سبب وغاية الخلق: يقول القديس يوحنا الدمشقي في هذا الصدد: “لقد ارتضى الله بفائق صلاحه أن يصنع خيراً إلى آخرين فيصيرون مشاركين في خيريته، ولهذا جلب من العدم إلى الوجود العوالم المنظورة وغير المنظورة”.
الله إذن بحسب اللاهوت الآبائي، لم يخلق العالم بموجب اضطرار داخلي أو خارجي، بل بملء حريته وكفيضان لصلاحه ومحبته. كما أن هذه المحبة لا تعني بأنه أوجد آخرين لكي يشاركهم المحبة وبالتالي لكي يصير هو سعيداً، إذ أن من يحيا كمال غبطة شركة المحبة الثالوثية غني عن الحاجة لأي شيء آخر. لكنه أراد أن يجعل آخرين سعداء ومشاركين إياه في ملكوته ومجده. ولذلك كما يقول القديس ايريناوس: “مجد الله هو حياة الإنسان”. لأن مجد الله هو بالضبط ملكوته أو النور غير المخلوق المنبعث من طبيعته والذي هو مصدر حياة وغبطة كل من سيكون في شركة حقيقية معه.
الخلق إذن هو التجلي الأول للمحبة الإلهية خارج الله. ولذلك كلمة “العالم” تعني كل ما يوجد خارج الله أي كل ما هو مخلوق، منظوراً كان من قبلنا أم غير منظور.
الخلق بحسب النظريات الفلسفية المختلفة: لعل أكثر المشاكل التي شغلت العالم على مدى الأزمان هو مشكلة أصل العالم نفسه. من بين الحلول المختلفة التي أُعطيت لهذه المشكلة:
- العالم مخلوق من الله، ولكن ليس من لا شيء بل من مادة أزلية مثله هو. الله في هذه الحالة هو كمهندس أو فنان ودوره هو أن يصيغ المادة الموجودة من قبل بطريقة منظمة وهادفة. هذه النظرية إذاً تفترض مبدأين من أجل خلق العالم: الله-المادة الأزلية، ولذلك تسمى النظرية الثنائية. من مرّوجي هذه النظرية أتباع ديانة زرادشت الفارسية، والفيلسوف الإغريقي أفلاطون، وقد تأثر بها بعض الهراطقة المسيحيين (سيمون الساحر، ميننذرس، فاسيليذس).
- العالم صادر عن الله ولذا فمادته إلهية، من هنا فهي متماثلة مع الله نفسه. قال بهذه النظرية الحلوليون، وأشهرهم البراهمة وبعض الفلاسفة مثل برونوجيوردانو، سبينوزا، هيجل
- العالم هو عالم الشيطان ولذا فهو شرير ومادته شرّ. من أصحاب هذه النظرية، المانويين والبافليكانيين والبريسكيليين.
- المادة أزلية وأبدية، أما العالم فهو ليس سوى نتيجة لتحولاتها العمياء عبر تطورات طويلة، أي نتيجة لتفاعلات ذرات المادة. ولذا تسمى هذه النظرية المادية أو الذرية، أشهر القائلين بها هم الماركسيون.
الخلق بحسب الإعلان الإلهي: “في البدء خلق الله السموات والأرض” (تك1: 1).
كلمة في البدء هنا تعني أن الله خلق العالم في زمن ما. ورغم أن فكرة الخلق موجودة في الله منذ الأزل، إنما تحقيقها تمّ في الزمن. لأنه ليس هناك إمكانية للحديث عن بدء أو نهاية إلا في إطار الزمن الذي هو مقياس الحركة والتغير (مثال دورة الأرض حول نفسها، حول الشمس…) لذلك نستطيع القول أن بداية الزمن تتطابق مع بداية العالم. ولعله من المناسب هنا أن نذكر بأن الأبحاث العلمية الحديثة ترجح أكثر فأكثر أن الكون قد بدأ منذ مدة تقدر بين العشرة مليارات والخمسة عشر ملياراً من السنين، وهذا ما يدحض فكرة أزلية العالم والتي يتذرع بها منكرو خلق العالم من قِبَل الله.
كلمة خلق تعني أن الله أبدع العالم من لا شيء. وهكذا فهذه العبارات المختصرة تعلمنا أن العالم لا يوجد من ذاته منذ الأزل، ولا هو موجود صدفة عمياء ولا هو صادر عن الجوهر الإلهي أو من مادة مرافقة لله في أزليتها، كما تدعى النظريات الفلسفية المتضاربة، وإنما أخرجه الله بكليته من العدم إلى الوجود. ولهذا فبين الله والعالم فرق جوهري وأساسي وليس هناك أي مجال للمشابهة أو المقارنة بين الاثنين.
أما كلمة السموات فيمكن أن تشير إما إلى السماء العادية أي الغلاف الجوي المحيط بالأرض والفضاء بما فيه من نجوم وكواكب، أو أن تلّمح إلى السماء غير المنظورة أي عالم الملائكة غير الهيوليين.