الافتخار بالصليب

يحتل الصليب في فكر القديس بولس الرسول ولاهوته مكانه مميّزة. فهو يدافع بشراسة عن الصليب معتبرا أن مصير أعداء الصليب إلى “الهلاك” (فيلبي 3: 19). هنا، يساوي بولس بين المسيح وصليب المسيح، فلا يستطيع الإنسان أن يكون مع المسيح ويرفض في الوقت ذاته الصليب. لهذا يذكّر الرسول أهل كورنثوس في رسالته الأولى إليهم بأنه بشّرهم بيسوع المسيح “وإيّاه مصلوبا” (2: 2 و 1: 23).

ثمة نشيد هام في رسالة القديس بولس إلى أهل فيلبي (2: 6 – 11)، وهو نشيد كان منتشرا في زمن بشارة الرسول الذي أضاف إليه فكرتين أساسيتين مترابطتين، وهما فكرة إخلاء الذات والعبد وفكرة موت الصليب: “لكنه أخلى ذاته آخذا صورة عبد صائرّا في شبه البشر وموجودا كبشر في الهيئة. فوضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب” (الآيتان 7و8). يبدو هنا أن الهدف الأساسي لتسجد المسيح وصيرورته إنسانا إنما هو الموت على الصليب. أما فكرة أن يسوع صار عبدا فهي أساسية أيضا لأن العبد وحده يُصلب في الإمبراطورية الرومانية، بالإضافة إلى الإشارة إلى صورة رجل الأوجاع وعبد الله المأخوذة من إشعياء النبي (الفصل 53). استعمل الرسول بولس هذا النشيد ليحث أهل فيلبي – ونحن أيضا من خلالهم – على أن يذهبوا بإتضاعهم حتى موت الصليب. والرسول نفسه عانى الآلام والأوجاع والضيقات في حياته ورسالته وبشارته وعرف عمليّا أن لا قيامة ولا تمجيد من دون المرور على الصليب.

يحدد الرسول بولس جوهر الإيمان المسيحي في المشاركة في موت المسيح على الصليب وقيامته. فهو يكتب إلى أهل غلاطية قائلا: “لأني بالناموس متَ للناموس لكي أحيا لله. صُلبت مع المسيح وأنا حيّ لا أنا بل إنما المسيح حيّ فيّ وما لي من الحياة في الجسد أنا حي به في الإيمان بابن الله الذي أحبني وبذل نفسه لأجلي” (19 – 20). الفكرة الرئيسة في هاتين الآيتين هي موت المسيحي وحياته من خلال اشتراكه في موت المسيح وقيامته. فالحياة في المسيح هي نتيجة فاعلية القيامة وهذا لا يتم إلا بالاشتراك في صليب المسيح، من خلال صلب الأنا عند المسيحي. في مكان آخر يستعمل الرسول بولس الصورة ذاتها ليتحدث عن المعودية التي ليست سوى المشاركة في موت المسيح على الصليب وقيامته ،فيقول:” فإنا نعلم أن إنساننا العتيق قد صُلب معه لكي يتلف جسم الخطيئة حتى لا نعود نُستعبد للخطيئة… فإن كنا قد متنا مع المسيح نؤمن أننا سنحيا أيضا معه ” ( رومية 6: 6-8 ).

ثم يقول الرسول بولس إن “المسيح افتدانا من لعنة الناموس إذ صار لعنة لأجلنا لأنه مكتوب ملعون كل من علّق على خشبة” ( غلاطية 3: 13 ). يأتي هذا الكلام في سياق كلام الرسول على ضرورة الفصل جذريا بين الناموس والإيمان، واستبعاد الناموس كوسيلة أو طريقة للخلاص، إذ يبين الرسول أنه “ليس أحد يتبرر بالناموس لدى الله” ( 3: 11 ). حين استعمل الرسول فعل الفداء “افتدانا” أراد أن يشير إلى أن كل البشرية كانت مستعبَدة. فاليهود كانوا تحت ” لعنة الناموس” ( 3:10 )، أما الأمميون فكانوا تحت نير عبودية العالم، والحالتان متشابهتان. بهذه المقابلة ابتغى الرسول أن يبشر بالحدث الخلاصي الذي أتمه يسوع على الصليب ليفتدي كل العالم وليس اليهود وحدهم. من هنا هدف الرسول بولس الرئيس هو البرهان أننا أصبحنا بالمسيح أحرارا لأنه هو نفسه من حررنا.

في خاتمة رسالته إلى أهل غلاطية يكتب إليهم الرسول “بخط يده”، وهذه للإشارة إلى أهمية ما يريد كتابته. يقابل الرسول في هذه الخاتمة بين ما يعتبره ” افتخار في الجسد” ( 6: 13 ).وبين ما هو افتخار حقيقي أي افتخار في صليب المسيح ( 6: 14). يفضل الرسول ألا يفتخر المرء ولكن إذا كان لا بدّ من الافتخار فهو يكون فقط بصليب ربنا يسوع المسيح. كان اليهودي يفتخر إذا طبّق ما هو وارد في الناموس، وكان الأممي يفتخر بفلسفته وفكره. أما الرسول فلا يريد أن يفتخر إلا بما اعتبره اليهود عثرة لإيمانهم وبما اعتبره الأمميون جهالة أي ” بصليب ربنا يسوع المسيح “. لذلك فإن الافتخار بالصليب والضعف وصارت أعمالنا ثمرا للروح لأن ” الذين للمسيح صلبوا أجسادهم مع الآلام والشهوات “( غلاطية 5: 24 ).

مفهوم الافتخار الصحيح والحقيقي لا يكون إلا في ” الخليقة الجديدة ” حيث لا يعود ” الختان ينفع شيئا وكذلك القلف” ( غلاطية 6: 15 ). أي حين تزول كل المفاهيم القديمة – أكانت دينية أو اجتماعية أو عائلية قبائلية موروثة – لتحل محلها المفاهيم الجديدة التي في ” الخليقة الجديدة” حيث يتّحد المسيحي بالمسيح باشتراكه في صليبه، فيقبل أن يصير هو أيضا ملعونا كمعلمه. ” ليس العبد أفضل من سيده “.

عن نشرة رعيتي 1999

arArabic
انتقل إلى أعلى