربما كل ما نلاحظه من تفكك ومشاكل اليوم هو مجرد تمخّض يرفض أفكاراً في البُنى العائلية الراهنة ويشكّل بداية ولادة العائلة الحقيقية التي يرعاها الله أباً، ونرجو أن يكون الأمر كذلك، أو على الأقل لنسعى في سبيل بناء العائلة روحياً.

بقدر ما نؤمن أن هذا الرابط “العائلة” ذو قيمة، بقدر ما يتوجب علينا أن نسهر على تطويره، لا بل مساعدته للوصول إلى صورته المثالية. ولا ننسى أن كل ما هو اجتماعي وشركوي وجماعي هو أمر ديناميكي لأنه بالأساس، كما نؤمن مسيحياً، هو إلهي. فما هو إلهي هو في حركة مستمرة. يجب أن نسهر ليكون إلى الأفضل. ليس من محتّم ولا من قدر، بل كل شيء مراهنة. الدعوة الإلهية أمامنا وتطبيقها في يدنا. نسعى معتمدين على ضوء الكتاب ورضى العين الإلهية، وتعضدنا النعمة حين نقدم لها الطاعة.

العائلة في العهد القديم

لقد كانت العائلة منذ لحظة الخلق، ولقد كانت غايتَه. عندما خلق الله آدم لم يجد ذلك حسناً دون “أن يكون له آخر بإزائه”. لا بد للإنسان لكي يحيا أن يعيش مع آخرين. وأن رباط الزواج والإنجاب لهو أقوى وأجمل كل الروابط في الحياة الإنسانية. إنه أول رباط يريد أن يبنيه، لا بل يأتي منه ويرافقه حكماً بحسب الطبيعة طيلة السنوات الأولى الأساسية من حياته. وحتى إذا تحرر منه مرة بأسوأ الحالات فهو يسعى لبناء شيء مماثل له في النهاية.

لقد أودع الله في قلب الإنسان دافعاً للزواج، كما جعل الإنجاب وعاطفة الأمومة ميلاً وإمكانية طبيعية، وسمّى الكتاب على لسان الله، المرأة “حواء” أي أم الحياة، لأنها أداة الإنجاب، ولكن بميل ورغبة حتى ولو أن هذا الإنجاب سيتم بالآلام والأوجاع، إلا أنه عندما تلد سوف تفرح وتنسى ذلك الألم. وبلغ هذا الميل، في روايات الكتاب، ببعض النساء إلى الإلحاح على الله والصراخ إليه “هب لي ولداً، وإلا فإني أموت”. ويمدح الكتاب بعض اللواتي اضطررن للحيلة ولطرق أخرى من أجل الإنجاب وبناء العائلة مثل سارة وابنتَي لوط. لقد زرع الله حب الأمومة في طبيعة المرأة، فهي عندما تصبح أماً تتهلل، لذلك هتفت حواء عند ولادتها وبابتهاج: “قد رُزقت رجلاً من قبل الرب” وسمَّته قايين، أي من الله اقتنيته. واسم اسحق يذكرنا “بضحك” سارة وفرحها ساعة ولادته. لا بل إن الإنجاب يثير تعلق الرجل بامرأته. ويبدو، في الكتاب أن الله يتدخل في التاريخ ويعد “بذرية تعادل بكثرتها نجوم السماء والرمل الذي على شاطئ البحر”. إن كتاب التكوين مليء بتاريخ الأجيال لتحقيق الأمر الإلهي: “انموا واكثروا واملأوا الأرض”. رباط العائلة هو الإطار السليم لصورة الحياة البشرية، حين يكون هذا الأخير أيضاً سليماً.

وبقيت العائلة بعلاقاتها الشكلَ الأمثل لكل أشكال التعاون والتجمع البشري. فالقبيلة والعشيرة تريد أن تكوّن “عائلة” أو تكون على شكلها، فالأسباط سمّيت “بيت يوسف” و”بيت إسرائيل”… حيث تريد أن تتصور على نمط العائلة. ويبقى في الضمير الإنساني من أجمل عبارات السلام والاطمئنان عبارة “البيت الأبوي.

ويحتل موضوع الإنجاب وعدد الأولاد موقعاً هاماً في الكتاب في عهده القديم، فهو يُعتبر الغاية الأولى من الزواج، وتبدو العائلة الغنية بالأولاد المثلَ الأعلى، ويبقى “عدم الإنجاب عاراً بين الناس” وضعفاً. فبالإنجاب يُخلد الوجود وتتحقق استمرارية النسل والاسم. فالخصوبة في العهد القديم هي واجب، وإن عدم الإنجاب يؤول إلى إراقة الدم.

رغم أن الله قد أودع في قلب البشر أمنية الحياة العائلية والأخوّة وأوصى بها. لكن هذه الأمنية لن تصبح حقيقة سليمة إلا بعد مسيرة طويلة. لأن قصة الآدميين كما يقرؤها الكتاب منذ بدايتها هي قصة “الأخوّة والعائلة المنفصمة العرى”. فهذا قايين يقتل أخاه هابيل حسداً، حتى أنه لا يريد أن يعلم أين هو أخوه، ويتبرّى من الرباط الذي أنشأه الله. ويصطدم هذا الرباط العائلي والمثل الأعلى للحياة دائماً بقساوة قلوب الناس. فمنذ آدم وسقوطه، والإنسانية تحت نير الخطيئة بين الطاعة والعصيان، تشّد أو تفكك عرى الرباط العائلي. لذلك، إلى جانب الصور الخاطئة، تترافق أيضاً الصور الصحيحة: فإبراهيم يتجاوز وضعيات محددة ليتعاون مع لوط بحكم الرابط العائلي، و يتصالح يعقوب مع عيسو، ويصفح يوسف عن إخوته.

ما يتميز به الفكر المسيحي الكتابي حول موضوع العائلة هو أمران. الأول أن العائلة المكونة من الزوج والزوجة والأولاد، ما هي إلا جزء من العائلة الإنسانية الواحدة كلها. والأمر الثاني هو سبب الأول، أن الله هو الأب الحقيقي لكل عائلة ولكل إنسان وللإنسانية قاطبة. “فالوالد” هو الوالد وليس الأب. لأن الله الآب هو الأب. والوالد يلد لكي يسّلم أولاده لأبيهم الحقيقي. لقد اعتاد الشعب في العهد القديم أن يجتمع على مائدة الفصح ويتناول تلك الوجبة العائلية المقدسة بتقليد اجتماعي ديني. وكانت العائلة كلها تجتمع حول المائدة، تاركين رأس الطاولة فارغاً، وذلك إيماناً أن هذا المكان الرأس هو لله الأب الحقيقي، بينما كان يجلس الوالدان كأعضاء وأخوة أكبر على طرفي الطاولة التي لها الأب الواحد وهو الله.

العائلة في العهد الجديد

إن الصورة الحقيقية والنهائية للعائلة، وإن أخذت لها صوراً وإشارات في العهد القديم، إلا أنها لم تكتمل إلى أن جاء يسوع في العهد الجديد. وبدأ رباط العائلة يأخذ صورته الحقيقية الروحية، بعد أن كان قائماً على العرق والدم فقط ويبدو في تعليم العهد الجديد أن الرباط العائلي مقدس، ولكن ولهذا السبب يحمل رباطاً روحياً أكثر مما هو جسدي فقط. وبدون هذه العلاقة الروحية لا يفيد الرباط الجسدي. هذه العلاقة الروحية ليست ذات أساس اجتماعي، أي ليست للمحافظة على روابط ما كالمحبة والتعايش فقط، وإنما بالأساس تنطلق من فكرة تحديد الأب والدور الحقيقي للوالد والوالدة والأولاد في العائلة، أي تحديد غاية البنية العائلية للحياة.

لذلك لا يتردّد يسوع بأن يشجع على “العقم الاختياري”، لأن البتولية في النهاية لا تلغي العائلة الحقيقية بقدر ما تنمي رابطها. أي أن البتولية تحقق الله أباً للناس ولو دون خبرة زواج. إنها تحقق “العائلة الروحية” بقفزة فوق وسائط الحياة العامة الطبيعية. وتصل مباشرة إلى غاية الحياة الإنسانية. وهنا يوضح العهد الجديد نقلته الجذرية في تطهير غاية الحياة العائلية إذ ينقل الغاية من “الإنجاب” إلى “الخلاص”، ومن “العدد” إلى العلاقة”!

لقد جاء يسوع إلى العالم ليكشف للناس مَن هو “أبوهم”: “وهذه هي الحياة أن يعرفوك (أباً) أنت الإله الحقيقي، ومن أرسلت يسوع المسيح”. لذلك عندما سأله التلاميذ قائلين علمنا أن نصلي، أجاب صلوا هكذا “أبانا الذي في السموات”. لقد أطلق العهد القديم صورة الأب وصورة الأم على الله، وذلك تعبيراً عن حنانه ورعايته. لكن العهد الجديد يشدد على أن الله أب ليس بصفة حنانه ولكن بصفة عضويته.

لذلك تختلف المسيحية مع كثير من التيارات الفلسفية والإنسانية، ففي حين أن العالم يزعم بأن يقيم “علاقات أخوية” ومنظمة بين البشر، يريد الفكر المسيحي أن يبني “علاقة عائلية”. فلا أخوّة بشرية دون أب، من مستوى العائلة الصغيرة إلى مستوى المسكونة جمعاء يكشف الكتاب المقدس أن الرباط الحقيقي الذي يجمع الناس ليس إلاّ “الأب”، وهو الله. ولهذا الأب عائلة واحدة كبيرة هي كل المسكونة مكوّنة من عائلات صغيرة.

لماذا تجسد الابن من الثالوث الأقدس؟ سؤال يطرحه القديس مكسيموس ويجيب: لكي يظهر الله كأب، عندما سينادي يسوع الله: “أبّا، أيها الآب”. وهذا اللفظ يعادل لفظنا “يا بابا” ويحمل نوعاً من الدالة لم يكن يعرف لها مثيل قبل يسوع. ويستخدم بولس الرسول هذه العبارة نفسها لنا، حين يصرّح أنه بالروح القدس نستطيع أن نقول نحن أيضاً “أبّا” للآب. هكذا ببنوة يسوع للآب يصل العهد الجدي إلى كشف صورة الآب بكمالها ولأبوة الله الشاملة لجميع البشر. إن يسوع على الصليب “صار بكراً لأخوة كثيرين” وقد سمى الناس أخوة. لذلك هم إخوة فيما بينهم بحكم الإيمان بالله الآب الذي صار بالولادة الجديدة وهو “لا يستحي أن يدعوهم أخوة”. لقد تبنانا الله أبناءً له ويسوع هو الابن البكر.

من هنا إبراهيم هو أبو المؤمنين. وذريته هي من تعمل أعماله وليس من ينحدر من عرقه، فهم من يحفظون البركات. بالمعمودية تنشأ عائلة ذرية جديدة بحسب الموعد وليس بحسب الجسد. لذلك إن العائلة لا تكون حقيقية ولا يقوم الرباط الذي فيها إذا لم تحمل هذا الموعد وتنقله لأولادها.

لقد شرع العهد القديم بناء هذا المفهوم الروحي للعائلة ولكن عن طريق الولادة الطبيعية فقط، ولم تعرف الممارسة الواقعية اللهَ كأبٍ حتى جاء العهدُ الجديد، ليجعل العلاقة الروحية بالله الآب كأب هي أساس حتى الرباط العائلي الطبيعي بين الأهل والأولاد. فالعائلة هي مكان وراثة المواعيد لهذا لا تكفيها الروابط الطبيعية، بل الأساس فيها هي الروابط الروحية. وهذا يتم عملياً عندما تصير الكنيسة هي “أمها”. تمثّل دائماً مريم صورة الكنيسة (الوالدة). لذلك شّبه بولس الرسول الزواج المسيحي بعلاقة الرجل والمرأة، حيث تصير العائلة سراً لإنجاب أولاد لله. فالعائلة الروحية الحقيقية هي الله الأب- الآب والكنيسة الأم. فالعائلة الحقيقية الأخيرة هي الكنيسة أورشليم السماوية النازلة من السماء المجتمعة حول الله التي تلد أبناءها لحياة أبناء الله. إن هذا المعنى الأبوي لله والأمومي للكنيسة خالٍ من أية صورة كالتي عند الآلهة الساميّة وبعْل الذي يعطي الخصب للحيوانات والإنسان. فهذه أبوية وأمومة روحية وذرية روحية، لا نقول أنها تتفوق على الذرية البشرية الجسدية، وإنما تنتظر في الأخيرة تحقيق هويتها فيها روحياً.

الأب والوالد والعائلة الروحية

تميّز النظرة المسيحية للعائلة بين “الأب” وهو الله وبين الوالد والوالدة. لذلك يأخذ دور الوالد والوالدة قدسيته من حيث طبيعته كصلة تسير بالأولاد إلى أبيهم الحقيقي. لذلك ليست عائلة حقيقية، في النظرة المسيحية، أية جماعة مؤلفة من زوج وزوجة وأولاد فقط. لا تبنى العائلة دون الأب، وهو الله، طبعاً وليس الوالد. وهذا ما تخبره الخبرة البشرية كما يوضحه المثل الرائج “إذا كبر ابنك آخيه”. الوالد والوالدة هم الأخوة الأكبر يسهرون على تربية الأولاد لبناء العائلة مع الأب- الله. من هذا المنظار بحسب تعبير الذهبي الفم “الوالد الذي لا يقود أولاده إلى أبيهم السماوي هو بالأحرى قاتل”. يشكل الأولاد، “وديعةً” لدى الأهل وكنزاً يجب المحافظة عليه وبناؤه كما يجب.

إن التشديد على مفهوم “العائلة الروحية”، لا يعني أبداً إلغاء رابط العائلة الطبيعية. ولا يعني أن تحقيق العائلة الإلهية المكونة من جميع البشر حول أبيهم السماوي الواحد يتم دون الرباط العائلي الطبيعي. حاشى! بل تماماً يريد هذا التشديد أن يؤكد دور وطبيعة العائلة الطبيعية بالشرطين الوارد ذكرهما. إن العائلة رباط مقدس لكنه يجب أن يبقى مندرجاً في هاجس بناء العائلة المسكونية وليس في اتجاه عنصري أو عرقي أو ما إلى ذلك… والشرط الثاني أن يُحافظ لله على موقعه الحقيقي كأب. فالعائلات الطبيعية هي خلايا جسم العائلة الواحدة الكبيرة، ويحتل الله الآب موقع الأب في العائلة الصغيرة والكبيرة.

لهذا، وإن كان على يسوع أن يكون لأبيه (الآب) كان في الوقت ذاته “خاضعاً لهما” (لمريم ويوسف). وقد أكد الربّ يسوع مجدداً الوصية الرابعة القائمة على احترام الوالدَين، وحتى اللحظة الأخيرة اهتم بأمه وأسلمها إلى تلميذه الحبيب. ولكنه أيضاً ضمّ تلميذه إلى عائلته الطبيعية حين قال له هذه هي أمك، ليس عن طريق البشرة إنما بسبب المحبة والرباط الروحي أيضاً. ويستدل من حدث عرس قانا الجليل، حين تمم يسوع رغبة والدته، رغم أنها لم تكن قد حانت ساعتُه وجاء طلبُها قبل الأوان، أي ليس في وقته، يُظهر ذلك دالّة وقوة الرباط العائلي الطبيعي عند يسوع واحترامه وقبوله له، رغم أولوية الرباط الروحي.

فلا غرابة أن نرى الاضطرابات بين الأهل والبنين عندما تغيب الطبيعة الحقيقية للوالدين، وهي العناية الروحية. “فوالد ليس منْ يلد بل منْ يربّي”. من هنا ينشأ في التقليد تشديد على صورة “الكنيسة البيتية” ( domestic church ). ترد هذه اللفظة عند بولس الرسول، وغدت الصورة المثل للتعبير عن حقيقة العائلة: هناك إذن الوالد والوالدة والأولاد مجتمعين على المحبة والتفاهم وتربطهم الفضائل المسيحية “ووسطهم المسيح”. فالعائلة هي كنيسة صغيرة في بيت كما الكنيسة كلها في العالم. العائلة هي فردوس صغير، لكن عندما تتحقق فيه هذه الروابط الروحية، وتتم فيها قراءة الكتاب المقدس. لهذا يشدد الكتاب والتقليد الآبائي كثيراً على دور التربية، “فليس أهم من هذا الفن، ولا أسمى من تكوين شخصية إنسان وخلق ذهنيّته الصحيحة”. إنه فنّ زرع مخافة الله التي هي بدء الحكمة، بكل ما تحمله هذه الكلمة من شمولية في الحياة والتقوى، والإيمان، والارتباط بالله الآب، والاتصال بعنايته. كلها هي الإرث الحقيقي الذي يجب نقله عبر الأجيال، من الأهل إلى الأولاد. وهذه هي العائلة المثالية، التي يظهر فيها هذا التقليد والاستمرارية بين الأهل والبنين.

إن هذه التربية للإنسان تمسّ نواحي معرفته أكثر مما تتأثر بطبيعته هذه التنشئة تتم في العائلة، ومن هنا تأخذ الأخيرة أهميتها، فهي الطريق لهذه الحياة وهي غايتها أيضاً. لذلك فإن روابطها الطبيعية يجب ألاّ تفرّغ من المضمون الروحي الذي لها بالأساس، وإلاّ لفقدت غايتها وعلتها. إن حقيقة الله كأب تعطي للعائلة صيغة ومبادئ خلقية، كما أنها تجعل هذه العائلة خلية بناءة للسلام والوحدة الإنسانية بالروح والإيمان.

لعل من أهم المظاهر التي يجدر بالفكر المسيحي الاهتمام بها أو يجدر بنا إليه العودة في معالجتها، هي:

1- غاية الزواج واختيار الشريك:

(…) لا شك أن الحب والحرية هما الشرطان الأساسيان لقيام عائلة مباركة، لهذا نشأ في الكنيسة تقليد “الخطوبة”، وهي الفترة الضرورية للتعارف والاستعداد وامتحان القرار الحّر والحب الحقيقي بين الطرفين. ولكن هناك العديد من العوامل التي تجعل هذا الحب وهذه الحرية ممكنين على أرض الواقع، وكلها يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار. وما يريده الفكر المسيحي أن يُعتبر من كل هذه العوامل هو خاضع تماماً للغاية التي من أجلها يتم بناء العائلة، وهي تلك المفاهيم الروحية، التي هي سبب ارتباط اثنين بحياة شركة الزواج. كما أن شروط الفصل هي تماماً تلك التي تمسّ بهذه الغاية وهذه المفاهيم الروحية. لا بل إن إحدى “الغرابات المباركة” هو قبول الكنيسة لانفصال زوجين عندما يقرر الاثنان بحريتهما ورغبتيهما أن ينفصلا للذهاب كلاهما إلى حياة الرهبنة والتوحّد. حيث أن هذه الطريق أيضاً تجعلهم في عائلة الله وأبناءً له ولا يعتبر ذلك هدماً لشركة حياة بل مضياً مشتركاً لما هو مثيل في وضع بنوتنا لله أمام طاعته في عائلته الروحية.

لا شك أن معايير عديدة تلعب اليوم الدور في اختيار الشريك، لكنها عندما تبتعد عن الجذور الروحية للعائلة ستترك آثاراً سيئة بعد الارتباط، قد تصل إلى عدم استمرار الزواج. وتزيد من تفكيك روابط العائلة الأهواء الشخصية والأنانية وعدم التمرس على الفضائل المسيحية وهيمنة روحانية فكر مجتمع الاستهلاك. فالفضائل المسيحية كالمسامحة والتواضع والبذل والمحبة الصادقة والاحترام، هي شروط حقيقة لاستمرار الرباط العائلي.

2- تفكك العائلة:

يعود تفكك العائلة بنظرنا لنسيان تلك الصورة الحقيقية الروحية للعائلة، ولغياب هذا الهدف الأخير وهو اقتناء “التبني الإلهي” لنا كحياة شخصية يكون فيها الله أب العائلة كلها. وبودنا هنا الإشارة إلى بعض المظاهر التي تبدو غريبة عن صورة العائلة في الكتاب المقدس، والتي تشكل بالتالي نقاط الضعف في بنية العائلة في أيامنا، وتسبب منفردة أو مجتمعة أسباباً للفصل والتفكك والطلاق: أ) تأخر عمر الاستقرار، بسبب حياة الدراسة والتحصيل والاستعداد التي امتدت على فترة من حياة الإنسان أطول بكثير من السابق؛ ب) الخروج السريع والمبكر من العائلة وذلك لسببين: الأول هو ضعف الرباط العائلي بالأساس، وخاصة من غياب الأخ والأخت في الحياة المنزلية، والثاني ربما هو ظروف الدراسة التي مرات عديدة تتطلب ترك البيت الأبوي، أو حتى ظروف العمل؛ ج) مجتمع الاستهلاك الذي يضغط بذهنيته على الشاب والشابة من حيث أولاً ساعات العمل وتحجيم الوقت الحّر، ويشكك بأهم مبادئ الحياة المشتركة كالصداقة والبذل ويشيع قيم الربح والحياة الفردية بمصالحها ومزاجاتها. وبيئة كهذه ترافق الإنسان بعقلانيتها في حياته الزوجية فتجعل هذه الحياة ينقصها الكثير من مقوماتها الأساسية.

3- تنظيم الأسرة:

يعذّب هذا الموضوع مجتمعاتنا وحياة الناس في كل مكان، وأكثر من ذلك الفكر الديني ذاته في كل الأديان تقريباً. حيث يبدو للأديان أن منع الإنجاب، بطرقه المتعددة، هو نوع من أنواع منع عمل الخالق وحجب بركته الإلهية. وحتى في الأوساط المسيحية هناك آراء متبانية حول ذلك. إننا لا نؤمن بان معالجة هذه المسالة ذات أبعاد اجتماعية واقتصادية أو دينية حتى، بل نعتقد أن الشروط الروحية هي المبرر الوحيد لوجود العائلة، فهي المبرر الوحيد الذي يمكنه أن يكون وراء إنجاب عدد كبير أو عدد صغير من الأولاد. دون تعليل روحي يوافق مفهوم العائلة الروحي السابق عرضه، فلا الإنجاب مبرّر ولا حدُّه مبرّر أيضاً. فلا شك انه يمكن تنظيم الإنجاب في الأسرة زمنياً وعددياً، ولا بد من ذلك في حياة العائلة اليوم للحفاظ عليها وعلى طبيعتها الروحية بالذات. لكن يجب أن يتمّ كله بروح التنظيم وليس التحديد. فالكنيسة تشجع الإنجاب وزيادة الأولاد دون أن يخلّ بالشروط الروحية للعائلة بسبب من ذلك.

الميتروبوليت بولس يازجي
عن رسالة رعية مطرانية حلب
الموقع القديم للمطرانية

arArabic
انتقل إلى أعلى