موقف أرثوذكسي من الشذوذ الجنسي

المقصود بالشذوذ الجنسي هو اشتهاء المماثل بالجنس أي ما يُعرَف باللواط عند الذكور والسحاق عند الإناث. يقول العلم أن الشذوذ نوعان: مكتسَب وأصيل. فالأصيل سببه عطب في التركيب الجيني وهو حالة نادرة جداً ولكن الطب يقدم لها العلاج كأي مرض آخر. أما المكتَسَب فهو ناتج عن خطأ في التربية أو التعاطي الاجتماعي. لهذا يُحكى اليوم عن ميل (orientation) شاذ وممارسة شاذة.

الشذوذ الجنسي قديم قِدَم السقوط والخطيئة. ومع أن التعاطي معه تاريخياً اختلف إلا أن أغلب الحضارات والأديان اعتبرته خطأ. ليس من أهداف هذا المقال عرض مواقف الشعوب والحضارات المختلفة ولا حتى الأديان. لكن اليوم في الغرب ضجيج قائم حول رسامات أساقفة وكهنة شاذين، كما حول قبول زواج الشاذين، فهذه دولة تقبل وأخرى ترفض وهذه ديانة تبارك وأخرى تلعن. وبين المبارِكين جماعات من أصول بروتستانتية خلقت لنفسها مسيحاً يقبل كل أنواع الشذوذ من جنسي وغيره. أما الإعلام فيلعب دوراً مؤذياً في تصوير حالات الشذوذ، من جنسي وغيره، على أنها حالات طبيعية مستغلاً مبادئ المساواة والعدالة ليصوّر الشاذين على أنهم مظلومون وأن ما يمارسونه طبيعي ولا يتعدى كونه حباً كحب الناس الطبيعيين.

إن بناء مفهوم واضح عند الفرد المؤمن حول هذا الموضوع يجنبه دينونة قد يسببها موقفه من الشذوذ أو الشاذين. لذا ينبغي بهذا المفهوم أن يتحوّل موقفاً يحترم العلوم والقوانين ويبقى ملتزماً بالكتاب والتقليد. هناك بحر من المراجع التي تعالج موضوع الشذوذ الجنسي من وجهات نظر علوم الاجتماع والنفس والطب والقانون وغيرها، ليست هذه الدراسة المكان المناسب لعرضها. لذا سوف يكون التركيز على معالجة الموضوع من وجهة نظر أرثوذكسية بعد عرض عدد من المواقف المسيحية.

جولة في العالم المسيحي

يرى كارميلو ألفاريز، أحد أهم لاهوتيي التحرير [1]، أن هذا اللاهوت بحاجة إلى مراجعة عميقة وبحث عن نماذج جديدة استناداً إلى خبرة العقدين الأخيرين. فالأفضلية التي للفقراء تبقى، مع أن هذا المبدأ الاجتماعي صار محدوداً. لهذا على لاهوت التحرر أن يوسّع فئاته ليأخذ أبعاداً أكثر غنى كالثقافة والإثنيات والجنس[2]. بعض ممارسات الجمعيات والأفراد الذين يتبنون لاهوت التحرير قد تأخذ شكل الدفاع عن الشاذين وتغطيتهم. إن كلاماً من نوع ما قاله ألفاريز يساهم في تفسير هذه الممارسات.

من هذه الجمعيات مجلس الكنائس العالمي الذي لم يصدر عنه أي بيان رسمي يأخذ صفة الموقف من قضية الشذوذ الجنسي وإن يكن بعض المنادين بمباركة العلاقات الشاذة يتخذون من بعض جلسات هذا المجلس مكاناً للتعبير عن آرائهم وتصويرها على أنها موقف مسيحي. فقد صدر عن مجلس الكنائس العالمي، في 10 كانون الأول 1998، بيان صحفي يحمل الرقم 30 تحدث إيجابياً عن “لاهوت الشذوذ الجنسي” ودعا المعاهد اللاهوتية إلى إدخال مواد هذا اللاهوت في دراستها استناداً إلى أن الله خلق الجميع متساوين[3]. النقاش حول الشذوذ بدأ في مجلس الكنائس العالمي منذ 1968 في أوبسالا. وقد أثار هذا النقاش احتجاج بعض الأرثوذكس ومقاطعة البعض الآخر. الطروحات المتعاطفة مع الشاذين لم يتبناها المجلس رسمياً ولم يرفضها مشدداً على أنه مكان للقاء المسيحيين وليس لاتخاذ المواقف التي لا تلزم أعضاءه. من جهة أخرى، يوجد اليوم في المجلس ورشة عمل مشتركة مع الكنيسة الكاثوليكية تدرس هذا الموضوع لم يصدر عنها إلى اليوم سوى بيان عمومي لا يجيب على أي تساؤل. يلاحظ أحد الصحفيين أن برنامج الجمعية العمومية الأخيرة للمجلس في هاراري لم يتضمن أي إشارة إلى هذا النوع من المناقشات لأن رئيس زمبابواي هو من ألد أعداء الشاذين ويعتبرهم أدنى من الحيوانات [4]. لكن في المنتدى Padare كان هناك عدد كبير من الجمعيات التي تحمي الشاذين وتبحث لهم عن غطاء إنجيلي وقد صدر عنها عدد كبير من التصريحات. من الأمثلة على هذه التصريحات ما قالته واندا دايفلت إحدى ممثلي لوثريي البرازيل أن كل الناس يعكسون صورة الله بالاستقلال عن طبقتهم ولونهم وعرقهم وجنسهم وعمرهم وخيارهم الجنسي، في دعوة إلى مساواة الشاذين بغيرهم [5].

التجمع العالمي للطلاب المسيحيين (WSCF) هو من عرّابي لاهوت التحرير. من فروعه تجمع الطلاب المسيحيين فرع كندا (SCM Canada). نظّم هذا الفرع لقاءً لدعم اللواطيين والسحاقيات والثنائيي الجنس (bisexual) والذين غيّروا جنسهم (transgender). وقد اجتهد المجتمعون في إيجاد تفسير لبعض المقاطع الإنجيلية  يختلف عمّا درجت المسيحية على تفسيره لمدة ألفي عام إضافةً إلى البحث عن شخصيات من الكتاب المقدس وإلصاق صفة الشذوذ بها كراعوث ونعمي (راعوث 1و2) وداود وصموئيل. وقد اعتبر المجتمعون في بيانهم الختامي أن الكنائس التي لا تبارك العلاقات الشاذة بسبب عقدة الخوف من اختيار الجنس المماثل (homophobia) ودعوا كافة الكنائس إلى الخروج من هذه العقدة [6]. من الأمثلة على تشويههم للمسيحية تصوير أيقونة للنبيين داود ويوناثان والمسيح فوقهما يباركهما إشارة إلى أن علاقة هذين النبيين كانت علاقة لواط على خلفية الآية الواردة في صموئيل 26:1 وهي في ندب داود ليوناثان: “قد تضايقت عليك يا أخي يوناثان. كنت حلواً لي جداً. محبتك لي أعجب من محبة النساء” [7]. وقد رعى WSCF مؤتمراً في أيلول 2001 في لوم، توغو، تحت عنوان “تحديات لاهوتية معاصرة: مواجهة الجنسانية (sexuality)، أمور ثقافية وأخلاقية في إطار العولمة”. وقد كان بين المحاضرين لواطيون وأشخاص ثنائيو الجنس (bisexual) نادوا بلاهوت اللواطيين والسحاقيات (gay and lesbian theology) وبلاهوت الشذوذ [8] (queer theology). إيراد هذه الوقائع لا يعني أن WSCF يتبنى فكر الشذوذ الجنسي لكنه يمنحهم شيئاً من الشرعية عن طريق إطلاق دعواتهم من على منبر مسيحي.

على محور آخر، يظهر موضوع التعاطي مع الشذوذ انشقاقات في عدد من الجماعات المسيحية. فقد رفض أساقفة أنكليكان العالم الثالث في لقائهم في آب 1998 ما أقره أساقفة أنكليكان الغرب في لامبرث من تقبل للشاذين. وقد شدد أساقفة العالم الثالث على أن الزواج يكون مدى الحياة بين الرجل والمرأة وهو المكان الوحيد للمارسة الجنسية، وأن ممارسة الشذوذ الجنسي غير متوافقة مع الكتاب المقدس وبأن زواج شخصين من جنس واحد مرفوض ولا يُبارَك [9]. كما أن الأسقفيين ساموا في أميركا الشمالية أسقفاً لوطياً مما أثار حفيظة الكثيرين من جماعته ودفعهم إلى الانشقاق.

أما الكنيسة الكاثوليكية فتتعرض لضغوط أكثر تنظيماً من جماعات وجمعيات تطالب بمباركة زواج اللواطيين والسماح بتغيير الجنس وغيره. لكن الكثلكة قد حزمت أمرها منذ الفاتيكان الثاني إذ صدرت وثيقة تمنع الشاذين جنسياً من كل السيامات وحتى من الزواج [10]. ومن ثم أصدرت لجنة عقيدة الإيمان في العام 1975 وثيقة أخرى دعت فيها الرعاة إلى التنبه والانتباه إلى الشاذين ورعايتهم بعد تفصيل موقف الكنيسة اللاهوتي [11]. وتحت تزايد ضغط المجموعات التي تنادي بتحرير الشاذين وتزايد اجتهاداتهم اللاهوتية، عادت اللجنة نفسها وأصدرت رسالة توصية إلى الأساقفة في الكنيسة الكاثوليكية تدعوهم إلى رعاية الشاذين ولكن في الوقت نفسه عدم التهاون مع مَن يثبت أنه سائر في هذه الضلالة خاصةً من الإكليروس [12]. لا بد من التوقف هنا عند حملة المحاكمات التي جرت وما زالت تجري في الكنيسة الكاثوليكية في أميركا الشمالية والتي استُجوِب خلالها كرادلة وأساقفة وكهنة ورهبان بتهم التحرش بأطفال أو براشدين. وقد صدر بنتيجة هذه الحملة عدد كبير من الكتب والبيانات والدراسات. وقد قدّر أحد الصحافيين المهتمين بالأمر أن نسبة اللواطيين بين رجال الكنيسة الكاثوليكية في أميركا الشمالية تفوق 30 بالمئة [13]. ويعيد غيره ارتفاع هذه النسبة إلى إلزامية تبتل الكهنة ويدعم رأيه بعدد من الإحصاءات ونتائج الاستطلاعات ومن بينها النسبة العالية من الكهنة الذين يتخلون عن كهنوتهم أو طلاب المعاهد اللاهوتية الذين يرفضون السيامة رغبة بالزواج. وفيما يرى كثيرون أن كل هذه الأمور هي حملة ضد الكنيسة يدافع آخرون ومن بينهم كهنة كاثوليك أن الوقائع تشير إلى ثبوت التهم [14]. الأسقف ويلتون غريغوري، رئيس مجلس الأساقفة الكاثوليك في الولايات المتحدة، عزا كل الفضائح التي جرت في العام الفائت إلى سيطرة جو من الشذوذ على المعاهد اللاهوتية الكاثوليكية يلزم الشاب العادي على التفكير مراراً قبل الدخول إلى المعهد [15].

ماذا عن الكنيسة الأرثوذكسية؟ هل هي خارج هذه النقاشات وهذه التجربة؟ هذا ما يُرجى. لا تعترف الكنائس الأرثوذكسية بالزواج بين الشاذين وبالطبع لا تباركه. ولكن يُسمَع هنا وهناك عن شذوذ عند هذا الأسقف أو ذاك الكاهن ولكن لم نعثر على أي وثيقة تدين إكليريكياً بتهمة الشذوذ إلا عند الكنيسة الأرثوذكسية الروسية خارج أميركا حيث جُرّد عدد من الإكليريكيين بعد ثبوت التهمة. تهمة الشذوذ يستعملها أعداء الرهبنة للنيل منها والتجريح بها كما كان يفعل شيوعيو اليونان في اتهامهم لرهبان الجبل المقدس.

أصدرت الكنيسة الروسية في مجمعها الموسع عام 2000 عدداً من الوثائق التي تحدد علاقة الكنيسة بالمجتمع. وقد أدانت في إحداها اعتبار الشذوذ الجنسي مجرد ميل وبالتالي رفضت إعطاءه الاحترام والحقوق التي لغيره. كما أكدت الكنيسة على مسؤوليتها في رعاية الأشخاص وطالبت بمنع مَن يثبت شذوذه من ممارسة بعض الوظائف كالتعليم في المدارس أو المسؤولية في السجون أو الجيش [16].

 خلال البحث، عثرنا على صفحة على الإنترنت يسمي أصحابها أنفسهم أرثوذكسيين من الكنيسة اليونانية في أميركا الشمالية. وهم يتبنون دعوة الكنيسة الأرثوذكسية إلى مباركة علاقة اللواطيين والسحاقيين [17]. وهم يستندون إلى الآيات التي ذكرناها سابقاً من (راعوث 1و2) وغيرها كالآية 11:4 من سفر الجامعة: “إن اضطجع إثنان يكون لهما دفء أما الوحد فكيف يدفأ”. ويتمادون في التفسير على هواهم مضيفين بعض الاستشهادات كالتالي المأخوذ من القطعة الأولى في إينوس سحر عيد القديسين سرجيوس وباخوس (7 تشرين الأول): “لا مرتبطَين بعلاقة الطبيعة بل بطريقة الإيمان”. فيفسرون أن عدم الارتباط بعلاقة الطبيعة هو إشارة إلى أن القديسين قد جمعتهما علاقة من نوع آخر ويستنتجون أنها علاقة لواط. كما أنهم يستندون إلى خدمة اتخاذ الإخوة التي ترد في إحدى نسخ الإفخولوجي المعروفة بنسخة Goar. هذه النسخة تعود إلى القرن السادس عشر. أما الخدمة فالأرجح أنها دخلت الإفخولوجي اليوناني في بعض المناطق، والمرجح في ألبانيا، تحت الضغط الشعبي كما دخلت الصلاة ضد العين الحاسدة. وهذه الخدمة قد نقلها الأب أفانغلوس مانتزونياس عام 1982 إلى اليونانية الحديثة وكتب عنها دراسة أكد فيها أن هذه الخدمة لم تعتمدها الكنيسة وهي لا تعني بأي شكل من الأشكال مباركة لعلاقة حب بين رجلين [18]. فاتخاذ الإخوة هي عادة كانت معروفة في أوروبا على أساسها يتآخى شخصان أو أكثر ليسوا بالأصل إخوة بالدم. وهي تتم في بعض المناطق بأن يمصّ كل منهم من دم الآخر أو الآخرين، وينتج عنها أن يتكاتفوا على السراء والضراء [19]. وقد تكون مباركة الكاهن أضيفت إلى هذه العادة في بعض المناطق شأن مباركة الكهنة لسيوف الفرسان في الغرب أو غيرها من الأمور التي لم تدخل في الليتورجيا الأرثوذكسية.

ما هو الموقف الأرثوذكسي من الشذوذ الجنسي؟

الموقف الأرثوذكسي لا يقتصر على بيان أو قرار في مجمع بل هو بالدرجة الأولى رأي مُعاش استناداً إلى الكتاب المقدس والشرع الكنسي وتعاليم الآباء.

بدايةً ماذا يقول الكتاب المقدس حول الشذوذ الجنسي؟ أول إشارة إلى الشذوذ تأتي في تكوين 5:19-8: “فنادوا لوطاً وقالوا له أين الرجلان اللذان دخلا إليك الليلة. أخرجهما إلينا لنعرفهما. فخرج إليهم لوط إلى الباب وأغلق الباب وراءه. وقال لا تفعلوا شراً يا إخوتي. هوذا لي ابنتان لم تعرفا رجلاً. أُخرجهما إليكم فافعلوا بهما كما يحسن في عيونكم. وأما هذان الرجلان فلا تفعلوا بهما شيئاً”. يستنتج البعض من هذه الآيات أن الشذوذ كان مقبولاً في سدوم ولهذا صار اسم اللواط قديماً سدومية [20].

أما كتاب اللاويين فيذكر في سياق تعداد الموبقات، في الآية 13:20: “إذا اضطجع رجل مع ذكر اضطجاع امرأة فقد فعلا كلاهما رجساً. انهما يُقتَلان. دمهما عليهما”.

في العهد الجديد، يذكر الرسول بولس هذا السلوك الشاذ محذراً منه في أكثر من رسالة. ففي وصفه لقباحات الرومان يذكر في روما 26:1-27: “لذلك أسلمهم الله إلى أهواء الهوان لأن إناثهم استبدلن الاستعمال الطبيعي بالذي على خلاف الطبيعة. كذلك الذكور أيضاً تاركين استعمال الأنثى الطبيعي اشتعلوا بشهوتهم بعضهم لبعض فاعلين الفحشاء ذكوراً بذكور ونائلين في أنفسهم جزاء ضلالهم المحق”. أما في رسالته إلى كورنثوس فيقول أن الشاذين لا يدخلون الملكوت: “أم لستم تعلمون أن الظالمين لا يرثون ملكوت الله. لا تضُلّوا لا زناة ولا عبدة أوثان ولا فاسقون ولا مأبونون ولا مضاجعو ذكور” (اكورنثوس 9:6).

أما في الشرع الكنسي فيذكر القانونان السادس عشر والسابع عشر من مجمع أنقيرة المنعقد عام 314 عقوبات لا تقل عن صوم 15 سنة لمَن يمارس السدومية [21]. يأتي القديس باسيليوس على ذكر خطيئة السدومية في القانون السابع من رسالته الأولى إلى أمفيلوخيوس أسقف إيقونية، ويرفع عقوبة مَن يرتكبها إلى 30 سنة توبة إذا كان قد ارتكبها عن جهل وأكثر إذا كانت عمداً [22]. أما في القانون الثاني والستين من رسالته الثالثة إلى أمفيلوخيوس فيقول أن مَن يكشف عورته لرجل تُفرَض عليه عقوبة الزناة [23] ويفسر البيذاليون هذا القانون على أنه إشارة إلى اللواط.

إن قراءة ما يقوله الآباء على ضوء العلم تقودنا إلى فهم أن الإدانة، كما في كل الخطايا، هي دائماً للفعل وليس للفكر. فبحسب تقليدنا الكنسي، كل أنسان معرض للتجربة الفكرية وهو يداويها في مسيرته الروحية بجهاده وبنعمة الرب ورعاية الأب الروحي. من هنا أن الإدانة الأرثوذكسية للشذوذ ليست إدانة للأشخاص إلا إذا انتقلوا إلى ممارسة شذوذهم. فالأرثوذكسي الذي يواجه حرباً مع فكره لميل شاذ عنده، بنعمة الله ورعاية أب روحي مستنير وبجهاده وصلاته يستطيع الخروج من حربه منتصراً، أما استسلامه لضعفه فينقله إلى ممارسة الخطيئة ويوقعه تحت الدينونة.

بحسب الأب توماس هوبكو، هناك فئتان من المجرَبين بالشذوذ. فئة تعتبر أن إيمانها المسيحي هو الذي يقودها ولا ترى شراً في ما تمارس وتطلب من الكنيسة أن تبارك عملها وقد ذكرنا بعض الاستشهادات التي تقدمها. أما الفئة الثانية فهي تعرف أن ما يحاربها هو هوى شرير وتطلب من الكنيسة والمجتمع المساعدة على الشفاء والتطهر. أفراد الفئة الثانية يعرفون أنهم مجربون وأنهم يحملون صليباً أكبر من صليب غيرهم وهم مدعوون إلى جهاد أكبر حتى يتقدسوا بشفائهم [24].

وللإحاطة بموضوع الشذوذ ولفهمه بشكل سليم لا بد من تفصيل ماهية الخطيئة في الممارسة الشاذة وليس الاكتفاء بعرض ما ينتج عنها. هذا يستند لاهوتياً إلى مفهومين مترابطين هما: الجسد والزواج.

تؤمن الكنيسة الأرثوذكسية بأن كل الجهاز الجنسي من غدد وأعضاء عند الرجل والمرأة قد خلقه الله لتكاثر البشر دون أن تغض النظر عن أن هذا الجهاز يعمل، ليس فقط كنتيجة أو كسبب للاحتكاك الجسدي، بل هو أيضاً مركز نظام معقد من العواطف والأحاسيس. هذا النظام هو العشق (eros) أو الحب بين الرجل وامرأته. من هنا أن أي استعمال لهذا الجهاز أو الأعضاء بخلاف الهدف الذي خلقه الله لتتميمه يكون غير طبيعي وينشأ عنه خطيئة هي انتهاك لمخطط الله وتدمير للنموذج الاجتماعي الذي وضعه الله حين “ذكراً وأنثى خلقه” (تكوين 2:5) [25].

فمخطط الله هو في أن التناسل البشري يكون ضمن الزواج الذي تباركه الكنيسة كسر من أسرارها كونه ينتج عن ميل طبيعي عند الإنسان نحو شخص من الجنس الآخر لا بهدف الإنجاب بل بهدف تكميل شخصية كل منهما. من هنا أن الميل نحو شخص من الجنس نفسه هو انتهاك لهذا المخطط. أما النموذج الاجتماعي الذي وضعه الله فهو الكنيسة الصغيرة أي العائلة التي يستحيل نشؤوها من علاقة شاذة [26].

لهذا تدين الأرثوذكسية ممارسة الشذوذ على أنه خطيئة، وفي الوقت نفسه، من منظار اجتماعي، هو عمل غير أخلاقي وخطير. وعليه فالكنيسة مُطالَبة بالتوجه إلى الشاذين لمساعدتهم كونها مُطالَبة بخلاص النفوس وهي تحت حكم الله إن لم تقم بهذا الواجب. وهنا ضروري أن يتحلى كل مَن يتعاطى مع هذا الأمر بالتمييز إذ إن تصوّر البعض لإدانة أعمال الشاذين كعمل خالٍ من الرحمة هو تضليل شيطاني. واجب الكنيسة هو السعي إلى إصلاح الشاذ عن طريق شفائه روحياً وجسدياً وليس مباركة ممارساته أو وإيجاد القوانين لتشريعها. إن الاستناد إلى العلم وحده يؤدي إلى فهم حالة الشذوذ وليس إلى قبولها أو تبنيها وهذا يقتضي الوضوح والدقة في إيراد الآراء والتعليم [27].

خاتمة

يشير الكاتب أندرو دلبانكو في كتابه “موت الشيطان” [28] إلى اختفاء الكلام عن الشر إذ لا أحد يسمّيه. حتى الماضي القريب كان لدى المجتمعات أفكار واضحة عن الشر الأخلاقي أما اليوم فقد استبدلت العبارات التي تشير إلى الشر بأخرى من نوع “مشكلة في التصرف” (behavioral problem) أو “اضطراب في الشخصية” (personality disorder) وكل هذه العبارات امّحى منها مفهوم المسؤولية وكل حس باللوم. لقد تم استبعاد مفاهيم الحق والباطل والمسؤولية الشخصية حتى لم يعد الأفراد قادرين على تقييم تصرفهم. “لم يكن مخزون البشرية من القواعد والأصول والقوانين أغنى مما هو عليه اليوم ومع هذا صار إصدار حكم أصعب من أي وقت مضى” [29].

إن تبرير الشذوذ أو الاكتفاء بفهم أسبابه دون العمل على إصلاحه وتنوير المصابين به هو حالة دهرية تتعاطى الحياة الداخلية للإنسان باعتبارها حياة نفسانية أي مشاعر وأفكاراً وتصورات وقناعات وخيالات وإدراكات [30]. إن هذه الحالة الدهرية التي تتوسع هيمنتها في المجتمعات كافةً تذكّر بكلام الرسول يهوذا الذي وصفها مسبقاً دالاً إيانا على الموقف الصحيح: “وأما أنتم أيها الأحباء فاذكروا الأقوال التي قالها سابقاً رسل ربنا يسوع المسيح. فإنهم قالوا لكم أنه في الزمان الأخير سيكون قوم مستهزئون سالكين بحسب شهوات فجورهم. هؤلاء هم المعتزلون بأنفسهم نفسانيون لا روح لهم. وأما انتم ايها الأحباء فابنوا أنفسكم على إيمانكم الأقدس مصلين في الروح القدس. واحفظوا أنفسكم في محبة الله منتظرين رحمة ربنا يسوع المسيح للحياة الأبدية. وارحموا البعض مميزين. وخلصوا البعض بالخوف مختطفين من النار مبغضين حتى الثوب المدنَّس من الجسد” (17-23).

الأب أنطوان ملكي
عن مجلة التراث الأرثوذكسي


[01] لاهوت التحرير هو فكر نشأ من تلاقي عدد من لاهوتيي أميركا اللاتينية الكاثوليك والبروتستانت حول تفسير محدد للإنجيل يركز على مسلعدة المظلومين والفقراء لتحريرهم. قد وصل بعضهم إلى اعتبار أن الخلاص هو في التحرر من الفقر والظلم. البعض الآخر توصل إلى مباركة العنف وإلى اعتبار شخصيات أمثال تشي غيفارا صوراً معاصرة للمسيح. لا يُنكَر تأثر كل هؤلاء بالماركسية كما يذكرون هم أنفسهم. الكنيسة الكاثوليكية أعربت عن عدم رضاها عن هذا الفكر في أكثر من رسالة. كان لتجمع الطلاب المسيحيين WSCF ومجلس الكنائس العالمي دور هام في نشر هذا الفكر ودعمه.

[02] Alvarez، Carmelo E. Is Liberation Theology Finished? Encounter. 59، 1-2 (1998). p. 204.

[03] http://www.wcc-coe.org/wcc/assembly/pre-30.html

[04] Richard Ostling، “World Council of Churches Argues،” Associated Press، 1988-Dec-5.

[05] المرجع نفسه.

[06] http://www.scmcanada.org/homophobia.html

[07] الصورة موجودة على صفحة الإنترنت المذكورة في المرجع السابق.

[08] Affirm United (Lesbian، Gay، Bisexual and Transgendered people and their friends within the United Church of Canada).”Africa Reports”. Consensus. April 2002. URL: http://www.affirmunited.ca/UCon0402.htm.

[09] http://www.orthodox.net/russia/2000-08-17-homosexuality.html

[10] Careful Selection and Training of Candidates for the States of Perfection and Sacred Orders. Canon Law Digest. Volume V. Bruce Publishing CO. 1963. pp. 452-486.

[11] Congregation for the Doctrine of the Faith. Declaration on Certain Questions Concerning Sexual Ethics. Vatican. December 29، 1975.

[12] Congregation for the Doctrine of the Faith. Letter to the Bishops of the Catholic Church on the Pastoal Care of Homosexual Persons. URL: http;//www.vatican.va/rc_con_faith_doc19861001_homosexual-persons_en.htm.

[13] Blackmore، Bill. Crisis in the Church: Is Celibacy to Blame? ABC News at: http;//abcnews.go.com/sections/.

[14] Cozzins، Father Donald. The Changing Face of Priesthood: A Reflection on the Priest’s Crisis of Soul. Liturgical Press. 2000.
Gramick، Jeanine et al. Homosexuality in the Priesthood and the Religious Life. Crossroad/Herfer & Herder. 1989.

[15] Henneberger، Melinda. Pope Delivers Apology to Victims of Sex Abuse. New York Times. 2002-APR-24، at http://www.starnews.com/article.php?

[16] http://www.orthodox.net/russia/2000-08-17-homosexuality.html

[17] هناك صفحة إنترنت لمجموعة من الشاذين الذين يسمون أنفسهم أرثوذكسيين وشرقيين: www.axios.net

[18] Μαντζουνα، Ευαγγελος. Η Αδελφοποιεσις εκ Κανονικες Αποπσεως. Athens 1982.

[19] Adelphopoiia (The Rite of Spiritual Brotherhood). URL:
 http://www.qrd.org/QRD/religion/judeochristian/eastern_orthodox/adelphopoiia.txt.+

[20] قاموس الكتاب المقدس. الطبعة السادسة. 1981. منشورات مكتبة المشعل. بيروت. ص. 461.

[21] مجموعة الشرع الكنسي. جمع وترجمة وتنسيق الأرشمندريت حنانيا الياس كساب. بيروت. منشورات النور. 1985. ص. 134-135.

[22] المرجع نفسه. ص. 886.

[23] مرجع نفسه. ص. 895.

[24] Hopko، Father Thomas. The Homosexual Christian. The Word. January 1987. pp. 7-8.

[25] Orthodox Statement on Homosexuality. The Word. January 1984. pp. 6-11. see also: Harakas، Rev. Stanley. The Stand of the Orthodox Church on Contreversial Issues.

[26] المرجع السابق. أنظر أيضاً كوستي بندلي “الجنس في أنواره وظلاله. رؤية إنسانية وإيمانية” منشورات النور. بدون تاريخ. ص. 63. الفقرات 1، أ وب.

[27] أذكر هنا، على سبيل المثال، رد.د. كوستي بندلي على سؤال ما إذا كان الشذوذ خطيئة، في كتابه المذكور في الحاشية السابقة ص. 63-65. فهو لم يقدم جواباً قاطعاً على السؤال من وجهة نظر مسيحية مستندة إلى الكتاب المقدس بل اعتبر أن الشذوذ مدان إذا قسناه بمقتضيات الحب الأصيل. تحديد الحب الأصيل ضروري في هذه الحالة إذ إن مقياس صحة الأمور هو مطابقتها لتعليم الكنيسة وليس الحب بالمعنى النفسي. والأمر نفسه ينطبق على مفهوم الرحمة. أن تدين الكنيسة الشذوذ لا يعني أنها فقدت الرحمة. إضافة إلى هذا، لا بد من التوقف عند ما يرد في الحاشية 37 تعليقاً على علاقات الشاذين: “حيث يوجد حنان صادق، وقبول صريح بالمسؤولية، ونواة علاقة أصيلة، فمن المؤكد أن الله ليس مقصياً…”. قد يفهم منه القارئ أن الله غير مقصي عن علاقات الشاذين على عكس موقف الكتاب المقدس.

[28] Delbanco، Andrew. The Death of Satan. New York: Alfred Knopf. 1995. pp. 166.

[29] Bilaniuk، Petro et al. Psychology Destroying Religion. Loas Angeles: CCHR. 1997. p. 3.

[30]  بيطار، الأرشمندريت توما. المسيح الدجال. عائلة الثالوث القدوس. أوراق ديرية 1. دوما. 2002. ص. 26. أنظر أيضاً الفصل الثامن بعنوان “العلمانية في الكنيسة واللاهوت والعمل الرعائي” من كتاب “الفكر الكنسي الأرثوذكسي” (للميتروبوليت ايروثيوس فلاخوس. تعريب الأب أنطوان ملكي. تعاونية النور الأرثوذكسية للنشروالتوزيع م.م. بيروت. تشرين الثاني 2002 ص. 197-222) حيث يستعمل المترجم عبارة “العلمانية” بدل “الدهرية” ويشدد على أن التمادي في الاتكال على علم النفس مؤذٍ رعائياً.

انتقل إلى أعلى