Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
☦︎
☦︎

أشكركم شكراً جزيلاً، أيها الشيخ، على هذه الشروح المسهبة. فقد استطعتُ حتى الآن أن أتتبّعكم إلى حدّ ما، وتمكنتُ من إدراك مقامات “الصلاة”، أعني كيفية تطور هذا العمل الشريف. ولكن أريد أن أسأل: هل يتمّ العمل من غير جهد؟ أفلا يحتاج إلى جهاد وقهر؟ وإذا كان ملكوت الله يغتصب والغاصبون يختطفونه ( متى 11: 12) أفلا ينبغي أن يكون في “الصلاة” اغتصاب أيضاً، طالما أنّ المرء يذوق بها ملكوت الله؟ لأنّ مشاهدة النور غير المخلوق هي ملكوت السماوات، وقد قرأتُ ذلك في مؤلف للقديس غريغوريوس بالاماس. فأين يكون الجهاد إذاً؟

– قال الشيخ الحكيم (ساكن الجبل المقدّس): لا ريب أنّ الحاجة توجب الجهاد، ولا بد للمجاهد من بذل دم غزير. وهنا يصدق، بنوع خاص، القول الآبائي “أعطِ دماً وخذ روحاً” فإن آدم نفسه بدون الجهاد قد خسر الفردوس، مع أنه كان في مجال مشاهدة الله. فكم بالأحرى يكون جهادنا ضرورياً، لكي نحوز النعمة الإلهية. يخطئ الذين يقولون بعدم ضرورة الجهاد. قال القديس مكسيموس المعترف “إنّ المعرفة بدون العمل هي ثيولوجيا شياطين”. كانت الصلاة قبل السقوط تجري بلا كدّ، شأنها شأن تمجيد الملائكة الذي لا يهدأ. لكنها بعد السقوط تتطلَّب كداً وجهاداً. أما الصدّيقون في ملكوت الله فسيعودون إلى الحال التي كانت قبل السقوط.

– أتمنى لو تشرحون لي هذا الجهاد.

– إنّ الجهاد الأول والأكبر هو قيام المرء بتجميع عقله وفصله عما يربطه بما حوله من أشياء وأحوال وحوادث وأفكار شريرة، لأنّ العقل إذا نأى عن الله مات. فهو كالسمكة إذا خرجت من البحر ومن الماء. قال القديس اسحق السرياني “ما يحدث للسمكة إذا خرجت من البحر، يحدث للعقل إذا نكر الله وانغمس في ذكر العالم”. والعقل بعد السقوط أشبه بكلب سريع الحركة في الهرب ويريد الركض على الدوام. فهو كالابن الشاطر الذي ذكر المثل أنه أراد مغادرة منزل أبيه فأخذ معه ثروته (= الشهوة – الإرادة ) ثم بدَّدها وأنفقها عائشاً في الضلال. وهذا ما قاله الآباء الذين عاشوا الحياة الروحية العميقة وبخاصة القديس غريغوريوس بالاماس.

قلت: إنها فكرة حسنة! ولكن كيف يتجمّع العقل؟

– كما حدث للابن الشاطر تماماً. يقول المثل: “فرجع إلى نفسه وقال: كم من أجير لأبي يفضُل عنه الخبز، أما أنا فأهلك جوعاً. أقوم وأذهب إلى أبي… وقام وجاء إلى أبيه.. وقال الأب لعبيده… قدّموا العجل المسمَّن واذبحوه فنأكل ونفرح. لأنّ ابني هذا كان ميتاً فعاش، وضالاً فوُجد. فابتدأوا يفرحون” (لوقا 15: 17-24).

والعقل الضال أيضاً يحتاج إلى العودة إلى ذاته من تشتّت. فإذا عاوده الشعور بحلاوة بيت أبيه وبالسعادة التي تغمره ورغب في العودة إليه يكون الاحتفال بقدومه عظيماً، فيفرح فرحاً عميقاً، ويُسمَع حينذاك صوت يقول “إنّ ابني كان ميتاً فعاش، وكان ضالاً فوُجد” ويُعطى العقل المائت حياة. ومتى جاء العقل إلى القلب فحينئذٍ فقط يصير الفرح، كما يحدث عند عودة المغترب إلى بيته. وفي هذا يقول نيكيفورس المتوحّد “كما أنّ الرجل المغترب إذا عاد إلى بيته، فرح لم يكن له، لأنه استحق الاجتماع بأولاده وامرأته، هكذا يحدث للعقل أيضاً، فإنه حين يتّحد بالنفس يفعم بلذة وبهجة يتعذر وصفها”. وتجميع العقل يتمُّ بتأجيج القلب قبلاً. إنّ شيخي الدائم الذكر، كان يجلس قليلاً عند غروب الشمس فيستعرض صوراً من حاله الداخلية ومن الطبيعية، ثم يشرع في تلاوة “الصلاة” -بعد أن يكون قلبه قد تأجج- ويستمر في ترداده حتى ساعات السحر، موعد خدمة القداس الإلهي. حينذاك…

– أيها الشيخ أعذروني لقطع حديثكم. إني لم أستطع متابعة كلامكم جيداً. ماذا تعنون بتأجيج القلب. كيف يتم تأجيجه وما حاجة “الصلاة” إليه؟

– سيساعدك مثل الإبن الشاطر: فقط “عاد إلى نفسه وقال: كم أجير لأبي يفضل عند الخبز، وأنا أموت جوعاً. أقوم وأذهب إلى أبي…” أعني أنه فكّر في سعادة بيت أبيه، وفي شقائه هو أيضاً. فتحرّك فوراً للعودة إلى أبيه. لقد قام بمحاولة مضنية ليرغم إرادته ورغبته على اتخاذ قرار بالعودة… وهذا ما نفعله في “الصلاة”، فنحاول التأكد من أننا نعيش في حال الخطيئة، حال شقائنا. إننا نرى انحرافاتنا اليومية فنفحص مختلف الحوادث والخطايا، لكّن هذا يتمّ من الناحية الخارجية فقط، ونشعر كأننا في محكمة حيث تجري محاكمتنا، وأنّ الله جالس على كرسي القضاء ونحن على مقعد المتَّهم. ومتى شعرنا بهذا يبدأ صراخنا “ارحمني”. وفي هذه الحال يجب أن نبكي لأنّ الصلاة الخالصة القويمة تصدر عن البكاء.

يقول الآباء: إن أراد أحد أن يكتسب صلاة عميقة وحياة رهبانية صادقة يجب أن يعرف كيف يبكي وكيف يعيش شعور من يتّهم ذاته وبكل قوة، وأن يعتبر نفسه أسوأ من الآخرين، وأنه حيوان قذر يحيا في دياميس الضلال ودياجير الجهل، وأن يتحلى بنعمة المتّهم نفسه أوَّلاً. كما يقول باسيليوس “… أن يتّهم ذاته بالآثام غير منتظر اتهام الآخرين له لكي يصير تبدّل المتّهم الأول لنفسه”.. وباتهامه لذاته أولاً كما في أمثال سليمان، يستعدّ للصلاة. قال القديس اسحق السرياني: إننا قبل الصلاة نجثو على ركبنا ونرجع أيدينا إلى الوراء ونعتبر ذاتنا مذنبة فيسيطر علينا حينذاك هاجس توبيخ الذات، ويكون في كل مرة جديداً. علينا أن نتوقّف أمامه لكي نتأمله بدون تخيّل. عندها ينزل العقل إلى القلب تائباً، ونشرع في البكاء ونصلي صلاة ثابتة واعية وبلا انحراف. سأستعمل هنا مثلاً من الحياة العالمية. ما يكاد أحد الدنيويين يتذكّر فكرة إهانته أحد الأشخاص حتى يفكّر فيها ويشعر بانقباض في قلبه ويشرع فوراً بالبكاء. ويحدث هذا أيضاً لمن يمارس الصلاة مع الفارق بأنّ مثل هذه الأفكار العالَّمية ذات الدوافع الأنانية لا تأسره وإنما يفكر في نفسه قائلاً لقد أحزنتُ المسيح ونأيتُ عن النعمة الإلهية الخ.. وقد ينجرح قلبه في أعماقه بسبب هذا الإحساس. وإذا ما جرح القلب شعورٌ بالتوبة -وليس بضغط خارجي- فإنه ينجرح ويتألم أكثر من أيّ ألم آخر ينجم عن جرح في بدنه. وهذا الجرح في القلب يضبط العقل ويربطه بالله بصورة دائمة، و“المجروح” لا يطيق النوم حتى في الليل لأنه يشعر وكأنه قائم فوق جمر متّقد. وقد يقوم على أثر هذا بالصلاة بقوة لمدة ربع ساعة. أما قلبه المجروح فيظل ليل نهار يذكر يسوع وهذا ما ندعوه بالصلاة المتواصلة بلا انقطاع. أكّرر القول إنه يستطيع تحقيق هذا لبضع دقائق بصلاة قوية مقرونة بدموع، فيشعر بفعل “الصلاة” في داخله طوال أيام.

ويجب أن أنبّه إلى أنّ شعورنا بعدم استحقاقنا شرط لازم لنوال فعل“الصلاة”. ويتوقّف التقدّم الأكبر على ازدياد وعينا لحالتنا الخاطئة. فلا صلاة حقة بدون هذا الوعي. ويجب والحال هذه أن تُقرَن الصلاة بالحزن. والآباء في الواقع يعلمون أنّ الصعود إلى السماء مرتبط بالهبوط إلى ذواتنا. فكلما زدنا تركيز انتباهنا على أعماق ذواتنا زاد اكتشافنا لخفاياها. وبالتوبة ينزل ملكوت الله إلى القلب فيتحوّل إلى فردوس، وإلى سماء قلبيَّة. ودعوة الرب“توبوا فقد اقترب ملكوت السماوات” ما تزال حيّة ونافذة في كل حين. وبالتوبة وحدها نهتدي إلى الملكوت.

– أفلا توجد حالة ما، يكاد المرء يشعر فيها بأنه متردّ في الخطيئة حتى يتولاّه إحساس بالخيبة فيترك الجهاد؟

– توجد بلا ريب حالة كهذه. فلو حدثتْ لدلَّتْ على أنّ الشيطان هو الذي دسَّ للإنسان فكرة كونه في حال خطيئة، لكي يقوده إلى شهور باليأس وخيبة الرجاء. أما إذا عدنا إلى الله والتمسنا بالصلاة نعمته الإلهية على أثر شعورنا بحال الخطيئة، فإنّ اتجاهنا هذا يكون عطية الله، وفعل نعمة المسيح.

واستأنف الشيخ كلامه فقال: وهناك إلى جانب الشعور بالخطيئة طرق أخرى يُؤجَّج بها القلب. فمنها ذكر الموت إذ يفكر المرء قائلاً: “إني أعيش ساعاتي الأخيرة، وبعد قليل يأتي الأبالسة ليأخذوا نفسي…فإذا جالت هذه الفكرة في الذهن بدون تخيّل، أثارت الورع ودفعتْ إلى الصلاة.   

وردتْ في كتاب الشيوخ نصيحة للأنبا ثيوفيلوس تدلّنا كيف يمكننا أن نفكر وقد جاء فيها: “أيّ خوف ذعر وقهر يتملّكنا حين تنفصل النفس عن الجسد؟ فإنّ القوات المعادية تأتي إلينا حينذاك بكامل جحافلها،… رؤساء الظلام، أسياد عالم الشر، السلاطين والسيادات وأرواح الخطيئة، يقبضون على النفس وكأنهم يعاقبونها مظهرين لها كل ما ارتكبت من خطايا، بمعرفة أو بجهل، منذ صباها حتى عمرها الحاضر. وستُتَّم بكل معاصيها. فيا له من هول يستولي على النفس في تلك الساعة إلى أن يصدر الحكم وتتحرَّر. هذه هي ساعة قهرها، إلى أن ترى ما ستؤول إليه.

إلاّ أنّ القوات الإلهية ستقف هي أيضاً في مواجهة القوات المعادية وستظهر الأعمال الصالحة، وتدرك النفس وهي واقفة في الوسط ما يشوبها من ذعر وخوف، إلى أن يصدر القاضي العادل حكمه. فإن كانت مستحقة عوقب الأبالسة واختُطفتْ منهم. وتصبح من ذلك الحين بلا همّ وبالأحرى تسكن وفقاً لما ورد في الكتاب. “إنّ السكنى فيك هي لجميع المبتهجين”. وسيتم المكتوب “يزول الوجع والحزن والتنهُّد” (إشعياء35: 1.) فتتحرّر النفس وتسير نحو ذلك الفرح والمجد اللذين يتعذر وصفهما، وهناك تستقر.

أما إذا كانت قد عاشت في التواني فإنها تسمع الأقوال الرهيبة “ليُرفع الشرير، لكي لا يرى مجد الرب”، فيستولي عليها فجأة يوم غضب، يوم ضيق وقهر، يوم ظلمة وضباب وتُسلَّم إلى الظلمة البرَّانية، ويُحكم عليها بالنار الأبدية فتتعذب إلى دهور لا حصر لها. وحينذاك: أين فخر الحرب؟ أين المجد الفارغ؟ أين الارتياح واللذة؟ أين الحياة المبهرجة؟ أين الراحة، وأين الكبرياء؟ أين المال؟ وأين التمايز الاجتماعي؟ أين الأب؟ أين الأم؟ أين الأخ؟ من يستطيع أن يخرجها فيما النار تحرقها وهي ترزح في العذاب الشديد؟”.

إلا أنّ هناك أيضاً أفكاراً أخرى مناسبة، هي شعور النفس بحلاوة الفردوس ومجد القديسين ومحبة الله، لا سيما إذا كان الإنسان قد حضر القداس الإلهي في ذلك اليوم واشترك في جسد الربّ ودمه الطاهرين.

– أيها الشيخ إن سمع العالم مثل هذه الأفكار يشك فيها ولا يصدّقها. وهناك العديد من اللاهوتيين، والروحانيين أيضاً، يعارضون هذه النقاط فيزعمون أنها ليست مناسبة للناس في العالم ويدعمون زعمَهم بنوع أخصّ بالآباء القديسين. وهم يقسمونهم إلى آباء صحويين وآباء اجتماعيين، ويبرزون للعالم الآباء الاجتماعيين لأنّ تعليمهم – كما يزعمون- أكثر التصاقاً بالأرض، أما تعليم الآباء الصحويين، فإنه يصلح للأديرة. ولست أدري ما نصيب هذه الآراء من الصحَّة.

– إنكم تطرقون موضوعاً كبيراً، متعدّد الجوانب واسعاً ويتطلب زمناً طويلاً. إلاَّ أني لا أمتنع عن تقديم بعض الأجوبة العامة. وأول ما أنبه إليه هو أنه لا يمكن تقسيم الآباء إلى آباء صحو أو صوفيين، وإلى آباء اجتماعيين. كما أنه لا يمكن تقسيم علم اللاهوت إلى صوفي وغير صوفي أو تقسيم الحياة الروحية إلى علمانية ورهبانية أي القول بأنّ بعض التعاليم مخصّصة للعالم، وأخرى مخصصة للراهب. إنّ ثيولوجيا الكنيسة الشرقية الأرثوذكسية ذات طابع سرّيّ، والحياة الروحية كلها تقشّفية وللآباء القديسين جميعاً معتقد مشترك وحياة مشتركة، وتعليم مشترك، وقد حصلوا جميعاً على الحال المغبوطة، حال التأله ،إذ صاروا أحياء في المسيح والمسيح يحيا فيهم، وفي داخلهم يعمل الروح القدس. ولهذا فإنّ الآباء الصحويين هم دائماً وفي الوقت عينه آباء اجتماعيون أيضاً كما أنَّ الآباء الاجتماعيين هم دائماً وفي الوقت عينه آباء صحويون. أعني أنّ اجتماعية الآباء ما هي إلا فيض من صحو الآباء. من اهتم منهم بالموضوعات الاجتماعية ليس عالماً اجتماعياً أو عالماً نفسياً أو عالماً أخلاق أو مربيّاً وحسب بل إنه عالم لاهوتي أيضاً بكل ما في هذه الكلمة من معنى. وهؤلاء الآباء يعيشون، هم أوَّلاً، الله اختيارياً ثم يحاولون أن يساعدوا الإنسان لكي يعيش الله أيضاً. فاجتماعية الآباء بناء على ما سبق ليست سوى بعد من أبعاد الثيولوجيا، أي أبعاد الحياة في المسيح “التي هي في الوقت عينه حياة في الروح القدس وحياة في الكنيسة أيضاً”. فالكنيسة، في الواقع، هي حيّز الثيولوجيا الأرثوذكسية، والثيولوجيا هي صوت الكنيسة. ولجميع الآباء نقاط مشتركة، أعني أنّ الثيولوجيا التي انتهجوها كانت أرثوذكسية، وكذلك المعتقد الكنسي، والحياة الكهنوتية والرهبانية معاشة عندهم، فمن الخطأ تقسيمهم إلى آباء صحويين وإلى آباء اجتماعيين لأنّ فصلهم على هذا النحو ذو نتائج وبيلة في الحياة الروحية وينتهي إلى التجديف على الروح القدس.

– ألا تظنون أنّ بعض الآباء، كالقديس باسيليوس الكبير أو القديس يوحنا الذهبي الفم، اللذين تكلّما كثيراً على مسائل اجتماعية كانوا أقرب إلى الشعب؟

– بكل تأكيد. لكني أرى -كما قلت سابقاً- ضرورة بعض التوضيحات. فأولاً، إنّ هذا لا يعني أنّ هؤلاء الآباء لم يعيشوا بالدموع والصحو والصلاة، أعني أنه يجب أن لا نفصل تعليمهم الاجتماعي عن حياتهم الداخلية. يجب ألاَّ يُفكَّك الأب القديس وإلاَّ فإنه قد يُعتبر عالماً اجتماعياً أو عالم أخلاق وحسب. والفرق شاسع بين العالم الاجتماعي والبيولوجي لأنّ كلاً منهما ينطلق من دوافع وأسس مختلفة، والأنثروبولوجيا (علم الإنسان) تختلف كثيراً عند كل منهما.

ثانياً- إذا كان بعض الآباء القديسين قد تكلّم على المسائل الاجتماعية أكثر من سواه فما ذلك إلاَّ لأنهم تلقوا من الله إعلاناً بأنهم يجب أن يتكلّموا مع إنسان معيَّن. ويجب ألاَّ ننسى أنّ كلام النبي أو كلام الرسول أو كلام القديس يقال للشعب الموجَّة إليه حسب درجة نضجه وروحانيته. فإن بدا في كلام أحد الآباء نقص، فهذا لا يعود إلى نقص في مجابهة الأب للموضوع وعجز في عقليته، بل إلى عجز العالم عن فهم شيء ذي مستوى أعلى فالأب القديس لا يجهل الكلام على مستوى عالٍ لكنه يتقيّد بقدرة الرعيّة على الاستيعاب. كما أنّ الروح الهدوئية تتجلى في كثير من المؤلفات الاجتماعية التي كتبها الآباء القديسون. وللمزيد من الإيضاح نأخذ حال القديس يوحنا الذهبي الفم الذي ذكرته. فإنّ هذا الأب القديس كاتب اجتماعي، وكتبه صالحة لأن يقرأها الناس في العالم. ويذكر كثيرون تعليمه في مختلف الموضوعات الاجتماعية والأخلاقية، لكنهم ينسون أنه هو نفسه قد عاش الهدوئية والتنسك بالصحو والدموع والحزن والصلاة المتواصلة وذكر الموت الخ… وإذا قرأ أحد الرهبان الهدوئيين كتبه أدرك فوراً أنه أب هدوئي.

سأذكر لكم فقرة من تعليمه ثم أحاول إبداء بعض الملاحظات. فهو يتحدّث عن “صلاة يسوع” (وعن الصلاة بوجه أعم) وعن قيمتها فيقول: “يجب أن تمارس “الصلاة” بعقل مركّز، غير مشتّت، وبقلب مجروح بشعور التوبة، لكي يكون مثمراً. “إنّ “الصلاة” سلاح عظيم وكنز لا ينقص، وثروة لا تُستنفد أبداً وميناء غير متموّج، وشرط صفاء وأصل خيرات لا تحصى. وهي أقوى من المُلك نفسه… وإذ أقول“الصلاة” فلا أقصد صلاة هزيلة مفعمة بالتواني، بل أعني صلاة ممتدّة بنفس متوجعة، وعقل متوتّر. فهذه هي “الصلاة” الصاعدة نحو السماء. فلنزكيَنَّ إذاً حرارة الوجدان ولنحزنَنَّ النفس بذكر الخطايا. لنحزنَنَّها، لا لكي نضايقها بل لكي نعدَّها لكي يستجاب لها، ونجعلها تصحو وتستيقظ وبالصحو واليقظة نجعلها تلمس السماوات…فما من شيء يطرد التواني وعدم الاكتراث كالألم والحزن، لأنهما يجمعان العقل من كل مكان، ويعيدانه إلى ذاته. فإنّ المتضايق المصلّي على هذا النحو يستطيع بعد“الصلاة” أن يجلب إلى نفسه المزيد من اللذة فتستقر فيها”. وهو يضيف قائلاً “إن أقنع المرء نفسه أنه أسوأ الناس أجمعين يحصل فوراً على دالَّة في الصلاة”.

واستأنف الشيخ قائلاً، بهذه الطريقة عينها: يا أبتِ، كان يمكن أن يتكلّم كبير الهدوئيين. ونستطيع هنا أن نلاحظ بعض النقاط:

أولاً- إنّ القديس يوحنا الذهبي الفم يربط الصلاة بالنفس المتألمة والعقل المتوتر(اليقظ) ولا بد أن يعود العقل من تشتّته إلى ذاته لكي تتم الصلاة المتكاملة.

ثانياً- من الضرورة بمكان لكي يكون للصلاة فعالية ذات نتائج ناجعة أن يؤجَّج القلب قبل الصلاة وهو ما تحدثنا عنه آنفاً. فإنّ القلب يتأجج والعقل يعود، وبذلك تكون الصلاة منتجة.

ثالثاً- يؤجَّج القلب بتذكّر الخطايا، وبتوبيخ الذات، والشعور بأننا أسوأ الناس، “أحط من كل خليقة”.

فإن عشنا هذه الصلاة وفقاً لهذا النهج فقط، نستطيع الحصول على اللذة الروحية، نعمة المسيح. أرأيتم الأب الهدوئي؟

– لقد أدهشتني قراءة هذه الفقرة من أقوال القديس يوحنا الذهبي الفم وتحليلكم لها وقد ترك رأي الأب القديس في نفسي أثراً طيباً.

– أتسمح لي بتصحيح؟

– بالتأكيد.

– ليس هذا رأياً شخصياً للقديس يوحنا الذهبي الفم، وإنما هو تعليم الكنيسة. فنحن لا نستطيع أن نتحدّث عن آراء للآباء القديسين، وكأننا نعتبرهم فلاسفة وعلماء اجتماعيين وعلماء أخلاق، بل نتحدّث عن تعليم الآباء من حيث أنهم أعضاء جسد المسيح المجيد، يتقبّلون إشراقات نور الروح القدس. ونحن إذا عشنا في داخل الكنيسة نبطل الفرد أشخاصاً وموضع أفعال الثالوث، فيستنير العقل ويصير منبراً للروح القدس. وكل عمل عظيم في الكنيسة ينطلق من الطاعة. وقد أطاع الآباء القديسين الله بملء الحرية فتغيَّروا وصاروا آنية لله، وعاشوا ثم تكلّموا لكي يساعدوا الآخرين أيضاً.

– أشكركم على التصحيح، وأسألكم أن تتعطفوا فتشرحوا لي شيئاً آخر، فقد ذكرنا قبلاً أنّ الراهب الهدوئي إذا قرأ القديس يوحنا آراء الذهبي الفم أدرك انه أب صحويّ. فلمَ لا نستطيع نحن تمييز ذلك، ونعتبر الآباء الذين كتبوا في موضوعات اجتماعية مجرّد علماء اجتماع وغرباء عن هذه الحياة الداخلية؟

– يحدث هذا لأنّ الروح القدس لا يعمل في داخلنا عملاً كافياً. والكتاب المقدّس ومؤلفات الآباء القديسين قد كُتبت بإنارة الروح القدس، وهي بالتالي تُشرح وتصير مفهومة بإنارته فقط. فمن له معتقد الآباء، وعنده الروح القدس، يقرأ كتاب أي أب فيعرف فيه الأب الهدوئي، الصحويّ الذي عَرَفَ الرب الروح القدس. فإن القديسين فقط، لأنّ حياتهم متطابقة واختباراتهم مشتركة وطرق تعبيرهم واجدة. فهم يدركون النعمة التي تعمل داخل نفوس الآباء القديسين وفكرهم، من الكلمات التي يستعملونها، وأحياناً من طريقة تعبيرهم. فإن قرأ أحد معايني الله أفاشين القديس باسيليوس الكبير في خدمة القداس الإلهي يدرك فوراً أنّ باسيليوس قد رأى النور غير المخلوق مع أنه لا يذكر ذلك حرفياً.

أما إذا درس علماء اجتماع أو علماء أخلاق مؤلفات الآباء المختلفة بدون أن يكونوا حاصلين على الروح القدس، فإنهم يعزّزونها ويفكّكونها. ويبدو لي أنّ استعمالنا مقتطفات منفردة من مؤلفات الآباء على المنوال أب خارج الروح النسكية لكي نؤيد بها أفكارنا الدنسة المركزة على الإنسان، لهو هرطقة (بدعة) كبرى. فعندما ننظر إلى أحد الآباء القديسين خارج إطار روح التقشف والتوبة الخ.. فإننا نفكّكه. وكل تفكيك هو تغير. وهذا ما فعله الهراطقة جميعاً. فقد استعملوا عبارات من كتب الآباء بدون أن يفهموها، وبدون أن يكونوا حائزين مسبقاً على شروط تفسيرها تفسيراً صحيحاً.

ولذا فإنّ شعار العودة إلى الآباء، الذي يُعلن اليوم، يقتضي منا أن نحقّقه لا بالاكتفاء بدرس النصوص الآبائية وحسب بل ببذل الجهد بغية اكتساب حياة الآباء القديسين أيضاً، فنحيا في كنيستنا المقدّسة وبالأسرار المقدّسة والفضائل المقدّسة، بالإضافة إلى أنه يجب علينا أن لا نبقى مجرد أفراد بل أن نحيا كأشخاص، كأعضاء للمسيح مكرّمين.

***

في تلك اللحظة دخل علينا المريد المهذّب، ليسأل عما يقدّمه لي. أما الشيخ فكان منهمكاً كلّياً في المحادثة، وقد نسي مراعاة عادة الرهبان في المجاملة المهذّبة المتّعبة عندهم، وهي أن يقدّموا للضيف شيئاً على سبيل البركة. فقد كانت المحادثة الروحية من القوة بحيث أنها أنسته كل شيء سواها.

– أجل. أحضرْ شيئاً للأب…

– ماذا أحضر أيها الشيخ؟ أأقدم له قطعة من الملبن، أو قليلاً من المربى، أو شيئاً آخر؟

بعد أن أمر الشيخ تلميذه بما يلزم، أخذ يشيد به فقال: إني في الحق لم أكن جديراً بأن يكون لي مثل هؤلاء المريدين. لكنّ الله قد رأف بحالي فأرسل لي ملائكة صغاراً. فليس لي في الواقع مريدون، إنما هؤلاء ملائكة يخدمونني. فكيف لي أن أرفع شكري العميق إلى الله الكلي القداسة؟ وهذا المريد بالذات قد قدم إليَّ أخيراً، وأفكاره أفكار طفل صغير. وهذا أمر ضروري لعمل الصلاة العقلية موضوع حديثنا. إنّ آباء الكنيسة يعلّمون قائلين: إن أراد أحد الخلاص وجب عليه أن يصير جاهلاً أي أبله حسب المسيح (نحن جهال من أجل المسيح)، أو طفلاً “إن لم تعودوا وتصيروا مثل الأطفال، فلن تدخلوا ملكوت السماوات”. وكلنا نستطيع بنعمة الروح القدس اكتساب المراهقة الروحية والذهبية الطفولية إزاء الشر، ولو سبق لنا ارتكاب أعظم الخطايا.

إنّ ناموس الحياة الروحية مناقض لناموس الحياة الجسديَّة. ففي الحياة الجسديَّة يتحوّل الفتى شيئاً فشيئاً إلى شيخ. أما في الحياة الروحية فالأمر يختلف، لأنّ الإنسان الذي صار شيخاً بسبب الخطيئة، يتحوّل إلى طفل.أحضرَ المريد بركة الكوخ على صينيَّة، وهي قطعة من الملبن، مع قليل من الماء. أمسكتُ كأس الماء بيدي والتمستُ من الشيخ بركته، قائلاً: أدعوا لي لكي أصير طفلاً أو أبْلَه…

هناك لحظات لا تستطيع فيها أن تصلّي لأنّ الكلام يتوقّف وتحس في قرارة نفسك بأنك في مسيس الحاجة إلى طلب الأدعية والبركات وإنك لتعيش هذا في الجبل المقدّس “آثوس”.ولهذا لا تدعو، ولكنك تلتمس الدعاء.

– باركوا…

– الرب…

هذه هي التحية هنا. فلا يقال صباح الخير، ولا مساء الخير، ولا ليلة سعيدة. إلاّ انه يجري أحياناً بعض التعديل في التعبير كقولهم: “أتمنى لكم صبراً جميلاً، أو سهراً حسناً، أو ..فردوساً رائعاً، أو…نهاية صالحة”.

بينما كنتُ أقول “باركوا” وأتناول قطعة الملبن الشديدة الحلاوة قلتُ في نفسي: أتمنى أن تعيش أيها الشيخ إلى سنين عديدة، أجل أن تعيش عمراً مديداً لكي نعيش نحن الخطأة أيضاً…

وساد صمت عميق. ولاحظتُ أنّ الشيخ كان يردّد “الصلاة” ودلَّ وضعه على أنه كان في حال اختطاف إلهيّ. فتهيبتُ ووجدتُ صعوبة كبرى في الكلام. ولكن كان من الواجب أن أتكلّم… فقلتُ:

– أريد أيها الشيخ أن أستوقفكم لكي أستأنف. إني أعرف أنّ حضوري إلى هنا في هذا المحيط غريب إلى حد ما. فما أنا سوى متطفّل يُصعَّب عليكم حياتكم…

– لا..لا تقلْ هذا. فإننا نستقبلك كأخ لنا تعيش في العالم، وتجاهد الجهاد الحسن، ولك نعمة من الله.

– لا يمكن المقارنة بين النعمة التي لنا بما لكم.

– ومع ذلك فإنّ النعمة الإلهية تغدق عليكم أكثر “لأنه حيث كثرتْ الخطيئة ازدادتْ النعمة جدداً” (رومية 5: 2). والله ينعم عليكم مزيداً من الرحمة، لكي يحفظكم في محبته. إنّ الله ليحبّكم أكثر…

– أقبل هذا كمجرّد تعبير عن اتضاعكم ..- قلت هذا وقد هزمَني حبُّه وتواضعه- ولكني أريد أن أتابع لأننا جئنا إلى هنا، لكي نستفيد كل الوقت، ولآخر دقيقة. لقد تكلّمتم سابقاً عن تأجيج القلب وقلتم إنه يتحقّق بالتأمل في العقاب الأبدي، والفردوس، وفي حال الخطيئة التي نتردَّى فيها الخ..، أفما يُحدِث هذا بعض المشاكل؟ لقد قلتم إنه يجب أن نقوم بصلاة غير ظاهرة، لكي يكون العقل خلالها مجرَّداً من كل شكل. فهل هذه الأشكال تُعيق الصلاة النقية.

– بادئ ذي بدء أن أنّبه إلى أنّ هذه الأفكار ليست أفكاراً محضة وليست تخيّلاً وإنما هي عمل عقلي. فنحن لا نفكر وحسب، إنما نعيش.

أذكر على سبيل المثال أني كنتُ يوماً أتأمل الجحيم بضع لحظات قائلاً في نفسي إني جدير بهذا المكان بسبب كثرة خطاياي فما كاد يجول في نفسي هذا الفكر حتى وجدتُ ذاتي في تلك الظلمة الموحشة وذقتُ آلامها التي لا تطاق وأوجاعها التي تفوق الوصف. ولما أفقتُ من هذه الحال كانت قلايتي تفوح منها روائح كريهة.. لا يمكنكم أن تدركوا مدى قذارة الجحيم وما يعانيه المعاقَبون فيها من ألم…

لقد زاد شعوري الآن أني أمام شيخ قديس يركّز ذهنه على الجحيم. فتركته يكمل حديثه بدون أي تعليق…

– ثم إنّ تأجيج القلب مسبَّقاً يتمُّ بهذه الأفكار، قبل الصلاة. فإذا بدأنا الصلاة ذلك وجب أن نمتنع عن إشغال فكرنا في هذه الموضوعات، وعلينا أن نصب اهتمام عقلنا وقلبنا على كلمات “الصلاة” لنتوصل إلى أمر لم نكن نتصوّره، وهو ما نّبه إليه الآباء كثيراً، أعني أنّ العقل يصير إلى حال التجرُّد من الشكل والتخيّل.

الصلاة جهاد ومن شأنها أن تعزّز المؤمن في جهاده ضد الشيطان، وهي في الوقت عينه جهاد دامٍ مؤلم. فيجب أن نعمل على تركيز ذهننا على كلمات “الصلاة”، ونجعل عقلنا أصمّ وأخرس إزاء كل فكر سواء كان خيّراً أو شريراً، يأتي به الشيطان. أعني أن نمتنع عن سماع الأفكار الواردة من الخارج وعن الردّ عليها، وأن نحتقرها ونرفض المناقشة فيها. يجب علينا أن نتوخى بكل وسيلة إسكات العقل إسكاتاً كاملاً، لأننا بهذا وحده نستطيع أن نحفظ ذاتنا في سكينة بحيث يكون “للصلاة” فعلها الناجع.

ومن المعلوم أنّ الأفكار تتجه من العقل إلى القلب فتشيع فيه الاضطراب. والعقل المضطرب ينقل العدوى إلى النفس فلو هَّبت رياح الأفكار لأثارت في النفس أمواجاً كما تثير الرياح أمواج البحر.

والانتباه أمر ضروري للصلاة. لهذا يتحدّث الآباء عن الترابط بين الصحو والصلاة. فإنّ الصحو يحفظ العقل في يقظة واستعداد مستمرين، أما الصلاة فتحمل إلينا النعمة الإلهية، ونحن نتوصّل إلى هذه الغاية بطرق عديدة. لنضعْ في اعتبارنا قبل الشروع في عمل “الصلاة” الشريفة، أنّه يتطلّب منا أن تكون لنا خلاله رغبة ملتهبة وترقُّب مفعم بالأمل ومرارة شديدة وصبر جميل طويل مقرون بالرجاء في محبة الله.

نبدأ بـ “تبارك الله إلهنا كل حين…” ثم “أيها الملك السماوي…” وبعدها “قدوس الله…” ونتلو بعدها المزمور الخمسين، مزمور التوبة، بورع وخشوع، ثم دستور الإيمان. وننتقل إلى عملية تركيز عقلنا بالهدوء والصمت، ونؤجج عقلنا بالأفكار كما قلنا سابقاً ومتى التهب -وقد يتم ذلك مقروناً بذرف دموع- نشرع في “الصلاة” فنتلو كلماتها ببطء، ونتدارك في الوقت عينه شرود العقل لكي يتابع مسيرة الكلمات. أما الكلمات فينبغي أن تكون متواصلة بدون أن يفسح المجال لتسرّب أفكار أو حوادث أُخرى وبعد كلمة “إرحمني” نتلو الصلاة من جديد “يا ربي، يسوع المسيح…” وهكذا بحيث تصير دورة كاملة ونتحاشى تدخّل إبليس.

يجب أن تعلموا أنّ الشيطان سيحاول بكل وسيلة أن يفصم وحدة الكلمات وأن يقتحم العقل والقلب لعلّه يفتح ثغرة صغيرة يضع فيها قنبلة (لغماً) هي عبارة عن فكرة ينسف بها محاولتنا الشريفة ويدمّرها كلها. فعلينا ألاَّ نسمح له بذلك. وفي هذه الحال يجب أن نتلو الصلاة بصوت عال بالفم لتسمعه الأذنان، فيساعد هذا العقل على المزيد من التركّز.

وهناك طريقة أخرى هي نتلو الصلاة بالعقل أو بالقلب ببطء شديد. وبعد كلمة “إرحمني” نتوقّف قليلاً إلى أن يضعف انتباهنا، ثم نعود إلى تلاوته من جديد. وينصح الآباء القديسون أن نضيف عبارة “إرحمني أنا الخاطئ” إلى الصلاة في الأحوال التي نقصد فيها تأجيج القلب مسبقاً بأفكار تدور حول موضوع حياة الخطيئة التي نتردّى فيها.

وإذا تعب العقل من تكرار الصلاة بكاملها يمكن اختصارها هكذا “يا ربي يسوع المسيح ارحمني” أو“يا رب ارحمني” أو “يا ربي يسوع”. وكلما مضى المسيحي في تلاوة الصلاة جازَ له اختصار كلماتها. وبإمكانه أحياناً أن يكتفي باسم “يسوع” فيكرّره هكذا: يسوع، يسوع، يسوع، يسوع، يسوع…يسوعي. فتهبّ موجة من الصفاء والفرح لتشيع في كيانه. ومن المستحسن أن يبقى في هذه الحال الحلوة التي انتقل إليها وألاَّ يكفَّ عن الصلاة ولو كان فرضه المحدَّد قد انتهى. وعليه أن يُبقي على حرارة قلبه ثابتة كأنه يختطفها اختطافاً، ويستغل هذه العطية الإلهية، فما هي إلاّ هبة كبرى نفحه الله بها من الأعالي. وهذه الحرارة تساعد العقل مساعدة ناجعة فيتعلّق بكلمات الصلاة وينصبّ عليها انصباباً ويهبط إلى القلب ليبقى فيه.

ومن أراد تكريس يومه كلّه للصلاة فليعملْ بنصح الآباء فيصلّي ساعة ثم يقرأ ساعة، يستأنف بعدها الصلاة ساعة أخرى. وعليه ألاَّ يتوانى عن ترديد “الصلاة” إبَّان مزاولة عمله اليدوي.

وينصح الآباء أيضاً بوضع مناسب للجسم ليساعد المجاهد في الصلاة، وذلك بأن يجلس المصلّي، ساعات طويلة، على مقعد، مقفلاً عينيه أو مركّزاً إياهما على نقطة ثابتة. ومن الأفضل أن يثّبتهما على الصدر من جهة القلب. ويرى القديس غريغوريوس بالاماس أنّ النبي إيليا نموذج في هذا. فإنّه -كما يقول الكتاب المقدّس- قد صعد إلى رأس جبل الكرمل وخرّ إلى الأرض وجعل وجهه بين ركبتيه، وأخذ يصلي، فزال الجفاف (الملوك الأول 18 : 42- 45 في الترجمة البروتستانتية العربية).

أجل، يا أبتِ، إنّ النبي قد فتح السماوات بصلاته، فيما كان متَّخذاً هذا الوضع الجسماني. ونحن أيضاً نفتح السماوات بالطريقة عينها، فتهبط إلى قلبنا الجاف غيوث النعمة الإلهية.

لقد قرأتُ بعد زمن هذه الفقرة من أقوال القديس غريغوريوس بالاماس التي ذكرها لي الشيخ الجليل في الجبل المقدَّس. وقد كتبها رداً على الفيلسوف برلعام، الذي كان يسخر من الرهبان الهدوئيين وعملهم، ويطلق عليهم بهزء لقب “حاصري النفس في صُرَّة البطن”. قال هذا الأب المتوشح بالله “إنّ إيليا نفسه الذي كان الأكمل في رؤية الله، قد أزال الجفاف، الذي ظل قائماً سنين كثيرة، وذلك حين أخفض رأسه إلى ركبتيه، وجمع عقله في ذاته ووجَّهه إلى الله باجتهاد. وينصح هذا الأب المتوشح بالله أيضاً باتخاذ طريقة صالحة تساعد المصلّي، ألا وهي تثبيت العينين فيقول “ويجب ألا تتجوّل العين هنا وهناك وإنما ينبغي أن يتركّز نظرها على الصدر أو على صُرَّة البطن، وأن تُرَدَّ إلى القلب قوةُ العقل الشاردة في الأمور الخارجية، بوضع الجسم على هذا النحو.

وتابع الشيخ كلامه قائلاً: أما المكان فيلعب هو أيضاً دوراً هاماً في هذا. فيجب أن يتوفَّر فيه الهدوء والصفاء الخارجي. وكذلك الزمن ينبغي أن يكون مناسباً، فإن العقل تشغله عادة أمور كثيرة بعد العمل طوال النهار. لهذا ينصح الآباء أن تتمّ رياضة الصلاة العقلية في الفجر قبل طلوع الشمس بساعتين. ففي هذا الوقت يكون الجسم كلّه مستريحاً والعقل غير شارد، فتأتي الصلاة فيه بثمر كثير.

– ما الطريقة التي يمكن أن نستعملها، أيها الشيخ، لضبط العقل في حال شروده، طالما أنه أمر كثيرة الحدوث؟

– ثمة أيام وساعات مجدبة لأسباب عديدة، تعسر فيها الصلاة. وعمل الصلاة في هذه الأوقات مضنٍ وصعب. غير أننا إذا أصررنا على أدائه ساعدتنا النعمة الإلهية على مواصلة الصلاة والتقدّم في طريق تألهنا حسب النعمة. سأذكر لكم بعض الطرق التي تعيننا في تخطّي هذه الساعات والأيام الجدباء.

ينبغي أولاً ألاَّ نفقد شجاعتنا، مهما كانت الأسباب. وعلينا في هذه الساعات بالذات أن نردّد صلاتنا بالشفتين. وقد يكون من امتيازات الأقوياء المنعم عليهم، أنهم يستطيعون أن يثبتوا عقولهم بسهولة على الكلمات، وأن يصلوا بدون تلكؤ. أما نحن فضعفاء وخطأة واكتظت نفوسنا بالأهواء فغدونا في مسيس الحاجة إلى بذل كل جهد لا بل إلى إراقة دمنا فعلاً في سبيل الوصول إلى ذلك. وإذا رأينا عقلنا يشرد باستمرار ويفقد انتباهه، فليس لنا إلاَّ أن نلتمس المعونة من عند الله، كما فعل الرسول بطرس حين رأى الريح شديدة، وقد أوشك على الغرق، فصرخ إلى ربه مستغيثاً: “يا ربّ نجني” (متى 14: 3.).

وإذا هبّتْ فينا ريح الهواجس والضجر، فما لنا سوى الصراخ مثل بطرس مستنجدين، فيكون لنا ما حدث له “وفي الحال مدَّ يسوع يده وأمسك به”. أعني أنه بعد صلاة متعبة، تتبدَّد حينئذٍ، بمعونة الله، كل هذه التخيّلات التي تأتي لتشغل العقل، لأن اسم المسيح يخرقها بطريقة غير منظورة.

أعود إلى القول إنه يجب ألاَّ يستولي علينا الذعر في هذه الأحوال، وما علينا سوى مواصلة المقاومة. ويجب أن تكون مقاومتنا من القوة بحيث تضارع شدة الاعتداء الذي يشنّه الشيطان علينا وفي ساعة الصلاة يجب ألاَّ نستقبل أيَّ فكر ولو كان صالحاً، لأنّ الأفكار شريرة أيضاً. أعني أنّ الأفكار الصالحة إبان الصلاة تفتح الطريق للشيطان لكي يدخل ويقطع عمل الصلاة المقدّس وبذلك نسقط في خطيئة الزّنى الروحي. فإنّ الآباء يقولون: إن ابتعد العقل عن ذكر الله خلال الصلاة وشرد هنا وهناك ارتكب زنىَّ روحياً. فهو يخون الله ويرفضه. وهل هناك أعظم من خطيئة خيانة يسوع الحلو وجحده لمصلحة إبليس عدو الخير الحسود؟

فإنّ عجزنا عن ضبط العقل وردّه عن تشتّته، بات من الضروري القيام بمزيد من الجهاد المضني. فإنّ السفينة يا أبتِ تشق غمار أليمّ بالشراع في حال هبوب الرياح، وإذا كان البحر هادئاً سهلتْ قيادتها بالمجداف. ويحدث مثل هذا في “الصلاة” فإنّ ملأتْ حرارة نعمة المسيح كياننا سارت “الصلاة” إلى غايتها بسهولة. أما إذا غابت النعمة فلا بدلنا من تجشّم مشاق التحرّك بواسطة المجاديف أي المزيد من الجهاد. وفي هذه الحال لا بد لنا من درس كتب الآباء التي تجمع العقل وترد الفكرة من شروده. ومتى شعرنا خلال الدرس بالخشوع لنتوقّفْ عن المطالعة ونستأنف ترديد “الصلاة”.

هكذا يجب أن نفهم ما قيل عن وجوب قراءة كتب الآباء بقلب متأله لا بالمنطق الجاف. علينا أن نقرأ المؤلفات التي كتبت بالقلب، والقلب يقرأ هذه الكتب بارتياح. ومعنى هذا أنه يجب الجمع بين القراءة والصلاة.

علينا أن نتلو بعض مزامير داود أو أن نلجأ إلى الترنيم أيضاً. ومن المستحسن أن نكون قد أعددنا من قبل بعض الطروباريات الخشوعية التي تذكر محبة الله وتشير إلى حياتنا في الخطيئة، وإلى الحضور الثاني للمسيح، وتنطوي أيضاً على التماس العون الإلهي الخ…ويجب أن نتلوها قراءة لا ترنيماً..أو أن نردد صلوات أخرى نظمها الآباء القديسون كالقديس إسحق السرياني. هذه كلها ينبغي في هذه الأحوال أن نتلوها بالفم كما قلت آنفاً. أما “الصلاة” فيجب أن تُتلى مصحوبة (بالحبل المعقود).

ولا شك أننا نجني بعض الثمار بهذه الطريقة والقليل منها على كل حال خير من حرمان التنعّم به مهما كان ضئيلاً.

أعود فأكرّر القول إنّ المرء في هذه الأحوال يحتاج إلى المزيد من الصبر والثبات. وقد تغدو الأفكار التي تخطر على ذهننا مفيدة في استعمالها من أجل تطهيرنا.

– أتساعد في التطهير؟ كيف يكون ذلك؟

– لا يكاد الشيطان يرانا ونحن نصلي ونسعى إلى تركيز الذهن على “الصلاة” حتى يعمل ما في وسعه لكي يحول دون ذلك. وهو يستغلّ كلّ شيء، وبخاصة الأفكار التي تشغلنا أكثر من سواها، ويضرب على وتر ضعفنا الذي يؤلمنا كثيراً فيوجّه قوسه إلى محبّ الملذات فيقذفه بأفكار شهوانية، ويصوّب سهمه إلى محبّ المال محمَّلاً بأفكار تذكي فيه الطمع. أما محبّ المجد فيصبّ عليه رشقات من سهام أفكار الهوس بالعظمة والرفعة.

ومن الأفكار التي تجول في ذهننا خلال الصلاة ندرك ما فينا من نقاط الضعف، وما يمكن داخلنا من نجاسات، ونحسّ بمواطن الداء فنستطيع بعد ذلك أن نعيرها انتباهنا ونجاهد للخلاص منها.

– اسمحوا لي أيها الشيخ بالتدخّل… أعترف بأني قليل الخبرة في موضوع “صلاة يسوع” غير أني، حين أجاهد لكي أمارسها يحدث لي ألم في الدماغ وكثيراً ما يمتد إلى القلب أيضاً من شدة التعب. فما هذا؟ وما يجب عمله في مثل هذه الحالات؟

– إنّ وجع الدماغ والقلب يصيبان المؤمن في بدء هذا الجهاد الروحي، فيظن أحياناً أنّ دماغه سينفلق وأنّ قلبه سيتمزّق. ويزداد الوجع في الدماغ إلى حدّ يظن فيه أنه موشك على الموت. وهذا الألم طبيعي إلى حدّ ما، ومردُّه إلى عدم تعوّد العقل على ممارسة مثل هذا العمل وإلى وضع الجسم أيضاً. إلاَّ أنّ هذا كثيراً ما يكون موضع استغلال الشيطان لكي يوفق الصلاة. وفي حال وجع القلب فيجب أن يتأكد من سببه فقد يعود إلى أنه مضى في هذا العمل قدماً قبل الأوان واستعمل طرقاً لا تناسبه. عدا هذا فإنّ وجع القلب قد ساعده لأنه يمكن أن يصير سباً مباشرة لتركيز العقل على موضع الألم وقيامه بصلاة متواصلة.

– إنّ فكرتكم هذه مقتضبة جداً وإني لأرغب في المزيد من شرحكم لها. وأريد أن أعلم على وجه التحديد لماذا ينبغي الإصرار على الصلاة فيما يكون العقل متألماً؟

– لأنّ تطهيره يبدأ بعد ذلك مباشرة. وسيتجلّى هذا التطهير في الدموع إذ تبدأ بالهبوط بغزارة، كالنهر المتدفق، ويتنقّى العقل وينزل إلى القلب وحينذاك يتوقّف الألم ويكفّ الانزعاج. وهي دموع لا يمكنه ضبطها، ولا تفسيرها، ولم يبذل أي جهد من ذرفها.

توقّف الشيخ عن الكلام. ولمحتُ دمعة كثيفة تتدحرج من عينيه فأضاءتْ وجهه. ودمعتْ عيناي أيضاً عفوياً، وقد حطم صوته وأفكاره النيّرة قلبي المتحجّر، تذكرتُ القديس أرسانيوس الذي كتب عنه كتاب“الشيوخ” (الغيرونديكون) ما يلي: “لقد قالوا إنه قضى حياته منكبّاً على عمله اليدوي وعلى كتفه قطعة من القماش يسمح بها دموعه الهاطلة من مقلتيه. ويوم سمع الأنبا بيمين برقاده اغرورقت عيناه وقال:

“مغبوط أنت أيها الأب أرسانيوس لأنك بكيتَ على نفسك هنا في العالم. ومن لا يبكِ على نفسه هنا سيبكي عليها هناك في العالم الآخر أبدياً. ولا مفرَّ من بكاء المرء سواء هنا بإرادته أو هناك بسبب العذاب”.

وقطع الشيخ عليَّ تفكيري فقال- وهو أشبه بالخارج من بحر دموع لا تنفد- لا حاجة إلى التوقّف فوراً إذا حلّ بنا ألم. فإنّ هذه الأفكار يدسُّها الشيطان الخبيث المجرم لكي يقضي علينا. غير أنّ المجاهد في الصلاة يعلم حيل الشرير وأفكاره… والشيطان يهمس له قائلاً: “كُفَّ عن الصلاة، وإلاّ فإنك ستتعرّض للجنون أو لداء القلب”.

سأقرأ لك نموذجاً من كتاب“الشيوخ”. “كان أحد الرهبان، إذا ما حان وقت صلاته، تعتريه قشعريرة وحّمى ووجع في الدماغ. فكان يقول في نفسه:ها إني مريض موشك على الموت، فلأنهض للصلاة قبل أن يدهمني الموت. وكان يرغم ذاته بهذه الفكرة ويُقبل على الصلاة. وما يكاد ينتهي منها حتى تزول الحّمى. بهذه الفكرة صمد الأخ في وجه إبليس الشرير وقاومه بالصلاة فانتصر عليه وهزمه”. لهذا يجب ممارس رياضة الصلاة” أن يَغُضَّ النظر عن أي ألمٍ يعترضه وأن يتخطَّاه.

– أرغب أيها الشيخ أن تفيضوا في شرح ألم القلب. فإني أعلم أنّ الآباء قد خصُّوا هذا الألم بالمزيد من الأهمية لاعتبارهم إياه طريقاً ملائماً تجتازه“الصلاة”. وإني لأطمع في أن تذكروا لي بعض أفكارهم في هذا الموضوع

إن ما قلته أنت سابقاً حقيقة لا ريب فيها، فإنّ الآباء حين انهمكوا في درس“صلاة يسوع” أو بالأحرى عاشوا، مرّوا بهذا المقام. ولذلك أعطوه هذه الأهمية الكبرى. فلا بد أن يصيب هذا الألم على وجه التأكيد المنهمكين باستمرار بصلاة يسوع. إنهم يعلّقون عليه أهمية كبرى لأنّ حلول هذا الألم يعني أنّ العقل يهبط إلى القلب ويتم اتحاده به بفعل الروح القدس، فيشيع صفاء في النفس والجسد ويتنقى الجانب المفكّر في النفس ويمسي التمييز بين الأفكار واضحاً. وفي هذه الحال يمكننا تمييز الأفكار جيداً وندرك تطوّرها ونهايتها. وبهذا يستطيع الناسك الهدوئي أن يعرف حالة أحد الخطأة بدون أن يرتكب هو نفسه إحدى الخطايا. وهذا يحدث لأنه يعرف بعلمه الرياضي (النسكي) ذهنية الهاجس ومسيرته ونهايته.

وثمة حقيقية واقعية في هذا الإطار وهي أنّ فعل الصلاة في قلب الناسك يجعله شديد الحساسيَّة فيستطيع أثناء صلاته من أجل شخص ما يدرك بصورة تكاد أن تكون مباشرة حالته، وهكذا يصبح بصيراً.

ولكي أضع الأمور في نصابها أقول إنّ من أهداف“الصلاة”، كما قلتُ آنفاً، أن يُوحَّد الإنسان كله، أعني توحيد قوى نفسه الثلاث، بتركيز الانتباه على القلب، ليشعر(القلب) في البدء بفعل الصلاة ثم يتّحد العقل والقلب معاً. فالقلب حسب رأي الآباء يشعر أولاً بحضور الله أي نعمته الإلهية ثم يحرّك العقل أيضاً. وقد عاش الآباء اختبارياً (الحياة الروحية) أولاً ثم فكَّروا إلهياً(ثيولوجياً) لكي يصونوا الحياة. وعلى هذا فإنّ القلب يشعر أولاً بحرارة حضور الروح القدس وحلاوته. ويحدث نقيض ذلك إذا غابت النعمة الإلهية عن حياة الإنسان ويتضح ذلك من جمود قلبه وبرودته. وأكرّر القول إنّ الإنسان يحبّ الله بقلبه أولاً ثم بعقله. ووصية الله جليّه “أحبب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل قدرتك ومن كل فكرك” (لو1.: 27).

لعلكم تعرفون أنّ المنطق غير مرفوض في الكنيسة. غير أنه من بعد السقوط أمسى عاجزاً إلى حد كبير عن إدراك الله. ولكن إذا نما الإحساس الباطني الروحي تحرَّك العقل إلى إدراكه تعالى. فالقلب إذاً يتبينَّ حقيقية حالنا إذا كنا مخطئين أو محافظين على وصايا الله. لكنّ اتحاد العقل والقلب لا يتمّ إلاّ بفعل الروح الكلي قدسه.

ونحصل على النعمة الإلهية بالتوبة وبحفظ وصايا المسيح. أما العقل فهو يَجِدُ القلب ويتَّحد به بفعل النعمة. ولا ريب أنّ هذه خطوة هامة في سبيل“صلاة يسوع” والتأله. ولهذا يجب على القلب البشري أن ينسحق، “فالقلب المنسحق المتواضع لا يرذله الله”. لا ريب أنّ كثيرين يستعملون طرقاً عديدة متنوعة من أجل هبوط العقل إلى القلب، إلا أنّ التوبة آمنها وأنجعها. من المفيد جداً أن نشعر بألم في القلب بينما نبكي على خطايانا وأن نحسّ أحياناً بالحرارة تدبُّ إليه، وأن ندرك إجمالاً تحرّكه وتحسّه. غير أنّ هذا ينبغي أن يتمّ شيئاً فشيئاً، لأنّ حدوث هذا الفعل فجأة عند ذوي القلوب الضعيفة غير المعتادة على مثل ذلك قد يؤدي إلى نشوء حال من الانحراف البسيط بدون أي تطوّرات خطيرة، لكن من شأنه أن يوقف الصلاة. تحسن ممارسة الصلاة بالشفتين في حال حدوث مثل هذا الألم. وهذا الأمر يتبيّنه على وجه التدقيق مرشدنا الروحي المتّشح بالروح. وما هذا الألم إلاّ آية كمال الصحة وهو ألم طبيعي تماماً وخلاصي.

يظن كثير من المتنسكين أنهم قد أُصيبوا بداء القلب فيترددون على الأطباء، وهؤلاء لا يجدون عندهم أثراً للمرض، لأنّ هذا الألم هو ألم تسبغه النعمة الإلهية على الإنسان وهو دليل على أنّ الصلاة قد غارت إلى أعماق القلب حيث استقرت لتؤدي فعلها، وهي خطوة هامة إلى الأمام.

– لقد سبق أن سمعتُ أنّ العديد من القديسين أحسُّوا“بالصلاة” تُتِمُّ فعلها في القلب، في لحظة معطاة، وهم يشعرون بنوع أخصّ بأنّ اللحظة عطية من الله بشفاعات السيدة والدة الإله. فهل هذا صحيح؟

– أجل. إنّ كثيرين من النساك الهدوئيين القديسين يعملون حقَّ العلم باللحظة التي تبدأ“الصلاة” فيها بإتمام فعلها داخل القلب فيقبلون على ترديدها بصورة متواصلة حتى خلال قيامهم بأيّ عمل. وهم يشعرون أيضاً بأنّ ما حدث لهم إنما هو عطية من السيدة الكلية القداسة. وكان القديس غريغوريوس بالاماس يصلي أمام أيقونة السيدة والدة الإله قائلاً “أنيري ظلمتي” فنال موهبة التكلّم بالإلهيات.

ويجب أن يقال إنّ حبّنا للسيدة والدة الإله وثيق الارتباط بحبّنا للسيد المسيح. فنحن نحب والدة الإله لأننا نحب المسيح أو أننا نحبها لكي نصل إلى حب المسيح أيضاً.

والآباء القديسون قد عبّروا عن هذا بأجلى بيان. يقول القديس جرمانوس بطريرك القسطنطينية “لو لم تكوني أنت السابقة يا والدة الإله لما تمَّ أي أمر روحي… ولا أحد مُخلَّص إلا بك يا والدة الإله”. أما القديس غريغوريوس بالاماس فقال: “أفليست هي وحدها على الحدود بين الطبيعة المخلوقة وغير المخلوقة، ولا أحد يمكنه أن يأتي إلى الله إلاَّ بها وبواسطة المولود منها، ولا يُعطي الملائكة والبشر أيّ هبة من هبات الله إلاَّ بها؟” فنحن ننال الكثير من العطايا بواسطة السيدة والدة الإله. وهي التي أعطتنا المسيح، أعظم هدية، أفلا تعطينا العطايا الأخرى أيضاً؟. فإذا وجّهنا إليها الصلاة فلنقل “يا والدة الإله الفائقة القداسة خلّصينا” غير مكتفين بالقول“تشفَّعي من أجلنا”.

-لأعودنَّ إلى أمر نشأ في ذهني عند تحدّثكم عن اتحاد القلب والعقل. هل يبقى العقل في القلب بعد أن يهبط إليه؟ وفي حالة كهذه كيف يعمل الإنسان؟ وهل يمكنه أن يؤدي وظيفته…الخ؟

– لنسجّل أولاً أنّ العقل لا يذوب ولا يزول وإنما يتكامل ويعود إلى حاله الطبيعية، وهو يكون غير طبيعي حين يكون خارج جوهره (أي قلبه). كما يطرد“بالصلاة” كل العناصر الغربية التي تسرّبتْ إليه. ثم إنّ العقل إذا هبط إلى القلب يبقى قسمٌ صغيرٌ منه زائداً- اسمحوا لي بهذا التعبير- وبهذه الفضلة الزائدة يمكنه الانهماك في أعمال أخرى من غير أن يؤدي هذا إلى عزل العقل عن القلب.

نذكر على سبيل المثال أنّ الكاهن الهدوئي يمكنه خلال قيامه بخدمة القداس الإلهي أن يظلّ منتبهاً لما يقوم به في أداء الخدمة الإلهية حسب ترتيبها، أو أن يتحدّث إلى كاهن و إلى شماس عن شيء متعلّق بسر الشكر دون أن ينفصل عقله عن قلبه. ولكن إن انهمكت هذه الفضلة الزائدة من العقل بأمور غير لائقة، فقد ينتج عن ذلك فصل العقل عن جوهره فصلاً تاماً. لهذا كان أحد النساك، إذا أقبل على تلاوة“الصلاة”،يحصي عُقَدَ حبله، بحيث يشغل هذه الفضلة من عقله لئلا تُحدث له شرّاً. ولعلكم قد أدركتم أنّ الشيطان يحاول استخدام هذه الفضلة من العقل، ليشنَّ علينا حرباً هوجاء…

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
arArabic
انتقل إلى أعلى