أقوال بعضِ القديسين في الدينونة – القسم الثاني

مضى البابا ثاؤفيلس بطريرك الإسكندرية إلى جبل نتريا، وجاء إلى أب الجبل، وقال له: «ما هو أفضلَ شيءٍ وجدتَه في طريقةِ جهادِكم هذه، يا أبتاه»؟ فقال له الشيخ: «لا يوجد شيءٌ أفضل من أن أرجع بالملامةِ على نفسي في كلِّ أمرٍ». فقال البابا: «بالحقيقةِ هذه هي الطريقُ الفاضلة التي لا يوجد قط أفضل منها».

وقال أيضاً: «إني مرتعبٌ فزعٌ من تلك الشدةِ التي سوف تعانيها النفسُ عند خروجِها من الجسدِ، إذ تأتيها أجنادُ الشرِ، وماسكو ظلمة هذا العالم الخبيث، فيأخذونها ويُظهرون لها كلَّ ما عملته من الخطايا، بمعرفةٍ وبغيرِ معرفةٍ، ويُحاجُّونها على كلِّ ما عملت، فأيُّ شدةٍ ورعبٍ تلحق بالنفسِ في تلكِ الساعةِ، حتى يَصدر الحكمُ بمصيرِها، وتُصبح حُرّةً، هذه هي ساعة الشدة التي تقاسيها حتى تبصرَ خاتمةَ أمرِها، فإن كانت مستحقةً النعيم، يأخذها الملائكةُ بكرامةٍ، ويحفظونها من الشياطين الأشرار، وحينئذ تصبح من ذلك اليوم معتوقةً منهم، كما هو مكتوبٌ: إن مسكنَ جميعِ الفرحين فيك يا مدينة الله. وحينئذ يتم المكتوب أن الوجعَ والتنهد والتعب يهرب، وحينئذ تفلت من أجنادِ الظلمةِ، لتمضي إلى ذلك المجدِ الأسنى، الذي لا يُنطق به. أما إن وُجدت النفسُ وقد كانت عائشةً بالتواني، فإنها تسمع ذلك الصوتَ المحزن: ليبعد المنافق كيلا يعاين مجدَ الربِّ. وحينئذ يدركها يومُ السخطِ، يومُ الحزنِ والشدةِ، يومُ الظلمةِ وظلالِ الموتِ، فتُلقى في الظلمةِ الخارجية، ويُحكم عليها بالعذابِ المؤبَّد في نارٍ غير منطفئةٍ، حيث يهرب كلُّ نعيمٍ وتلذذ، وحيث لا يوجد فرحٌ ولا نياحٌ، ولا غنى، ولا جاه، ولا من يُخلِّص من ذلك اللهيبِ المُعد للنفوس الخاطئةِ، فإذا كانت هذه الأمور هكذا، فأيُّ تدبيرٍ ذي أمانةٍ وقداسةٍ ينبغي لنا أن نتدبَّر به في هذا العمرِ، وأيُّ تسبيحٍ وأيةُ صلواتٍ وأيُّ تحَفُظٍ يجبُ أن نقتني بغيرِ دنسٍ وبغير عيبٍ، بطهارةٍ وسلامٍ، لتؤهلوا لسماع ذلك الصوت المملوء فرحاً القائل: هلموا يا مباركي أبي، رثوا الملك المعد لكم من قبل إنشاء العالم، الدائم إلى دهر الدهور، آمين».

الأم تاؤدورة الراهبة: سُئل البابا ثاؤفيلس من الأم تاؤدورة الراهبة، عن الكلمةِ التي قالها بولس الرسول: «اشتروا الزمانَ فإن الأيامَ شريرةٌ». فقال لها: «المقصود بالشراء هنا الربح، كقولك: إذا ما نظر الراهبُ زمانَ شتيمةٍ، فإنه يشتري هذا الزمان بالتواضع وطول الروح، ويأخذ الربحَ المستحق له، كما أن زمان الهوان، يشتريه أيضاً بعدم الشرِ. كذلك اشتري الوقتَ الحاضر فتربحي، حتى إذا اتفق مجيء وقتُ كذبٍ ونفاق، أمكنكِ أن تشتريه بالصبرِ والرجاءِ، وهذا هو ربحه. هكذا كلُّ الأشياءِ تُشترى بضدِها، فاجتهدي أن تدخلي من الباب الضيق، لأن الشجرةَ لا تستطيع أن تثمرَ ما لم تصلها الرطوبةُ والأمطار، فهذا العالم يُعتبر شتاءٌ للنفسِ، وبغير أحزانٍ وتجارب لا يمكننا أن نرثَ ملكوتَ السماوات».

قالت الأم تاؤدورة: «حسنٌ للإنسانِ أن يسكتَ، لأن الرجلَ الحكيم شيمته السكوت، وهذا هو بالحقيقةِ عونُ العذارى والرهبان، ولا سيما للشبابِ منهم، لأني أَعلمُ حقاً، أنه إذا اقتنى الإنسانُ في نفسِه السكوتَ، فللوقتِ يجلبُ عليه الشيطانُ مللاً، وثقلَ رأسٍ، وصِغرَ نفسٍ، وضعفَ جسدٍ، وانحلالاً في الركبتين وكلِّ الأوصال، وإذ تنحل قوى النفسِ والجسدِ، فيحتج بأنه عليلٌ لا يقدرُ أن يتمِّمَ صلاتَه، حتى إذا فرغ من الصلاةِ، زال هذا كلُّه. وذلك لأني أعرفُ إنساناً راهباً، كان إذا اعتزم أن يبدأ صلاتَه، تأخذه حمى وقشعريرة، مقرونةٌ بآلامٍ شديدةٍ في رأسِه، حتى أنه كان يتوهم بأنه عليلٌ، أما هو فكان يقول لنفسِه: يا شقي، لعلك تموتُ هذه الساعة، فاغتنم صلاتَك قبل موتِك. وبهذا القول كان يُلزم نفسَه، ويتمِّم صلاته، وبمجرد فراغِه من الصلاةِ، تسكن عنه الحمى، وتقف الآلام والقشعريرة، لكنه إذا عاد إلى الصلاةِ، عادت إليه الحمى والأوجاع وهكذا. فكان بهذا الفكرِ يقاتِل ويغلب، ويتمم صلاتَه حتى خلَّصه الربُّ، وصار له صبرُه إكليلاً إلهياً».

وقالت أيضاً: «حدث أن إنساناً سُمعته غيرُ جيدةٍ، شتم أخاً عفيفاً، فقال له:كنتُ قادراً على أن أجيبك بما يوافق كلامك هذا، ولكن ناموسَ إلهي يُغلق فمي».

كما قالت: لا نسك، ولا سهر، ولا تعب، ولا صوم، يقومُ مقامَ التواضع الكامل، لأنه قيل عن إنسانٍ متوحدٍ كان يُخرج الشياطين، فسألهم قائلاً: «بماذا تَخرجون، أبالصومِ»؟ فقالوا: «نحن ما نأكل قط». فقال: «أبالسهرِ»؟ فقالوا: «نحن لا ننام». فقال: «أبتركِ العالم»؟ فقالوا: «إن مساكننا البراري والخرائب». فقال لهم: «فبماذا تخرجون إذن»؟ فأجابوه: «لا يوجد شيءٌ يسحقُنا غيرُ التواضع». فالاتضاع هو غلبة الشيطان.

كذلك قالت: كان إنسانٌ راهباً، ومن شدةِ التجاربِ والمحنِ المتكاثرةِ عليه، قال: «لنمضِ من ههنا». فبينما هو يلبس نعالَه، أبصرَ رجلاً يلبس نعاله كذلك، فقال له: «إلى أين أنت ماضٍ كذلك»؟ أجابه قائلاً: «إلى الموضعِ الذي أنت ماضٍ إليه، لأني من أجلِك أنا مقيمٌ في هذا الموضعِ. فإذا أردتَ الانتقال من ههنا، فسوف أنتقل بدوري لأني ملازمٌ لك حيثما سكنتَ».

وقالت أيضاً: إن راهباً آخر، كان يسكن في موضعٍ حارٍ، فكثرت عليه الهوامُ، وتعب من ذلك جداً، لأنه لم يكن من ذوي المراتب أو الغِنى، فأتاه الشيطان في صورةِ مفتقدٍ، وقال له: «كيف تستطيعُ الإقامةَ بهذه القلايةِ التي تصنع الدودَ من شدةِ حرارتها»؟ فقال له: «أما الدود، فإني أصبرُ عليه لأفلتَ من الدود الذي لا ينام. وأما الحرُ، فإني أصبرُ عليه كذلك، لأنجوَ من نارِ جهنم، فإن هذين زائلان، وأما ذلكما فباقيان». وبصبرِه هذا قهر الشيطانَ.

قال شيخٌ: «إذا كان راهبٌ مقيماً في موضعٍ، وأراد أن يصنعَ في ذلك الموضعِ خيراً، ولم يستطع، فلا يظن هذا أنه إذا ذهب إلى موضعٍ آخر، يستطيعُ أن يصنعَ ذلك الخيرَ».

وقال شيخٌ آخر: «إذا أقام راهبٌ عمَّال في موضعٍ مع رهبانٍ غير عمَّالين، فإنه لا يفلح إلا إذا ضبط نفسَه، ولم يرجع إلى الوراء، ويكون بذلك مستحقاً جزاءً صالحاً، أما الراهب البطال، الذي يقيم بين مجاهدين فإن هو انتبه فإنه يمشي إلى قدام، ولن يرجع إلى وراء».

كذلك قال شيخٌ: إذا كان وجعٌ يقاتلك في موضعٍ ما، وتترك ذلك الموضع ظناً منك أنه يخف عنك دون أن تقاتلَه، فاعلم أنك إذا لم تغلبه حيث قاتلك، فإنه سوف يسبقك إلى كلِّ موضعٍ تمضي إليه، لأني أعرفُ أخاً كان ساكناً بديرٍ، وكان مداوماً على السكوتِ، إلا أنه كان كلَّ يومٍ يتحرك من وجع الغضبِ، فقال في نفسِه: «أمضي وأسكن وحدي في قلايةٍ، وحيث أنه لن يكونَ هناك أحدٌ ساكناً، فسوف أهدأ، ويخف عني الوجع». فخرج وسكن وحدَه في مغارةٍ، وفي أحد الأيامِ ملأ القلةَ ماءً، ووضعها على الأرضِ، ولوقتها تدحرجت وانسكب ما فيها، فأخذها وملأها مرةً ثانيةً، ووضعها، فانسكبت كذلك، فملأها دفعةً ثالثةً، فانقلبت أيضاً. فغضب وأمسكها وضرب بها على الأرضِ فكسرها. فلما جاء إليه قلبُه علم أن الشياطين قد سخروا منه، فقال:« هوذا قد غُلبتُ وأنا في الوحدة كذلك، فلأذهب إلى الدير لأنه في كلِّ موضعٍ يحتاجُ الإنسانُ إلى جهادٍ وصبرٍ ومعونةٍ من الله». ثم قام ورجع إلى موضِعِه».

قال شيخٌ إنه كان قد جُرِّب بأفكارٍ تسع سنين حتى أنه يئس من خلاصِه، ومن الخوفِ كان يقول:« هلكتُ». ولما كاد أن ينقطعَ رجاؤه بالكليةِ، صار إليه صوتٌ قائلاً: «إن الشدائدَ التي لحقتْ بك في هذه السنين التسع، هي أكاليلٌ لك، لا تكلَّ من الجهادِ». فلما سمع هذا، تقوَّى بالرجاءِ وخَفَّت عنه الأفكارُ.

قال أنبا إسحق: رأيتُ مرةً إخوةً يحصدون في حقلٍ ما، فأراد أحدُهم أن يفركَ سُنبلةً، فاستأذن صاحبَ الحقلِ في ذلك، فأجابه متعجباً: «إن الحقلَ كلَّه بين يديك أيها الأب، وتستأذن في هذا»؟ إلى هذا الحدِ من التحفظ كان ذلك الأخ يحتاطُ لنفسِه.

وحدث أيضاً أن اعتلَّ هذا الأخ علةً عظيمةً، لدرجةِ أنه كان يرى من تحته دماً، فصنع له أحدُ الإخوةِ طعاماً وجاء به إليه، فلم يذقه، فألحَّ عليه ذلك الأخ، أن يتناولَ منه قليلاً بسببِ مرضِه، فأجابه: «صدقني يا أخي، إني أشاءُ لو أن المسيحَ يتركني في هذه العلَّةِ ثلاثين سنةً». فأخذ الأخُ الطعامَ الذي أحضره وانصرف.

وقيل عنه لما جاءت وفاتُه: أنْ اجتمع إليه الإخوةُ قائلين: «ماذا نصنعُ بعدَك يا أبانا»؟ قال لهم: «كما كنتُ أسلكُ قدامكم اسلكوا واحفظوا وصايا السيد المسيح، فيرسِلَ إليكم نعمةَ روحِه القدوس، ويحفظ هذا الموضعَ، وإن لم تحفظوا فلن تثبتوا ههنا، لأننا نحن لما تنيح آباؤنا اغتممنا، ولكن لما حفظنا وصايا إلهِنا ثبتنا موضعهم».

قال الأب يعقوب: «إن الغربةَ أفضلُ من ضيافةِ الغرباء».

arArabic
انتقل إلى أعلى