الرعاية في الكتاب المقدس وعند الآباء

إن أغنى وأجمل الصور المعبِّرة عن العهد الذي أقامه الله مع شعبه في العهد القديم، وقد كرّره الربّ يسوع في العهد الجديد، هي صورة الراعي الذي يقود شعبه. وهذه الاستعارة متأصلة في جذورها في خبرة رؤساء آباء إسرائيل، الذين عاشوا في إطار حضارة الرعاة(تك2:4). لقد كان طبيعياً أن يكلم الله شعبه بلغته الخاصة وبصوره المتجذّرة في حياته اليومية. لذلك وللسبب ذاته نجد أن استعارة “الصياد” تضاف إلى صورة “الراعي” في العهد الجديد. فالتلاميذ الصيادون في العهد الجديد يصيرون صيادي الناس. والرعاة للأغنام في العهد القديم يصيرون رعاةً للأغنام الناطقة.

وتعددت الصور حول “الراعي”، فهو الذي يدافع عن قطيعه (صم34:17-37، مت11:10) وهو من يحمل الخروف الضال على منكبيه (أشعياء11:40). ولكن هل استطاع كل الرعاة تحقيق هذه الصورة؟ بالطبع لا. لذلك لم يفتأ الكتاب يميّز بين الرعاة الصالحين وغير الصالحين. وفي هذا السياق، صرخ يسوع:”أنا هو الراعي الصالح”، تمييزاً عن الرعاة المزيفين. هذا التمييز نرى جذوره عند حزقيال النبي: ” أيها الرعاة اسمعوا كلام الرب. هكذا قال الرب ها أنذا على الرعاة وأطلب غنمي من يدهم… ها أنذا أسأل عن غنمي وأربضها، يقول الرب”(34: 10-16).

وكتاب المزامير بشعره وموسيقاه يترنم بأجمل الصور عن رعاية الله لشعبه (مز 71:57-72 و13:58 و2:59). وما أجمل المزمور 22:”الرب يرعاني فلا يعوزني شيء، في مراعٍ خضرٍ يربضني، وإلى مياه الراحة يوردني… إني ولو سلكتُ في وادي وظلال الموت لست أخشى سوءاً لأنك أنت معي، عصاك وعكازك هما يعزياني…”. هكذا كان الرئيس في شعب الله في العهد القديم يحظى بلقب الراعي. وكان يُطلب منه ان يكون كذلك. وكان الله ينتظر فيه ذلك.

في العهد الجديد، يرحب الرعاة بولادة المسيح “الراعي الصالح” في حظيرتهم. إنه يسوع الذي يعلن في رسالته أنه يطلب الخروف الضال (لو4:15-7) وأنه أُرسل إلى الخراف الضالة (مت24:15) وينادي تلاميذه القلائل “لا تخف أيها القطيع الصغير(لو32:12) ويحاول أن يحمي حملانه من الذئاب الخاطفة (مت15:7-16،رو36:8). نعم إن الشعب سيتبدّد بسبب خطاياه. ولكن سيجمعه الراعي المطعون في جليل الأمم(مت31:26-32 ،زك7:13-9). إنه الراعي الذي سيفصل الأغنام عن الجداء(مت31:25-32). وهو، كما يلقبه بولس الرسول، “راعي الخراف العظيم”(عب20:13) و”راعي الرعاة” بحسب بطرس الرسول (1بط 4:5) الذي بجراحه شُفينا(1بط24:2-25). وينتهي سفر الرؤيا ليجعل هذا الراعي نفسه خروفاً وحملاً جريحاً يقود إلى مياه الحياة (رؤ17:7).

لكن يبقى استخدام يسوع لكلمة “أنا هو الراعي الصالح” النص الأهم في العهد الجديد الذي يتناول موضوع العهد كرعاية(يو 10). والملاحظ هنا أن يسوع يضيف، لا بل يمزج هذه الصورة، مع استعارة “الباب”. إن استخدام يسوع لهاتين الصورتين معاً، الراعي والباب، كان السبيل لإيضاح أن الرعاية الحقيقية الصالحة تمرّ به. فهو “باب الخراف”، والرعية والراعي اللذان يدخلان ويخرجان من غير هذا الباب ليست خرافه التي تعرف صوته، يتقدمها وهي تتبعه. وهذا الأساس هو المنطلق العميق للرعاية، وهذا ما يسميه أدبنا المسيحي “مركزية” المسيح في دائرة أعمالنا. فالمسيح هو الأداة وهو الغاية، هو الألف وهو الياء، هو البداية في الرعاية وهو النهاية المبتغاة منها. إن هذا النص، يوحنا 10، يُعتبر لربما الانطلاقة لتأسيس الكنيسة. إن يسوع أسّس رعيته، ولكنه أيضاً اختار فيها “رعاة” يريدهم على صورته ومتمثلين به.

وقد يكون من الضروري هنا توضيح معنى كلمة “الأغنام الناطقة”، والتي لا تعطي الترجمة العربية بُعدها الحقيقي. في عالم رعاية الأغنام، يرفع الله رعاة لأغنامه- الناطقة. وفي عالم الصيادين يجعل السيد رسله صيادي –الناس. وكما الفرق هو كبير بين الصياد وصياد الناس كذلك هو الأمر بين الراعي وراعي الأغنام الناطقة. إن معنى كلمة “ناطقة” هنا لا يقتصر على قدرة الكلام والنطق! إنما بمدلولها الأساسي باللغة الأصلية تعني العقلانية، بمعنى أنه أُعطي لها أن تفكر ولها الحرية في كل موقف.

إنه لمن الملفت للنظر، عندما لم يكن بعد للمسيحيين من الفنّ الكنسي إلا بعض الرموز كالصليب والسمكة، وقبل تطور فنّ الأيقونة، بسبب ظروفهم تحت الاضطهاد في القرون الأولى، نجد أن صورة الراعي الصالح قد دخلت إلى الرسم الكنسي في ذلك الوقت المبكر جداً. فنجد في الدياميس المسيحية نحوتاً ورسوماً تصور المسيح وخلفه صليبه وعلى منكبيه خروفه الضال. وهذا يعبّر عن مقدار تعلّق المسيحيين بصورة المسيح هذه، “الراعي”، وبمعنى الرعاية.

وعن المسيح استلم الرسل هذه الطريقة في فهم وممارسة الرعاية. هكذا يجثو بولس الرسول على ركبتَيه مودّعاً الرعاة في أفسس وقائلاً: “احترزوا إذن لأنفسكم ولجميع الرعية التي أقامكم الروح القدس فيها أساقفة لترعوا كنيسة الله التي اقتناها بدمه”. وبهذه المسؤولية بُني تقليدنا. وشكل آباؤنا القديسون الأمثلةَ الحية لذلك عبر تاريخ المسيحية…

الرعاية عند الآباء

لا نجد عند الآباء نصوصاً متخصّصة في موضوع الرعاية، كما ننتظر. وذلك لأن الرعاية ليست “موضوعاً” من مواضيع اللاهوت. وإنما هي غاية كل المواضيع لا تندرج الرعاية بين الفضائل أو العقائد. وإنما غاية تحديد العقائد وشرح الكتاب والتشديد على عيش الفضائل هي الوصول إلى “الرعاية الصالحة”. فالرعاية ليست ناحية من نواحي التأليف أو التفسير، إنما غاية كل فكر وهدف كل نشاط. لربما من الأفضل، عندما نريد التكلم عن الرعاية عند الآباء، أن ندرس حياتهم وليس كتاباتهم. لا يخلو الأمر مرات عديدة عند الآباء، عندما كانوا يتطرقون إلى الآيات المعينة في الكتاب، أو بمناسبات أخرى عندما يتناولون مواضيع كالكهنوت، أنهم عالجوا موضوعاً في الرعاية. فنجد مثلاً الذهبي الفم في كتابه “في الكهنوت” يتطرق إلى ما يحتاجه الكاهن من دراية من أجل الرعاية، واصفاً الرعاية الصالحة وراعيها الصالح. كذلك غريغوريوس اللاهوتي، عندما “فرّ” من هذه المسؤولية الجمّة، كتب مؤلفاً يدافع به عن ذاته. فيبرّر هروبه هذا من الرعاية لسبب واحد هو عِظم هذه المسؤولية، والأهلية المطلوبة في الراعي، التي، لشدّة تواضعه، لم يجد نفسه مستحقاً لها. ولكن بذلك كتب لنا أجمل ما تركه الأدب المسيحي عن الراعي والرعاية، كتابه “في الهروب”! لدينا كتب مماثلة: “في الاهتمام الرعوي” للقديس غريغوريوس الكبير، و”في واجبات الخدام- الكهنة” للقديس أمبروسيوس.

فعند باسيليوس الكبير، يقود الراعي خرافه إلى المراعي الخصبة ويحافظ عليها. وهناك تمييز واضح بين الراعي الذي يبذل ذاته من أجل خرافه والراعي الأجير الذي يطلب فيها ما لذاته. لقد كان باسيليوس من أهم الشخصيات المسيحية التي قادت شعب الله في التعليم وفي التنظيم. تشكل مؤلفاته الغزيرة والعميقة صورة عن عطائه التعليمي، وتعطي الأديار والمراكز الاجتماعية التي أسّسها الصورة المكمّلة لرعايته. فهو منظّم مرجعي في الحياة الرهبانية، واهتماماته بذوي الحاجات في الرعية تشكل أيضاً مرجعية مسيحية هامة عبر التاريخ.

وعند الذهبي الفم، يشكّل بولس الرسول المثل الأعلى للراعي على مثال المسيح. إنه الراعي الأب. وعلى الراعي أن ينتبه لذاته وللرعية. وهو من يبذل ذاته، لكي لا يكون ذئباً خاطفاً في لباس الراعي. رعاةٌ كهؤلاء هم ضمانة الرعية. إن الراعي الذي يحب الربّ يسوع سوف يحب حقيقة رعيته. حب يسوع هو الباب الحقيقي لمحبة الرعية، لأنه، كما قال يسوع لبطرس، إن كنت تحبني ارعَ حملاني.

يقرأ الذهبي الفمّ الرعاية في الكتاب المقدس ليس من النصوص بقدر ما يعرض الأشخاص وحياتهم كمثل وتفسير وتعليم عنها. إن بولس وموسى وداود وبطرس وإيليا هي الأمثلة الحية التي تعلّم وتفسر معنى الرعاية.

إن سلطة الراعي، كما في تلك الأمثلة، تأتي من محبته لرعيته ومقدار بذله لأجلها. عندما كانت انطاكية مدينة تعدّ عشرات الآلاف من الناس كان لدى الذهبي الفمّ 3000 ثلاثة آلاف أرملة في رعاية الكنيسة. ولا تخلو أية عظة، تقريباً على الإطلاق، في مجمل عظاته، من الحثّ اللجوج على الإحسان. والشهير عنه أنه عندما دخل البطريركية في القسطنطينية باع أولاً نفائسها ووزعها على الفقراء. ولربما يعتبر الذهبي الفمّ من الأوائل الذين أرسلوا بشكل منظم رحلات تبشيرية. إن اهتمامه بالكهنة بشكل مميّز كان السبب لصراع قوي بينه وبين البعض منهم الذين لم يحملوا الرسالة الرعوية بأمانة. وهناك الكثير مما يمكن قوله عن “رعاية” الذهبي الفمّ. ألم يقل فيه البحاث أنه أراد أن يجعل من أنطاكية “مثلاً” حياً عن المدينة المسيحية الفاضلة مقابل كتاب أفلاطون في ذلك. وهذه هي الرعاية…

يرى القديس غريغوريوس اللاهوتي أن غاية الرعاية هي “الاهتمام بالإنسان الداخلي الخفي”. فالراعي هو القادر على أن يقرأ ويخاطب النفس البشرية والإنسان في داخله، الذي غالباً ما يجهله الإنسان ذاته. إنه من يعالج الإنسان في أهوائه ويحاكيه في تطهير ميوله الباطنية. إن غاية الرعاية هي “رفع النفس” من الدنيويات إلى عشق الإلهيات. الرعاية هي حفظ صورة الله في الإنسان والسير به على مثاله: إنها الوصول بالإنسان إلى تحقيق غايته التي خلق من أجلها. وبكلمة أخرى، إن الرعاية هي النمو بهذا الكائن الحي إلى ملء قامة المسيح أي “مسحنته”.

لذلك لا تشكل بعض الآيات المقتطعة من الكتاب المقدس المنطلق الجوهري في الرعاية. وإنما الحدث الفصل في موضوع الرعاية هو “التجسّد”. فالمسيح هو “ماء الراحة” الذي سيقود الراعي قطيعه الناطق إليه. لولا تجسّد المسيح لكان الرعاة تائهين في برية لا ماء فيها ولا واحة. دون تجسّد المسيح يبقى “مربض” الرعية غير محدد. وتبقى الصورة التي يجب أن يصير إليها كل شخص من الرعية غير واضحة أو معينة. لقد “تأنّس الإله ليتأله الإنسان” بحسب القديس أثناسيوس الكبير. إن الرعاية هي عملية “تجلّي” الإنسان كما تجلّى الربّ، “تأليه الإنسان بالنعمة”. ليست الرعاية إذن مسألة تقتصر على تعليم بعض الفضائل وحسب، إنها إذن “فن الفنون”!

الراعي

من الواضح أن الراعي في الأدب الآبائي هو أشبه بالطبيب منه بالمعلم! لا بل وأكثر إنه المثال والوالد الذي تكمن قوته في طهارة حياته. إنه الأب الذي تتميز حياته بالحب الديناميكي لله والإنسان، وليس فيه استاتيكية “المهنة” أو “الأجير”. إنه من يبذل نفسه باستمرار وليس مرة وحسب. إنه من يهرق ذاته على الدوام.

الراعي، بالنسبة للقديس غريغوريوس اللاهوتي، هو كطير البلق يجرح نفسه ليُطعم من دمه صغاره. إنه الكاهن الذي ليس من يقدم عن الشعب قرابين فحسب، إنما هو من “يدخل إلى ما وراء الحجاب في الأسرار الإلهية ثم يخرج إلى الشعب ليعطيه كشوفات النعمة وما نطق له الروح”. الأساسي في الراعي هو أن يميّز بين الشكل والمضمون، بين الأداة والغاية، بين الحرف والروح. يمتلك الراعي الحنان وهو قادر على “إفراغ ذاته”. الراعي بالنسبة للقديس غريغوريوس هو من اتّحد بالله على الدوام فيقود شعبه كموسى. لم يستطع موسى، عندما كان يهودياً غيوراً يحلم بأحلام شعبه ويؤمن بإيمانهم ويشتهي وحدتهم، أن يفصل بحكمة بين يهوديَّين متخاصمَين، وإنما فرّ بعد خلافهما من وجه فرعون. لكنه “لما انحجب في الغمام الإلهي وعاين الموجود وحاز معرفة الروح” –وبعبارتنا اللاهوتية اتحد بالله- نزل ووجهه كالنور واستطاع أن يقود شعباً قاسياً بجملته. إن سلطة، أي أداة، الراعي الوحيدة هي اتحاده بالله، وطهارته واستنارته. عدا ذلك يبقى الراعي حالة من الأمثلة العديدة التي رفضها الربّ يسوع، وتنطبق بعدها على الرعية كلمات يسوع القديمة عينها: “كأغنام لا راعٍ لها”.

يلعب الراعي دور الشفيع، كموسى، أمام الله. وهو قائد للشعب في التاريخ، أي يسير بالرعية إلى أرض الميعاد – ملكوت الله. أي يعيد فيها الترتيب الحقيقي للأمور، وهو غلبة الروح على المادة في الحياة، الغلبة التي يحمل هو خبرتها.

يجب أن يكون الراعي متعدّد المواهب وواسع المعرفة؛ ولكن بالوقت ذاته بسيط الشخصية. فالعلم ينفخ والروح يُحيي. إن المعرفة الروحية غير المعارف العلمية. المعرفة الروحية تقود إلى التواضع، وتساهم المعارف العلمية والفكرية في تكوين المعرفة الروحية (الحكمة) وهي بمثابة إحدى الأدوات في عمله الرعائي. وبها يستطيع أن يجذب أكثر” نفوس الرعية”.

إن الرعاية تقوم على الإقناع وليس على الإكراه. وهذه تحتاج بالعمق إلى الخبرة الشخصية. إن رفع النفس إلى مستواها الروحي المطلوب هي خطوات عديدة خطاها الراعي مع ذاته مسبقاً. لم يولد أي إنسان روحياً! يولد كل إنسان جسدانياً يحمل في داخله الصورة الإلهية، أي عطشه إلى شخصيته الروحية. والراعي هو من اجتاز هذه العتبات وعرف بخبرته الذاتية الطريق إلى حرية أبناء الله، فيقود بمعرفةٍ أبناءَه المتدرّجين إلى اختبار المزيد كل حين من المحبة الإلهية والنعمة، وبحسب القديس غريغوريوس اللاهوتي، فإنه “يُقرن النفس بالمسيح”، وهو الواسطة التي تُحيي عرس النفس بالمسيح. لذلك إن طبيعة العمل الرعوي هو إقامة العلاقة الشخصية مع الرعية لكي تقود كل عضوٍ فيها إلى عرسه الحقيقي الإلهي.

راعٍ ورعية

إذا كان يسوع قد حدّد اثني عشر تلميذاً وأرسلهم معلمين “وأعطاهم سلطاناً أن يُربط ما يربطونه ويُحلّ في السماء ما يحلّونه هم على الأرض”، فهذا يعني موهبة مميزة بين مواهب عديدة في الكنيسة، ولكن لا يعني تمييزاً في المسؤولية أو في الكرامة. فهذا “التمييز” – إذا صحّ التعبير- ليس ارستقراطياً. لأن العلاقة بين الراعي وكل فرد في الرعية تقوم على أساس الحب الأبوي والثقة البنوية. ونجاح الرعاية “كطبابة وشفاء” تحتاج لانفتاح الأول ومحبة الثاني، أي إلى التعاضد المتبادل. ليس هناك فوقية “اكليريكية” وإنما اجتماع كل المواهب “لبنيان جسد المسيح الواحد”.

إذا كنا نتطلب في الراعي نخبة من الفضائل فهذا لا يعني أبداً أننا نشكل “فئة نخبوية” تجاه “فئة ضعيفة”. فلا يمكن للفضائل عندما تجتمع أن تبني “التعالي” وإنما تصير بالعمق الوسيلة الوحيدة “للتواصل”. المثُل العليا غير التعالي. الراعي هو صديق العريس (المسيح) يفرح بقران كل نفس مع ختنها السماوي.

إذا كان هناك من “نخبة” فهي تتحدّد فيمن يجهلون حقيقتها فيهم. إن من يظن أنه من النخبة يبرهن أنه فاسد. النخبة هي الملح الذي لا يريد لذاته كرامة ولكنه يعطي لكل شيء طعماً. إنه المادة التي لا تظهر ولا ترى ذاتها بل تبذلها ليكون لكل آخر وجود. إن من يعي أنه “نخبة” في أي مستوى من مجالات الرعاية يجهل أنه بالواقع يدّعيها وهو خاسرها.

الذهبي الفمّ يعرّي هذا الخطر والسرطان الخفي الذي سماه يسوع “فريسية”، تلك التي يمكن أن تجعل كل راعٍ بالعمق عقيماً. حينما يمتلك الراعي “نخبة الفضائل” ينقلب أكثر شفقةً وحناناً ويزداد حبه وفهمه. فيمتلك المعرفة الحقيقية التي هي ثمرة الروح. هل تهدد الملكات الروحية اتزان الراعي؟ الجواب نعم حين يقع فقط في “نخبوية فريسية”؛ كاهناً كان أم خادماً في أي مجال كنسي.

إن الله يؤدّب الرعاة، بمعنى أنه يرعاهم. فتهجرهم نعمته مرات عديدة لكي يعرفوا “أنهم لا يقدرون شيئاً بدونه” وأنه رغم كل ما يفعلون إنما هم عبيد بطالون. ويَعونَ أن المواهب التي أُعطيت لهم ليست منهم وليست لهم، بل من الله وللرعية. وحين تهجرهم النعمة مؤدِّبةً، تجعلهم يعرفون أن الإنسان مجرد دود وتراب حين لا ينعَم عليه من الله. الراعي هو من يؤهل أبناء الرعية لتقبل النعمة الإلهية، لأنه يُدرك من خبرته الشخصية أنه دون النعمة لسنا بشيء. الراعي يريد أن يجعل يدَ كل عضوٍ في الرعية مشدودة مع يده إلى يد سيده، وأن يجعل قلب كل إنسان مفتوحاً إلى نسائم الروح كما فتح الله له قلبه. فأين التعالي وليس من عالٍ إلا فيضُ الحب الإلهي بالنسبة له. الراعي هو من يعطي، “مجاناً” وليس للتمجيد، ما أخذه هو أيضاً مجاناً – أي بالنعمة.

الراعي هو الإنسان الروحاني الذي “يحكم في كل شيء ولا يحكم أحدٌ فيه”. إنه منْ رفعته النعمة إلى قمة جبل يرى فيها كل حركة في نفوس أبنائه المجتمعين على الدرجات والسفوح، فيشدّ بيدهم ليرتقوا المراقي التي ساقه الله عليها.

حين يتحلى الراعي بمجمل الفضائل، وكما نريده، حينها يصير خادماً. عندما يتقدم، على سبيل المثال، المعترف إلى الأب الروحي ليقرّ بخطاياه فهو لا “ينزل من عين راعيه” بل يرتفع. لأن الراعي طبيبٌ وليس دياناً، ويعي أن صحتَه بالذات وُهبتْ له بالنعمة، وأن سلطته أُعطيت له للخدمة. لقد كان سابقاً كذلك ولقد شفته الآن يد الربّ. فهو يشتهي لكل واحد ما أتمّه الله فيه. الراعي معرفةٌ وعينٌ ساهرة، لا تراقب بتعالٍ بل تسند. معرفة الراعي ليست للتحليل ولا للإدانة ولا يمكنها أن تكون كذلك لأن المحبة تتوشحها. ألا يسهر الراعي على ذاته وألا يدرك أن حضرة الله في كلامه وحركاته وبذله هي ضمانته؟

حين يقول بولس الرسول أن الروحاني يحكم في كل شيء ولا يحكم فيه أحد، يعني تماماً أن الراعي يستوعب كل أحد ولو لم يستوعبه أحد. إنه الذي يحضن. يفرح الابن الروحي حين يتحقق مع الوقت أن راعيه كان يفهمه أكثر مما كان يعي هو هذه الحقيقة، لأن هذه المعرفة هي ضمانة ولم تظهر ولا تظهر كإهانة.

المتروبوليت بولس يازجي
عن موقع مطرانية حلب
الموقع القديم للمطرانية

arArabic
انتقل إلى أعلى