Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
☦︎
☦︎

“أنتم الذين بالمسيح اعتمدتم المسيح قد لبستم” (غل 3، 27)

الحياة الروحيّة هي حركة رفع الإنسان من الطين إلى الروح. إنّها محاولة رفع الحياة البشريّة من ذهنيّة “اللحم والدم” إلى ذهنيّة الفكر الإلهيّ.

المسيحيّة حياة ديناميكيّة لا تفوقها ديناميكيّة، ولم تعرف البشريّة في تاريخها، ولن تعرف، دافعاً للحياة الروحيّة كالدافع الذي فيها. وهذا ينشأ من سببَين. أوّلاً، لأنّ المسيحيّة تضع أمامنا رجاءً واقعيّاً وإن لم يكن الآن واقعاً، وهذا الرجاء لا يعبّر عن عظمته. لذلك صرخ بولس وهو يعجز عن الكلام قائلاً: “ما لم تره عين ولم تسمع به أذن بشر، ما أعدّه الله لمختاريه”. لا يوجد دين أو فلسفة أو سياسة أو حضارة إلا وتضع لذاتها ولأتباعها “صورة” مدينتها الفاضلة، أي غاياتها وأهدافها. هذه الصورة في المسيحيّة تبلغ جمالاً كما قال بولس، لا يتخيّله إنسان! هذه الصورة ليست خياليّة، إنّها واقع يتكلّم عنه الجميع. فليسوا قلائل الذين يدعون المسيحيّة “دين ملائكة”! هذا وصف وإن كان سلبيّاً فإنه يوضح جانباً حقيقيّاً، وهو أن الكنيسة تتكلّم عن جبلة للإنسان جديدة تصيّره فيها ملاكاً في الجسم.

الصورة الحقيقيّة في الإنسان كما تنشده المسيحيّة تبدو خياليّة، ولكن “يا فرحي” كما صرخ كثير من القدّيسين، صارت حقيقة بالمسيح وهي ممكنة بنعمته للجميع، لمن يشاؤون. لا بل لقد كان كلام يسوع “الألف- البداية” كان كلاماً جريئاً ومهيباً جدّاً، إذ قال: “من آمن بي يعمل أعمالاً أعظم من التي أنا أعملها”.

إذا كان التجسّد الإلهيّ يعني أن الله بإرادته أخذ صورتنا، فهذا يعني أيضاً أنّ الله أوضح الصورة الإلهيّة التي يريدها لطبيعتنا! إنّه “الألف” الذي جاء ليحقّق الـ”الياء” حتّى في آخر إنسان.

هذا هو الهدف الذي أمامنا، وهذه هي الغاية التي من أجلها اعتمدنا. ما هي أحلامنا المسيحيّة؟ ما هي إيديولوجيّتنا التي نقولها للعالم، إنّها بكلمة واحدة، لقد تأنّس الإله ليتألّه الإنسان. ليست الأحلام المسيحيّة بأقلّ! والخطيئة في حقّ هي أن نمسخ رجاءنا هذا إلى مجرّد إصلاحات اجتماعيّة أو شعارات سياسية نسمعها هنا وهناك، مهما كانت صالحة لا تصل إلى الإنسان في عمقه في تكوين “إيديولوجيا جديدة” وحياة جديدة، تطال حتّى جسده أيضاً، جزئيّاً هنا وكليّاً عند المجيء الثاني.

لو وضعنا شاعراً أو رسّاماً وطلبنا منه أن يصف بمخيّلته البشريّة الواسعة الإنسانَ المثاليّ. فإنه سيأتي مُجتزَأً جدّاً أمام “الإنسان” المبتغى في المسيحيّة!

أمام هذه الصورة المهيبة وهذا الرجاء المدهش، يقف الإنسان حائراً تجاه واقعه الحاليّ! لهذا إنّ السبب الثاني لديناميكيّة الحياة المسيحيّة يأتي من معاينتنا لما نسمّيه “السقوط” البشري، وخاصّة عندما نقابله بالرجاء الحيّ السابق! “السقوط” في الكتاب المقدّس يعني شيئاً عميقاً وواقعيّاً، وهو شعور الإنسان أنّه أقلّ وأدنى ممّا كان يؤمن به عن طبيعته وحياته. السقوط شعور يأتي من إدراك الإنسان في كلّ لحظة من حياته أنّه خليقة يمكنها أن تكون أفضل ممّا هي عليه. لا يمكن للإنسان أن يرضى بواقعه. لو سألنا إنساناً بعمر الخمسين سنة مثلاً، ماذا كان يستنتج لو عاد الآن إلى سنّ العشرين؟ لأجاب هذا الإنسان أنه كان سيبدّل الكثير بتلك السنوات الثلاثين التي مضت منذ حينه، وأنّه كان سيربح لذاته أكثر بكثير ممّا حقّقه! هكذا خبرة صغيرة تضاف للحياة تدخلنا إلى حياة أفضل تجعلنا ندرك أكثر ما هو مدى وحجم خسارتنا وسقوطنا. “آه…” هي تنهّدات تتكرّر في الحياة كثيراً، وكلّها تدلّ على شعور الإنسان بهذا الصراع، وكأنّه يحمل سقوطاً أو حالة مفروضة عليه، لو شاء واستطاع، لتحرّر منها! الإنسان كائن يتشوّق ليكون “فوق” ما هو، أي أنّه يحلم بأكثر من طاقاته ويشتهي أكثر ممّا يمكن تحقيقه، وإذا به يصادف ذاته يوميّاً أنّه “تحت” ما هو.

وهذا الفارق الكبير، والشرخ المخيف، والهاوية العميقة بين “الصورة” و”الواقع”، بين “المسيح” و”أنا”، حين يتّضح للإنسان، وبمقدار ما يتّضح، عندها يخلق فيه قوّة صعود جبارة! إنّ رفض ما لا نريد، والشوق العارم إلى ما نشتهيه يستنهض فينا إرادة جديدة. لهذا يقول بولس الرسول “استيقظ أيّها النائم وانهض من بين الأموات فيضيء لك المسيح” (أف 5، 14).

وهناك خبرات في الحياة عديدة مثل هذه لدى كلّ الناس، وكلّها يجب أن تتراكم وتجتمع وتتعاظم حتّى يقرّر الإنسان، وكما يجري لدى غير المسيحيّين أيضاً، أن ينعطف في حياته نحو حياة جديدة. عندها كانت تتمّ المعموديّات.

منذ لحظة المعموديّة يبتدئ جهاد حياتنا الروحيّة، أو حياتنا الجديدة. يعلن بولس الرسول أنّ مَن اعتمد بالمسيح قد لبس المسيح، أي صارت تصرفاته تماماً كالمسيح، هذه بالأصل هي رغبتنا التي دفعتنا لنعتمد. “البسوا المسيح” لبولس تعني تماماً أنّنا نتمسحن، أي نحيا كحياة المسيح. إنّ هذا “الانعطاف” الذي تكلّمنا عنه سابقاً وكان يدعونا للمعموديّة، بعد موقف نسمّيه توبة، أي تبديل وجهة الحياة.

طبعاً إنّ موضوع معموديّة الأطفال هو مسألة أجابت عليها الكنيسة منذ بداياتها، وعمّدتْ الأطفال. لكنّ الخطأ يكمن حين تغدو المعموديّة أشبه بالفلوكلور والعادات المسيحيّة. هناك حركات في المعموديّة هامّة جدّاً وقد لا نُعيرها أيّ انتباه ولا نستخلص منها أي موقف، ومنها الاستقسامات، أي القسم أن نلعن الشيطان وكلّ أعماله. والاتجاه من الغرب إلى الشرق، أي من الحياة القديمة إلى المسيح “مشرق المشارق”. وهذه هي التوبة التي يجب أن تسبق المعموديّة. وإذا كانت معموديّة الأطفال لا تسمح بهذه الخبرة الشخصيّة ولا بإدراك كلّ هذه الحقائق، فهذا لا يلغي أمرين. الأمر الأوّل أنّ العرّاب والعائلة يتحمّلون مسؤوليّة نقل هذه الخبرة إلى الطفل، وهم ينقلون له كلّ شيء في الحياة ويخطّطون من أجل حياتهم وحياته في أدقّ تفاصيلها. والأمر الثاني أنّ معموديّة الأطفال تعني تماماً قرار العائلة عند الزواج ولحظة الإنجاب، وتعلن ذلك بعماد أولادها، أنّها كلّ العائلة تتّجه من الغرب إلى الشرق، وأنّها تصطحب معها مولودها الجديد إلى عالم النور، ولقد أنجبته تحت هذه الرؤيا ومن خلال هذا الرجاء. لذلك لا ضرورة للانتظار. علماً أنّ رفض هذه المسيرة ممكن لأي شابّ يريد ذلك في أيّة لحظة في عمر لاحق.

هنا يظهر دور التربية المسيحيّة، التي بدونها تفقد المعموديّة الكثير الكثير من مغزاها، خاصّة في حالة معموديّة الأطفال. ما هي التربية المسيحيّة سوى زرع “الصورة” المسيحيّة في حياة وأحلام ورجاء الطفل، وهي صورة “المسيح” التي يجب أن يلبسها في حياته، وقد أعطي له ذلك في المعموديّة. أي أن نزرع في أولادنا هذه المثل وهذه الرغبة كغاية للحياة! لأنّه بدون هذه الرغبة لا يمكن لأيّة ديناميكيّة نحو الأعلى أن توجد. لا بل على العكس، فإنّ الإنسان ينشدّ عندها إلى كلّ ما هو هابط وساقط ولا يذهب إلى صورة المسيح.

لهذا نقصّ في المعموديّة شعر المعمّد. لأننا جنّدناه ليهتمّ لسيّده (المسيح) وليس بهموم أخرى، كما يقول بولس الرسول. ولهذا نمسح المعمّد بالميرون المقدّس، إعلاناً أنّه صار كاهناً ملوكيّاً مكرّساً للرب، وأنّه دخل حلبة الحياة في هذا الصراع للتحرّر من أثقال الرغبات وللتحليق بحريّة في سماء الروح. لهذا ينفخ الكاهن في وجه المعتمد، لأنّه يعطيه حياة جديدة ليست حياة الجسد فقط، كما نفخ الله في آدم في الفردوس فصار نفساً حيّة، أي عارمة بالحياة الروحيّة.

من لحظة المعموديّة نبدأ حياتنا الروحيّة. أي توقّف لا يعني أبداً استراحة لكن هو خسارة، لا بل وتراجع وخيانة. قد يبدو هذا “الجهاد الروحيّ”، وهو ما نسمّيه “الحياة الروحيّة”، قد يبدو سلبيّاً من وجهة نظر خارجيّة. لكنّه حياة إيجابيّة نسمّيها “التجلّي”، أي تتجلّى صورة الله الباهتة فينا بشكل أوضح يوماً بعد يوم. تتجلّى حياة الله فينا، ويكون لنا هذا الكنز في آنيتنا الخزفيّة.

كلّ يوم يمضي دون صلاة هو يوم ضائع من الحياة، يقول الأدب الرهبانيّ. ويمكننا تعميم هذه الصورة حتّى تشمل كلّ حياتنا المسيحيّة. ونكرّر في صلواتنا وطلباتنا دوماً “وكل حياتنا للمسيح الإله”! هذا يعني تماماً أنّ أيّة لحظة ضائعة من زمن نموّنا الروحيّ ومسحنتنا هي “خطيئة”، لأنّنا سرقناها من زمن الروح القدس الذي يأتي ليعمل معنا ما نريده ويريده فينا. فالزمن ليس بالضرورة هو زمن حياة روحيّة. إلاّ إذا عشنا في السهر لئلاّ يسرق الشيطان منّا وقت خلاصنا. “ها وقت موافق ليعمل للربّ”! إذا لم يرتبط الزمن بالتقديس ينقلب زمناً للشيطان وتاريخاً لخطايانا. ولهذا قامت الكنيسة ليس فقط على بنية تعليميّة وإنّما بالأحرى على بنية ليتورجية تقديسية. فالصلوات تحيط بساعات النهار كلّها، وتحمي كلّ تحركات وأعمال اليوم. والمائدة المقدّسة تنظم حياتنا على درب الاستعداد والشكر. بين هذين القطبين يشد المسيحيّ شراع حياته كلّ لحظة (بين الحياة اليوميّة والكأس المقدّسة). حينها يحيا في السّلام والفرح والشكر.

وإذا ما خانت يوماً إرادةُ الإنسان حاملَها، وتردّدت الركب الخاشعة عن السجود وخارتْ قواها فهذه ليست النهاية. إنّ الربّ حنون، وحين ننسى يذكّرنا، وحين ننكره ينتظرنا، وهو يقوّي الركب المخلّعة بسرّ الاعتراف والتوبة… يكفي أن نُثبِّت النظرَ إلى الشرق ولو كنا للحظة واقعين. السقوط من طبيعة المسير، لكن من يوم لفظنا “استقساماتنا” في المعموديّة أقسمنا أنه مهما طرأ في الحياة من نهوض أو سقوط فهذا لا يبدّل فينا وجهتنا ولا يعكس نحو الحياة نظرتنا. على العكس، السقطات على الطريق تؤجّج فينا “الحنين إلى الله الحيّ”، فتصير طاقة أكبر تلهب ديناميكيّة الحياة الروحيّة وتجعل القلب في سهر أكثر، والسهر يهيّئونا لاستقبال الختن، والختن حين يأتي يجعل له عندنا مسكناً، فنأكل معه ونتعشّى فصحه السريّ، جسداً ودماً إلهياً، مائدةً ممدودة من حبّه، وتصير “كلّ حياتنا” مع المسيح الإله.

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF

معلومات حول الصفحة

عناوين الصفحة

محتويات القسم

الوسوم

arArabic
انتقل إلى أعلى