في الصفات الجسمانية المقولة في الله

ولمّا كنّا نرى، في الكتاب الإلهي، الكثير من المقولات ترمز إلى الله بصورة جسمية أكثر منها روحية، فيجب أن نعلم، نحن البشر لابسي هذا الجسد الكثيف، أنه لا يمكننا أن نفهم أفعال اللاهوت الإلهية، السامية، اللامادية، ولا أن نعبّر عنها إلا إذا استعملنا الصور والأمثال والرموز المختصة بنا. وعليه كلّ ما يُقال في الله بصورة جسمية إنما يُقال بصورة رمزية، ومعناه أسمى من ذلك، لأن الإله بسيط ولا شكل له. إذاً يُراد بعيني الله وجفنيه ونظره قوته المشرفة على الكل ومعرفته التي لا خفيَّ أمامها، ذلك لما يحصل لنا من أكمل المعرفة واليقين بواسطة هذه الحاسّة. ويُراد بأذنيه وسمعه تعطّفه واستجابة سؤالنا، لأننا نحن أيضاً -بواسطة هذه الحاسة نفسها- نُؤخذ بالعاطفة فنُصبح أكثر استعداداً لنميل بأُذننا نحو من يتوسّلون إلينا. ويُراد بفمه وكلامه إعلان مشيئته، لأننا نحن أيضاً نُدلي بالفم والكلام عن مكنونات صدورنا. ويُراد بالأكل والشرب إسراعنا إلى تتميم مشيئته، لأننا بواسطة حاسّة الذوق نلبّي شهوة الطبيعة الضرورية. ويُراد بشمه إعلان فكرنا إليه.

وعلى مثال حاسة الشم نفسها عندنا يحصل قبول رائحة فكرنا العطرة لديه. ويُراد بوجهه إعلانه تعالى وظهوره بأفعاله، كما يتم ظهورنا في وجهنا. ويُراد بيديه فاعليّتُه في عمله، لأننا نحن أيضاً ننجز بأيدينا نفسها أفيد أعمالنا وأكثرها كرامة. ويُراد بيمينه إغاثتنا في الصالحات، لأننا نحن أيضاً نستعين بيميننا، خاصة في الأعمال الأكثر شرفاً وكرامةً والمتطلبة قوةً أعظم من غيرها. ويُراد بلمسه فحصه أدقَّ صغائر الأمور وما خفي منها وطلبُ الحساب عنها، لأن الأشياء التي نلمسها نحن لا يمكن أن تَخفَى علينا. ويُراد برجليه ومشيه، مساعدة المحتاجين وردُّ الأعداء وأيُّ عمل آخر يقتضي مجيئاً وحضوراً، لأننا نحن أيضاً ننتقل بواسطة رجلينا للمجيء. ويُراد بالحلف ثبات عزمه، لأننا نحن أيضاً نُثبت بالحلف عهود بعضنا مع بعض. ويُراد بغضبه وغيظه، بغضه الشر ونفوره منه، لأننا نحن أيضاً نبغض ما يضادُّ رأينا فنغضب. ويُراد بنسيانه ونومه ونعاسه، تأجيله الانتقام من الأعداء وإبطاؤه في منح الإغاثة الاعتيادية لأخصائه. وباختصار الكلم، إن كل ما يُقال في الله بطريقة جسمية يتضمن فكرة خفية ترشدنا ممّا فينا إلى ما يفوقنا. عدا ما يُقال في مجيء الله الكلمة بالجسد، فإنه هو نفسه قد اتخذ -لأجل خلاصنا- الإنسان كلّه، نفسه العاقلة وجسده وخصائص طبيعته البشرية، الآلام الطبيعية البريئة من اللوم.

وعليه لقد تعلّمنا من الأقوال المقدسة -كما يقول ديونيسيوس الأريوباجي الإلهي- أنّ الله علّةُ الكل ومبدأهم. فهو جوهرُ الكائنات وحياة الأحياء ونطق الناطقين وعقل الكائنات العاقلة. وهو أيضاً استدعاءُ الساقطين عنه وإنهاضهم وتجديدُ ما أفسدوه في طبيعتهم وتحويلُه. وهو أقدس توطيد للمتحركين باضطراب ذميم، وثباتُ الصامدين، وطريقُ المقبلين إليه ودليلهم الأمين. وأُضيف أنه أيضاً أبٌ للذين صنعهم، لأن الله أحقُّ بأن يكون أبانا -وقد أخرجنا من العدم إلى الوجود- من والدينا الذين نالوا منه الوجود والمقدرة على الولادة. وهو راعي تابعيه الذين يرعاهم، وضياءُ المستنيرين ومبدأ كمال الكاملين ومبدأ تأليه المؤلّهين وسلام المتباعدين وبساطة البسطاء واتحاد المتحدين. وهو يجلّ بجوهر كل مبدإٍ، لأنه مبدأ كل مبدإٍ وعطاءٌ صالحٌ لكل أحد، على قدر ما هو حق وممكن من خفايا معرفته.

arArabic
انتقل إلى أعلى