Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
☦︎
☦︎

          لقد مضى الرسول في موضوع آخر، بينما ترك موضوع الخلاص كأمر مُسلّم به مكتفياً بما أظهره لنا. هذا الموضوع هو أننا لم نتحرر فقط من الأشياء السابقة (العتيقة)، بل أيضاً سنفوز من الآن فصاعداً. لأنه:

” .. لا شيء من الدينونة الآن على الذين هم في المسيح يسوع السالكين ليس حسب الجسد بل حسب الروح ” (رو1:8).

          لم يُشر إلى هذا من قبل، إلى أن تذكّر الحالة السابقة مرة أخرى. لأنه بعدما قال: ” إذاً أنا نفسي بذهني أخدم ناموس الله ولكن بالجسد ناموس الخطية ” أضاف ” لا شيء من الدينونة الآن على الذين هم في المسيح يسوع “. ولأنه كان ضد الكثيرين الذين يخطئون بعدما نالوا المعمودية، لذا نجده يتناول هذا الأمر، فلم يقل فقط ” الذين هم في المسيح يسوع “، بل ” السالكين ليس حسب الجسد “، لكي يُبرهن على أن كل شيء يسبينا إلى ناموس الخطية بعد ذلك، هو نتيجة خمولنا. إذ علينا الآن أن نسلك ليس حسب الجسد، وهذا ما كان يصعب تحقيقه قبل ذلك.

         6  ثم يُثبت ذلك بطريقة مختلفة قائلاً:

” لأن ناموس روح الحياة في المسيح يسوع قد أعتقني من ناموس الخطية والموت ” (رو2:8).

          وهو هنا يدعو الروح القدس، بلقب الروح. لأنه كما قال عن الخطية “ناموس الخطية”، هكذا يقول عن الروح القدس “ناموس الروح”. ومن المؤكد أنه تحدث عن الناموس الموسوي، ووصفه أيضاً قائلاً: ” فإننا نعلم أن الناموس روحي”. إذاً ما هو الفرق؟ يوجد فرق كبير وغير محدود. لأن الناموس الموسوي يُعتبر روحي، ولكن الآخر هو “ناموس الروح”. فما هي أوجه الاختلاف بينهما؟ أن أحدهما (الناموس الموسوي) أُعطِيَ فقط بواسطة الروح القدس، بينما الآخر (ناموس الروح) منح روح الحياة، وبوفرة لكل مَن قَبِله. ولهذا دعاه “ناموس الحياة” من حيث تمييزه عن “ناموس الخطية”، وليس عن الناموس الموسوي. لأنه عندما يقول ” أعتقني من ناموس الخطية والموت “، لا يقصد هنا الناموس الموسوي، لأنه لم يصفه في أي موضع بناموس الخطية. لأنه كيف يدعو ناموس موسى هكذا، وهو الذي وصفه في مرات كثيرة بأنه عادل ومقدس، وقادر على إبادة الخطية؟ لكنه يقصد ذلك الناموس الذي يُحارب ناموس الذهن. هذه الحرب المخيفة إذاً قد أوقفتها نعمة الروح القدس، بعدما أماتت الخطية، وجعلت جهادنا أسهل بعدما توّجتنا أولاً وقادتنا بعد ذلك بمعونة كبيرة إلى حلبة المصارعات.

          وكما هو معتاد لدى الرسول بولس، فقد انتقل بعد ذلك من الحديث عن الابن ليتحدث عن الروح القدس، ثم من الروح القدس إلى الابن، ثم إلى الآب، مقدماً بثقة كل شيء يخصنا أمام الثالوث، وهذا ما يفعله هنا أيضاً. لأنه بالحق حين يقول ” مَن ينقذني من جسد هذا الموت “؟ فهو يُشير إلى الآب مع الابن في تتميم هذا الأمر. ثم بعد ذلك يُشير إلى الروح القدس مع الابن لأنه يقول ناموس روح الحياة في المسيح يسوع قد أعتقني “. وبعد ذلك يذكر الآب مع الابن، لأنه يقول:

” لأنه ما كان الناموس عاجزاً عنه في ما كان ضعيفاً بالجسد فالله إذ أرسل ابنه في شبه جسد الخطية ولأجل الخطية دان الخطية في الجسد” (رو3:8).

           مرة أخرى يبدو أنه يُدين الناموس، ولكن بشيء من التدقيق يتضح أنه يمتدح الناموس جداً، مُظهراً أنه يتفق مع المسيح، وأنه يشتهي نفس الأمور. لأنه لم يقل ” شر الناموس” بل “ضعف الناموس”، وأيضاً ” فيما كان ضعيفاً” ليس بسبب أنه هو ضار أو أنه يدبر مكائد. وأيضاً لا ينسب له الضعف في حد ذاته بل للجسد قائلاً: ” فيما كان ضعيفاً بالجسد ” قاصداً بكلمة “جسد” التدبير الجسدي، وليس طبيعة وجوهر الجسد نفسه. وهو بكل هذا قد برأ الجسد والناموس من أي إدانة.

          وهو لم يبرأ الناموس بهذه الأقوال فقط، بل وبالأقوال التي تأتي بعد ذلك. لأنه لو كان الناموس مخالفاً، فكيف أتى المسيح ليعين ضعفه ويكملّه، إذ مدّ له يد العون، مديناً الخطية في جسده؟! لأن هذا كان مُنتظر أن يحدث، لأن الناموس دان الخطية في النفس قديماً. ماذا إذاً؟ هل أتم الناموس العمل الأكبر، ولم يقم ابن الله وحيد الجنس إلاّ بالجانب الأقل؟ إطلاقاً هذا العمل الأكبر أيضاً قد فعله الله، الذي أعطى الناموس الطبيعى وأضاف الناموس المكتوب. إلاّ أنه ليس هناك أية فائدة من العمل الأكبر، إن لم يوجد العمل الأقل. فما الفائدة وراء معرفة ما يجب أن نفعله دون أن نُنفّذه؟ لا يوجد أي نفع، بل أن الإدانة تكون أكبر.  فالذي خلق النفس، هو نفسه الذي جعل الجسد خاضعاً. لأنه أن يُعلّم المرء، فهذا أمر سهل [1] ، لكن أن يظهر طريقة معينة، بها تُصبح هذه الأمور سهلة، فإن هذا هو الذي يستحق المدح [2] . ولهذا تحديداً أتى وحيد الجنس، ولم يصعد إلى السماء إلا بعد أن خلّصنا من هذه المعضلة. والأكثر عظمة هو طريقة النصرة. لأنه لم يأخذ جسداً مغايراً، بل نفس الجسد الذي سقط. تماماً مثل شخص رأى في السوق إمرأة من عامة الشعب وهي تُضرب، ولكي ينقذها قال للجمع إنه ابنها، بينما هو في الحقيقة ابن ملك، وبهذه الطريقة خلّصها من أيدي الذين كانوا يضربونها. هذا ما صنعه المسيح، معترفاً بأنه ابن الإنسان، فأعان الجسد ودان الخطية.

          لم تعد الخطية فيما بعد تجرؤ على ضرب الجسد. أو من الأفضل أن نقول إنها ضربته ضربة الموت، ولكن الخطية قد أُدينت وانتهت بنفس الضربة التي ضربت بها وليس الجسد، الأمر الذي يستحق الإعجاب أكثر من كل شيء. لأنه بالحقيقة، لو أن النصرة لم تظهر في الجسد، لكان هذا أمر عادي، طالما أن الناموس قد فعل هذا. لكن المدهش هو أن نُصب النصر أُقيم مع الجسد، وأن ذلك الجسد الذي هُزم من الخطية مرات عديدة، قد ربح نصرة مبهرة ضد الخطية. ها أنت ترى إذاً كم من الأمور العجيبة قد حدثت. أولاً إن الخطية لم تنتصر على الجسد، ثانياً هُزمت، وهُزمت من الجسد، لأنه ليس هو نفس الأمر أن لا يُهزم الجسد بل أن ينتصر على تلك التي كانت دائماً تنتصر عليه. ثالثاً إن الجسد لم ينتصر فحسب، بل وأدان الخطية أيضاً. وكونه لا يُخطئ، فهذا معناه أنه لم يُهزم، ولكن كونه أدان الخطية، فهذا معناه أنه انتصر عليها مُظهراً المهابة التي في هذا الجسد، الجسد الذي كان مُهاناً من قبل. هكذا أبطل المسيح قوة الخطية، وأباد الموت الذي أوجدته هذه الخطية. لأنه حتى ذلك الحين الذي فيه كانت تنقّض على الخطاة، كان الموت جزاءً لهم عن حق، لكن عندما وُجِدَ جسد بلا خطية، وسُلِِّم للموت، أُدينت لأنها مارست عملاً لكنه ليس عن حق.

          أرأيت كم تكون مكافآت النصرة؟ إنها تُستعلن في ألا يُهزم الجسد من الخطية، بل ويهزمها ويدينها، ولا يدينها فقط، بل ويدينها كما لو كانت قد فعلت أمراً خاطئاً مخالفاً. لأنه بعدما هاجمها أولاً، كفاعلة للجُرم، هكذا أدانها، ليس بقوته وسلطانه، بل أدانها بالعدل لأن هذا هو ما أعلنه بقوله: ” ولأجل الخطية دان الخطية في الجسد “. كما لو أنه قال، بكّتها لأنها أخطأت كثيراً، وبعد ذلك أدانها. أرأيت كيف أنه في كل موضع يدين الخطية وليس الجسد، بل أن هذا الجسد يُتوج، وقرار الإدانة ضد الخطية يُعلن؟ ولكن عندما يقول إنه أرسل ابنه في شبه جسد الخطية، فلا تعتقد أنه يحمل جسداً آخر. ذلك لأنه قال جسد الخطية، لهذا ذكر كلمة “شبه”. لأن المسيح لم يكن يحمل جسداً خاطئاً، لكن شبه جسد الخطية، شبيه بجسدنا، ولكن بلا خطية، وله نفس طبيعة جسدنا. ومن هنا يبدو واضحاً أن طبيعة الجسد ليست شريرة. لأن المسيح لم يأخذ جسداً آخراً بلا خطية، ولا غيّر جوهر الجسد، وذلك لكي يهيئه للحرب ضد الخطية. بل على النقيض أبقاه في طبيعته وجعله يربح إكليل النصرة ضد الخطية، وبعد ذلك أقامه منتصراً وجعله خالداً.

          7  لكن ما هي علاقة هذا بى أنا، إن كانت هذه الأمور قد حدثت في ذلك الجسد (أي جسد المسيح)؟ بالطبع له علاقة خاصة بي وبك، ولهذا أضاف:

” لكي يتم حكم الناموس فينا نحن السالكين ليس حسب الجسد بل حسب الروح ” (رو4:8).

          ما معنى “حكم”؟ يعني النهاية، الهدف، الإنجاز. إذاً ماذا أراد الناموس، وبماذا أمر؟ لقد أراد أن تكون أنت بلا خطية. هذا قد تحقق الآن فينا بالمسيح. والمؤكد أن المقاومة والنصرة ترجع إلى المسيح، بينما التمتع بالنصرة هو لنا نحن. إذاً هل لن نخطئ من الآن فصاعداً؟ نعم لن نخطئ، إن كنا غير خاملين وإن لم نكن جبناء. ولهذا أضاف: ” السالكين ليس حسب الجسد “. لكي لا تهمل الاستعداد الكامل عندما تسمع أن المسيح خلّصك من الحرب ضد الخطية، وأن حكم الناموس قد اكتمل فيك، مادامت الخطية قد أُدينت في الجسد، ولهذا بعدما قال قبلاً ” لا شيء من الدينونة الآن ” أضاف ” السالكين ليس حسب الجسد “، وهنا يقول ” لكي يتم حكم الناموس فينا ” نفس الشيء أضافه هنا. أو من الأفضل أن نقول، ليس هذا فقط، بل وأكثر بكثير.

          لأنه بعدما قال “لكي يتم حكم الناموس فينا نحن السالكين ليس حسب الجسد” أضاف “بل حسب الروح”، لكي يُبيّن أنه ليس فقط ينبغي علينا أن نبتعد عن الشرور، بل وأن نفتخر بأعمالنا الصالحة. لأنه أن يُعطي لك الاكليل، فهذا أمر يعود للمسيح، ولكن أن تحتفظ به، طالما أنه قد أُعطى لك، فهذا أمر يرجع إليك. لأن حكم الناموس، بألاّ تصير غير مسئول عن اللعنة، هذا قد أنجزه المسيح لأجلك. إذاً ينبغي عليك ألا تخون هذه العطية العظيمة، بل أن تحفظ على الدوام هذا الكنز الثمين. لأنه يُبرهن لك هنا أن خلاصنا بالمعمودية يتطلب حرصنا على أن نُظهر أسلوب حياة بعد المعمودية يليق بهذه العطية العظيمة. وبناء عليه فهو يدافع عن الناموس مرة أخرى قائلاً هذه الأمور. لأنه بالحقيقة، طالما أننا قد آمنا بالمسيح، فيجب أن نفعل كل ما في وسعنا وأن نحرص على عمل الصلاح، لكي يبقى فينا ما أتمه المسيح، الذي أكمل مطلب الناموس، ولا يُنقض.

” فإن الذين هم حسب الجسد فبما للجسد يهتمون ” (رو5:8).

          وهذا أيضاً لا يُعد تشهيراً بالجسد أو تشويهاً له. لأنه حتى ذلك الحين الذي يحتفظ الجسد فيه بمكانته، لا يحدث أي شيء يُثير الغرابة، لكن حين نسمح له أن يفعل كل شيء، مُتجاوزاً حدوده، يثور ضد النفس. وحينئذٍ يحطم كل شيء، ليس بسبب طبيعته، لكن بسبب الفسق والخطية التي تأتى منه.

” ولكن الذين حسب الروح فبما للروح. لأن إهتمام الجسد هو موت ” (رو6:8).

          لم يقل لأن طبيعة الجسد، أو جوهر الجسد، لكن قال “اهتمام (تدبير) الجسد”، أي الأمر الذي من الممكن أن يُصحّح أو ينهار. والرسول بولس هنا يتعرض للحديث عن شهوة الذهن الأكثر حماقة، داعياً إياها بالشيء الأكثر سوءاً (يقصد اهتمام الجسد)، كما اعتاد مرات كثيرة أن يدعو كل الإنسان جسداً، على الرغم من أن فيه نفساً.

          ” أيضاً إهتمام الروح ” يقصد بولس الرسول هنا الفكر الروحي، تماماً كما قال فيما بعد “لكن الذي يفحص القلوب يعلم ما هو اهتمام الروح” [3] . ويوضح أن الخيرات التي تأتى من هذا الفكر الروحي هي كثيرة في الحاضر وفي المستقبل. لأنه مقابل الشرور التي يحملها اهتمام الجسد، فإن اهتمام الروح يمنح خيرات كثيرة. هذا ما أعلنه بالضبط بقوله: ” هو حياة وسلام “. الثاني مضاد للأول ” لأن اهتمام الجسد هو موت ” (رو6:8). بينما الآخر هو مُضاد لما سيأتي بعد ذلك. لأنه بعدما قال “سلام”، أضاف:

” لأن اهتمام الجسد هو عداوة لله ” (رو7:8).

          وهذا ما يعد أسوأ من الموت. ويوضح الرسول بولس هنا أن اهتمام الجسد هو موت وعداوة. ” إذ ليس هو خاضعاً لناموس الله لأنه أيضاً لا يستطيع ”.

لكن لا تقلق عندما تسمع “لأنه أيضاً لا يستطيع”. لأنه بالحقيقة من السهل حل هذه الحيرة. فبالنسبة لاهتمام الجسد الذي يقصده هنا، أي الفكر الأرضى الأحمق المتطلع لشهوات الحياة الأرضية والأعمال الشريرة، يقول الرسول بولس إنه من المستحيل “أن يخضع لناموس الله”.

          هل هناك رجاء للخلاص بعد ذلك، إن كان من المستحيل أن يصير شخص صالحاً عندما يكون هو ذاته شريراً؟ إنه لا يقصد هذا. فكيف صار بولس أفضل حالاً؟ كيف تغير للأفضل؟ ومَنَسّى [4] أيضاً؟ وكيف تغير أهل نينوى؟ وهكذا داود بعدما أخطأ، كيف وُلِدَ من جديد؟ وكيف صحح بطرس خطأه بعدما أنكر المسيح؟ وكيف صار ذاك الذي زنى [5] ، من ضمن رعية المسيح؟ كيف رجع أهل غلاطية إلى أصلهم الكريم السابق بعد أن سقطوا من النعمة؟

إذاً الرسول بولس لا يقصد أنه من المستحيل أن يصير الشرير صالحاً، ولكن ما يقصده هو أن الإنسان لا يمكنه الخضوع لله، وهو لايزال شريراً. أما عندما يتغير، فمن السهل أن يصير صالحاً، وأن يخضع لناموس الله. لأنه لم يقل إن الإنسان لا يستطيع أن يخضع  لله، لكن العمل الشرير لا يمكن أن يكون صالحاً. كإنما يقول إن الزنا ليس هو العفة، ولا الشر فضيلة. هذا ما يقوله الإنجيل إن ” شجرة رديئة لا تستطيع أن تصنع أثماراً جيدة “ [6] ، لا لكي يستبعد عملية التغير من الشر للفضيلة، لكن لكي يوضح أن البقاء في الخطية، لا يمكن أن يُنتج أثماراً صالحة. لأنه لم يقل إن شجرة رديئة لا يمكن أن تصير جيدة، ولكنه قال لا تستطيع أن تصنع أثماراً جيدة، إن ظلت رديئة. أي أنه من المؤكد أن هناك إمكانية لكي تتغير. فمن خلال هذا المثل، ومن خلال مثل آخر قد شرح هذا، حين أوضح الرب أنه يمكن للزوان أن يكون كالحنطة. ولهذا منع من أن يُزال أو يُقلع، لأنه ربما ” تقلعوا الحنطة مع الزوان “ [7] ، أي الحنطة التي ستنمو مع الزوان.

          إذاً فاهتمام الجسد هو الخطية، واهتمام الروح هو النعمة التي أُعطيت، والعمل الذي يتميز بالإرادة الصالحة، دون أن يتحدث هنا عن جوهر الجسد، بل عن الفضيلة والخطية. لأن مالم تستطع أن تحققه بالناموس، هذا ستحققه الآن، أي أن تسلك في الطريق الصحيح وبدون أخطاء، وذلك إن قبلت معونة الروح. لأنه لا يكفي أن نحيا بدون مطالب الجسد، لكن يجب أن نسلك وفقاً لرغبات الروح. وبالمثل فإن تجنّب الشر ليس كافياً لأجل خلاصنا، ولكن ينبغي أن نصنع الصلاح. بيد أن ذلك سيتحقق إذا ما سلمنا أنفسنا للروح وأقنعنا الجسد أن يعرف مكانته. وعندئذٍ سنجعل الجسد أيضاً جسداً روحياً. وهكذا أيضاً فإننا لو كنا خاملين سنجعل النفس جسدية. إذاً لأنه لم يربط العطية باحتياج النفس، بل أرجعها إلى حرية الاختيار، فإنه في وسعك أن تحقق هذا أو ذاك، لأن كل الأشياء قد اكتملت بالعطية. ولا تعاكس الخطية ناموس ذهننا، ولا تستطيع أن تأسر كما كان يحدث في الماضى. بل إن كل هذه الأمور قد توقفت وانتهت. فقد إنكمشت الشهوات، لأنها تخاف وترتعب من نعمة الروح القدس. لكن عندما تُطفئ النور، وتطرد المرشد، وتُبعد القائد أي الروح، فإنك لابد أن تنتظر العواصف التي ستجتاح نفسك فيما بعد.

          8  المؤكد أن الفضيلة الآن هي أكثر سهولة، والإنضباط أكثر قوة، وأعرف جيداً كيف كانت أحوال البشر عندما كان الناموس يسود، وكيف هي أحوالهم الآن، حيث أشرقت النعمة. لأن تلك الأمور التي كانت تبدو في السابق مستحيلة على أي شخص، كالعفة واحتقار الموت، واحتقار كل الشهوات الأخرى الكثيرة، هذه كلها قد تحققت الآن في جميع أركان المسكونة. وليس لنا نحن فقط، بل وللسكيثيين وأهل ثراكى، وللهنود وللفرس، وللأكثرية من البربر. وتوجد أماكن للعذارى، وأعداد كبيرة من الشهداء، وجموع من الرهبان، وعدد الرهبان يفوق عدد المتزوجين، وإزداد الصوم والتجرد الكامل. كل هذا لم يستطع أولئك الذين عاشوا تحت الناموس أن يتخيلوه ولا في أحلامهم ، باستثناء واحد أو اثنين. عندما ترى إذاً حقيقة هذه الأمور التي تصرخ بأكثر قوة كما من صوت بوق، عليك ألاّ تُظهر ضعفاً، ولا تتنكر لنعمة عظيمة بهذا القدر. لأنه ليس ممكناً حتى بعد الإيمان، أن تخلص إن كنت لا تبالى بعطية النعمة. لأن المنافسات هي سهلة ولكي تنتصر، فإنه يجب عليك أن تجاهد لا أن تنام، ولا أن تستخدم عظمة النعمة كدافع للخمول، وتحيا مرة أخرى في الوحل السابق. ولهذا أضاف قائلاً:  

” فالذين هم في الجسد لا يستطيعون أن يرضوا الله ” (رو8:8).

          ماذا إذاً؟ هل نُهلك الجسد لكي نصير مرضيين لدى الله، أو نخرج من الجسد؟ وهل تنصحنا أن نكون قتلة، وهل هكذا تقودنا إلى الفضيلة؟ أرأيت كم من الأفكار غير العاقلة تولد، إذا كنا نقبل ما يُقال بدون تفكير؟ لأنه لا يتكلم هنا عن الجسد أنه الجسم ولا جوهر الجسم، ولكنه يتكلم عن الحياة الجسدية العالمية، المملوءة بالمتع والإسراف، والتي تجعل الإنسان كله جسدانياً. تماماً مثل أولئك الذين يرتفعون بالروح، فيجعلون الجسد جسداً روحياً، هكذا فإن أولئك الذين يهجرون الروح، ويكونون عبيداً للبطن وللشهوات، يجعلون من نفوسهم نفوساً جسدانية دون أن يغيروا من جوهر النفس. وهذا المعنى نجده في مواضع كثيرة في العهد القديم أيضاً، حيث يُسجل أن الجسد هو الحياة الأرضية التي بلا معنى، والمنغمسة في شهوات غير مقبولة. لأن الله يقول لنوح: ” لا يدين روحي في هؤلاء البشر إلى الأبد لأن هؤلاء هم جسد “ [8] . وإن كان نوح نفسه يحمل جسداً. إلاّ أن هذا لم يكن إدانة، إذ هو أمر طبيعي، بل لأنهم قبلوا الحياة الجسدية.

          ولهذا بعد أن قال الرسول بولس: ” فالذين هم في الجسد لا يستطيعون أن يرضوا الله ” أضاف:

” وأما أنتم فلستم في الجسد بل في الروح ” (رو9:8).

          وهو هنا لا يقصد الجسد في حد ذاته، بل يقصد الجسد الذي انجذب وقُهِر بالشهوات. وقد يقول أحد، لأي سبب لم يتكلم هكذا بوضوح، ولم يُشر حتى إلى الاختلاف؟ فعل هذا لكي يسمو بالمستمع، ولكي يُظهر بأن من يريد أن يحيا حياة مستقيمة، لا يسلك بحسب الجسد. لأنه من حيث إن الإنسان الروحي لا يحيا في الخطية، فهذا واضح لكل أحد. لكن الرسول بولس يُشير إلى الأمر الأعظم، أن الإنسان الروحي لا يحيا في الخطية، بل ولا في الجسد أيضاً، طالما أنه هو نفسه قد صار بالأحرى ملاكاً من الآن، وارتفع إلى السماء، والجسد لم يتعدَ كونه شيئاً يلبسه. وإن كنت تتهم الجسد لأن الحياة الجسدية تحمل اسم الجسد، فإنك بذلك ستتهم العالم، لأن الشر في مرات كثيرة، يُسمّى العالم، تماماً كما قال المسيح لتلاميذه: ” لأنكم لستم من العالم” [9] ، وأيضاً قال لإخوته: ” لا يقدر العالم أن يُبغضكم ولكنه يبغضنى” [10] . وأيضاً ستقولون عن النفس أنها غريبة عن الله، لأنه دعا الذين يحيون في الخداع، نفسانيين.

          لكن هذه الأمور ليست هكذا، لأنه يجب أن نبحث في كل موضع ليس عن الكلمات، بل في رؤية المتحدث، وأن نعرف المعنى الصحيح لكلامه. لأن الكلام عن الصلاح شيء، والكلام عن الشر شيء آخر، والمنطقة الوسط بينهما شيء ثالث. مثل النفس والجسد، فهما في الوضع المتوسط، ويمكن أن يصير إما هذا أو ذاك (أي صلاح أو شر). بينما الروح تتعلق دائماً بالصلاح، ولا يمكن أن تصير شيئاً آخر. أيضاً اهتمام الجسد، أي العمل الشرير، يتعلق بالشرور على الدوام، لأنه لا يخضع لناموس الله. إذاً لو سلّمت النفس والجسد إلى الأفضل (أي إلى الصلاح)، فإنك ستنتمى إلى هذا الصلاح، لكن لو سلمتهما إلى الأسوأ (أي إلى الشر)، فستصبح شريكاً في هذا التدمير، ليس بسبب طبيعة النفس والجسد، بل بسبب استعدادك، لأن في مقدورك أن تختار أياً من الأمرين.

          9  ومن حيث إن هذه الأمور تحمل هذا المعنى، وإن ما قيل ليس إدانة للجسد، فإنه يستخدم أيضاً هذه الكلمة (أي الجسد). فلنفحص الأمر بدقة أكثر: ” وأما أنتم فلستم في الجسد بل في الروح ” ماذا إذاً؟ ألم يكن لهم جسد؟ أم أنهم سلكوا بلا جسد؟ وكيف يمكن أن يكون هذا الأمر؟ أرأيت أنه يُشير إلى الحياة الجسدية؟ ولأي سبب لم يقل، أما أنتم فلستم خطاة؟ فعل هذا، لكي نعلم أن المسيح لا يُلاشي فقط سلطان الخطية، بل أنه جعل الجسد أكثر خفة وأكثر روحانية، بل وسما به أكثر. تماماً كما أن النار حينما تلتقي بالحديد، ويصير الحديد ناراً، بينما يبقى محتفظاً بطبيعته، هكذا جسد المؤمنين والذي يحمل الروح أيضاً، يُشارك في هذه الطاقة الروحية، ويصبح كله روحياً، محلقاً مع النفس إلى أعلا ، هكذا كان جسد ذاك الذي قال هذه الأمور (أي الرسول بولس). ولذلك فقد احتقر كل متعة وشهوة، وتحمل الجوع والجلد والسجن، ولم يتألم ولم يشكو من كل هذا. ولكي يُعلن ذلك قال: ” لأن خفة ضيقتنا “ [11] . لقد درَّب الجسد جيداً أن يكون في خدمة الروح.

          ” إن كان روح الله ساكناً فيكم “، لفظة “إن كان”، أشار إليها في مواضع كثيرة، لا لأنه يشك، بل لأنه يؤمن بالأكثر، وبدلاً من ” إن كان “، يقول ” إذ هو”، مثلما يقول: ” إذ هو عادل عند الله أن الذين يضايقونكم يجازيهم ضيقاً “ [12] . وأيضاً ” أهذا المقدار احتملتم عبثاً إن كان عبثاً “ [13] . ” لكن إن كان أحد ليس له روح المسيح “. لم يقل إن لم يكن لكم، لكنه ذكر الأمر المحزن أو المؤلم لأولئك (السالكين حسب الجسد). ” فذلك ليس له ” ثم يقول ” وإن كان المسيح فيكم “. مرة أخرى يُشير إلى الصلاح الذي في هؤلاء (السالكين حسب الروح). وهو يُشير إلى الشيء المحزن في عجالة وفي جملة عرضية، بينما الأمر المرغوب فيه يُشير إليه من جانبين (أي من جهة الجسد ومن جهة النفس) وبأساليب كثيرة، حتى يُغطى على ذلك (الأمر المحزن) وهو يقول هذا، لا لكي يطلق على الروح اسم المسيح، حاشا، بل لكي يُظهر أن مَن له الروح، ليس فقط ينتسب للمسيح، بل يكون له المسيح نفسه. لأنه ليس ممكناً عندما يكون الروح حاضراً، ألا يكون المسيح حاضراً. لأنه حيث يوجد أقنوم واحد في الثالوث، هناك يكون الثالوث كله حاضراً، طالما أنه غير منقسم، وواحد في الجوهر. وماذا سيحدث لو كان المسيح فيكم؟

” وإن كان المسيح فيكم فالجسد ميت بسبب الخطية وأما الروح فحياة بسبب البر ” (رو10:8).

          أرأيت كم من الشرور تأتى لو أن شخصاً ليس له الروح القدس؟ موت وعداوة لله، لمن لا تعجبه نواميس الله، ولذاك الذي لا ينتسب كما ينبغي للمسيح، ومن لا يكون المسيح فيه. لاحظ إذاً كم الخيرات الذي يأتى من كون الروح فيه، وأنه ينتسب للمسيح، ويكون المسيح فيه، ويُنافس الملائكة. لأن هذا ما يعنيه بقوله “فالجسد ميت”. إذ نحيا حياة خالدة، ويكون لك من الآن ضماناً للقيامة، وتركض بسهولة في طريق التقوى،لأنه لم يقل إن الجسد لن يفعل الخطية بعد ذلك، بل قال ” فالجسد ميت”، فيزيد من سهولة الطريق، إذ أنه بدون صعوبات وأتعاب يُتوج الجسد من الآن فصاعداً. ولهذا فقد أضاف فمن جهة “الخطية”، لكي تعلم أن ما قضى عليه المسيح إلى الآبد هو الشر، وليس طبيعة الجسد؛ ولذلك إن كان هذا قد حدث، فستختفي أشياء كثيرة من تلك الأمور، وهذا ما يعود بالفائدة على النفس. لا يقصد هذا، لكن ما يقصده هو أنه مع بقاء الجسد، فإنه يكون ميتاً (من جهة الخطية). لأن هذا يمثّل دليلاً على أن لنا الابن وأن الروح القدس داخلنا، وأن أجسادنا بالنسبة للخطية لا تختلف عن أجساد الأموات. لكن لا تخف، عندما تسمع كلمة الموت، لأنك تحمل الحياة الحقيقية، ولن يسودك أي موت. مثل هذه الحياة هي حياة الروح التي لن تتراجع أمام الموت، بل تهدمه وتلاشيه، وذلك الذي أخذ الروح يحفظه الروح خالداً. ولهذا تحديداً فهو، عندما قال، الجسد ميت، لم يقل إن الروح حيّ، بل قال: ” أما الروح فحياة “، لكي يُبرهن كيف أنه يستطيع أن يهب الحياة للآخرين. ومرة أخرى يجذب انتباه المستمع، فيتحدث عن سبب الحياة، وهو البر. لأنه حيث لا توجد خطية، فإن الموت لن يظهر، وحين لا يظهر الموت، فإن الحياة تكون أبدية.

” وإن كان روح الذي أقام يسوع من الأموات ساكنًاً فيكم فالذي أقام المسيح من الأموات سيُحيي أجسادكم المائتة أيضاً بروحه الساكن فيكم” (رو11:8).

          مرة أخرى يعود إلى الكلام عن القيامة، لأن هذا الرجاء أعطى شجاعة كبيرة جداً للمستمع، ويؤكد على القيامة من خلال تلك الأمور التي حدثت للمسيح. إذاً لا تخف كما يؤكد الرسول بولس، لأنك تحمل جسداً ميتاً (من جهة الخطية) خذ الروح داخلك، والروح سيقيمك على أي حال.

          ماذا إذاً؟ هل الأجساد التي ليس لها الروح القدس لا تقوم؟ وكيف سَيمثُل الجميع أمام عرش المسيح؟ وكيف يكون الكلام عن جهنم موضع ثقة؟ لأنه إن لم يقم أولئك الذين ليس لهم الروح، فإن جهنم أيضاً لن توجد. ماذا يعني هذا الكلام إذاً؟ يعني أن الجميع سيقومون، لكن ليس الجميع للحياة، بل أن البعض للجحيم، والبعض للحياة. ولهذا لم يقل سيقيم، لكن “سيُحيي”، الأمر الذي هو أكثر من مجرد القيامة، والذي أُعطى فقط للأبرار. وبعدما أشار إلى سبب هذه الكرامة العظيمة، أضاف قائلاً: ” بروحه الساكن فيكم”. وبناءاً على ذلك، فإذا كنت ترفض نعمة الروح القدس وأنت في هذه الحياة الحاضرة، فستموت دون أن تحصل على البراءة، وستخسر كل شيء، حتى وإن قمت. لأنه كما أنه لا يحتمل أن يُسلّمك للجحيم، عندما يرى أن روحه مشرق فيك، هكذا عندما يراه مُنطفئاً، فلن يقبل أن يقودك إلى عرسه، تماماً مثلما حدث مع العذارى الجاهلات.

          10  لا تترك جسدك يحيا الآن في الخطية، لكي يحيا حينذاك يوم الدينونة، اجعله يموت عن الشهوات، لكي لا يموت فيما بعد. لأنه لو بقى حياً، فلن يعيش. هذا سيحدث في القيامة العامة، لأنه ينبغي أن يموت الجسد أولاً ويُدفن، وبعد ذلك سيصير خالداً. وهذا قد حدث في المعمودية. إذاً فقد صُلب الجسد أولاً، ودُفن، وبعد ذلك قام. وهذا قد حدث أولاً في جسد الرب. لأنه بالحق قد صُلب، ودُفن، وبعد ذلك قام. فلنصنع هذا نحن أيضاً. لنميت الجسد دوماً في أعماله. لا أقصد جوهر الجسد، فمثل هذا التفكير بعيد تماماً، لكن ينبغي أن نُميت الشهوات المرتبطة بالأعمال الشريرة. لأنه بالحقيقة هذه هي الحياة، أو من الأفضل القول إن هذا فقط هو حياة؛ ألا يعني أحد من أي شيء بشرى، ولا أن يكون عبداً للشهوات. لأن كل مَن يخضع لهذه الشهوات لا يمكنه أن يحيا، بسبب الضيقات التي تأتى منها، ومن المخاوف، ومن الأخطار، ومن الآلام الكثيرة التي لا تُحصى. لأنه لو أدرك أن الموت قادم، فإنه يكون قد مات خوفاً قبل أن يأتى الموت. وأيضاً إن توجس خوفاً من مرض، أو هوان، أو فقر، أو أي شيء آخر من الأشياء غير المتوقعة، فحينئذٍ يكون قد فُقِدَ وهَلَكَ من جراء ذلك. إذاً هل يمكن أن تكون هناك تعاسة أكثر من هذه الحياة؟

          الأمر يختلف بالنسبة لمن يحيا بالروح،فهو يعلو على المخاوف، والأحزان والأخطار، وكل التقلبات، ليس من حيث إنه لا يتكلم بشيء، لكن من حيث إنه يحتقر هذه الأشياء عندما تحل، الأمر الذي يُعد أكثر أهمية بكثير. لكن كيف سيحدث هذا؟ يحدث عندما يسكن الروح بالكامل داخلنا. لأنه لم يقل فقط إن الروح يسكن فينا لفترة قصيرة، بل يسكن على الدوام. ولهذا لم يقل الروح الذي سكن، لكن “الساكن”، مُظهراً إقامته الدائمة. وبناءً على ذلك فمَن يحيا، يكون أساساً هو الذي مات عن الحياة في الخطية. لهذا قال ” وأما الروح فحياة بسبب البر . ولكي يصير الكلام أكثر وضوحاً، دعونا نستعرض اثنين من البشر: واحد منهما إستسلم للفسق واللذات، والحياة الزائفة، والآخر عاش ميتاً من جهة هذه الأمور، ولنرى مَن هو الذي يحيا بالأكثر. ليُفترض أن واحد من الاثنين غني جداً  ومشهور،
ويتغذى على التطفل والنفاق، يلهي ويسكر ويستنزف كل يومه لتحقيق هذا الهدف. بينما الآخر يحيا في فقر وصوم، ويحيا يومه في تجرد وعفة، وفي المساء يأكل الطعام الضرورى فقط. ولو كنت تريد الحقيقة، فهو في الغالب يبقى لمدة يومين وثلاثة أيام صائماً. إذاً مَن فيهما الذي يحيا بالحق؟

          اعرف جيداً أن الكثيرين سينظرون بتقدير إلى ذاك الذي يحيا باستمتاع ويُبذر ثروته، أما نحن فنُقدّر الذي يتمتع لكن باعتدال واتزان. إذاً لأنه يوجد اختلاف حول ذلك، لندخل بيوت الاثنين، وبالرغم من أنك تعتقد أن الغني يحيا في نفس الوقت نفس المتع، بيد أنك سترى جيداً حالة كل منهما بعدما تدخل، لأن الأعمال هي التي تظهر وتوضح مَن الذي يحيا؟ ومَن الذي مات؟

فالواحد ستجده حسناً  بعين الأعتدال  يدرس الكتاب المقدس ويصلي ويصوم، وفي الأمور الأخرى الهامة نجده يقظاً وهادئاً، ويتحدث مع الله، بينما الآخر ستجده ثملاً وليس بأي حال أفضل من الميت. ولو أننا إنتظرنا حتى المساء، سترى أن الموت يأتى بالحري إلى هذا الشخص. في إطار هذه الحالة أيضاً، أي حالة السكر، يُداهمه النوم، بينما الآخر ستجده وقت المساء متيقظاً وفي حالة سلام. مَن منهما إذاً تقول عنه إنه يحيا حقاً، هل الذي يرقد بلا وعى والذي يثير سخرية الكل؟ أم ذاك الذي يعمل ويتحدث مع الله؟ فإنك إن إقتربت من ذاك الثمل وقلت له شيئاً خطيراً، فلن تسمعه يقول شيئاً تماماً كما لو كان ميتاً. لكن لو رغبت أن تقترب
من الآخر سواء في الليل أو النهار فسترى إنه ملاك أكثر منه إنسان، وستسمعه يتكلم بالحكمة عن الأمور التي في السماء.

          أرأيت أن الواحد يحيا أكثر من كل الأحياء، بينما الآخر هو أكثر تعاسة من الأموات؟ ولو أنه قرر أن يضع شيئاً في مكان ما، فإنه يضعه في غير موضعه ويشابه المختلين، أو من الأفضل القول إنه أكثر بؤساً منهم. لأنه بالنسبة لهؤلاء فإذا وجدنا شخصاً منهم يُهان سنُشفق عليه ونوبخ من يهينه. أما بالنسبة لذاك الثمل، فحتى لو رأينا شخصاً يندفع نحوه ويلقيه أرضاً، فإننا ليس فقط لن نتأثر ولن نشفق عليه، بل ونكون ضده. أخبرنى إذاً هل هذه حياة، بالطبع ليست هذه حياة، إنها رديئة أكثر من آلاف الميتات؟

          أرأيت أن الذي يلهو، ليس فقط يعتبر ميتاً، بل هو أسوأ من ميت، وأكثر تعاسة من الذي به شيطان؟ لأن الواحد (الميت عن الخطية) يُحَب، بينما الآخر (الثمل) يُبغَض. والأول يتمتع بالغفران، بينما الآخر يُعاقب من أجل شهواته هذه، وهو مثار لسخرية كبيرة من الخارج ، يسيل منه لُعاب قذر وتفوح منه رائحة خمر. تأمل في تلك النفس البائسة المدفونة في هذا الجسد كما لو كانت في قبر، في حالة وحدة. نفس الشيء يمكن أن تراه، لو أن شخصاً أعطى الإمكانية لخادمة همجية ووقحة أن تندفع وتُهين سيدة وقورة، مُهذبة، حرة، نبيلة وحسنة، فهذا هو السكر.

          إذاً مَنْ مِن هؤلاء الذين لديهم فكراً أو رؤية لا يُفضل الموت آلاف المرات على أن يحيا على هذا النحو يوماً واحد؟ لأن الثمل حتى لو أنه بدا هادئاً، بعدما يفيق من ذلك الوضع المهين، لن يكون لديه عقل نقي، طالما أن الضباب الذي يأتى من شهوة السُكر يمتد ويخيم على عينيه. أما إذا حدث وكان ساكناً تماماً. فما هو النفع؟ فهذا السكون لا يمثل نفعاً في أي شيء لهذا الشخص، إلاّ فقط من حيث إنه يرى الذين يدينوه. كما أنه حين تسوء حالته، يفقد وعيه ولا يعرف هؤلاء الذين يسخرون منه. لكن عندما يطلع النهار فهو يفقد حتى هذه الحالة، أي عدم المعرفة، إذ يعي بعدها أن خدامه يتململون من خدمته، وزوجته تخجل منه، وأصدقاؤه يوشون به، وأعداؤه يستهزئون به. هل توجد تعاسة أكثر من تعاسة هذه الحياة، حيث يهزأ الجميع به ليلاً، وفي المساء التالي يكرر نفس الأمور المشينة؟

          11  لكن ماذا؟ أتريد أن تتكلم عن الجشعين؟ فالجشع يعتبر حقيقةً، سُكراً آخر يثير فزعاً أكثر. وطالما أنه سُكر، فهو على أية حال موت أسوأ بكثير من الموت، لأن الجشع أمر مفزع جداً. فالسُكر بالخمر لا يعد أمراً سيئاً جداً، إذا قورن بشهوة اقتناء المال. لأن الخسارة في هذا المجال تصل إلى حد الألم، وتنتهي إلى فقدان الحس وتدمير الثمل لنفسه، أما بالنسبة للجشع فإن الضرر ينتقل إلى آلاف النفوس، لأنه يُشعل حروباً مختلفة في كل مكان. لنُقارن الجَشِع، بالثَمِل، ولنرَ في أي النقاط يتفقان، وفي أي النقاط أيضاً يتجاوز أحدهما الآخر، ولنُقارن الآن بين السكارى. لأنه لا ينبغي أن   نقارن هؤلاء، بالمطوب الذي يسلك بالروح. بل لنفحص هؤلاء فيما بينهم. دعونا نحضر في المنتصف المائدة المليئة بكثير من جرائم القتل. إذاً في أي النقاط يتفقان ويتشابهان فيما بينهما (أي بين السكر والجشع)؟ يتفقان ويتشابهان في نفس طبيعة المرض.

          من المؤكد أن هناك اختلاف في أنواع السُكر، فواحد يأتى من النبيذ، والآخر يأتى من المال. أما الشهوة فهي واحدة، لأن الاثنين مأسوران بشيء واحد أي بشهوة رديئة. لأن الذي يسكر فإنه بقدر ما يشرب من كؤوس، بقدر ما يشتهي أكثر. وذاك الذي يشتهي المال جداً، يرغب في اقتناء المزيد، ويشتعل فيه بالأكثر لهيب الشهوة، ويصبح العطش للمال مرعباً جداً. إذاً فهما متشابهان في ذلك. لكن مُحِب الفضة، يفوق الثَمِل. وهذا ما سنوضحه. إن الذي يسكر يعني من جراء أمر طبيعي، لأن النبيذ الدافئ، يُزيد من درجة الجفاف الطبيعى، وهكذا يجعل السكارى يعطشون، بينما الآخر الذي يشتهي المال بصفة دائمة فإنه يطلب المزيد. كيف، عندما يصير غنياً جداً يكون بالحرى فقيراً؟ إن هذا الهوى هو أمر محير تماماً، ويبدو بالأكثر أنه يشبه اللغز.

          لكن لنرَ هؤلاء، بعد السُكر، إن أردت أن تعرف عنهم شيئاً. أو من الأفضل لنرَ الجَشِع، فمن غير الممكن أبداً أن نراه بعد السُكر [14] ، إذ أنه يوجد في حالة سُكر دائم وشديد.

          وبناءً على ذلك لنرَ، عندما يوجد الاثنان (السكران والجَشِع) في نفس حالة السُكر، ولنفحص مَن منهما الأكثر سخرية، ولنرسم ملامحهما، واصفين أيضاً كلاهما بدقة. سنرى إذاً أن ذاك الذي يُسرف في شرب النبيذ، عندما يأتى المساء، لا يمكنه أن يرى أحداً، رغم أن عينيه تكونان مفتوحتين، بل ويتجول بلا هدف وبدون سبب، ويصطدم بهؤلاء الذين يُقابلهم، ويتقيأ، ويُضرَب ويتعرى بدون لياقة، سواء كانت زوجته حاضرة، أو كانت ابنته، أو خادمته، أو أي أحد آخر.

أتضحكون بشدة؟ لنتحدث الآن عن الشَرِه أو الجشع، لأن الأمور هنا لا تستحق الضحك فقط، لكن تستحق اللعنة، والغضب الشديد. بل لنرَ السخرية أولاً، لأنه بالحقيقة هو نفسه الجَشِع مع الثمل يجهلان الجميع: الأصدقاء والأعداء، وهو نفسه يُعتَبر  أعمى، على الرغم من أن عينيه مفتوحتان. وكما أن السكران ينظر إلى كل شيء على أنه نبيذ، هكذا هو أيضاً يرى كل الأشياء وكأنها أموالاً.

          والقئ  في حالة الجَشِع  هو شيء مخيف جداً. لأنه لا يُخرج أطعمة، بل كلام إهانة وشتائم، وحروب وموت، وهي أمور تجلب صواعق لا تُعد على رأسه. ومثلما يكون جسد الثمل متورماً ومرتخياً، هكذا تكون نفس ذاك الشَرِه، بل أن مثل هذه الأمراض تسود على جسده، طالما أن الانشغال، والغضب، والسهر، يستنزفه أكثر من النبيذ، وشيئاً فشئياً يدمره بالكامل. ومن المؤكد أن من تُسيطر عليه شهوة السُكر، يمكنه بعد عبور الليل أن يكون هادئاً أو غير مضطرب. أما الجَشِع فيكون ثملاً نهاراً وليلاً عندما يكون مستيقظاً أو نائماً، ويُعاقب بأشد من عقاب أي سجين وأي عامل في المناجم.

          أخبرنى إذاً هل هذه حياة، أو من الأفضل أن نقول، أليست هذه هي أكثر تعاسة من كل موت؟ لأن الموت يُريح الجسد ويُخلّصه من السخرية، والأمور الشائنة، والرذائل. بينما هذه الأطماع تلقيه في كل هذه الأمور المعيبة التي تصم الآذان وتعمى الأعين، وتحبس الذهن في ظلام شديد. لأنه لا يحتمل أن يسمع أو يقول شيئاً آخراً، سوى تلك الأمور المتعلقة بالفوائد والأرباح القذرة، والتجارة البغيضة، إنها موضوعات دنيئة وخسيسة، مثل كلب ينبح نحو الجميع، كارهاً للجميع، ويمقت الكل، ويعاديهم، بلا سبب، ساخطاً على الفقراء، حاسداً للأغنياء، دون أن يفرح بأحد. حتى وإن كانت لديه زوجة أو أولاد أو أصدقاء فإن كان غير قادر على أن يربح منهم فسيكون هؤلاء أعداءاً له، أكثر من أعدائه الطبيعيين أو الحقيقيين. هل هناك أسوأ من هذا الهوس؟ وما هو أكثر تعاسة من هذا، حين يُعد هذا الإنسان لنفسه وعلى الدوام، عوائقاً، وصخوراً، وانحداراً، وهوة سحيقة، ومشاكل لا تُحصى، بالرغم من أن له جسد واحد، وهو عبد لبطن واحدة؟

          ولو أن شخصاً كلفك بمهام سياسية ألا تهرب لأنك تخشى التكلفة، في حين تجهز لنفسك أعمالاً لا حصر لها، ليس فقط أكثر تكلفة، بل أيضاً أكثر خطورة، إذ أنها مرتبطة بالمال، مُقدماً لهذا المستبد الشرير، ليس فقط أموالاً، ولا جهداً جسدياً، ومتاعب نفسية وآلاماً، بل تُقدم دمك، يا لتعاستك من جراء هذه العبودية المُرّة؟ ألا ترى هؤلاء الذين يُحمَلون كل يوم إلى القبور، كيف يُنقَلون عراه مجردين من كل شيء من أملاكهم، بل إن أجسادهم هذه يقدمونها للحشرات؟ ينبغي أن تفكر في هؤلاء كل يوم، ربما تتوقف عندك شهوة التملك، لأن الشهوة هي بالحقيقة صعبة، والمرض مُخيف. ولذلك نحن اعتدنا أن نكلمكم في هذا الموضوع في كل اجتماع، ودائماً ما نملأ آذانكم بهذا الكلام، لكي يصير شيئاً مهماًعلى الأقل من خلال هذه العادة.

          أيضاً لا تختلفوا معي، لأنه ليس فقط توجد عقوبات كثيرة في الدينونة الأخيرة، بل حتى قبل أن تأتي الدينونة، فتلك العقوبات هي نتاج هذه الشهوة متعددة الأشكال. لأنه وإن كنت بعد أُشير إلى السجناء بصفة دائمة، أو ذاك المُقيد بالمرض لسنوات عديدة، أو مَن يُصارع الجوع، أو أي أحد آخر، فلا أحد يستطيع أن يُدلل كيف يعني من نفس الأمور التي يُعاينها أولئك الذين يشتهون المال بشكل زائد عن الحد. إذاً هل هناك شيء أكثر بشاعة من أن يكون المرء مكروهاً من الجميع؟ وأن يبغض الجميع؟ وأن يرتاب في أي شخص؟ وأن لا يشبع مطلقاً؟ وأن يعطش على الدوام؟ وأن يُصارع الجوع على الدوام. وأن يكون أكثر خوفاً من الجميع؟ وأن يعني الحزن اليومي؟ وأن يكون سلبياً على الاطلاق؟ وأن يعيش في قلق واضطراب دائم؟ لأن كل هذا بل وأكثر يُعانيه الجَشِعون، طالما أنهم بالنسبة للمكسب لا يشعرون بأي فرح حتى لو كانوا يملكون كل شيء، لأنهم يشتهون ما هو أكثر ويعتقدون أنهم فقدوا الكثير، وأنهم فقدوا حياتهم ذاتها لو خسروا حتى فلساً واحداً فقط.

          أي كلام إذاً يمكن أن يصف هذه الشرور؟ لو أن أمورك في هذا الدهر هي بمثل هذه الشرور. عليك أن تفكر فيما ستؤول إليه فيما بعد: فقدان الملكوت، القيود الدائمة، ظلام الجحيم، الحشرات السامة، صرير الأسنان، الحزن والألم، الضيقة، نهر النار، والأتون الذي لا يُطفأ أبداً. وبعدما تجمع كل هذا وتقارنه بفرح اكتناز الأموال، ينبغي أن تقتلع هذا المرض من الجذور، حتى أنك عندما تكتسب الغنى الحقيقي، وتتخلص من هذا الفقر المخيف، ستحقق الخيرات في الزمن الحاضر، وفي الدهر الآتي بالنعمة ومحبة البشر اللواتى لربنا يسوع المسيح الذي يليق به مع الآب والروح القدس المجد والكرامة الآن وكل أوان وإلى دهر الدهور آمين.


[1]  يشير هنا إلى مهمة الناموس التي هي التعليم.

[2]  لكن هنا يشير إلى التجسد ونزول ابن الله ليحيا بين البشر.

[3]  رو27:8.

[4]  2مل1:21ـ18، 2أخ1:33ـ20.

[5]  انظر 2كو5:2ـ8.

[6]  مت18:7.

[7]  مت29:13.

[8]  تك3:6 (ترجمة سبعينية).

[9]  يو19:15.

[10]  يو7:7.

[11]  2كو17:4.

[12]  2تس6:1.

[13]  غل4:3.

[14]  يقصد سُكر محبة المال

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF

معلومات حول الصفحة

عناوين الصفحة

محتويات القسم

الوسوم

arArabic
انتقل إلى أعلى