Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
☦︎
☦︎

– لقد ذكرتُ فيما سبق، أنّ الصلاة العقلية تتطلَّب بصورة رئيسية رفضاً للعالم، وطاعة للشيخ، وقراراً بتصميم الراهب على البقاء في الغربة، والمحافظة على تنفيذ وصايا المسيح لمدة (زمنية) طويلة يتركّز انتباهنا في البدء على تحقيق المسيح وعلى الإهتمام بالمنجزات النسكية، وهي الإمساك والطاعة. ونعلم من آبائنا القديسين أنّ الفضائل لا توحّد الإنسان مع الله توحيداً كاملاً بل تنشىء الجوّ المناسب لذلك ثم تأتي الصلاة ويتوحّد الإنسان مع الله القدوس المثلّث الأقانيم.

والفضائل شرط سابق لا بد منه لنوال المزيد من النعمة وهي في الوقت عينه تضفي على صاحبها نعمة. فإذا تأكد الشيخ الخبير في الصلاة، أنّ مريده قد تخلى عن إرادته الذاتية وتطهَّر من أهوائه الثقيلة، قرّر أن يعلّمه سرَّ صلاة يسوع. لكنه لا يقول له كلَّ شىء فوراً، ويكتفي بما يستطيع أن يتحمّله ويحقّقه، فيرشده تدريجاً لئلا يتعرّض المريد لحال من اليأس أو الضلال وهو أمر يتحمل حدوثه أحياناً.

– ما هذه المراحل وما هي درجات المراقي السرّية التي تؤدي إلى الإتحاد الكامل بالمسيح، بالنعمة المؤلّهة؟

– إنّ غاية الصلاة الأساسية هي توحيد الإنسان المتفتّت تفتّت الفخار.

– إسمحوا لي أن أستوقفكم لأسأل ما معنى توحيد الإنسان؟

– إنّ الإنسان بحسب صيغة الكتاب المقدّس مخلوق على صورة الله، والله مثلّث الأقانيم ولكنه جوهر واحد (الآب والابن والروح القدس). والنفس هي أيضاً كذلك لأنها على صورة الله، فهي موحَّدة وفي الوقت عينه متعدّدة القوى وقواها ثلاث: العقل والشهوة والإرادة. وينبغي أن تكون هذه القوى الثلاث في وحدة وأن تتجه صوب الله. ويقوم التطوّر الطبيعي لهذه القوىالثلاث حسب قول القديس مكسيموس على مايلي: أن يعرف العقل الله وأن تشتهي شهوة المرء الله وتحبه وحده دون سواه. أما الإرادة فينبغي أن تفعل مشيئة الرب. بهذا تطبّق الوصية “أن تحبّ الرب إلهك من كل قلبك…ومن كل عقلك…ومن كل قوتك…”.

فإن بقي العقل عند الله أثار الشهوة لكي تحبَّه تعالى، وحفَّز الوجدان إلى الجهاد ضدّ الأرواح الشريرة وجدَّ مبتغياً التطهّر. وتبقى الوحدة قائمة ما دام الإنسان متجهاً صوب الله.

أما الخطيئة فإنها تحطّم وحدة قوى النفس الثلاث. وفي هذه الحال -حال السقوط في الخطيئة- ينتهي العقل إلى عدم معرفة الله وتتجه الشهوة إلى حب المخلوقات لا إلى حب الخالق وتقع الإرادة تحت طغيان الأهواء، وبذلك يتم استعباد النفس استبعاداً كاملاً. ولقد أجاد القديس غريغوريوس بالماس في وصف هذه الحال فقال:

أولاً، إنّ عقل الإنسان ينأى عن الله ويتجه صوب المخلوقات. “فإن فتحنا للأهواء باباً، يتشتّت العقل فوراً، تائهاً كلَّ ساعة حول الأمور الجسدية والأرضية وحول الملذات المتنوعة الأشكال، وما يدور فيها من هواجس مضطربة”.

ثانياً: إنّ العقل النائي عن الله يجرف الشهوة بعيداً عن الله وعن وصاياه “فإذا تشتّت (العقل) انتشرت (الشهوة) في الزنى والحماقة، متقاسمة ما في كل منهما من شرور… ومتى ضعف العقل، تضاءلتْ قدرة النفس على الحب الحقيقي، فتسقط من اشتهاء ما يجب اشتهاؤه وتلتصق بمختلف الميول المندفعة إلى طلب التمتع باللذة فتتوزّع ما بين اشتهاء أطعمة غير ضرورية واشتهاء أجسام غير شريفة ثم تتجه طوراً إلى اشتهاء أشياء غير نافعة وتنجذب تارةً إلى الرغبة في مجد باطل لا مجد فيه”.

ثالثاً: تُستعبَد الإِرادة للأهواء وترزح تحت طغيانها. أعني أنها تتوحش “فلا يُمسي المرء، ذاك الذي رُتّب له أن يكون بين أبناء الله، شبيهاً بالحيوانات البهم غير العاقلة وحسب، بل يكون أشبه بالزواحف السلمة أيضاً كالعقرب والأفعى وليدة الأفاعي”.

بهذا إذا تبتعد قوى الإنسان الثلاث عن الله فتفقد الوحدة القائمة في ما بينها. والملاحظ أنّ الشهوة إذا أرادت العودة إلى الله منعتها الإرادة. وإن أرادت الشهوة العودة إليه تعالى رغب العقل عن حب الله وذلك بسبب جحوده وإلحاده.

إننا نبتغي هذه العودة وننجح في تحقيقها نهائياً بواسطة الصلاة وابتغاء العودة يبدأ بانصراف العقل إلى تجميع قواه. أما التحقيق فيتمّ بانفصاله عما حوله وعودته إلى ذاته. وبعد ذلك مباشرة يقوم بإِعادة الشهوة.

– إني أعتقد أنكم شرحتم الموضوع بأجلى بيان ففهمتُه.

– ليست أنا يا بنيّ بل الآباء هم الذين شرحوه.

– بعد المقاطعة وما تلاها من الشرح أرجو أن تذكروه لي بتحليل أدق مراحل الصلاة، ومن أين يبدأ المرء، وكيف يجب أن يتقدّم فيها؟

– هناك خمس مراحل رئيسة بنوع أخصّ.الأولى: صلاة يسوع بالفم. ونكرّرها بشفتينا ونسعى في الوقت عينه إلى تركيز انتباهنا على كلماتها.

ثانياً: يباشر العقل “الصلاة”، بعد ذلك، ويردّدها ذهنياً ومن هنا عُرفتْ بالصلاة العقلية. وينصبّ كل انتباهنا على الكلمات من جديد، لكنها تكون قد تجمّعت في العقل. وحين يتعب العقل نشرع مجدّداً في همس “الصلاة” بالشفتين.

وهذه الطريقة -إضافة إلى استعمال الحبل المعقود- هي بمثابة الدرس الأول للصلاة. فمن هناك يجب البدء. ولكن متى جاء دور الأكمل بَطُل الأقلّ كمالاً هناك.

ثالثاً: تنحدر “الصلاة” بعد ذلك إلى القلب فيتّحد العقل والقلب ويترابطان. أما الإنتباه فيكون في القلب حيث يتعمّق من جديد في كلمات “الصلاة”، وبنوع أخصّ في إسم يسوع البعيد الغور… الذي تتعذّررؤيته.

رابعاً: تصير الصلاة في هذه الحال فاعلة بذاتها. فهي تستمرُّ بينما المرتاض (الناسك) يعمل أو يأكل أو يتحادث أو يوجد في الكنيسة أو حتى إبّان نومه، كما جاء في الكتاب المقدّس: أنا أهجع وقلبي ساهر”.

خامساً: يشعر المرء بعد ذلك بشعلة إلهية لطيفة داخل نفسه، فتشعلها وتفرحها لأنّ نعمة المسيح تحلّ في نفسه، ويسكن فيه الثالوث القدوس.

يقول القديس باسيليوس الكبير“هذه هي سكنى الله وهي أن يحظى المرء بالله مقيماً في ذاته بواسطة الذّكر. هكذا نصير هيكلاً لله عندما لا يتقَّطع الذكر المتواصل بالإهتمامات الدنيوية أو يضطرب العقل بالأهواء المفاجئة غير المنتظرة. وعلى محبّ الله حين يتجنَّب هذه الأمور كلّها أن يسير نحو الله، طارداً الأهواء التي تدعوها إلى الإنحراف وعدم الإنضباط وأن يمارس الأعمال المؤدية إلى الفضيلة ”. فيشعُر في داخله بالحضور الإلهي، وتمتدّ هذه النعمة إلى الجسد الذي يُمات ويُصلب حسب العالم. هذه المرحلة النهائية تصاحبها أحياناً مشَاهَدَة النور غير المخلوق. وهذه هي مسيرة تطوّر “الصلاة” تقريباً ولكلّ نعمة مناسبة.

– إسمحوا لي أيها الشيخ ببعض الأسئلة التي نشأت إبَّان تحدّثكم عن مراحل الصلاة. ماذا تعنون بكلمة قلب؟

– القلب بحسب تعليم الآباء هو مركز العالم الروحي. ومن بين الآراء الآبائية الكثيرة في هذا الموضوع أذكر رأي القديس إبيفانيوس أسقف قسطندية في قبرص. فقد قال: “يجب ألاَّ يزعم أحد أو يحدّد أيَّ جزء يتمُّ فيه ملءُ ما هو بحسب الصورة… إنما ينبغي أن نعترف أنّ ما هو بحسب الصورة قائم في الإنسان، ولكن لا نرفض النعمة الإلهية ونفقد إيماننا بالله. فإنّ كل ما يقوله الله حق ولو نأى كلامه قليلاً عن فهمنا”. والنفس يعبّر عنها الوجود البشري كله ومثلها مثل الشعاع، فإِذا سقط على مرآة شفافة إنتشر وتجلّى في كل الإِتجاهات. إلاَّ أننا نركّز انتباهنا إبَّان “الصلاة” على القلب كعضو جسدي فنعزله عن الأشياء الخارجية ونعيده إلى داخلنا، إلى القلب العميق. وبهذه العودة يرجع العقل، أحد قوى النفس، إلى سكنه حيث يتّحد مع القوى الأخرى للنفس”.

– لي سؤال ثانٍ: هل يتبع هذه السيرة التي شرحتموها جميع الذين لهم التنعُّم بالله؟

– …أكثرهم يفعلون ولكن ثمة من يحاولون -وحتى منذ البدء- أن يوحّدوا العقل والقلب. وهم يتوسلون إلى ذلك طريق الشهيق والزفير، فيشهقون عند ترديد الكلمات“يا ربي يسوع المسيح ” ثم يزفرون على كلمة “إرحمني” ويراقبون الهواء أيضاً حين يدخل بطريق الأنف إلى القلب، وهناك يتوقفون قليلاً.

ولا ريب أنَّهمُ يفعلون هذا على وجه التدقيق، لكي يتركزانتباه العقل (بعيداً عن التشتت). وقد سلَّمَنا الآباء أيضاً طريقة أخرى هي أن نشهق عند قولنا“الصلاة” بكاملها ونزفر فيما نقولها بكاملها. وتمارَس هذه الطريقة عند المتقدمين في هذه الرياضة. إلاَّ أنَّ هذه الطريقة بواسطة التنفس قد تحدث صعوبات كثيرة ومشاكل جّمة، ولذلك يجب تجنّب ممارستها إلا بإشراف الشيخ وتوجيهه. ويمكن استعمالها لمجرد تركيز الذهن على كلمات “الصلاة” فقط، لكي لا يتشتَّت، وأكرّر القول، إنّ هذا يتطلّب بركة خاصة من شيخ يتحلى بفضيلة التمييز.

– قلتم سابقاً، أيها الشيخ، إنّ غاية“الصلاة” هي إعادة العقل إلى القلب، إي إعادة الفعل إلى الجوهر. يمكننا أن نعيشها بنوع أخصّ في المرحلة الثالثة من هذه المسيرة الشريفة. لكنّكم عند شرحكم المرحلة الخامسة ذكرتم قولاً للقديس باسيليوس الكبير جاء فيه “وعلى محبّ الله – حين يتجنَّب هذه كلها – أن يسير نحو الله..”. فكيف يأتي العقل إلى القلب وينطلق نحو الله؟ وهل في هذا تناقض؟

أجاب الناسك قائلاً: كلا، ليس فيه تناقض. يعلّم الآباء القديسون المتوشّحون بالله أنّ هناك مراحل(أي مقامات) مختلفة للمصلّين. فهناك المبتدئين والمتقدّمون، وبتعبير أفضل يستعمله التعليم الآبائي هناك العمليون والنظريون. فعند العمليين تنشأ الصلاة عن خوف من الله وعن الرجاء الصالح. أما عند النظريين فتنشأ عن عشق إلهي وعن تطهُّر يبلغ الحد الأقصى.

وتتميّز الدرجة الأولى، أي درجة العمليين بتركّز العقل في القلب، ومنه يقوم العقل بالصلاة إلى الله بدون انقطاع. أما الدرجة الثانية للصلاة أي درجة النظريين فتتميّز باختطاف النور الإلهي للعقل فينعدم إحساسه بأي شيء من العالم ويفقد أيضاً شعوره بذاته. وهذا هو انجذاب العقل. وفي هذه الحال نقول إنّ العقل مُنطِلق إلى الله. والآباء المتوشّحون بالله، الذين عاشوا هذه الأحوال المباركة وصفوا هذا الجذب الإلهي. قال القديس مكسيموس المعترف “إنّ هو انخطاف العقل بالنور الإلهي غير المحدود، فلا يشعر بذاته، ولا بأي كائن آخر من الكائنات جميعها ما خلا إحساسه بمن تصدر عنه هذه الإنارة بالمحبة”.

– إسمحوا لي بسؤال آخر. إني لم أفهم معنى الآية التي ذكرتم “أنا أنام ولكنّ قلبي ساهراً” إنفحوني عطفكم بشرح هذه الآية. كيف ينام ويظل قلبه مصلياً لله في الوقت عينه؟

– إنّ هذه الآية قد وردت في سفر نشيد الأناشيد في العهد القديم، وليس شرحها عسيراً. لقد ذكر النبي داود في سفر المزامير إنّ قلب الإنسان عميق، وكل أحداث النهار وانطباعاته ومشاغل العقل تنطلق إلى أعماق القلب، إلى ما “تحت الشعور” كما نقول اليوم. فما يشغل الإنسان في النهار عادة يشغل قلبه أثناء الليل أيضاً، حين يهدأ العقل وتستريح قوى الإنسان. وهذا واضح في الأحلام التي نشاهدها. يقول القديس باسيليوس الكبير “إنّ التخيّلات خلال النوم ما هي في الغالب إلاَّ صدى لأفكار النهار” وهو يعني بذلك أنّ معظم التخيّلات “الأحلام” أثناء النوم هي صدى الفكر اليومي. والمشاغل الشريرة والأفكار الشريرة في النهار تنشىء الأحلام الشريرة. يحدث هذا الأمر كذلك في الأعمال الصالحة. فممارس الرياضة “الروحية” وإنسان الله إجمالاً، يشغل فكره في الصلاة إلى الله طوال النهار، وذِكْرُ الله مع تكرار الصلاة لذَّته وشغلُه الشاغل، وكذلك الأمر في أعماله الأخرى سواء أكل أم شرب. فهو يعملها كلها لمجد الله وفقاً لقول الرسول. فمن الطبيعي أن يفكّر قلبه بالله وأن يصلي إليه تعالى أثناء ساعات راحته الليلية القليلة. إنه يسهر…

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
arArabic
انتقل إلى أعلى