مواهب الأرثوذكسية

ما المميّز في الأرثوذكسية؟ أيّ مقومات تحدد هوية الأرثوذكسية في إطار التعددية والدهرية وما بعد الحداثة الحاضرة؟ إن لهذه الأسئلة أهمية هائلة لمستقبل الأرثوذكسية ورسالتها الفاعلة في العالم. إنها أسئلة تتعلّق بفهم الذات: مَن نحن، كيف نرى ذواتنا، ما هي قيمنا، ما هي الأوجه المميِزة لحياتنا المشتركة، ما هي السمات أو المعالم التي تحدد شخصيتنا وسلوكنا. إن موضوع الهوية مرتبط بشكل عضوي برسالتنا. مَا الذي يوجهنا في عملنا وكيف نعمله. إن المهمة الديناميكية لتحديد الهوية والرسالة مطلوبة، على القدر نفسه، من كل من الأفراد الأرثوذكسيين، الرعايا والكنيسة كاملة.

ضروري بشكل خاص أن نكون واضحين في هذه الشؤون المهمة لأن للعالم الحاضر تأثير غامر علينا جميعاً. إن مجتمعنا المتعدد الدهري لا يدعم الوجود المسيحي بأي شكل، إلا من باب ممارسة حق الحرية. في الواقع، العالم المعاصر يقوّض المسيحية عند كل فرصة، فيما في الوقت عينه، بشكل مناقض ظاهرياً، يجوع رجال ونساء كثيرون إلى الله وإلى التعبير الأصيل عن المسيحية. إن تحديد هويتنا بشكل أوضح يزيد من التركيز في رسالتنا ويجعل نجاحنا في شهادتنا أكثر فعاليةً. ونحن نؤمن أن كلمات المسيح ما زالت على القدر عينه من الصحّة في مجتمعنا اليوم: “ارفعوا أعينكم وانظروا الحقول أنها قد ابيضّت للحصاد” (يوحنا 35:4).

لقد حاول البعض تحديد جوهر الأرثوذكسية من خلال عناصر أو أفكار منفردة. في كتاب نُشِر في الألمانية (1957) وتُرجِم لاحقاً إلى الإنكليزية تحت عنوان “الكنيسة الشرقية الأرثوذكسية” (1967)، أدخل اللاهوتي الألماني ارنست بانز القرّاء الغربيين إلى الأرثوذكسية من خلال رمز الأيقونة. العقائدي الأرثوذكسي جون كرميريس وغيره من لاهوتيي القرن العشرين المعروفين حددوا جوهر الأرثوذكسية في دستور الإيمان النيقاوي والمجامع المسكونية السبعة. غيرهم من اللاهوتيين وضع توكيده في أماكن أخرى: الإفخارستيا، فهم الثالوث القدوس، خلقية الحرية، مركزية المحبة، التعليم حول التألّه. أنارت هذه المقاربات أوجه مهمة في الأرثوذكسية. في أي حال، لا يمكن تلافي الاختزالية والهزالة في التركيز الأحادي الجانب على أمور أو جوانب محددة. لقد ثبت أن مهمة إدراك الأرثوذكسية بملئها من الإيمان والحياة، هي مهمة ملائمة لكونها الكنيسة المقدسة الواحدة الجامعة الرسولية.

على الطرف المقابل من الطيف يوجد الذين يدافعون عن “أرثوذكسية مقدسة” مثالية في كل تفاصيلها التاريخية لتقديمها إلى العالم ككلٍ متكامل. بالنسبة لبعض الذين اتّبعوا هذه المقاربة، لا يوجد بالواقع أي مشكلة سوى أن بعض الأرثوذكسيين تنقصهم الغيرة ليتقيدوا بكل تقاليد الكنيسة وقوانينها. في إحدى الزيارات لجبل أثوس، قبل عدة سنوات، التقى الكاتب لوقت قصير مع أحد الشيوخ الرهبان الذين بدا أنه يجهل تماماً قضايا الكنيسة والعائلة في أميركا. لقد كان ميالاً إلى الشك بإمكانية وجود الأرثوذكسية في أميركا، وبقناعة صادقة توصّل إلى نقطة “لماذا لا تترك أميركا، تترك عملك وزوجتك وأولادك وتأتي إلى هنا، إلى الجبل المقدس. هنا بإمكانك أن تجد الأرثوذكسية الحقيقية وترى مجد بيزنطية الباقي”. بالنسبة له، الأرثوذكسية ومجد بيزنطية كانا حقيقة واحدة تعكسها الحضارة الرهبانية في جبل أثوس.

يمكن فهم نظرة هذا الراهب للأرثوذكسية لأنه كان منذ طفولته في جبل أثوس. من ناحية ثانية، لا يمكن تبرير النظرات المماثلة عند بعض الذين يحيون في العالم، بالرغم من أنها قابلة للفهم كرد فعل على العالم المعاصر والخوف من أن الأرثوذكس يفقدون مرساتهم. إن الجهود لإعادة تفعيل “بيزنطية المقدسة” أو “روسيا المقدسة”، أو أحد أشكال الثقافة الرهبانية في الرعية، ليست فقط مستحيلة تاريخياً، بل ولاهوتياً لا يمكن الدفاع عنها. إنهم يجهلون التفاعل بين المسيحية والحضارة عبر الأجيال. إنهم يتجاهلون صراع آباء الكنيسة العظماء مع الهلينية ليجعلوها مسيحية. إنهم ينسون رسالة الكنيسة لتعهد العالم مباشرة كما تعهده السيد نفسه بتجسده وقوله لتلاميذه: “كما أرسلني الآب كذلك أنا أرسلكم” (يوحنا 21:20). في النهاية، خيار “بيزنطية المقدسة” يمزّق وجه الأرثوذكسية الكوني الديناميكي مخضِعاً إياه للتشيّع والتقيد الأعمى بالقوانين والتسلّط والغموض المتعمّد. إنه ينحو نحو تعزيز تدين غير محبٍ طائفي ومتعصبٍ للقشور التي وقفت في وقت ما في وجه المسيح مقاومة إياه مقاومةً مميتة.

نجد رؤية مختلفة في فكر الأب توماس هوبكو، عميد معهد القديس فلاديمير الأرثوذكسي (سابقاً). في مقالة حول الأرثوذكسية والحضارة، يعرض الأب هوبكو بصراحةٍ، تبلغ حد التشاؤم، الأخطار الجسيمة المحدقة بالأرثوذكسية في عالم ما بعد الحداثة. مع ذلك، إنه يشدد على أن رفض التورط في المجتمع المعاصر بالهروب إلى عالم من صنعنا هو عيش في “الأوهام والضلالات”. إن رؤيته لمهمة الأرثوذكسية اليوم هي بوق دعوة إلى العمل. بلُغَّتِه الخاصة التي يصفها في مكان ما بأنها “عنيفة لكن صحيحة”، يدافع الأب توماس عن عدد من الأولويات الملحّة، من الرئيسية بينها:

  • 1) وضع المسيح وإنجيله في مركز اهتماماتنا
  • 2) الافتكار والعمل بروح مجمعية حقيقية بمعزل عن البرامج الضيقة، سواء كأفراد أو رعايا أو كنائس او بطريركيات
  • 3) التخلي عن الكذبة التي مفادها أنه ممكن أن نخدم الحقيقة الكونية للأرثوذكسية فيما نتمسّك بثقافاتنا الإثنية وحتى بأشكال المؤسسات الكنسية الموضوعة سلفاً
  • 4) مقاومة إغراء النظر إلى الأرثوذكسية كإيديولوجية أو إعطائها نوعاً من الوجود المادي بدل المجرّد، من دون ارتباط بالطريقة التي نفكر ونحيا فيها فعلياً
  • 5) وأن نكون منفتحين وحساسين للعالم بحكمة، شاهدين للحق ومتقبلين للنتقاد لأن “حيث يكون الحق يكون المسيح”. إن في نظرة الأب هوبكو تحدٍ وتنوير كما أنها صريحة وشجاعة.

التالي هو عرض لاقتراح حول خمس خصائص أو أبعاد للأرثوذكسية هي في واجهة ارتباط الأرثوذكسية بالمجتمع المعاصر الذي يشكّل فيه الأرثوذكسيون أعضاء كاملين، سواء رغبوا بذلك أم لا. ما أعرضه لا يتعرض مع نظرة الأب هوبكو بل هو طريقة أخرى لطرح القضية واقتراح أرضية للتفكير الإضافي. لقد اخترت تسمية هذه الخصائص “مواهب الأرثوذكسية” وهي، كونها غير منفصلة عن بعضها البعض، تتداخل مشكِّلَةً وحدة متماسكة. إنها المواهب الغالية التي ينبغي تقديمها أولاً للأرثوذكس أنفسهم كوسائل لفهم هوية الأرثوذكسية، وكسُبُل لعيش ملء الإيمان والحياة بفرح. عندها فقط يمكن تقديمها للعالم بطريقة محبة إيجابية عقلية ومقنِعة. أنا أطرح، في كل قضية منها، أسئلة عمّا إذا كنا كأرثوذكس نمارس فعلياً ما نعلمه. هذا ضروري حتى لا نجد أنفسنا ناقصين فيما يبدو أننا نعلّم الآخرين. الموثوقية ليست سوى الحياة وفقاً لما يدّعي الإنسان أنه الحقيقة بحسٍ من الأمانة الحقيقية والناقدة للذات.

الأرثوذكسية، الإيمان الصحيح:

إن أعظم موهبة في الأرثوذكسية هي اقتناعها بأنها الإيمان الصحيح، أي، طريقة إيمان وحياة تمتلك الحق كعطية من الله. في قلب هذا الادّعاء المرعِب يوجد المسيح نفسه القائل: “أنا الطريق والحق والحياة” (يوحنا 6:14). استناداً إلى حقيقة شخص المسيح وعمله الخلاصي، سلّم الرسل وآباء الكنيسة إلى الأرثوذكسيين نظرة، متكاملة وشاملة بشكل مميز، إلى حقيقة الله والإنسان والخليقة والفداء والكنيسة والأخلاق والمجتمع والعائلة والزواج والدعوات وغيرها. هذه النظرة اللاهوتية التي تقاوم كل الطبقيات التعصبية تتقدّم نحو توازن متناسق في قضايا مثل الكتاب المقدس والتقليد، الإيمان والعقل، الرئاسة والمجمعية، الجسد والنفس، الرجل والمرأة، الدين والحضارة، الكنيسة والدولة. بحسب اللاهوت الأرثوذكسي، تشكّل كلّ هذه العناصر أوجهاً لحقيقة الأرثوذكسية الكونية، ينبغي شرحها وتقديمها للعالم بالأعمال والكلمة، بالضبط كهدف حي وحقيقة حية، ومع هذا بمعزل عن الإيمان الأعمى والعقلانية الساذجة. على مثال الآباء الكبادوكيين العظام، القديس باسيليوس والقديس غريغوريوس اللاهوتي والقديس غريغوريوس النيصّي، على الأرثوذكسيين أن يمارسوا الحياة ليس فقط بالإيمان العميق بل وأيضاً بالعقل السليم الذي هو أعلى صفة للإنسان المخلوق على صورة الله ومثاله. بالنسبة للآباء الكبادوكيين، عقولنا هي طريقة للمشاركة في فكر الله. بدون موهبة العقل لا وجود للإرادة الحرة ولا مكان للمسؤولية الأخلاقية ولا اختيار حر للتقدم نحو الله.

يتزايد الوعي اليوم في العالم، بين الباحثين والشخاص العاديين، بأن الأرثوذكسية تحفظ التعبير الأكثر أصالة عن المسيحية التقليدية. المشكلة هي في أن الكثير من الذين يسعون بصدق لا يرون في الأرثوذكس أنفسهم أي دليل لامع ملموس عن هذا التعبير. إن مهمتنا الملحّة هي في دمج الحق والحياة، orthodoxia and orthopraxia. في أي حال، الإيمان الصحيح (orthodoxia) ليس فقط عقيدة صحيحة مسجَّلةً في الفكر كمعلومة لاهوتية. إنه أيضاً روحانية صحيحة، روح مسيحية حقيقية وطريقة تفكير (phronema) تعكس فكر المسيح. الممارسة الصحيحة (orthopraxia) ليست مجرد تطبيق صحيح لقواعد الخدمة الليتورجية. إنها أيضاً، وقبل كل شيء، طريقة حياة صحيحة (bioma) بحسب المسيح. يكتب القديس باسيليوس “إن معيار (kanon) المسيحية هو تقليد المسيح (mimesis Chrestou)”. هل نحن نعيش ونشجّع مركزية المسيح والكتاب المقدس؟ هل نطبّق الحقائق الأرثوذكسية في وجودنا الشخصي كأساقفة وكهنة وعلمانيين، أم أننا نكتفي بالادّعاءات الانتصارية فيما نحن ننكرها بالممارسة؟ هل نحن نتحوّل ونتحرّر بمعرفة هذه الحقائق وممارستها لكي نتشارك بها، أم أننا سريعين في الإدانة وفي إظهار الازدراء بالآخرين؟ في تقليد المسيح الذي أتى ليخلّص لا ليدين، علينا أن نتمتّع بكل عناصر الحق لكي يمتلكها الآخرون فنقدّم لهم ملء الإيمان والحياة باسم المسيح. الحق بذاته هو القوة الأكثر فعالية في مجتمع حر ومفتوح. إن تقديم الحقيقة، بالكلمة والعمل، يحدد قابلية الأرثوذكسية للحياة ونجاحها في رسالتها.

الأرثوذكسية، الكنيسة الحقيقية:

الموهبة الملازمة بشدة للأرثوذكسية هي تجسيدها في جماعة تاريخية هي الكنيسة الحقيقية الواحدة المقدسة الجامعة الرسولية، الممثَّلَة في عائلة الكنائس الأرثوذكسية في العالم. الكنيسة هي جسد المسيح وهي تتمحور بشكل كامل حول المسيح والإنجيل، مغذية إيمانها وحياتها المشترَكين من الروح عبر الأسرار والإعلان والتعليم والممارسة والشهادة. إن وحدتها مثبتة في الإيمان والحياة المشتركين وليس بالمؤسسات العالمية التي يديرها مركز واحد. إنها كنيسة ترفض سيطرة الإكليروس (clericalism) واستقلالية الشعب (congregationalism) معاً، ترعاها تراتبية كهنوتية تحددها المجمعية والنظام المجمعي. تحيا الكنيسة بتكافل مواهب ومقدرات الإكليروس والشعب الذين يشكّلون معاً شعب الله قائمين جميعاً حماةً للإيمان. كعائلة من الكنائس، تتقبّل الكنيسة الأرثوذكسية في كل الكون كل الأمم على أساس كنيسة واحدة في منطقة واحدة، من دون أن تستعبدهم أو تمنعهم من الاحتفاظ بثقافاتهم والتحكم بحياتهم. يوجد اليوم خمس عشرة كنيسة أرثوذكسية مستقلّة في العالم. وقد يكون هناك خمسون أو مئة طالما أنها متحدة تجاهد معاً نحو ملء الإيمان والحياة في الله.

مرة أخرى، إن التحدي الذي يواجهه الأرثوذكس هو دمج النظرية والتطبيق في الإكليسيولوجيا، من جهة متجنبين روحية المؤسساتية والتسلّط والحزبية، ومن جهة أخرى مظهِرين أن الكنيسة هي بالفعل الجماعة المخلَّصة شهادةً للخليقة الجديدة بالمسيح صورةً للوحدة في المحبة التي أعطاها الله للعالم. إن كنوزنا الحضارية والإثنية تتقدّم بالعمل الملهَم، وليس بالخطابة أو بالمجادلة مع مَن يبدون أصحاب فكر أقلّ إثنية. بحسب القديس بولس، علينا أن نرحّب بالجميع في الكنيسة إذ ليس من يهودي ولا يوناني ولا بربري ولا عبد في جسد المسيح. كلنا نملك القوة والإبداعية للتعاون وتأسيس طرق فعّالة لتخليد تقاليدنا العرقية فيما نسمح للكنيسة لأن تركّز على خلاص النفوس وإظهار جامعيتها. نحن نملك الحكمة والصبر في المسيح لنناقش موضوع وحدة السلطة بطريقة معاصرة مناسبة. نحن نريد أن نرعى الحرية الفردية والكرامة والعدالة في الكنيسة لأنه، فيما الكنيسة ليست ديموقراطية، لكنّها أكثر من الديموقراطية بكثير وليست أقل من ذلك. إن الكنيسة هي جماعة محِبّة من الإخوة والأخوات المستعدين لتقديم حياتهم من أجل بعضهم البعض.

الأرثوذكسية، العبادة الصحيحة:

لأن العبادة هي تعبير أولي عن الحياة الأرثوذكسية، فعبارة “أرثوذكسية” غالباً ما تفسَّر “التمجيد الصحيح” و”العبادة الصحيحة”. إن جوهر العبادة هو تمجيد الإله الثالوثي المستحق كل تسبيح وشكر في عظمته وصلاحه وعمله الخلاصي. إن الليتورجيا الإلهية، جوهرة العبادة الأرثوذكسية، هي احتفال بعمل المسيح الخلاصي ومهرجان للخليقة الجديدة في الروح واستقبال مفرِح لبركات ملكوت الله. لقد عاشت الكنيسة الأرثوذكسية وازدهرت عبر العصور بالدرجة الأولى بسبب عظمة عبادتها المقدسة وقدرتها الروحية. لقد لاحظ أحد الباحثين أنّه فيما تحاول المسيحية الغربية أن تفهم الله وتحلله، تسعى المسيحية الشرقية إلى تمجيد سرّه وتوقيره. لقد اعتنق الأرثوذكسية أعداد لا تُحصى من المتحوّلين عن الطوائف الأخرى، بسبب الجمال والسمو والقداسة التي اختبروها في الأرثوذكسية كعبادة حقيقية.

إن التحدي هنا، بحسب تعليم المسيح، هو تعزيز العبادة “بالروح والحق” (يوحنا 23:4-24)، العبادة كصلاة جماعية حارة، كحدث مغيِّر روحياً، وليست مجرد أداء خارجي للشعائر. إن التعقيد في طقوس العبادة وغنى الترانيم وصعوبات اللغة كلّها تعوق، عن غير قصد، مشاركة الجماعة بالصوت والنفس. إن جزءً كبيراً من التراتيل والخدَم الموسمية لا يسمعها الكثيرون من المؤمنين، وعندما يسمعونها لا يفهمونها. إن ضرورة الاتّكال على المرتلين والجوقات غالباً ما تضع المصلّين في موضع المتفرّجين والمراقبين. هناك حاجة لعمل كثير في التعليم الليتورجي. علينا أن نعلّم احدنا الآخر كيف نصلي. علينا أن نشجّع التزام الرعية الفعّال في العبادة وأن نصل إلى تقدير الخدم الليتورجية بشكل أعمق لا كطقوس جميلة بل كصلوات نابضة بالحياة لكل الجماعة. إن موهبة العبادة الصحيحة تتفعّل عندما يخرج الأرثوذكس من الصلاة مثل “أسُود ينفثون النار” مستعدين لعَمَل الله في العالم، على حد تعبير القديس يوحنا الذهبي الفم.

الأرثوذكسية، الحياة الحقيقية:

علّم القديس إيرينيوس أن مجد الله هو شخص زاخر بالحياة وبأن الحياة الحقيقية هي اختبار الله. “إذا كنت أحب الرب، كيف لي أن أترك ولو ظلاً من الشر في قلبي؟” تساءل القديس يوحنا كرونشتادت. أوصى المسيح بأن نحب أحدنا الآخر كما أحبّنا هو. لقد وعد بأننا إذا أطعنا تعليمه يأتي هو والآب ليسكنوا في قلوبنا بقوة الروح. يعلّم القديس اسحق السرياني بأن الجحيم لم يخلقها الله بل خلائقه برفضهم لمحبته، وبأن الله يحب الذين في الجحيم بالقدر عينه ولكن محبته غير فاعلة حيث هي مرفوضة. تشهد الأرثوذكسية كحياة حقيقية للتعاليم الأكثر جمالاً وسمواً الجديرة بروح المسيح. فيما نحن مدعوون إلى الجهاد النسكي ضد كل الشرور الشخصية والاجتماعية والكونية، علينا برغم ذلك أن نتّكل على نعمة الله المخلِّصة وقوته. فيما نحن مدعوون للطاعة، نحن نمارسها يروح محبة المسيح والحق والبِر. إذ نحن مدعوون إلى التألّه، نعرف أن الطريق إليه هي بخدمة الأصغر من الإخوة والأخوات بصلاة حارة وعمل متواضع.

إن التحدي هو في تحقيق ما يسميه القديسون الخبرة الشخصية مع المسيح مثبّتَة بالمحبة والتواضع في مواجهة مخاطر الدهرية والإسمية والاكتفائية والرياء. الدهرية هي عبادة آلهة هذا العالم مضافة إلى لامبالاة لا بل عدائية للإله الحقيقي. الاكتفائية هي المسيحية الفاترة بما يناسب راحتنا واهتماماتنا الذاتية. الإسمية هي أن تكون مسيحياً بالإسم فقط، خدعة هائلة. الرياء هو التديّن بدون روح، التعلّق الفريسي بالأشكال الخارجية مع إنكار لجوهر الإيمان الداخلي. يكتب القديس سمعان اللاهوتي الحديث أن كل الجهود التي لا تبلغ المحبة بروح منسحق من الندامة هي تفاهة. إن التحدي هو في تحويل الحياة الدهرية إلى حياة روحية والإيمان الشكلي إلى إيمان حي والغيرة الدينية إلى محبة إلهية بنعمة الله.

الأرثوذكسية، الشهادة الصحيحة:

لقد قال أحدهم: “لا يمكن فرض الإيمان على أي كان لأن الإيمان ينبغي أن يُعطى بحرية وأن يُعتَنَق بحرية. لكن الإيمان لن يُقبَل بسهولة إن لم تُرَ الحياة الجديدة أو تُسمَع”. لا يمكن للأرثوذكسية أن تنجح في تعليم المحبة والبِر والعدالة والوحدة والسلام للآخرين من دون شهادة مقنِعة عن هذه الحقائق في حضنها. إن كلمات المسيح تدوي: “أنتم نور العالم… فليضئ نوركم قدام الناس حتى يروا أعمالكم الحسنة ويمجّدوا أباكم الذي في السماوات” (متى 14:5-16). إن عند الأرثوذكسية موهبة الشهادة الصحيحة. إنها تعلن المسيح والإنجيل بملئه، تعطي مجاناً مما أُعطيَت مجاناً، ومن دون إكراه وتلاعب وخداع. تتبع الأرثوذكسية مقاربة تجسدية للعالم مظهرة محبة عميقة واحتراماً لكل الناس في أطرهم الحضارية وجهلهم وحتى في خطيئتهم. إن غرضها الأعمق هو ترك الحقيقة تتكلّم لنفسها وتشد الناس إلى المسيح وليس فقط إلى “الأرثوذكسية” كإيديولوجية قائمة بنفسها أو كديانة ذات ظواهر غريبة.

إن التحدي الذي يواجه الأرثوذكس هو في استعادة أقوى للروح الإنجيلية بالتوبة الحقيقية والصلاة الحارة والتجدد الروحي. إن الروح الإنجيلية مضاءةً بنعمة الله هي الطاقة الحيوية خلف أعمال الخدمة التي تقوم بها الكنيسة. علينا أن نخطط ونحدد الأهداف في ضوء المسيح والإنجيل. علينا أن نلتقي في صالات الاجتماعات والمؤتمرات بحضور الروح القدس وكأننا في الليتورجيا. علينا أن نواجه أمور القيادة والتربية والإدارة بعيون الله. علينا أن نخرج من اجتماعات لجاننا ولقاءاتنا الليتورجية متحوّلين ومستعدين لمشاركة أكبر في الأرثوذكسية كملء الإيمان والحياة. الأرثوذكسية هي تحقيق كل الأمور لكي بها يتألّق مجد الله في كل الخليقة. إن تقليد الأرثوذكسية الحي مبدِع ومحرِّر وليس فقط وقائياً وحافظاً. إن رسالة الأرثوذكسية هي رسالة محبة وفرح وجود، لا علاقة لها بالدفاعية والهزالة وتبرير النفس والعدائية والسلبية نحو الآخرين. في احترامنا للمعتقدات والأديان الأخرى، وفي كوننا لطفاء مع كل الناس وخلفياتهم، نحن نشهد لملء سر المسيح المتألّق في مواهب الأرثوذكسية لمجد الآب والابن والروح القدس.

المدخل إلى كتاب “الإنجيل، الروحانية والتجدد في الأرثوذكسية”
الأب ثيودور ستيليانوبولوس
نقلها إلى العربية الأب أنطوان ملكي
عن مجلة التراث الأرثوذكسي

arArabic
انتقل إلى أعلى