Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
☦︎
☦︎

انسحبتُ إلى الخارج وجلستُ على صخرة. وكان الليل قد أرخى سدوله. أما البحر فكان يرسل إلينا أصداء صخبه من بعيد، وقد ملأتْ حلاوة الأبدية نفسي المضطربة. هنا الهدوء يبسط السكينة بغير حدود، لكني أحسستُ بحضور الله-الإنسان، العارف أن يملأ المكان الخالي والزمان الذاهب!

لم أعش في حياتي مثل هذه اللحظات السعيدة إلاّ قليلاً. مرتين على وجه التحديد. في المرة الأولى كنت طفلاً صغيراً في حضن أبي الروحي (عرَّابي) وقد سمعتُ التعليم الديني، وبِفَمِهِ طردتُ الشيطان لكي أصير جديراً بدخول جرن المعمودية المقدّس وعضواً صالحاً في جسد المسيح. أما المرة الثانية فقد حدثتْ في تلك الأمسية في مكان منعزل في الجبل المقدّس (آثوس) حيث سمعتُ التعليم الديني من فم مبارك لا يكلّ هو فم الشيخ، لكي أتمكن بعد ذلك من دخول جرن معمودية ثان هو جرن التوبة، ومن مقابلة الله. مع فارق واحد هو أني في المرة الأولى لم أكن أفهم شيئا ً(لا شيء تقريباً)، وأما في المرة الثانية فقد كنت عارفاً إلى حد ما بالحركة المتجهة صوب الله… ولقد أرسل الله إليّ -في تلك العشيَّة- المنَّ وغذَّاني بواسطة ذلك الشخص القديس الناسك.

يقول النبي إشعياء “طوبى لمن له في صهيون بذرة وأهل في أورشليم”. ويشرح إيغومانوس دير ستافرونيكيتا الأغيوريتي (الآثوسي) هذه الآية بفكرة عميقة قائلاً “يمكننا القول إننا كلَّنا مغبوطون. لأنّ لنا في الجبل المقدّس (آثوس)، صهيون الأرثوذكسية، بذرة النساك القديسين، ولنا أيضاً العديد من أهلنا في أورشليم العلوية. وهؤلاء يعيشون من أجلنا، وهم نور ورجاء لحياتنا الحاضرة والآتية”.

أردتُ أن أطبَّق بعض ما قاله لي الناسك الشيخ وهو الذي كان لي خلال مسيرة المحادثة كما وصفه الأنبا بيمين “مرشداً إلى السّر أكثر منه واضع ناموس”. فأحنيتُ رأسي ووضعته بين ركبتيّ على غرار ما فعل النبي إيليا في جبل الكرمل. وأخذتُ أؤجج قلبي قبل الشروع في“صلاة يسوع”.

إنّ ساعات الليل مبعث حياة للرهبان لأنها تحفزهم إلى “صلاة” لا تنقطع وتثير فيهم أفكاراً عن يسوع كلية العذوبة. ولليل تأثير حاسم في نفوسهم إذ يجعل الحياة الملائكة معاشة فيهم. بذلك يفضلون تخصيص الليل للعمل العقلي والصلاة. والرهبان يلغون الليل، طالما أنّ الحياة الرهبانية تلغي كل شيء. وإنها لإبطالٌ للموت أيضاً، لأنّ الحياة تنتقل إلى الآخرين بطريق الزواج وتنتقل به الموت أيضاً في الوقت عينه، فيولد كائن جديد، مزمع أن يموت أيضاً، في حين أنّ حياة البتولية توفق الموت عن التحكّم في البشرية وقهرها. فعند الراهب تبدأ الأبدية وهي الحياة الحقة، وهو لذلك يحيا الواقع الأُخروي (الإسخاتولوجي) والسيرة الملائكية. وقد قال الربّ “أبناء هذا الدهر يُزوِّجون ويُزوَّجون. لكنّ الذين حُسبوا أهلاً للحصول على ذلك الدهر والقيامة من الأموات، لا يزوِّجون ولا يُزوَّجون”. (لوقا 20: 35 ). فإنّ حياتهم هي حياة دهر آخر. والحياة الحاضرة تمسي عندهم أبدية، والزمن يغدو لا زمنياً.

قال ميثوذيوس في كتابه المائدة “ينبغي التقدّم أولاً بسلوك البتولية على الأرض من جهة، والالتصاق بالسماويات من جهة أخرى”. ولهذا يمكننا القول إنّ الحياة البتولية هي إبطال لليل أيضاً. والليل يتحوّل إلى نهار طالما أنهم يعيشون السيرة الملائكية الإسخاتولوجية عيشة إختبارية. وحيث أنه بحسب سفر الرؤيا “لا يكون هناك ليل”. هذا عينه يجب أن لا يكون ليل عند هؤلاء الذين هم ملائكة في الجسم، فإنّ المسيح الحمل والشمس، يُنير كلَّ شيء والليل في نظر الآباء القديسين مفيد للجميع، العمليين منهم والنظريين على السواء. والعمليون هم المبتدئون الذي لا يزالون في المرحلة الأولى من الحياة الرهبانية، والملزمون بأن يقاوموا أهواءهم ويبذلوا جهدهم، لكي يحولوها إلى عشق إلهي!. فإنهم “مربُّو بهائم” ويحاولون أن يقودوا البهائم. وما هذه البهائم إلاَّ حالات منحرفة للنفس. أما الرهبان النظريون فهم الذين قطعوا هذه المرحلة وقد انتقلوا من عبودية مصر(عبودية الأهواء) إلى بريَّة اللاَّهوى. وهم رعاة يقودون غنماً، أعني بها العقل النقي والقلب الطاهر، إلى جبال المشاهدة. يقول الآباء إنّ الليل لازم ونافع للرهبان العمليين والنظريين على السواء. فالعمليون منهم يذكرون فيه ما ارتكبوا من خطايا خلال النهار وما يتبع انزلاقهم إلى المعاصي من تشويش واضطراب. وبمؤازرة النعمة المتدفقة حياة يكتشفون -بالحق لا بالتخيّل- بعد أخلاقيات النفس والجسد فيأخذون بعد ذلك بالصراخ “يا ربي يسوع المسيح، ابن الله، ارحمني”. ولا يتركون جميع أفكارهم المذنبة وشهواتهم البذيئة، وأعمالهم الآثمة، مقيَّدة في أعماق كهوف اللاوعي بل يدخلون بشجاعة هذه الكهوف ويُخرجون كلَّ ما كّبتَ فيها، مؤازَرين في ذلك بقوة النعمة الإلهية، وبهذه الطريقة يُشفون، إذ بها يطهّرون القلب والعقل لا من الهواجس المركّبة وحسب بل الهواجس البسيطة أيضاً.

أما الرهبان النظريون فإنهم يقضون ساعات الليل بطريقة مختلفة، فقد سبق تطهّرهم من الحالات المخالفة للطبيعة ولذلك ينصرفون إلى المزيد من تمجيد الله القدوس المثلّث الأقانيم. وهم يهدأون عقلياً ويقودون الفكر والقلب إلى جبال المشاهدة. فإذا سجا الليل فكروا في يوم خلق العالم، حين كانت الأرض غير مرئية، وغير منظّمة، ويخيّم الظلام فوق اللجة. وبعدها تبدأ النجوم بالبروز فيذكرون خلق النجوم وكما سبّح الملائكة الله وقتئذً لخلقه العالم كله، يسبّحون هم أيضاً الآن الله على خلقه العالم كله. وبينما الناس ينامون كأنهم غير موجودين، يسهر هؤلاء وحدهم مع الله ويمجدّونه كما كان يمجّده آدم قبل أن يخطأ. وإذا ظهرت البروق واشتد قصف الرعود تذكّروا يوم الدينونة الرهيب. وعند سماعهم الطير وهي تصدح يشعرون بصوت الأبواق وهي تدعوا الأموات ليهبُّوا من قبورهم. ويذكّرهم شروق نجمة الصبح وبزوغ الفجر بظهور الصليب الكريم المحيي، آية ابن الإنسان. ويذكّرهم سطوع نور الشمس بمجيء المسيح شمس البر، بمجد عظيم والقديسون هم أولئك الذين ينهضون حينذاك فوراً لكي يسبّحوا المسيح، وهم الذين يُخْتَطَفون في السحب لاستقبال الرب في الهواء”. أما الذين يتوانون عند شروق الشمس مهملين التسبيح لله فأولئك هم الخطأة الذين سيُدانون…

لقد حاولتُ أن أعيش تلك الأمسية على هذا المنوال إلى حدّ ما وتوخيّتُ بهذه الأفكار، أن أبثَّ الحرارة في قلبي البارد فلما دبّتْ فيه الحرارة صلّيتُ بكلمات، تكاد أن أن تلك الكلمات المحبوبة عينها التي قالها القديس [المغبوط.. (الشبكة)] أغوسطينوس: “إنك أنت القوس المختارة والسيف البتّار القادر على اختراق شغاف القلب الإنساني الصلب. اجرحْ قلبي بسهم شوقك، لتقول لك نفسي: لقد انجرحتُ بعشقك فسالت دموعي مدراراً طول الليل والنهار بسبب جرح حبي لك. إني أسألك، يا سيّد، اضربْ نفسي الصلبة بنصل سيف حبّك القوي، وأنفذْ إلى أعماقها بقدرتك الفائقة. وامنحْ رأسي ماء غزيراً بغير حدّ، ساكباً في عينيّ ينابيع دموع تفيض على الدوام مني أنا الذي ملكه الحب والشوق بلا حدّ إلى رؤية وجهك الكلي الجمال لكي أبكي على الدوام، غير قابل أيّ تعزية في الحياة الحاضرة، إلى أن أوهّل لرؤية الختن المحبوب الفائق الحسن في المظال السماوية إلهي وربيّ…

ارفعْ إلى فوق فمَ نفسي المتعطشة إليك، نحو التيارات القائمة فوق الأشياء، تيارات شعبك السرمدي، وبالأحرى أجذبها إليك أيها الينبوع الحيّ، إلهي وحياتي حتى إذا شربتُ منه بقدر ما أستطيع، أحيا إلى الأبد. يا ينبوع الحياة، إملأ ذهني من نهر نعيمك، وأسكر قلبي سكراً بدون خمر، هو سكر عشقك، فأنسى الأباطيل والتوافه والأمور الأرضية، ولا يبقى في ذاكرتي على الدوام سواك أنت وحدك…”.

 بعد ذلك ردّدتُ “الصلاة” ما استطعتُ إلى ذلك سبيلاً، وهي “الصلاة” التي علّمني إياها الناسك. ولم أدرِ كم من الوقت قضيتُ هناك. فإنّ بعض اللحظات تتوقف عندها عقارب الساعة ولا تتحرك. والأبدية قد أوقفت الزمن…

لقد انقضى الوقت وقطعتُ منتصف الليل من زمن. وبدت لي أكواخ النساك وهي تضاء شيئاً فشيئاً، لأنّ بلابل الليل تستيقظ الآن لكي تغرّد. تنهض “ينابيع التخشع والانسحاق” لتجري متدفقة هنا وهناك فتروي أرضاً عطشى تهبُّ “أبراج الجبل الناريَّة” لكي تّنير تتفتح “الزنابق العطرة” لكي يعمّ أريجها المسكونة.

بعد قليل يصدح النسَّاك بالتضرّعات والترانيم في فيضان من دموع التوبة والإشراق. إنهم يهبُّون من رقادهم ليسبّحوا المسيح متوسلين عليه أن يرسل نعمته الإلهية ورحمته الغنية.

يا يسوع، أيها الجمال المذهل، الذي يفوق كل حسن، أمجَّدك يا من تلازم قدرته إرادته.

يا يسوع، العشق الجنوني المشوق إليه أكثر من كل شيء. أمجّدك أيها القادر على حكم عوالم لا تحصى.

يا يسوع، الطريق والحق والحياة، أشكرك لأنك قدتني إلى حقيقة أقوالك الإلهية المحيية.

يا يسوع أيها الموضوع النهائي “لمشاهدة” المغلوطين، أشكرك لأنك أهّلتَ طبيعتنا غير المستحقة لمثل هذا المجد، مجدك.

يا يسوع النور الذي يفوق كل نور، أعترف لك بأني أسير في ظلمة الخطيئة، وقد غمرتني دياجير الظلام.

يا يسوع يا آخر القضاة، أعترف لك بأنه لم يسبق لي أن جُرحتُ بحبك كما يجب.

يا يسوع الحرارة المحيية الكلية العذوبة، بُثّ حرارتك فيّ أنا الذي استحوذتْ عليه البرودة.

يا يسوع أيها الثوب المرصّع بالنجوم، المتلألئ بالنور، زيَّني أنا العريان.

يا يسوع يا بدء حياتي ومنتصفها ونهايتها، طهّر قلبي، لكي أراك.

يا يسوع، الكائن للجميع وفوق الأشياء كلّها. أنت إلهي. أظهرْ فيَّ وجهك، فأخلص.

يا يسوع، أيها الواحد الفائق العقل، اجعلني موحداً كلياً بذاتي بعودة عقلي وتهذيبه.

يا يسوع، يا سرّ السكون المجهول بصورة فائقة، اجعلني أسمى من كل شيء حسّي وعقلي.

يا يسوع ابن الله، ارحمني.

إنّ الجبل (آثوس) في هذه الساعات مُحاصر، والشيطان يزأر، بيد أنّ الرهبان يتألهون حقاً…

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
arArabic
انتقل إلى أعلى