تجلي المسيح

لقد حدث تجلّي المسيح على طور ثابور قبل الآلام بقليل، بالتحديد قبل أربعين يوماً من الآلام والصلب. إلى هذا، هدف التجلّي كان تثبيت التلاميذ في الإيمان بأن هذا هو ابن الله، حتى لا يضعفوا من الأمور التي كانوا مزمعين أن يروها في تلك الأيام. تظهر هذه الحقيقة من الطروبريات. فنحن نرتّل في إحداها: “قبل صلبك الكريم وآلامك أخذتَ الذين اخترتهم من تلاميذك الأطهار وصعدتَ بهم إلى طور ثابور..” ويقول قنداق العيد: “حتى عندما يعاينوك مصلوباً، يفطنوا أنّ آلامك طوعاً باختيارك ويكرزوا للعالم أنّك أنت بالحقيقة شعاع الآب”.

إذاً، قانونياً، ينبغي التعييد لتجلي المسيح في شهر آذار، استناداً إلى توقيت التعييد للفصح. لكن بما أنّ هذا الوقت يقع في فترة الصوم ولا يمكن الاحتفال فيه، فقد نُقِل العيد إلى السادس من آب. هذا التوقيت ليس محدداً عشوائياً بل هو قبل أربعين يوماً من عيد رفع الصليب (14 أيلول) المشابه ليوم الجمعة العظيم.

كل أحداث العيد محفوظة في الأناجيل الإزائية كون التجلّي حدثاً مركزياً في حياة المسيح ويتضمّن رسائل لاهوتية (متى 1:17-8، مرقس 2:9-8، ولوقا 28:9-36).

-1-

إن تجلّي المسيح هو حدث تتويجي في حياة التلاميذ وهو يرتبط بالعنصرة، كونه خبرة عظيمة عن الله. على الأكيد هناك اختلاف بين التجلّي والعنصرة، في كون التلاميذ عند التجلي لم يكونوا بعد أعضاء في جسد المسيح الممجَّد على غرار ما كانوا قد صاروه يوم العنصرة. من ناحية ثانية، هناك أحداث أخرى في حياة المسيح تشكّل تجلياً، فيها مُنِح التلاميذ أن يروا بعض إشعاعات من ألوهيته. سوف أورد اثنين من هذه الأحداث. الأول كان دعوة التلميذين اللذين دلّهما يوحنا المعمدان على المسيح. فالتلميذان ما أن سمعا السابق الشريف يقول: “هوذا حمل الله”، حتى تبعاه. من ثمّ” “فَالْتَفَتَ يَسُوعُ وَنَظَرَهُمَا يَتْبَعَانِ، فَقَالَ لَهُمَا:«مَاذَا تَطْلُبَانِ؟» فَقَالاَ:«رَبِّي، الَّذِي تَفْسِيرُهُ: يَا مُعَلِّمُ، أَيْنَ تَمْكُثُ؟» فَقَالَ لَهُمَا:«تَعَالَيَا وَانْظُرَا». فَأَتَيَا وَنَظَرَا أَيْنَ كَانَ يَمْكُثُ، وَمَكَثَا عِنْدَهُ ذلِكَ الْيَوْمَ.” (يوحنا 35:1-39). إن التفات يسوع إليهما يعني أنّه كشف مجد وجهه جزئياً، ما دفعهما إلى طلب البقاء معه. يمكث المسيح في النور كون الله هو “الساكن في النور الذي لا يدنى منه”، وأن التلميذين مكثا عنده ذلك اليوم يعني أنهما قضيا يوماً كاملاً في معاينة النور غير المخلوق. إذاً، نفهم أنّ دعوة التلميذين لم تكن مجرد دعوة استجابا لها بسبب حماستهما الكبيرة، بل كانت ثمرة الرؤيا والإعلان. وتظهِر هذه الدعوة، بحسب ما يقول القديس ثيوفيلاكتوس، أنّه يظهر وجهَه ومجدَ وجهِه للذين يتبعونه، لأنّ مَن لا يتبع المسيح فعلياً لا يمكنه أن يبلغ إلى رؤية الله، إذ “كيف يستطيع مَن لم يتطهّر أن يستنير بالمعرفة؟”

الحدث الثاني هو دعوة التلاميذ ومنهم الرسول بطرس حيث التقاهم المسيح بعد الصيد غير الموفّق وطلب منهم أن يلقوا شباكهم في البحيرة من جديد، فاصطادوا سمكاً كثيرا على عكس كلّ التوقعات. عندها ألقى سمعان بطرس بنفسه عند قدمي المسيح وقال: “«اخْرُجْ مِنْ سَفِينَتِي يَا رَبُّ، لأَنِّي رَجُلٌ خَاطِئٌ!»”. ويبرره لوقا الإنجيلي بقوله: “إذ اعْتَرَتْهُ وَجمِيعَ الَّذِينَ مَعَهُ دَهْشَةٌ عَلَى صَيْدِ السَّمَكِ الَّذِي أَخَذُوهُ.” (لوقا :5-11). إن إحساس الرسول بطرس بأنّه رجل خاطئ هو ثمرةٌ ونتيجةٌ للانذهال وللانجذاب الذي أصابه من جراء المعجزة. لقد كان الحدث اختباراً لمجد الله وإحساساً بحضور ابن الله وكلمته، وفي الوقت نفسه إحساساً بعدم طهارته وخطيئته. إنّ مقارنة هذا الحدث بأحداث رؤيوية موازية من العهدين القديم والجديد تظهِر أنّ هذا الانذهال ليس من أحداث خارجية بل من إعلان مجد الله.

-2-

إن كلمة “تجلّي” تعني تغيّر الشكل. بتعبير آخر، في لحظةٍ ما كشف المسيح ما كان يخفيه، أظهر مجد ألوهته الذي كانت طبيعته البشرية متحدة به من لحظة الحبل به في رحم والدة الإله. بمحبته العظيمة للبشر، أخفى المسيح ما كان له دوماً، لكي لا يحترق التلاميذ بسبب عدم أهليّتهم كونهم لم يتهيئوا بعد. في تلك اللحظة تجلّى المسيح، “غير متّخذ ما لم يكُنْه، ولا متغيراً إلى ما لم يكُنه، بل مظهراً ما كان عليه لتلاميذه” (القديس يوحنا الدمشقي). أساساً، عندما نتحدّث عن التجلّي، نعني أنّه أظهر مجد ألوهته، الذي حفظه غير منظور في الجسد المنظور، لأن البشر لم يكونوا قادرين على مواجهته.

يقول القديس يوحنا الذهبي الفم أن المسيح لم يظهر كلّ ألوهته، بل فقط قوة صغيرة منها. وهو فعل ذلك، من جهة، ليعطي معلومات عمّا يشبه مجد الملكوت الإلهي، لمحبته للبشر، حتى لا يخسروا حياتهم عند نظرهم مجد الله الكامل. إذاً، سرّ التجلّي هو في آن واحد كشفٌ للملكوت وتعبير عن محبة الرب لتلاميذه. يرد في النصوص الليتورجية أن المسيح خلال تجليه ألّه الطبيعة البشرية التي اتخذها. لكن لهذا القول معنى محدد وهو لا يعني أن الطبيعة البشرية تألّهت آنذاك فقط. بحسب القديس يوحنا الدمشقي، تألّهت الطبيعة البشرية بالاتحاد الأقنومي والشركة مع الرب الكلمة من لحظة الحبل به في رحم العذراء يوم البشارة. في تلك اللحظة أُلّهت الطبيعة البشرية (القديس غريغوريوس اللاهوتي). خلال تجلّي المسيح، هذه الطبيعة البشرية المتألّهة باتّحادها بالإله الكلمة، أُظهِرَت للتلاميذ. قبل ذلك لم تكن معروفة، والآن صارت ظاهرة. بهذا المعنى تتحدّث عدد من الطروبريات عن تأليه الطبيعة البشرية في التجلّي.

هذه الحقيقة بالذات تقودنا إلى أن نرى على جبل ثابور لا تجلياً وحسب، أو إعلاناً للمسيح، لأنّه أظهر بعض إشعاعات ألوهيته، بل أيضاً تحوّلاً للتلاميذ. فهم قد مُنحوا أن يروا التألّه في طبيعة المسيح البشرية، بالضبط لأنّهم تبدّلوا. يتكلّم الآباء عن تغيّر التلاميذ: “لقد تغيّروا فاستطاعوا أن يروا التغير” (القديس غريغوريوس بالاماس). هذا يعني أنّه كان هناك تغيّر، تجلٍ للمسيح، لكن هذا عُرِف بسبب تغيّر التلاميذ وتجليهم. تحوّل التلاميذ جرى في كل كيانهم النفسي والجسدي. فهم لم يروا النور الإلهي فقط بنوسهم الذي هو عين النفس، بل أيضاً بحواسهم الجسدية التي سبق أن مُنحَت قوة من قوة الله غير المخلوقة لكي ترى. عينا الجسد عمياء تعجز عن رؤية النور الإلهي، لأن عيني الإنسان مخلوقتان وعاجزتان عن رؤية النور غير المخلوق. لهذا تغيّرت بعمل الله وأعطي لها أن ترى المجد الإلهي (القديس غريغوريوس بالاماس).

-3-

صعد المسيح إلى جبل ثابور لكي يظهر مجد ألوهيته. لكن لماذا فضّل الجبل؟ في الأزمنة السابقة، كل الأحداث المهمة كانت تجري عادة على أماكن مرتفعة، على جبال، مثلما اعتاد الوثنيون أن يفعلوا، إذ كانوا يقدمون تقدماتهم على الجبال. أظهر المسيح عظمة مجده على جبل ثابور كون إظهار مجد الطبيعة البشرية هو أعظم أحداث التاريخ البشري.

من ثمّ، بحسب ما يقول المسيح، هو أتى ليبحث عن الخروف الضال الذي ضاع في الجبال. إذاً المسيح صعد إلى الجبل لكي يظهر أنّه وجد الخروف الضائع وحرّره من الخطيئة ومن الشيطان، وأنّه الراعي الحقيقي (القديس غريغوريوس اللاهوتي). مجدداً، يظهِر صعوده أنّ كلّ الذين يريدون أن يروا مجد الألوهية في طبيعة الكلمة البشرية عليهم أن يخرجوا من الدناءة ويتخلّوا عن الأمور الخفيضة ويرتفعوا، أي أن يتطهّروا من كل الأمور الأرضية التي تبقيهم مربوطين بالأرض.

لقد كان تجلي المسيح في النهار. لقد رأى التلاميذ الشمسين، الحسيّة والنوسيّة. يكتب القديس يوحنا الدمشقي في إحدى الطروبريات: “يا يسوع إنّ الشمس الحسيّة قد احتجبت من شعاع اللاهوت، لما أبصرتكَ متجلياً على طور ثابور”. هذا يعني أن شمس حواسنا اختبأت واختفت من شعاع ألوهية المسيح. ربّما في البداية رأوا النورين، المخلوق وغير المخلوق، بحسب ما يصف القديسون أصحاب الخبرة، لكنّهم عندما رأوا القوة الأعظم للألوهية فقدوا الشمس الحسيّة كليّاً. يقول القديس اسحق السرياني أن التلاميذ على ثابور رأوا شمسين: “واحدة في السماء كالعادة وواحدة فوق العادة”. يقول القديس نيقوديموس الأثوسي أنّ عند تجلي المسيح على جبل ثابور كان هناك منظر عظيم مرهِب. أولاً لأن شمسين ظهرتا ما لم تعرفه الخليقة أبداً. فالأمر ليس ما يحدث عادة مع ظهور صورة للشمس قبل الفجر، ومن بعده تظهر الشمس الحقيقية، بل هو بالواقع شمسان في نصف النهار. ثانياً، إنّه منظر مرهِب لأن الشمس الأولى المعروفة من حواسنا ترتفع من السماء والثانية جلية ترتفع من الأرض. الشمس الثانية كانت أرفع بشكل لا يقارن من الشمس الحسيّة المرتفعة من السماء. وتماماً كما يحدث عند ارتفاع الشمس الحسيّة حيث تختفي كل النجوم في السماء، هكذا أيضاً اختفت أشعة الشمس الحسيّة مع ارتفاع شمس البِرّ.

بالتأكيد، في تلك اللحظة، لم يرَ كل الناس على الأرض مجد الشمس العقلية، بل وحدهم الرسل والنبيان اللذان ظهرا. يقول القديس غريغوريوس بالاماس أن كلّ سكان الأرض يمكنهم أن يروا الشمس الحسيّة ما عدا العميان، بينما شمس البِرّ العقلية فلا يراها إلا المستحقّون والمستعدّون. وفي تحليله لهذه الفكرة يقول، بما أنّ الشمس الحسيّة هي بلا نَفْس ولا عقل ولا إرادة، فالكل يراها، بينما الشمس النوسية ليس عندها فقط طبيعة ولمعان ومجد طبيعيان، بل أيضاً عندها إرادة مستعّدة، وبالتالي تظهر لكل مَن يرغب بها إذا ما أرادت. إذن، الشمس العقلية والنور غير المخلوق مرئيان عند كل الذين يمنحهم الله هذه الخبرة، لأن الله يكشف نفسه لمَن يريد، وهذا الكشف يتوقّف على الحالة الروحية للناس الذين يُمنَحونه.

-4-

لقد ركّزنا سابقاً على أن هذا النور الذي رآه التلاميذ على جبل ثابور لم يكن حقيقة مخلوقة، بل نور الألوهية. إلى هذا، لم يكن طبيعة ثالثة مخبأة في المسيح، بل الألوهية التي ألّهَت الطبيعة البشرية. للمسيح طبيعتان، إلهية وبشرية، متحدتان في أقنومه من دون تغيّر ولا انفصال ولا تغير ولا انقسام. لقد مُنح التلاميذ أن يروا مجد الألوهية هذا في طبيعة الكلمة البشرية. من تعاليم الكنيسة الأساسية أن لكل جوهر قوته. إذا كان الجوهر غير مخلوق تكون قوته غير مخلوقة؛ وإذا كان الجوهر مخلوقاً فقوته مخلوقة. على المنوال نفسه يقول القديس يوحنا الدمشقي أن الجوهر والطبيعة هما شيء والقوة هي شيء آخر، الأول عاملاً هو شيء بينما ما قام به أي نتيجة القوة هو شيء آخر. القوة هي مجد الجوهر، لكن الفاعل هو الشخص. هذا يعني أن لأقانيم الثالوث القدوس طبيعة مشتركة وقوة مشتركة. نحن البشر، حسب ما يعلّم الآباء، لا نرى طبيعة الله ولا نشترك بها، بل نشترك بقوته. إذاً، التلاميذ على ثابور لم يروا طبيعة الله بل قوته في الطبيعة البشرية للكلمة.

لقد كان النور على ثابور مجد الألوهية. بحسب القديس يوحنا الدمشقي، تشير كلمة “ألوهية” إلى طبيعة الله وقوته، بينما كلمة “الله” تشير إلى شخصه، أي الأقنوم. لا يمكننا أن ننادي بالألوهية الآب وحده أو الابن وحده أو الروح القدس وحده. يمكننا أن نقول الله الآب، الله الابن، والله الروح القدس، لكن لا يمكننا أن نقول ألوهية الآب، وكأنّها منفصلة عن ألوهية الابن وألوهية الروح القدس.

إن كلمة “ألوهية”، كونها تشير إلى الطبيعة، يمكن تطبيقها على القوة أيضاً، وبالتالي يمكن الحديث عن “ألوهية متعالية” تشير إلى الطبيعة ويستحيل بالكليّة على الإنسان أن يشترك فيها، و”ألوهية أدنى” تشير إلى القوة التي يشترك بها الإنسان. الألوهية دائماً واحدة وفي ثلاث أقانيم (القديس غريغوريوس بالاماس). لكلمة الألوهية (باليونانية) “theotita” عدّة معانٍ، وتشير إلى عدد من الحقائق اللاهوتية. يقدّم القديس غريغوريوس بالاماس بعض الشروحات التي تشير إلى أصل هذه الكلمة واشتقاقها. فهي تشير إلى كليّة وجود الله. كما أنّها تشير إلى الكينونة في لامكان بالجوهر والطبيعة. إنّها ترتبط بكلمة الهواء، موحية بإحراق والتهام كل الشرور، كما أنّها تدلّ على لمعان الله وقوته التي تحرق كل الخطايا. يمكن أيضاً أن نردّ الكلمة إلى الفعل “رأى” دلالة على أن الله يرى ويعرف كل الأمور حتّى قبل ولادتها. وتظهر هذه الكلمة أيضاً بصيرة الله أو حكمته، المرتبطة بالنظر بمعنى الإشراف. إلى هذا، تتّصل هذه الكلمة بالتقديس. كلّ هذه المعاني الأتيمولوجية تشير إلى قوى الله الكثيرة، حكمته، لمعانه وقوته المؤلّهة، كما إلى استحالة المشاركة بجوهر الله أو طبيعته.

الإفادة اللاهوتية الكاملة حول هذا الموضوع هي أن الرسل على ثابور لم يروا طبيعة المسيح، بل رأوا قوة الإله الثالوثي غير المخلوقة في طبيعة الكلمة البشرية.

-5-

لقد صار تجلي المسيح على طور ثابور بعد إعلانه “«الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مِنَ الْقِيَامِ ههُنَا قَوْمًا لاَ يَذُوقُونَ الْمَوْتَ حَتَّى يَرَوْا مَلَكُوتَ اللهِ قَدْ أَتَى بِقُوَّةٍ»” (مرقس 1:9). من بعدها مباشرة يصف الإنجيلي حدث التجلّي الذي جرى بعد ستة أيام من ذلك الحين، إذ كما نرى في الأناجيل، لم يوضَع أي حدث بين الإعلان والتجلّي، لا تعليم ولا معجزة. هذا يعني أن هذه الأيام بين الإعلان والتجلّي كانت أيام صمت. يتحدّث الناس كثيراً عن ملكوت الله وماهيته. البعض يعتبرون أنّه سيادة إرادة الله على كلّ الكون، وغيرهم يرون أنّه مباركة الأبرار الآتية. في أي حال، الارتباط بين ملكوت الله وتجلي المسيح يشير إلى أن الملكوت هو معاينة نعمة الإله الثالوثي ومجده غير المخلوقين في طبيعة الكلمة البشرية، وهذا ما هو بالحقيقة تألّه الإنسان.

لدى القديس غريغوريوس بالاماس ملاحظات ممتازة حول هذه النقطة. فهو يعلّم أن ملكوت الله مرتبط بشدة بالملك الذي هو الله، المسيح. في المسيح توحدت الألوهية بالطبيعة البشرية. مجد الألوهة ألّه وأنار الطبيعة البشرية. إذاً، حيثما كان المسيح، هناك كان الملكوت أيضاً. لا يمكن قبول ملك بدون مملكة، ولا مملكة بدون ملك، وهكذا لا يمكن فهم ملكوت الله من دون المسيح الملك. المسيح في كلامه، يربط الملكوت بالرؤية: “حَتَّى يَرَوْا مَلَكُوتَ اللهِ”. إنّها مسألة رؤية النور غير المخلوق. كلمة “أتى” لا تعني أن الملكوت يأتي من أي مكان، بل هو يشير إلى الكشف عنه، إذ حيث يكون المسيح هناك يكون الملكوت، فالأمر ليس مسألة مكان بل مسألة ظهور. وهذا الظهور-الإعلان تمّ بقوة الروح الكلي قدسه. إنّه يشير إلى “بقوّة”. يعجز الإنسان عن رؤية مجد الله إلا إذا قٌوِّيَت حواسه النفسية الجسدية بقوة الله غير المخلوقة.

يمكن أن نسمّي الكنيسة والقداس الإلهي ملكوت الله، إذا بلغ الذين يسلكون فيهما إلى معاينة مجد الله غير المخلوق، الذي هو المملكة الحقيقي. إذا تكلّمنا عن الكنيسة وعن الملكوت دون أن نربطهما بمعاينة الله، برؤية النور غير المخلوق، نرتكب خطأً لاهوتياً. فضلاً عن ذلك، تظهر أسرار الكنيسة ملكوت الله وتقود الإنسان إليه، هذا لأنّها مرتبطة تماماً بقوة الله المطهرة المنيرة المؤلِّهة.

-6-

أحد تعاليم الآباء القديسين أنّ المسيح على طور ثابور أظهر للناس جمال صورتهم بحسب النموذج الأول. المسيح هو نموذج خلق الإنسان، لأن الإنسان خُلِق على صورة الكلمة. بهذا نرى مجد الصورة وأيّ شرف لنا كوننا على صورة الله. إن نسبنا سامٍ وليس دنيئاً، لأنّ المسيح الممجَّد هو نموذج خليقتنا الأول، كما أنّه بارئنا وخالقنا.

يرِد تكراراً في الكتاب المقدس أن المسيح هو آدم الأول الذي صار إنساناً ليصحح خطأ الجد الأول آدم. في الفردوس، آدم الأول مع كونه غير مختبر، كان في حالة من استنارة النوس لأنّ الصورة فيه كانت نقية وكان يتلقّى شعاعات النور الإلهي. لكن بعد الخطيئة، أظلَم وفقد الشبه، لكنّه لم يفقد الصورة كلياً. في التقليد الآبائي يُقال أنّ الصورة في آدم أظلَمت وصارت قاتمة لكنّها لم تُفقَد كلياً. بتجسدّ المسيح وتألّه الطبيعة البشرية عاد آدم إلى مجده السابق، وبالواقع أرتفع أكثر من ذي قبل. إذاً، على ثابور أظهر المسيح ما كان عليه المثال الأول للخليقة البشرية والحالة التي كان عليها آدم في الفردوس قبل السقوط. بالتأكيد، يرد هذا الكلام مع تحفظٍ إذ، بحسب ما يعلّم القديس نيقوديموس الأثوسي، إشراق المسيح المتجلّي كان أكثر لمعاناً وأكثر قداسة مما كان عليه آدم من الإشراق في الفردوس. وهذا يعود لسببين: الأول لأن الإله الذي خلق آدم كان إلهاً بالجوهر، بينما آدم كان إلهاً بالمشاركة. النور الإلهي طبيعي، بينما كان نور آدم بالمشاركة والنعمة. ثانياً، لأن المسيح اتّخذ الطبيعة البشرية وألّهها أقنوميا، بينما آدم كان في شركة مع نعمة الله من خلال القوة. هذا يعني أنّه فيما كانت الطبيعة الإلهية متّحدة أقنومياً بالطبيعة البشرية في المسيح، في آدم وفي كلّ مَن يتقدّس، تتّحد طبيعته بالله بالنعمة وليس بالأقنوم. بناءً عليه، الوحدة الأقنومية بين الطبيعتين الإلهية البشرية تمّت في المسيح فقط.

لكي نجعل هذا مفهوماً، علينا أن نذكر أنّه بحسب القديس يوحنا الدمشقي هناك ثلاث طرق للاتحاد. الأولى في الجوهر، وهي القائمة بين أقانيم الثالوث القدوس. الثانية هي التي تمّت في المسيح بالتجسّد وهي الأقنومية لأن المسيح هو الإله-الإنسان الوحيد. والطريقة الثالثة هي بالنعمة وتتمّ في كلّ الأشخاص غير المتّحدين بالله بالجوهر، لأنّ هذا يتمّ فقط في أقانيم الثالوث، ولا هم متّحدون بالله أقنومياً لأن الإله الإنسان وحيد، بل هم متحدون من خلال اشتراكهم بالنعمة. إذاً، القديسون لا يُسَمّون آلهة بشرية ولا حتى بالنعمة، بل هم بالنعمة متقدّسون.

مهما يكن، لقد أظهر المسيح المتجلّي مجد نموذج خليقتنا الأول. وتماماً مثل النحاتين، فللأصيل قيمة أكثر من النسخة الذي يقدر أي كان أن يصنعه، إذاً هنا أيضاً للمثال الأول قيمة أكبر. يظهر تجلي المسيح أصل الإنسان كما الغاية والهدف الذي ينبغي بالإنسان أن يتوجّه إليه.

-7-

إن النور الذي نراه بالحواس، بالرغم من كونه مخلوقاً، هو الحقيقة الوحيدة على الأرض التي تظهِر مجد الألوهية وتألقها. لمع شخص المسيح مثل الشمس، وثيابه صارت بيضاء مثل النور، إذ هكذا يستطيع الإنسان أن يفهم الألوهية. ليس هناك أي حقيقة أرضية أخرى لإظهارها. إن تسمية الله بالنور هي حقيقة إذ، من جهة، هو كشف عن المسيح نفسه، وهو قال “أنا نور العالم” (يوحنا 12:8)، ومن جهة أخرى، لأن كل الذين مُنحوا أن يروه رأوه كنور مشعّ. يشير القديس يوحنا الذهبي الفم إلى أن الإنجيلي يقول أن شخص المسيح لمع مثل الشمس، إذ لا يوجد أي صورة أخرى لتقديم إشعاع شخص المسيح في تلك اللحظة.

تظهر صورة الشمس حقيقة لاهوتية أخرى، بحسب ما يذكر القديس غريغوريوس بالاماس. فهو يقول أنّه لا يوجد فرق بين النور والشمس. الله، كما نعرف من العهد القديم، صنع النور في أول يوم من الخليقة، وفي اليوم الرابع صنع الشمس وأعطاها النور. إذاً، خُلِق النور أولاً، بينما أتى النور إلى قرص الشمس في اليوم الرابع. نحن نرى هذا بالتشابه الجزئي في المسيح أيضاً. نور الله كان وما يزال بدون ابتداء، أي، لم يكن هناك وقت لم يكن فيه هذا النور غير موجود. لكن لاحقاً، عند التجسّد، أُضيف تألّق الطبيعة البشرية الذي تلقّى كامل ملء الربوبية. بالتالي، فيما كان الله دائماً نوراً، عند تجسده صار الجسد الذي اتخذه مصدراً للنور غير المخلوق.

من ناحية ثانية، هناك فرق شاسع بين نور الألوهية ونور الشمس، بقدر الفرق بين المخلوق وغير المخلوق. للمخلوق بداية وينبغي أن يكون له نهاية فيما الله يريده أن يكون بلا نهاية. المخلوق أيضاً يتغيّر ويتبدل. لكن غير المخلوق هو بلا ابتداء ولا نهاية ولا تغيّر ولا تبدل. لهذا علينا أن نكون دوماً معتدلين في استعمالنا للوقائع المحسوسة. كتب الإنجيلي “وَأَضَاءَ وَجْهُهُ كَالشَّمْسِ” (متى 2:17)، ولم يقل أنه صار وجه الشمس بل كالشمس. يشير القديس نيقوديموس الأثوسي إلى الفرق بين لمعان الشمس الحسية ونور شمس البِر. فنور الشمس الحسية، كونه وقتياً، يأتي إلى عيني الإنسان عبر الزمن، أي شيئاً فشيئاً وليس لمرة واحدة. وهكذا منذ الفجر يكون في الشرق، ومن هناك يأتي إلى الظهيرة ومن ثمّ إلى الغرب. هناك تغيّر في الإنارة بحسب الأوقات. لكن هذا الأمر لم يصِر للتلاميذ على طور ثابور. فكون نور البِر غير مخلوق ويتخطّى الزمن، لم يشرق على التلاميذ “شيئاً فشيئاً متقدماً ومتنقلاً، بل مباشرة ومرة واحدة”. هذا النور الإلهي يعمل بطريقتين، منيراً ومحرقاً، بحسب تقدم حالة الإنسان الروحية. بحسب القديس نيقوديموس الأثوسي، للجَمر أيضاً سيماؤه الأرضية المادية كونه يتحوّل إلى رماد، لكن له أيضاً سيماؤه المنيرة المحرقة. ففي بعض الحالات يحرق وفي غيرها ينير. هذا يجري أيضاً مع النور الإلهي في الطبيعة البشرية للكلمة. المسيح هو مثل جمرة محرقة لامتلاكه الطبيعة البشرية، أي المادية، لكنّه يمتلك أيضاً نور الربوبية. من ناحية ثانية، ليس هذا ما يجري للجمر الذي لا ينير البعيدين فيما يحرق القريبين. فالمسيح يصير نوراً للمتطهرين من الخطيئة وناراً لغير الأطهار.

علينا أن نستفيد من الفرصة للنظر إلى ملاحظة القديس باسيليوس الكبير الرائعة حول تجسد المسيح. فهو يأخذ الحديد المحمّى كمثال، فيقول أن النار تأتي إلى الحديد، لا من مكان إلى آخر بل بالانتقال. هذا يعني أن النار لا تجتاح الحديد، بل فيما تبقى في مكانها، تنقل إليه قواها وطاقاتها، لكنها لا تنقص من الانتقال فيما تملأ الحديد كلياً. على منوال مشابه، جرى الأمر نفسه بتجسد ابن الله وكلمته. لم يترك الله نفسه، أي أنّه لم يغيّر موقعه، بل تنازل نحو الجنس البشري وأقام بيننا من دون أن يكفّ عن كونه في السماء. يُعبّر عن هذا العجب في خدمة مديح والدة الإله في القول “إن الكلمة غير المحصور كان بجملته مع السفليين ولم يغب البتة عن العلويين، إذ قد صار ذلك تنازلاً إلهياً لا انتقالاً مكانياً”.

-8-

يؤكّد الإنجيلي متى: “وَأَضَاءَ وَجْهُهُ كَالشَّمْسِ” (متى 2:17). بالإضافة إلى ما ذكرنا سابقاً، علينا أن نتوسّع قليلاً لنشدد على بعض الحقائق اللاهوتية المتعلّقة بلمعان وجه المسيح. نور الله هو من قبل الزمن وغير محدود بزمان، لكن على ثابور، بسبب محبة الله الفائقة لجنس البشر، صُوِّر على الجسم البشري “كما على قرص الشمس”. بمعزل عن الاستنارة وتصويره على وجه المسيح “لقد كان غير محصور مالئاً الكل بدون حدود مستحيلاً تصويره فيما هو مصوَّر” (القديس نيقوديموس الأثوسي). هذا هو سر تجسد وتجلي كلمة الله العظيم، لكنّه أيضاً سرّ تألّه الإنسان.

لتلافي كل خلط بين نور الشمس المخلوق ونور الألوهية غير المخلوق، غالباً ما استعمل الآباء القديسون عبارة “الظلمة الفائقة للنور”. الله هو نور بالفعل، وهكذا رآه القديسون، لكن بسبب هيئته المتعالية وعدم مشابهته للأنوار الأخرى المخلوقة فقد سُمي الظلمة الفائقة للنور. ضمن هذا الإطار من المرجعية علينا أن ننظر إلى ما يُعرَف باللاهوت التنزيهي واللاهوت الإيجابي. اللاهوت التنزيهي يسمّي الله بقواه وتأثيراتها، فيصفه بأنّه نور حقيقي صرفٌ وغير مُدرَك. اللاهوت الإيجابي يسمّيه نوراً فائق للطبيعة، كما يصفه بأنه فوق كل إسم وفائق الجوهر. وعليه وجود اللاهوت الإيجابي لا يقود إلى اللأدرية، ولا ينتهي في تصوّف غير شخصي، لكنه يتلافى مخاطر تحكّم العقل والشعور (القديس نيقوديموس الأثوسي).

هذه الأمور تعني أن وجه السيد لمع كالشمس وتعني في الوقت نفسه أنّه لمع أكثر من الشمس، ما يفيد بأن لمعانه فاق العقل والفكر بطريقة لا تُوصَف. تعابير الآباء عن هذه الحقيقة ذات دلالة. فهم يتكلّمون عن أن الرسل وكل المتقدسين في كل الأجيال يرون الله من دون نظر، ويسمعونه من دون صوت، ويشاركون فيه من دون اشتراك، ويفهمونه من دون فهم. لذلك، لمعان المسيح على ثابور وإعلانه مجده للمتألهين في كل عصر ليس حقيقة حسية بل هو سر وكشف لمجد الله بطريقة لا توصَف.

-9-

تماماً كما كُشِف عن الثالوث القدوس عند لحظة اعتماد المسيح، أيضاً أعلِن عن الإله الثالوثي في لحظة تجلّيه على ثابور. الأقنوم الثاني، الذي صار إنساناً، لمع أمام تلاميذه وأظهر مجد ألوهيته. الآب أكّد أنّ هذا هو ابنه الحبيب، والروح القدس كان السحابة المنيرة التي غطّت التلاميذ. الإله الثالوثي هو نور، لأن النور هو إشراق الألوهية، معاينة نعمة الإله الثالوثي. تنشد الكنيسة: “أيها الكلمة النور الذي لا يستحيل، نور الآب غير المولود، إننا بنورك الذي ظهر على ثابور، قد رأينا الآب النور والروح النور المنير الخليقة بأسرها” (الاكسابستولاري). لقد لمع وجه المسيح كالشمس، وصوت الآب كان رؤية قوية للنور، وهكذا، بحسب ما يقول القديس غريغوريوس بالاماس، عندها فقط صار التلاميذ غير قادرين على التحمّل وسقطوا على الأرض، والسحابة التي كانت حضور الروح القدس، كانت لامعة. كل شيء يعبّر عن مجد الألوهية”.

عند أعلى درجات معاينة الله سُمع صوت الآب: “هذا هو ابني الحبيب الذي به سُررت” (متى 5:17). عندما نحلّل معمودية المسيح نرى فيها معنى ما أعلنه الآب. هنا ينبغي أن نشير إلى نظرة القديس يوحنا الذهبي الفم التي مفادها أن الآب يظهر محبته الكبيرة لابنه الحبيب الوحيد المولود بحسب الطبيعة. إن محبة الآب ثلاثية الأوجه، فهي أبوية وكل أب يحب ابنه، وثانياً لأنه هو محبوب، وثالثاً لأنّه يُسَرّ به.

يظهِر صوت الآب أن على طور ثابور كان هناك رؤية وسماع. في الحقيقة، كما يقول القديس سمعان اللاهوتي الحديث، خلال رؤية الله والإعلان عنه، كل حواس الإنسان تصير واحدة. لهذا فإن المعاينة هي سماع، والسماع هو معاينة، والمعاينة والسماع هما تذوّق وإحساس،… عند لحظة رؤية الله لا يتشتت الإنسان، لأن التشتت هو علامة مميزة للإنسان الساقط. من ناحية ثانية، عندما يبلغ الإنسان إلى معاينة الله، فهو يراه من خلال تقدسه. بحسب القديس نيقوديموس الأثوسي، المعاينة هي بالعادة أكثر جدارة بالثقة من السماع. فالإنسان يسمع الشيء أولاً ومن ثم يمضي لينظر إليه. لكن هنا يحدث العكس، التلاميذ رأوا مجد الله ومن ثم تبع الإثبات من خلال السمع.

شارحاً هذا الحدث، يقول القديس نيقوديموس أن الفرق بين العهدين القديم والجديد يظهر هنا. فالمألوف في العهد القديم، هو أن العمليات تجري بالسمع، فالأنبياء أظهروا الأمور الآتية من خلال التنبؤ والتكهّن. فهم كانوا يسمعون الله ثم يرون، كما يعترف أيوب البار: “بِسَمْعِ الأُذُنِ قَدْ سَمِعْتُ عَنْكَ، وَالآنَ رَأَتْكَ عَيْنِي” (أيوب 5:42). من ناحية ثانية، في العهد الجديد، الأمر مخالف، حيث المألوف هو أن النظر يأتي أولاً ومن ثمّ السمع. هذا طبيعي لأن في العهد القديم كان يُعلَن عن مجيء المسيح، بينما عندما أتى ابن الله المتجسّد، صار النظر يأتي أولاً لأنّهم رأوه وكان الإثبات مسموعاً.

هذا يحدث في حياة الكنيسة وفي الحياة الروحية. عندما نكون في مرحلة التطهر، التي تذكّر بطريقة حياة العهد القديم، نسمع بالله. من ناحية ثانية، عندما نبلغ استنارة نوسنا والتألّه، بالحياة الأسرارية والاشتراك بقوة الله المنيرة المقدّسة، عندها نعاين الله. ينبغي قول كلّ هذه الأمور بتحفّظ مع القول أنّ عند بلوغ الإنسان إلى التألّه فإن كل قواه النفسية والجسدية تتّحد.

صوت الله أتى من السحابة المنيرة ليظهر وحدة الطبيعة بين الآب والروح القدس، وبالحقيقة وحدة طبيعة الأقانيم الثلاثة. إن ظهور السحابة المنيرة مرتبط أيضاً بالحقيقة المعلَنة بأنّ المسيح هو مَن قاد شعب الله في العهد القديم. يرِد في كتاب الخروج أن الله قاد شعب إسرائيل في رحلتهم من أرض مصر إلى أرض الميعاد، منيراً الليل بالنار ومغطياً إياهم في النهار بسحابة، “وَكَانَ الرَّبُّ يَسِيرُ أَمَامَهُمْ نَهَارًا فِي عَمُودِ سَحَابٍ لِيَهْدِيَهُمْ فِي الطَّرِيقِ، وَلَيْلاً فِي عَمُودِ نَارٍ لِيُضِيءَ لَهُمْ. لِكَيْ يَمْشُوا نَهَارًا وَلَيْلاً.” (خروج 21:13).

على ثابور أيضاً لدينا كلا النور والسحابة. المسيح نور، لأن وجهه لمع مثل الشمس، وحضور الروح الكلي قدسه هو سحابة. لا ينبغي أن نفهم من هذه الحقيقة أنّ عمل الابن مختلف عن عمل الروح القدس، أو أن تدبير الابن مستقلّ عن تدبير الروح القدس. معروف جداً أن خلق الإنسان والعالم وتجديدهما هي قوة مشتركة للإله الثالوثي. على أي حال، ما ينبغي التركيز عليه هو أن على ثابور لدينا ظهور وإعلان للإله الثالوثي. حياة الكنيسة والروح هي مشاركة في النعمة الإلهية غير المخلوقة في طبيعة الكلمة البشرية. عندما نتناول من الأسرار، نأخذ جسد المسيح ودمه، ونشترك في قوى الإله الثالوثي.

-10-

بالإضافة إلى الإله الثالوثي هناك على طور ثابور خمسة أشخاص. إلى جانب المسيح شخصان بارزان من العهد القديم، النبيان إيليا وموسى، إلى جانب التلاميذ الثلاثة، بطرس ويعقوب ويوحنا. الأوّلان يمثّلان العهد القديم، الناموس (موسى) والأنبياء (إيليا)، والرسل يمثّلون العهد الجديد. هناك سببان جعلا الرسل يعرفون أن شخصي العهد القديم اللذين ظهرا هما موسى وإيليا.

أولاً، بنعمة الله. بتعبير آخر، لقد تعرّفا إلى معايني الله في العهد القديم لأنّهما كانا في النور الإلهي. يقول القديس غريغوريوس بالاماس أنّ نور الله يكشف المستقبل بأكمله، وأكثر من هذا، يظهِر الحاضر والماضي. ثانياً، عرفوهما من محادثتهما مع المسيح. يقول الإنجيلي: “وَإِذَا مُوسَى وَإِيلِيَّا قَدْ ظَهَرَا لَهُمْ يَتَكَلَّمَانِ مَعَهُ.” (متى 3:17). كلمات لوقا الإنجيلي الذي يخبرنا بفحوى المحادثة مميزة: “وَإِذَا رَجُلاَنِ يَتَكَلَّمَانِ مَعَهُ، وَهُمَا مُوسَى وَإِيلِيَّا، اَللَّذَانِ ظَهَرَا بِمَجْدٍ، وَتَكَلَّمَا عَنْ خُرُوجِهِ الَّذِي كَانَ عَتِيدًا أَنْ يُكَمِّلَهُ فِي أُورُشَلِيمَ.” (لوقا 30:9-31). رجلا العهد القديم اللذان ظهرا عند تلك اللحظة كانا يتكلمان عن آلام المسيح. فإذا أخذنا بعين الاعتبار أن تجلي المسيح صار خلال الصلاة، لأن لوقا الإنجيلي يقول: “وَفِيمَا هُوَ يُصَلِّي صَارَتْ هَيْئَةُ وَجْهِهِ مُتَغَيِّرَةً، وَلِبَاسُهُ مُبْيَضًّا لاَمِعًا.” (لوقا 29:9)، وأن محادثة الرجلين مع المسيح أشارت إلى الآلام، فالاستنتاج هو أنّ هذا الحدث مرتبط بصلاة المسيح في الجتسمانية، عندما طلب أن تُرفَع عنه كأس الموت المرّة.

يقول القديس ثيوفيلاكتوس أنّ التلاميذ عرفوا هذين النبيين من الكلمات التي قالوها للمسيح والمتعلقة بما سبق لهم أن تنبئوا به طوال حياتهم. لربّما موسى قال: “أنت الذي تنبأتُ عن آلامه، في ذبح الحمل والاحتفال بالخروج”. ولربما إيليا قال: “أنت الذي صوّرتُ قيامته مسبقاً في إبن الأرملة”. موسى تكلّم عن التنبؤ بآلام المسيح، الفصح المسيحي، بينما إيليا كان يتكلّم عن قيامة المسيح.

-11-

معروف من التقليد الآبائي أن الذين هم في حالة معاينة الله يشتركون في قوة الله، لأن الوحي الإلهي عند غير الطاهرين هو عقاب ودينونة. إذاً، أيضاً عند تجلي المسيح، موسى وإيليا ظهرا، ليس فقط لأنّهما ممثلين للناموس أنبياء العهد القديم، بل لأنّهما إنسانين عاينا الله في حياتهما. موسى رأى على جبل سيناء مجد الكلمة غير المتجسّد الذي أعطاه الناموس، ميثاق العهد القديم. لكن أيضاً قبل ذلك رأى الرؤية المذهِلة الأخرى التي تشير إلى تجسد الكلمة، أي العليقة الملتهبة من غير أن تحترق. في وقت آخر، في لحظة صعبة من حياته، طلب موسى من الله أن يظهر نفسه. وعندما أعلمه الله أنّه يريد أن يظهر نفسه له، قال له بأن يقف على صخرة ومتى عبر فسوف يخبئه في نقرة الصخرة، حتى لا يرى وجهه بل ظهره (خروج 12:33-23). هذا الإعلان يشير إلى تجسّد ابن الله وكلمته.

النبي إيليا أُعطيَ أيضاً أن يرى الكلمة غير المتجسّد على شكل نسمة خفيفة. لم يأتِ إعلان الله بشكل ريح أو زلزال أو نار، بل من خلال النسمة. “وَبَعْدَ النَّارِ صَوْتٌ مُنْخَفِضٌ خَفِيفٌ. فَلَمَّا سَمِعَ إِيلِيَّا لَفَّ وَجْهَهُ بِرِدَائِهِ وَخَرَجَ وَوَقَفَ فِي بَابِ الْمُغَارَةِ، وَإِذَا بِصَوْتٍ إِلَيْهِ يَقُولُ: «مَا لَكَ ههُنَا يَا إِيلِيَّا؟»” (1ملوك 11:19-13). ترتبط هذه الرؤيا أيضاً بتجسد كلمة الله إذ بهذا التجسد قدّم الله محبته وإحسانه.

مع هذا، هناك فرق شاسع بين معاينة الله التي كانت للنبيين في حياتهما والمعاينة التي كانت لهما على طور ثابور. في حياتهما كانت معاينة للكلمة غير المتجسّد، ولهذا اختبآ في الصخرة وفي الكهف، بينما هنا رأيا الكلمة المتجسّد. آنذاك اضطرمت سيناء إلى كبد السما، وكان هناك ظلمة وسحابة وعاصفة وصوت عظيم (تثنية 11:4)، وهي أمور تعبّر عن العهد القديم، بينما على ثابور فكل شيء كان لامعاً ومنيراً، متألّقاً بنور الألوهة الذي لا يُدنى منه، ما يشير إلى أن النور كان فوق ناموس العهد القديم.

يشير القديس ثيوفيلاكتوس بوضوح إلى الأسباب التي جعلت معاينَي الله في العهد القديم يظهران. أولاً، لبرهان أنّ المسيح هو سيّد العهد القديم والأنبياء. ثانياً، لإظهار أنّه إله الأحياء والأموات، كون موسى كان صاحب الشريعة ومات وإيليا كان نبياً وما يزال حياً كونه انتقل إلى السماء بعربة. ثالثاً، لإظهار بوضوح أن المسيح لم يكن ضد الناموس، ولا هو عدو لله، وإلاّ لما كان تكلّم إليه هذان الرجلان العظيمان اللذان عاينا الله. رابعاً، لتبديد شكّ البعض بأن المسيح هو إيليا الذي كانوا ينتظرونه، أو غيره من الأنبياء. وخامساً، لتعليم التلاميذ أن يتمثّلوا بهذين الرجلين العظيمين أي أن يكونوا متواضعين مثل موسى ومثل إيليا غيورين صلبين ومستعدين للمخاطرة عند الضرورة من أجل الحقّ.

لقد وقف نبيا العهد القديم إلى جانب يسوع بورع وتوقير. في قانون العيد، يكتب القديس قوزما المنشئ: “إن موسى وإيليا لما كانا واقفين في طور ثابور ناظرين علانية صورة الأقنوم الإلهي. أعني به المسيح متلألئاً بمجد الآب، رتّلا باركوا الرب يا جميع أعماله”. لقد رأى النبيان على طور ثابور كلمة الله المتجسّد وفي هذه الرؤية عرفا أنّه ابن الله المولود الوحيد الحامل الصفة المميزة لأقنوم الآب، أي مجده. لهذا السبب وقفا بورع كعبدين.

في العهد القديم، بحسب القديس نيقوديموس الأثوسي، وقف موسى كرئيس كهنة بين أور وهارون لكي يتغلّب الشعب الإسرائيلي، وإيليا كرئيس كهنة لله قَتَل كهنة بعل وقدّم الذبيحة المحرَقة. الآن يقف هذان الرئيسان ككاهنين وعبدين على ثابور، ويقف بينهما رئيس الكهنة العظيم الذي يهيئ نفسه للذبيحة العظيمة.

هذا “التوقير” و”الانحناء” يذكّران بالفرق الكبير بين المسيح والأنبياء. المسيح يقدّس، كما يقول القديس مكسيموس المعترف، لأنّه ابن الله بالطبيعة وهو يؤلّه البشر، بينما الأنبياء كونهم بشراً يتقدّسون بالانفعال، أي أنّهم يصيرون آلهة بالنعمة والمشاركة. بتعبير آخر، المسيح هو النور المطلَق، بينما نور الأنبياء من خارجهم.

علينا أن ننتبه أيضاً إلى تفصيل آخر يشير إلى أمر أكثر عمقاً وأكثر جوهرية. يذكر الإنجيلي لوقا أنّ “َلَمَّا كَانَ الصَّوْتُ (صوت الآب) وُجِدَ يَسُوعُ وَحْدَهُ” (لوقا 36:9). عندما سُمع الصوت، اختفى رجُلا العهد القديم وبقي المسيح وحده. بحسب القديس ثيوفيلاكتوس، حدث هذا كي لا يظنّ أحد أن الصوت الذي سُمع كان عن إيليا أو موسى، فقد كان عن المسيح فقط. لا ينبغي أن يكون هناك أي خلط بين هؤلاء الأشخاص. المسيح هو مركز السماويات والأرضيات.

-12-

عند حدث التجلّي العظيم كان هناك ثلاث تلاميذ فقط: بطرس ويعقوب ويوحنا. هؤلاء يشملهم المسيح في كل اللحظات الكبيرة، كمثل إقامة ابنة ياييرس وصلاته على التسمانية. لا يمكن ردّ الاختيار إلى التفضيل. لا يمكن أن ننسب إلى المسيح ميولاً بشرية وأحاسيس انفعالية. هناك سبب لاهوتي أكثر عمقاً. نحن نعرف جيداً أن إعلان الله وظهوره هو الفردوس للمستعدّين لهذه الرؤية، والجحيم لغير الطاهرين، أو أقلّه لمَن هم غير مستعدين. لهذا ينبغي أن يكون الإنسان في حالة روحية مناسبة لكي يتسلّم الإعلان كمعاينة لله، وليس كعقوبة. إذاً يبدو أن التلاميذ الثلاثة كانوا الأكثر استعداداً لتلقّي الإعلان الإلهي، بينما للآخرين كان ينبغي به أن يبقى متخفّياً ليُكشَف بعد قيامته.

لقد تمتّع التلاميذ الثلاثة ببعض المواصفات التي جعلتهم مستحقين للمشاركة في معاينة الله. فالثلاثة كانوا أرفع منزلة من الباقين (القديس يوحنا الذهبي الفم). تظهر رفعتهم من أن بطرس أحبّ المسيح كثيراً بحرارة إيمان، يوحنا كان محبوباً جداً من المسيح بسبب فضائله المميزة، ويعقوب كان مكروهاً جداً من اليهود ما سبب مقتله على يد هيرودس (زيغافنوس). في أي حال، إثنان من الثلاثة الحاضرين على طور ثابور عند تلك الساعة الرهيبة شهدوا لهذا الحدث. يكتب الرسول بطرس في رسالته: “لأَنَّنَا لَمْ نَتْبَعْ خُرَافَاتٍ مُصَنَّعَةً، إِذْ عَرَّفْنَاكُمْ بِقُوَّةِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ وَمَجِيئِهِ، بَلْ قَدْ كُنَّا مُعَايِنِينَ عَظَمَتَهُ. لأَنَّهُ أَخَذَ مِنَ اللهِ الآبِ كَرَامَةً وَمَجْدًا، إِذْ أَقْبَلَ عَلَيْهِ صَوْتٌ كَهذَا مِنَ الْمَجْدِ الأَسْنَى:«هذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي أَنَا سُرِرْتُ بِهِ». وَنَحْنُ سَمِعْنَا هذَا الصَّوْتَ مُقْبِلاً مِنَ السَّمَاءِ، إِذْ كُنَّا مَعَهُ فِي الْجَبَلِ الْمُقَدَّسِ. وَعِنْدَنَا الْكَلِمَةُ النَّبَوِيَّةُ، وَهِيَ أَثْبَتُ، الَّتِي تَفْعَلُونَ حَسَنًا إِنِ انْتَبَهْتُمْ إِلَيْهَا، كَمَا إِلَى سِرَاجٍ مُنِيرٍ فِي مَوْضِعٍ مُظْلِمٍ، إِلَى أَنْ يَنْفَجِرَ النَّهَارُ، وَيَطْلَعَ كَوْكَبُ الصُّبْحِ فِي قُلُوبِكُمْ، عَالِمِينَ هذَا أَوَّلاً: أَنَّ كُلَّ نُبُوَّةِ الْكِتَابِ لَيْسَتْ مِنْ تَفْسِيرٍ خَاصٍّ.” (2بطرس 16:1-20). أمّا يوحنا الإنجيلي فيكتب في رسالته العامة: “اَلَّذِي كَانَ مِنَ الْبَدْءِ، الَّذِي سَمِعْنَاهُ، الَّذِي رَأَيْنَاهُ بِعُيُونِنَا، الَّذِي شَاهَدْنَاهُ، وَلَمَسَتْهُ أَيْدِينَا، مِنْ جِهَةِ كَلِمَةِ الْحَيَاةِ. فَإِنَّ الْحَيَاةَ أُظْهِرَتْ، وَقَدْ رَأَيْنَا وَنَشْهَدُ وَنُخْبِرُكُمْ بِالْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَ الآبِ وَأُظْهِرَتْ لَنَا.” (1يوحنا 1:1-2). بالإضافة إلى هذين المقطعين يمكننا أن نشير إلى أن كل النصوص التي كتبها الرسل هي برهان للرؤية الإلهية، ونتيجة لخبرتهم على طور ثابور وفي العنصرة.

في ابتهاجهم لرؤية المسيح متجلياً، قال التلاميذ الثلاثة أيضاً: “4فَجَعَلَ بُطْرُسُ يَقُولُ لِيَسُوعَ: “«يَارَبُّ، جَيِّدٌ أَنْ نَكُونَ ههُنَا! فَإِنْ شِئْتَ نَصْنَعْ هُنَا ثَلاَثَ مَظَالَّ: لَكَ وَاحِدَةٌ، وَلِمُوسَى وَاحِدَةٌ، وَلإِيلِيَّا وَاحِدَةٌ»”، وبعد أن ظللتهم السحابة المنيرة وسُمع صوت الآب، “التَّلاَمِيذُ سَقَطُوا عَلَى وُجُوهِهِمْ وَخَافُوا جِدًّا.” (متى 4:17-6). يقول آباء الكنيسة (القديس باسيليوس الكبير والقديس يوحنا الذهبي الفم والقديس غريغوريوس بالاماس) أنّهم سقطوا على وجوههم بسبب النور الفائض. إلى هذا، صوت الآب كان رؤية لله، وبالحقيقة رؤية بدرجة أكبر بكثير مما كان للتلاميذ قبلاً. لذا ارتعدوا من النور الفائق العظمة.

تقول النصوص الليتورجية التي تشير إلى هذا الحدث أن التلاميذ أحسّوا حيناً بالخوف وحيناً بالفرح. لكن كما يشرح الآباء، هذا الخوف مرتبط بشدة بالفرح، لأنّه لم يكن خوف عبيد بل خوف أبناء، خوف الكاملين. هناك خوف المبتدئين وخوف الكاملين. المسألة هنا مسألة فرح وتوقير وإكرام للسر العظيم الذي أُعطوا أن يشاهدوه.

-13-

لقد شددنا على أنّ النبيين كانا ممثلين للعهد القديم والرسل الثلاثة ممثلين للعهد الجديد. إذاً يظهر بوضوح أن المسيح هو مركز الكتاب المقدس. يصف العهد القديم إعلانات الكلمة غير المتجسّد ويتنبأ بتجسده، والعهد الجديد يصف تجسد ابن الله وكلمته. وليس فقط يقدمه بل يعطي براهين أن باستطاعة البشر المشاركة في التجسد، بمعنى استطاعتهم أن يكونوا أعضاء في جسد المسيح.

إذاً، النقطة المركزية في الكتاب المقدس هي المسيح، وبالحقيقة المسيح ممجداً. لهذا السبب علينا ألاّ نتوقّف عند بعض القصص ونستخلص نتائج أخلاقية، مع أنّ هذه ضرورية وبالتأكيد لا يمكن تلافيها، فيما نغفل الرسالة الأساسية للكتاب. وبما أن المسيح هو مركز الكتاب المقدس، الكلمة غير المتجسد والمتجسد، والكنيسة هي جسد المسيح، لذا مَن يُفَسِّر الكتاب المقدس من دون خطأ هو الكنيسة والذين يحيون في جو معاينة الله في الكنيسة. المتقدّسون، الذين هم أعضاء حية في المسيح، هم المؤهَّلون لتفسير الكتاب.

خلال حدث التجلي، على ما يقول الإنجيلي متى، “أَضَاءَ وَجْهُهُ كَالشَّمْسِ، وَصَارَتْ ثِيَابُهُ بَيْضَاءَ كَالنُّورِ.” (متى 2:17). يعطينا الإنجيلي مرقس تفاصيل أكثر بقوله: “وَتَغَيَّرَتْ هَيْئَتُهُ قُدَّامَهُمْ، 3وَصَارَتْ ثِيَابُهُ تَلْمَعُ بَيْضَاءَ جِدًّا كَالثَّلْجِ، لاَ يَقْدِرُ قَصَّارٌ عَلَى الأَرْضِ أَنْ يُبَيِّضَ مِثْلَ ذلِكَ.” (مرقس 2:9-3). يعلّم القديس غريغوريوس بالاماس أنّ الثياب اللامعة هي حرف الكلمة الإلهية الذي يبدو برّاقاً للذين يرون بالروح أمور الروح. على العكس، إنّ الذين يخمّنون لا يمكنهم أن يشرحوها ولا أن يفهموها، بينما معاينو الله يفعلون. هذا يعني أن معايني الله وحدهم يمكنهم أن يفهموا كلمة الله وكلمة المتقدسين.

أيضاً يعلّم القديس مكسيموس المعترف الأمر نفسه. فهو يقول أن روح الناموس هي النفس، وحرف الناموس هي الجسد واللباس. من دون إهمال اللباس والثياب، على المرء أن يقصد الروح، أي النفس. لهذا، نحتاج لانتباه عظيم عندما ندرس الكتاب المقدس، حتى من جهة، لا نهمل ثيابه، ومن جهة أخرى، حتى لا تصير الثياب فرصة لنا لإهمال وجهه اللامع.

-14-

من الضروري التشديد أيضاً على أن جسد المسيح على طور ثابور، وبالإجمال كل حياته، كان مصدراً لنعمة الله غير المخلوقة، بقوة الاتحاد الأقنومي بين طبيعتيه الإلهية والبشرية. قبل التجسّد، كانت الأقانيم الإلهية مصدراً للنعمة غير المخلوقة، الآن الطبيعة البشرية في شخص الكلمة صارت مصدراً أيضاً. وبالتالي وجه المسيح “صار لامعاً كالشمس”. الآباء القديسون يقولون أن الجسد الذي اتّخذه المسيح وقدّسه مماثل لله، بالضبط لأنّه كان مصدراً للنعمة غير المخلوقة. الشمس الحسية تقدّم مثالاً عن التشابه الجزئي. النور كان موجوداً منذ اليوم الأول للخلق، بينما الشمس صارت مصدراً للنور في اليوم الرابع عندما اتحدت بالنور. وهكذا جسد المسيح مماثل لله، كما يقول القديس غريغوريوس بالاماس. هذا يرد أيضاً في النصوص المجمعية والليتورجية.

بالرغم من حقيقة أن الجسد مماثل لله وبالرغم من تقدّسه، إلاّ أنّه لا يتخطّى حدود الطبيعة البشرية ويتحوّل إلى الألوهية. هذا قاله أصحاب الطبيعة الواحدة الذين دافعوا عن أن الطبيعة الإلهية امتصّت الطبيعة البشرية. من ناحية ثانية، إذا كان الجسد قد تقدّس أيضاً، فقد بقي غير قابل للتغيير ما لم يفقد معالمه الطبيعية ولا حتى الأهواء غير المعابة التي اتّخذها المسيح طوعياً. وهكذا، حتّى بعد تأليه طبيعته البشرية، احتفظ المسيح بما هو انفعالي وقابل للفساد والموت. على الأكيد، تُقال هذه الأمور عن فترة ما قبل القيامة، إذ بعدها رمى المسيح ما كان قابلاً للفساد والموت، أي كل الأهواء غير المعابة.

إن لحقيقة كون جسد المسيح مصدراً للنعمة غير المخلوقة نتائج هامة جداً في حياة الكنيسة. إذ لهذا السبب فقط يمكن لنا أن نشارك في جسد المسيح ودمه. في المناولة الإلهية لا يأخذ الإنسان النعمة الإلهية بطريقة مجرّدة، بل يأخذ جسد المسيح المماثل لله والمصدَر للنعمة غير المخلوقة. على الأكيد، هذا يُُقال فيما نعي أن ليس كل مَن يتناول من المسيحيين يتقدّس بل فقط الذي استعدّ وهو عضو حقيقي وحي في الكنيسة جسد المسيح. تعمل المناولة المقدسة بالتوافق مع حالة الإنسان الروحية.

-15-

في تفسير حدث التجلي، نرى الاختلاف في المشاركة في مجد الله. الجسد الذي اتّخذه المسيح، بقوة الاتّحاد الأقنومي الإلهي مع الطبيعة البشرية، صار مصدراً لنعمة الله غير المخلوقة، وبالتالي صار وجهه لامعاً مثل الشمس. لقد قدّس تلاميذه، وبالإجمال قدّس المستحقين للمشاركة في قوته المؤلِّهة، حتى تكون مشاركتهم بالنعمة والعطف. صارت ثيابه لامعة بالنعمة. لكن الخليقة كلها صارت أيضاً لامعة. يقول القديس قوزما المنشئ في إحدى الطروبريات أن النور الإلهي الذي لا يُدنى منه الذي ظهر على ثابور “أفعم الخليقة بالحياة وقدّس البشر”. هذا يعني أن الخليقة صار لامعة وصارت ساطعة، لكن وحدهم المتقدسون منها. هذا يُظهِر أن كلّ الخليقة تشترك في مجد الله. لا يمكننا أن نتكلّم عن تألّه الخليقة، بل عن تقديس الخليقة وتألّه الطبيعة البشرية. لا يمكننا أن نضع الخليقة والإنسان في نفس المنظار، لأن الإنسان عاقل، بينما الخليقة غير عاقلة، ولأن الإنسان هو خلاصة كل الخليقة، العالم الصغير في العالم الأكبر.

-16-

يظهِر تجلّي المسيح ما هي الكنيسة كما يبرِز هدفها. تضمّ الكنيسة بين أعضائها الأنبياء والرسل والذين يقبلون لاهوتهم المنير ويجاهدون لامتلاك وجهة النظر نفسها. طبعاً، هناك عدد من درجات المشاركة لكن ينبغي أن يكون الإنسان في مرحلة التطهر على الأقل، كما أنّ طبيعة الكنيسة الحقيقة والهدف الأكثر أساسية يظهران بوضوح. يهدف كل عمل الرعاة إلى هذا القصد السامي. إذاً، لا تشكّل القداسة ترفاً للحياة المسيحية، بل هي غايتها السرية وهدفها الأعمق. هذه الحالة هي هدف كل من الأسرار والنسك وعندما ينقطعان عنها يصيران أوثاناً.

النور غير المخلوق هو عيش ملكوت الله، إنّه غذاء السماء. لكن بموازاة هذا هناك التذوق المسبَق للأمور الآتية. يظهِر التجلّي أن ملكوت الله هو الحالة المستقبلية. الإله الإنسان سوف يكون في وسط المتقدسين الذين سوف يتمتعون بحضور الله ومجده بدرجات مختلفة وبمشاركة متفاوتة في النعمة غير المخلوقة. “اَللهُ قَائِمٌ فِي مَجْمَعِ اللهِ. فِي وَسْطِ الآلِهَةِ يَقْضِي” (مزمور 1:82). المسيح، والثالوث القدوس بشكل عام، سوف يككونون آلهة بالطبيعة، والقديسون آلهة بالمشاركة والنعمة. عليه، الملكوت الآتي، تماماً كما هو حالنا في الكنيسة، ليس حشداً من الناس الأتقياء، بل تجمعاً ولقاءً كنسياً من الآلهة بالنعمة، وبالحقيقة “متألّهين بمَن هو إله بالطبيعة” (القديس سمعان اللاهوتي الحديث).

-17-

كما أنّ كل أعياد السيد ليست كلها خريستولوجية، بل إنسانية وفدائية، أيضاً تجلّي المسيح. بتجلّيه أظهر المسيح تألّه الطبيعة البشرية، وأيضاً مجد الذين يتّحدون به. لهذا، حدث التجلّي هو نقطة مركزية في تعليم الكنيسة حول الفداء، لأنّه يظهر هدف وجود الإنسان. لكن، لكي يبلغ المرء خبرة مجد التأله، عليه أن يمرّ بتطهر قلبه. لهذا ينير المسيح الإنسان على قدر طهارة قلبه. يقول القديس غريغويوس اللاهوتي بشكل مميز: “لهذا على الإنسان أولاً أن يتطهّر، ومن ثم أن يعاشر الأطهار”. وكما مع النور الحسي كذلك مع النور النوسي. كما أن النور المخلوق يعطي النور لعيني الجسد الصحيحتين، كذلك أيضاً النور غير المخلوق يعطي النور للنوس النقي والقلب المستنير (القديس نيقوديموس الأثوسي).

الآباء، في كلامهم عن تجلّي المسيح واشتراكهم في المجد الإلهي، يتحدّثون عن الصعود الشخصي على الجبل ومعاينة الله. هذه هي صرخة الكنيسة الثابتة “أظهِرْ لنا نحن الخطأة نورك الأزلي”. وفي صلاة مشابهة في الساعة الأولى نحسّ بالحاجة لأن نسأل المسيح “أيها المسيح الضوء الحقاني الذي ينير ويقدّس كلّ إنسان وارد إلى العالم ليرتسم علينا نور وجهك يا رب لكي ننظر به النور الذي لا يُِدنى منه”. الصعود والنمو المتواصلان ضروريان. في الكنيسة نتحدّث عن تطور الإنسان، ليس من قرد إلى رجل، بل من إنسان إلى إله. وهذه “النظرية الكنسية” للتطور تعطينا فهم الحياة وترضي كل مشاكل الإنسان الداخلية وقلقه الوجودي.

يعلّم القديس مكسيموس المعترف أن المسيح لا يظهر للجميع بالطريقة نفسها، بل للمبتدئين كخادم، بينما للسالكين صعوداً إلى جبل المعاينة الإلهية “فيظهر كإله”. ما أن رأى التلاميذ الثلاثة على ثابور مجد شخص المسيح حتى اعترفوا “يَارَبُّ، جَيِّدٌ أَنْ نَكُونَ ههُنَا! فَإِنْ شِئْتَ نَصْنَعْ هُنَا ثَلاَثَ مَظَالَّ: لَكَ وَاحِدَةٌ، وَلِمُوسَى وَاحِدَةٌ، وَلإِيلِيَّا وَاحِدَةٌ»” (متى 4:17). يقول القديس مكسيموس المعترف في تفسيره لهذه الرغبة عند التلاميذ أن المظال الثلاثة هي العمل والرؤية واللاهوت. إيليا، كشجاع وحكيم، كان مثالاً للمظلة الأولى (العمل)، موسى كمعطٍ للشريعة وبار كان مثالاً للثانية (المعاينة)، والمسيح السيد كان مثالاً للثالثة (اللاهوت)، لأنّه كان كاملاً في كل شيء.

تظهر في هذا الشرح التحليل مراحل الحياة الروحية الثلاث، التطهّر والاستنارة والتألّه، والتي تشكّل الصعود الروحي للإنسان على طور ثابور. وبالتالي، ليس الأمر مسألة صعود جغرافي بل تطور رمزي. إذا نظرنا بانتباه إلى مجمَل حياة الكنيسة وتعاليم الآباء حول الخلاص نكتشف أنّها كلها تتحدّث بشكل ثابت عن هذه المراحل الثلاث في الحياة الروحية، وهي التي تشكّل الاشتراك المتنوّع للإنسان في نعمة الله. إن لم يكن للحياة الروحية هذا المرجع والتطور، تتحوّل إلى وثن أو أخلاقيات.

يظهِر لنا تجلي المسيح ما هو اللاهوت الأرثوذكسي بالتحديد. نعرف من تعليم الكنيسة أن اللاهوت ليس معرفة تخمينية وعقلية، بل هو اشتراك الإنسان في القوة المؤلِّهة ورؤية النور غير المخلوق وبالحقيقة، التألّه. عندما نتكلّم عن اللاهوت نعني خبرة الله ومعاينته.

في الختام، علينا أن نذكر أن تجلي المسيح هو الحدث المركزي في حياة المسيح، ولكنّه أيضاً نقطة جوهرية في حياة الإنسان. لهذا ينبغي دراسته لا بأفكار جميلة وأخلاقية وإسراف في العاطفة، بل ضمن إطار اللاهوت الأرثوذكسي. من ناحية ثانية، نحن نعيش في الكنيسة ونحاول لا أن نكون مجرّد أشخاص طيبين، بل آلهة بالنعمة. إن حياة الكنيسة واللاهوت الأرثوذكسي يدعوانا إلى هذه القامة.

الميتروبوليت إيروثيوس فلاخوس
نقلها إلى العربية الأب أنطوان ملكي
عن مجلة التراث الأرثوذكسي

arArabic
انتقل إلى أعلى