كثيرون من المفسِّرين البروتستانت يقولون إن المسيح قد حرّمَ أن ندعو أحداً على الأرض أب، فاختاروا ألقاباً أخرى مثل: “محترم، قسيس، راعٍ”، إلخ.
لكن التفسير السطحي والحرفي لقول الرب هذا يعني أنه لا يجوز لنا أبداً أن ندعو إنساناً على الأرض “أباً”، سواء أكان رجل دين (أباً روحياً) أم لا. لأن الآب وحده من يجب أن يُدعى هكذا.
لو أخذنا بهذا التفسير الضيق لوجدنا أن الرسول بولس قد خالف وصية المسيح (أو لم يفهمها على الطريقة البروتستانتية!)، لأنه يقول: “لأنه وإن كان لكم ربواتٌ من المرشدين في المسيح لكن ليس آباء كثيرون، لأن أنا ولدتكم في المسيح يسوع بالإنجيل” (1كور4: 15). فبولس يدعو نفسه هنا “أباً” للذين ولدهم بالإنجيل. ويدعو تيموثاوس وتيطس “ابني”. ويوحنا الإنجيلي في رسالته يستعمل لفظة “يا أبنائي الصغار” (1يو 2: 12 و14). أيضاً يدعو بولس أسلافنا “آباء” لنا (1كور 10: 1). ويستعمل لقب “أب” لمخاطبة الآباء قائلاً: “أيها الآباء …” (كول 3: 21). والرب نفسه، في مثل الغني والعازر، يذكر أن الغني خاطب إبراهيم قائلاً: “يا أبي إبراهيم” (لوقا16: 24). لم يجبه إبراهيم قائلاً: “ألا تعرف أن الله الآب فقط هو من يجب أن يُدعى أباً؟”. ولكنه أجاب الغني: “يا ابني” (لوقا 16: 25)*. ولو تابعنا قراءة متى 23: 10 لوجدنا: “ولا تدعوا معلِّمين لأن معلمكم واحد. المسيح”. لكن المسيح نفسه دعا نيقوديموس “معلم إسرائيل” (يو3: 10). وكان يوجد في كنيسة أنطاكية “أنبياء ومعلِّمون” (أع13: 1). وبولس يذكر أن الله وضع في الكنيسة “معلِّمين” (1كور 12: 28؛ أفسس 4: 11). إذاً لم يقصد المسيح القول إنه لا يجوز أن ندعو أحداً “أباً” إلا الآب، ولا أحداً “معلماً” إلا المسيح؟ وبولس الرسول والكنيسة كلها لم تفهم قول المسيح هذا كما يحاول البعض أن يفهمه اليوم. يبقى السؤال: ماذا قصد المسيح من قوله هذا إذن؟
المناسبة التي قال السيد هذا القول تشرح لنا معناه. فالمسيح كان يتكلم عن الكتبة والفريسيين وكان ينتقد ممارستهم وتعليمهم، وكيفية استعمالهم للقب “أب” و”معلم”. يقول: “على كرسي موسى جلس الكتبة والفريسيون” (مت23: 1). وبدلاً من تعليم شريعة موسى صاروا يعلّمون تقليدهم الخاص (مر7: 8و9)، “مُبطلين كلام الله بتقليدكم الذين سلّمتموه” (مر7: 13). لهذا كان يسوع يحذّرهم من استعمال مناصبهم وألقابهم ليقيموا من حولهم تلاميذ لهم ولتقاليدهم وليس تلاميذ لله ولشريعته. ومع مجيء المسيح صار على رجال الدين أن يعلِّموا “تعليم الرسل” (أع2: 42) أو “تعليم المسيح” (2يو9)، الذي هو “المعلِّم” الحقيقي و”الأب” الحقيقي، وما رجال الدين إلا صورٌ حية له. وكما يقول الذهبي الفم: “لأنه (المسيح) علّة كل شيء، علّة المعلّمين وعلّة الآباء معاً” [1]. لهذا كل “معلِّم” و”كل أب” في الكنيسة ما هو إلا قناة حية لتسليم التعليم الذي وصل إليه من المسيح، “المعلّم الأكبر”، بالرسل. أو بكلمة أخرى، ليس “المعلّم” أو “الأب” في الكنيسة هو مصدر التعليم، بل يسوع المسيح نفسه، بالروح القدس الساكن في الكنيسة. وإلا صار هذا المعلّم أو الأب تحت الدينونة نفسها التي طالت الكتبة والفريسيين.
د. عدنان طرابلسي
عن كتاب سألتني فأجبتك
ص 108، س 48
[1] الموعظة 72: 3 على إنجيل متى. (راجع الجزء الرابع من ترجمة شرح إنجيل متى للذهبي الفم).