سخط وتعجب الكثيرون من المؤمنين المسيحيين من الإدعاءات التي قدمها دان براون في قصته البوليسية “The Davinci Code “والتي تناول فيها سيرة يسوع المسيح وتاريخ كنيسته والعقيدة المسيحية. الرواية التي حققت انتشاراً عالمياً كبيراً جداً متجاوزة نسبة مبيعاتها الثلاثين مليون نسخة في أنحاء العالم بعد ترجمتها إلى العديد من اللغات. وتحولت إلى فيلم كبير يلعب بطولته Tom Hanks.
ما الذي أثار هذا اللغط حول هكذا رواية وجعل لها هذه الضجة؟
أحد الأسباب هو مزجها بين العناصر الأدبية في اللغز الإجرامي و الرومانسية العاطفية والإثارة مما جعلها مثيرة للقراءة. يقدم فيها الكاتب شخصيات ببراعة للقراء مثل هارفرد الذي يدعي بأن الكنيسة كذبت لقرون طويلة وفبركت حقائق تتعلق بشخص السيد المسيح وألوهته، وإنها أخفت قضية زواجه بمريم المجدلية “والأنثى المقدسة”.
والسبب الآخر أن الفكرة المعادية للمسيحية التي قدمتها الرواية هي فكرة تلقى رواجاً في العصر الحالي.
فحاول دان براون ضرب أسس العقيدة المسيحية وأهمها ألوهية يسوع المسيح وفداؤه ورسالته الخلاصية للجنس البشري.
ما يجب ذكره منذ بداية هذه الدراسة، ما يجب ألا يغيب عن البال، هو أن رواية براون لا يمكن أن تكون مصدرا للمعلومات عن تاريخ الكنيسة ومؤسسها يسوع المسيح. ووربما يتساءل القارئ: “من أين أتى براون بمعلوماته هذه؟” الجواب على السؤال هو أولا: استقى الكاتب معلوماته من الإنجيل الغنوصي لايلين باغلر كتبته في أواسط الستينات، ومن “Grail Holy Blood Holy” لريتشارد لاي وهنري لنكوين ولكتاب “الآلهة في الأناجيل” لمرغريت ستاربيرد. إن الاعتماد على هذه المراجع والمصادر يضعف من رواية براون ومن مصداقيتها، و:أنه يستخف، يستحمق، بعضا من قرائه.
سنعرض بعض هذه الإدعاءات ونقارنها مع المصادر التاريخية والسجلات حتى يتبين للقارئ الواقع من الخيال وللحفاظ على نقاء عقيدتنا الأرثوذكسية.
1- بتولية السيد المسيح: حقائق في مواجهة الخيال
ادعى دان براون أن المسيح قد تزوج من مريم المجدلية وأنجب منها طفلة. كما ادعى بأن التعليم عن، بـ، ألوهية المسيح لم تعرفه الكنيسة حتى مجمع نيقية سنة 325 والذي فرضه الإمبراطور قسطنطين الوثني على المجتمعين، وانه قبل ذاك التاريخ لم يكن لا الرسل ولا خلفاؤهم ولا المؤمنون يؤمنوا بأن المسيح كان أكثر من نبي عظيم.
لكن الكتاب المقدس والتقليد الإلهي مليئان بالبراهين على ألوهية السيد المسيح وبنوته لله. وهنا أسجل بعضا منها.
- سمح المسيح للآخرين أن يدعوه ” المسيح ” (متى 16: 15).
- قال بأنه قادر على غفران الخطايا (متى 9: 2 – 6).
- لم يمنع الآخرين من مناداته ” إبن الله ” (متى 14: 23).
- أكد المسيح بأنه ليس من خلاص بدون الاعتراف باسمه (لوقا 12: 8)
- وعد المسيح بالقيامة من الموت (مرقس 9: 31).
- قال أنه والآب واحد (يوحنا 14 و 8: ).
كما أن لدينا نصوصا كثيرة وصلتنا من المسيحيين الأوائل من نهاية القرن الأول وحتى بداية القرن الرابع والتي تعلن بكل وضوح بأن المسيح هو الإله وابن الله. إليكم بعضها:
- في رسالة برنابا (90 – 100 ب م) يقول: ” لو لم يأتِ المسيح بالجسد لما استطاع البشر أن ينظروا خلاصهم. إذا كانوا لا يستطيعون أن ينظروا إلى الشمس التي هي من أعمال يديه فهل يمكنهم أن يحدقوا إليه لو كان قد جاءهم بغير الجسد. إذا كان إبن الله قد أتى بالجسد فلأنه أراد أن يضع حدا لخطيئة أولئك الذين اضطهدوا أنبياءه “. ثم يضيف: ” للمرة الثانية يظهر يسوع لا كإبن للبشر بل كإبن لله، ظهر بشكل جسدي وبما أنه سيقال أن المسيح هو ابن داوود فإن داوود يسرع ويتنبأ قائلا: قال الرب لربي اجلس عن يميني حتى أجعل أعداءك موطئا لقدميك “.
- القديس إغناطيوس الإنطاكي (105) قال: ” إن الله نفسه وجد في هيئتنا”.
- كلمنضس الإسكندري (150) قال: إنه لحق أن نؤمن أن المسيح هو الله “…إلخ.
- العلاّمة ترتليان عام 200 “المسيح هو إلهنا”
- القديس كبريانوس قال عام 250 “يسوع المسيح هو ربنا وإلهنا”
- القديس أرنوبيوس عام 305 “يسوع قام بكل هذه العجائب بقوة لاهوته من أجل خلاصنا”.
هذه بعض المصادر من القرنين الأولين والتي تتكلم بوضوح عن الهية يسوع المسيح وكونه إبن الله.
وكتب الباحث والمتخصص في دراسة العصور المسيحية الأول J.n. Kelly فقال ” كان الاعتقاد السائد في القرون التي سبقت عقد مجمع نيقية أن يسوع المسيح كان إلها وإنسانا. والاعتراف الأكثر رسوخا أن “يسوع هو الله” (رومية 10: 9) وقد ثبت هذا التعليم ورسخ في العصر الرسولي “.
إذا، فإن إدعاء براون بأن هذه العقيدة لم تظهر إلا بعد مجمع نيقية، غير مدعوم بأي أدلة تاريخية أو كتابية. كما أن مجمع نيقية لم ينعقد من أجل تثبيت وللتأكد من عقيدة ألوهية المسيح لكون ذاك الإيمان كان منتشرا في كل العالم المؤمن آنذاك، بل عقد ليوضح العلاقة بين الآب والإبن من حيث تساويهما وكونهما من جوهر واحد. كان القصد من انعقاد المجمع هو تفنيد بدعة الكاهن آريوس التي عرفت بـ “الآريوسية” والمدعية بأن المسيح هو إله أصغر من الإله الآب ومخلوق بواسطته في زمن ما من التاريخ وليس أزليا في الوجود مثل الآب.
صحة العقيدة المسيحية
يقول براون “إن قسطنتين أمر بكتابة الإنجيل الجديد الذي حذفت منه الإشارات التي تتحدث عن المسيح الإنسان وادراج العبارات التي تجعله مساويا ومعادلا لله. ومنعت قراءة الأناجيل السابقة والتي جمعت وأحرقت”.
ليس لدينا من أي مرجع، دليل، يدل على أن الإنجيل قد تعدّل في القرن الرابع. هناك مئات من نسخ الإنجيل كانت موجودة قبل نهاية القرن الثاني والتي وردت في قانون الكتاب المقدس الوارد في القرن الرابع. وقد وجدت بعض أجزاء ذاك القانون في “موراتوريان” وتعود إلى النصف الثاني من القرن الثاني وفيها تذكر كل كتب العهد الجديد باستثناء الرسالة إلى العبرانيين ورسالة يعقوب. بعد انتهاء الاضطهادات ضد الكنيسة جمع أساقفتها ووضحوا ما كان عليه الأمر منذ بداية الإيمان المسيحي وما جاء في نبوءات العهد القديم … وأعلنوا بوحي الروح القدس أن الرب يسوع هو المسيح وأن العهد الجديد هو كلمة الخلاص والحياة. لم يضع الأساقفة المجتمعون في نيقية ولا الذين لحقوهم ولا المجامع أية كتب مقدسة، بل قد أقروا كلهم قانونا بالكتب المقدسة الموجودة مسبقا في جميع الكنائس المسيحية المحلية.
خلافا لما يدعيه براون فالكنيسة لم توجد عقيدة، بل جمعت الكتب التي كانت معروفة ومتداولة في الكنائس المسيحية الأولى في كتاب واحد هو العهد الجديد.
يسوع الحقيقي مقابل يسوع الغنوصي:
ادعى براون أن المسيحيين الأوائل قد سرقوا يسوع وغلفوا رسالته الإنسانية في ستار اللاهوت واستعملوها لتوسيع نفوذهم. هذه الأقوال متخذة من الفلسفة الغنوسية (الأبوكريفه). تقول كتب الغنوصيين إن المسيح هو مجرد إنسان وليس إلها كما تصوره الأناجيل الحقيقية والقانونية الأربعة.
يعرف القارئ بأن كلاما كهذا ليس صحيحا، لأن جميع كتب العهد الجديد يعود تاريخها إلى ما قبل سنة 80 م، وقد كتبها أحد الرسل أو شاهد عيان للمسيح القائم من الموت، كالرسول بولس الذي لم يكن واحدا من الرسل ولكنه شاهد الرب الناهض من الموت بينما كان ذاهبا إلى دمشق لاضطهاد المؤمنين حوالي سنة 37 م. منذ ذاك الوقت ابتدأ نشر البشارة المسيحية. أما الغنوصيون فيدعون أنهم يملكون الرؤية والمعرفة التي تسمح لهم أن يدركوا أسرار الكون دون سواهم، وأن الخلاص لا يأتي من عند الله الذي يحرر الخاطئ من خطاياه وليس من خلال المسيح أو أعمال الشخص ولكن نتيجة المعرفة “Gnosis” (هي كلمه يونانيه تعني المعرفة).
ازدهرت هذه الفلسفة، الحركة، في القرون الثاني والثالث والرابع واعتبرها المسيحيون الأول بدعة. فيحذر مثلا القديس بولس في رسالته إلى تيموثاوس من “الخطأ المسمى المعرفة”، كما فعل إيريناوس، وإغناطيوس وترتليان وغيرهم الكثير من المسيحيين الذين عاشوا قبل مجمع نيقية.
لقد صدق براون في كتابه ديفنشي في شيء واحد ألا وهو أن نسخة المسيحية ونسخة الغنوصية قد تطورتا جنبا إلى جنب، الأولى الحقيقية والثانية الغنوصية. الأولى هي رسالة المسيح نفسه ورسله، وقائمة على النصوص المقبولة على نطاق واسع وقد كتبها الجيل الأول من المؤمنين وشهود العيان. أما الثانية والتي تعود إلى وقت متأخر جدا من تاريخ كتابة النصوص الحقيقية وكتبها بعض المتأثرين بالفلسفة اليونانية الذين كتبوا بعد منتصف القرن الثاني وحتى بداية القرن الخامس، ليس لها أية علاقة بالنصوص الأصلية كما يدعي براون، ولم تكتب على يد أي شهود عيان لحياة السيد المسيح الأرضية ولا من قبل أحد الذين عاينوا المسيح القائم من الموت كما فعل القديس بولس، في ضوء هذه الحقائق التاريخية يمكن القول بصورة قاطعة إن الدجاجات المسيحيات قد جاءت قبل البيض الغنوصي.
مريم المجدلية
إحدى أكثر النقاط إثارة للجدل في رواية براون الخيالية أن السيد المسيح قد تزوج من مريم المجدلية. وبناء عليه، حسب براون، هي الوريث الحقيقي للمسيح وحاملة سره وليس الكنيسة، لأنها (المجدلية) هي “الكأس المقدس” التي تحمل دم المسيح فيها في دم طفلته منها. قال المسيح لتلاميذه “سأعطيكم مفاتيح ملكوت السماوات، كل ما تحلونه على الأرض يكون محلولا في السماوات …(متى 16: 18). لكن براون لا زال مصرا على أن المجدلية وليس القديس بطرس هي زعيمة الرسل، وقد هربت إلى فرنسا مع طفلتها التي أصبحت خيط الدم في سلالة ملوك فرنسا، بعد قيامتة وصعوده، خوفا من غيرة وانتقام الرسل.
لا شك بأن هذه التعاليم “البرونية” عن المسيح و مريم المجدلية خيالية محضة وتناقض الوثائق التاريخية والدينية، إذ إن الكتاب المقدس يذكر عن المجدلية ما يلي: الرسول والإنجيلي لوقا يقول “أن المسيح قد أخرج منها سبعة شياطين” (لوقا 8: 2) أما متى الإنجيلي فيقول بأنها ” شاهد على صليب المسيح وحاضرة لدفنه” (متى 27 :32). والإنجيلي مرقس يقول “إنها ذهبت لتدهن جسد المسيح” (مرقس 16: 1)، أما الإنجيلي يوحنا فيقول “إنها كانت أول شاهد للقيامة الجسدية ليسوع الناهض من الموت ” (يو 20: 10).
يفترض البعض – خطأً – أن مريم المجدلية ومريم الزانية هما واحد، لكن ليس لنا من مرجع كتابي لهذا الاستنتاج، وظهرت هذه الفكرة بأنهما واحد للمرة الأولى في القرن السادس عندما أشار البابا غريغوريوس الأول إليها بذلك في أحد مواعظه. أما في الكنيسة الشرقية الأرثوذكسية فلم تعتبر مريم المجدلية زانية ويشاد بها كـ “رسولة إلى الرسل” وقد توفيت في أفسس حيث كانت تقيم مع يوحنا اللاهوتي.
أما قصة سفرها إلى فرنسا فقد ظهرت في الغرب ما بين القرن العاشر والقرن الثالث عشر في Vezelay في فرنسا، حيث اعتقد بأنها عاشت أيامها الأخيرة متنسكة في كهف، لكن لا يوجد أي دعم لهذا النص الأسطوري يرجع إلى ما قبل القرن العاشر.
إذا كنا نريد حقا تكريم أنثى دعونا نكرم العذراء أم الإله الدائمة الطوبى والتي ستكرمها كل الأجيال والتي حملت مخلص العالم، هي حواء الثانية التي بواسطتها محيت خطيئة حواء الأولى. دعونا ننظر إلى حقيقة قيامة المسيح التي أعلنت لا للرجال وإنما للنساء، دعونا ننظر إلى السيد وهو يكشف بوضوح وصراحة عن هويته لإمرأة سامرية وننظر إلى الرسول بولس وتفكيره عن المساواة “إذ ليس يهوديا ولا يونانيا، لا ذكرا ولا أنثى، لا حرا ولا عبدا ولكن الكل واحد في المسيح يسوع”.
الرموز والعشاء الأخير
وأخيراً يركز معظم الجدل عند براون على لوحة للرسام الشهير ليونارد دافنشي “العشاء الأخير” والتي يدعي الكاتب أنها تتضمن رسالة مشفرة عن الحقيقة حول المسيح والكأس المقدسة. يدعي الكاتب بأنه لم يكن هناك من كأس مركزي على مائدة السيد وتلاميذه ليصل إلى النتيجة بأن الكأس المقدسة ليس كأسا ماديا بل شخصا هو مريم المجدلية.
لكن ليوناردو في لوحته يصور هذه القصة المذكورة في إنجيل يوحنا مسرحيا حيث يقول السيد: “واحد منكم سيسلمني” (يوحنا 13: 21)، لذلك لم يجد ليوناردو سببا لإظهار الكأس، لأن الإنجيل حسب يوحنا لا يحتوي على وصف للإفخارستيا. الشخص الجالس عن يمين السيد ليس مريم المجدلية بل التلميذ يوحنا (الذي كان يسوع يحبه) قد صوره بدون لحية تمشيا مع الأسلوب الفني السائد في أوائل القرن السادس عشر في فلورنسا، وهو ما يعكس ما يقوله التقليد والكتاب المقدس عن يوحنا، إنه أصغر تلاميذ المسيح سنا. ويظهر يسوع في وسط اللوحة مع مجموعتين من ثلاثة تلاميذ على كل جانب، أما هوية الثلاثة على اليمين فلا شك فيها، هم يهوذا وبطرس ويوحنا.
بالإضافة إلى ذلك، فإن كنيسة Ponte capriasca قرب بحيرة لوغانو Lugano في سويسرا تحوي نسخة للوحة العشاء الأخير لدافنشي رسمت سنة 1548. على هذا الرسم الفرسكي، ذكر اسم كل رسول من اليسار إلى اليمين، ولم يكن هوية التلميذ يوحنا الجالس عن يمين السيد موضع خلاف.
معنى شيفرة دافنشي في المسيحية الارثوذكسية
إن معنى شيفرة دافنشي في المسيحية الأرثوذكسية تدعم وحدة الحقائق الإيمانية الأولى القائمة على حقيقة الألوهية والإنسانية في الرب يسوع. أما شفرة دافنشي للكاتب براون بما تدعيه تريد أن توجه الأديان والفلسفات العالمية إلى أنه لا شيء صحيح غير هذه الوثنية المعاصرة.
هذه الفكرة المدعية بأن جميع الأديان في نهاية المطاف ما هي إلا جزء من التعبير الكوني. هذه الفكرة نفسها كانت السائدة خاصة في فترة ما بعد العصر المسيحي والعصر العلماني الذي نعيش فيه. إليكم مثل الكاتب ستيفن بروتيرو أستاذ الأديان في جامعة بوسطن، يقول في أحد كتبه -American Jesus:How the Son of God became a National Icon- أن “يسوع لن يصبح شخصاً وطنياً ما لم يتمكن من الخروج من المسيحية”.
ربما يتساءل القارئ أي يسوع هو غير مسيحي؟ لا شك بأن يسوع الغنوصي ويسوع الوثنية الحديثة هما غير مسيحيين، الأرثوذكسية ترفض هذا التفكير بل المسيحيين عموما يرفضوها. هذه الرسالة دافعت عنها المسيحية الحقيقية على مدى قرون من الإضطهادات والصعوبات وحياة القداسة والشهادة. والأرثوذكسية تتابع مباشرة خط تعاليم السيد المسيح من خلال كتابات الرسل وتشريعات المجامع المسكونية التي تسعى للحفاظ على حقيقة الله الخالق والمخلص للبشرية، من خلال إبنه يسوع المسيح الذي تجسد في زمن.
تقدم المسيحية والوثنية على السواء البشرى، فتعرض الوثنية التحرر من الخالق وتنادي بحرية الشخص أن يفعل ما يريد أن يفعله لكي يجد سبيل خلاصه بنفسه، بينما تقدم المسيحية المصالحة مع الخالق الذي أتى إلى خليقته كمخلص بدافع من الحب الإلهي، ليس أحد ممن يسعى إلى هذا المخلص يُرفَض، بينما شيفرة دافينشي تبحث بشجاعة عن الحقيقة بأي ثمن، فتدمر خصائص الإيمان المسيحي في الله الخالق والمخلص للإنسان، والإيمان بأن رسالة الإنجيل فريدو مستوحاة من كلمة الله نفسه والتي دونها نحن خاسرون جميعا.
شيفرة ديفنشي – فك الشيفرة
ليس الأدب والسينما والتلفزيون والفنون المختلفة مجرد ترفيها، بل من طبيعتها أن تنقل مبادئ وقيم مبدعيها ولهذا فهي تبني بطرق مهذبة أو ملتوية. لقد كتب الكثير وقيل أكثر عن رواية براون ” شيفرة دافنشي “، لكن على القارئ أن يقيم وينسف الأكاذيب التاريخية التي كتبت على أساسها. وليس من جدل في مزايا الكتاب الأدبية الذي يحلق مع خيوطه العديدة حتى الفصول الأخيرة، كما لا يمكن لقارئ أن يشكك في الأفكار والقناعات من خلال تركيب أدبي محترم لخيالات تاريخية، ما أثار الضجة حول الكتاب وتصريحات الكاتب العلنية، هو الخلط بين الخيال والحقيقة التاريخية، وما ينتج عنه من تضليل الناس الذين يجهلون التفاصيل التاريخية. أكد براون أنه كتب الرواية بهدف طرح الإيمان والدين والتاريخ للنقاش، كل هذا حسن وجيد، لكن لماذا الغموض المتعمد بين الواقع والخيال ؟ لماذا الإلتفاف الصارخ حول الحقائق التاريخية الكبرى التي بني الكتاب على أساسها ؟
هل كان يسوع متزوجا؟
لم يتكلم أي مؤرخ قديم أو حديث أو معاصر، مؤمن أو عدو للمسيح قط عن زواج السيد المسيح، الشيء الذي طرحه براون في نهاية الألفية الثانية. إن أهمية يسوع المسيح والطبيعة المنفتحة على الحياة والعمل والمهمة العامة للمسيحية كل ذلك يستبعد إمكانية إحتفاظ الكنيسة بهكذا سر عظيم على مر العصور. فعلى أساس الأدلة التاريخية لم يكن المسيح متزوجا وهذا ما يدعمه المؤرخون مما يجعل الرواية تنهار. الزواج في اليهودية كما في المسيحية مقدس ومشرف، فلماذا ستكون فضيحة للكنيسة أن تعلن أن يسوع متزوج كمشاركة منه في سائر الصفات الإنسانية التي شاطرنا بها عدا الخطيئة ؟ لماذا الكنيسة بحاجة إلى إخفاء هذا الأمر إذا كان يسوع فعلا متزوجا ؟
هل كانت مريم المجدلية التلميذ الذي أحبه يسوع كما هو مبين على يمين يسوع في لوحة دافنشي (العشاء الأخير).
لم يدعم براون ولا أي متخصص في تاريخ الفن هذا الإدعاء بأية براهين، ومن المعلوم أن الفنانين والمعاصرين لدافنشي كانوا يصورون الأشخاص حسب مخزونهم من الأشكال .فمثلا الطالب يصور بدون لحية وذي شعر طويل كما رسم يوحنا الإنجيلي – التلميذ الأصغر والحبيب – في الكثير من لوحات العشاء الأخير على مر القرون .عدا عن ذلك فإن دافنشي ترك عدة ملامح ” سكتشات ” أولية عن الصورة الشهيرة التي لا تدع مجالا للشك أنه يرسم التلميذ يوحنا الحبيب، يبرهن كل ذلك على أن عالمي الفن والتاريخ قد دحضا الإدعاء المفترض عن المرأة في لوحة دافنشي هذه وأنها مريم المجدلية وبذلك تسقط رواية دان براون إلى التراب.
من هي مريم المجدلية؟
يمكن للمرء أن يقرأ الأدلة الكنسية كما روتها الأناجيل القانونية التي كتبت في القرن الأول الميلادي، أو يرجع إلى إنجيل فيلبس الأبوكريفي أو إنجيل المجدلية الأبوكريفي من أواخر القرن الثاني حتى الثالث. إن ملامح المسيح في هاتين المجموعتين من الوثائق مختلفة جذريا بحيث لا يمكن للدارس المستقل إلا أن يتعجب منذهلا من التشويش الواضح، والمؤرخ الموضوعي سيعتمد على المصادر والشهود الأقرب إلى يسوع والأحداث المعنية من مراجع متأخرة جدا. على هذا الأساس فإن مريم المجدلية هي من النساء اللواتي شفاهن يسوع المسيح وبشجاعة واضحة واكبته مع تلاميذه الذكور (لوقا 8: 2 – 2). ومريم هذه ليست كما يعتقد الكثيرون مريم المرأة الخاطئة التي دهنت قدمي السيد. مريم هذه هي من أبرز النساء في الأناجيل القانونية، وكان لها الشرف أن تكون أول الشهود الذين عاينوا المسيح القائم من الموت. ولكنها ليست منافسة للرسول بطرس أو لأي رسول آخر.
لا يستحق إنجيل مريم المجدلية ولا إنجيل فيلبس مصداقية أكثر من إنجيل يهوذا الذي تداولته المحطات الإخبارية مؤخرا، لا تشكل تلك الأجزاء من المعلومات الأبوكريفية عن مريم المجلية التي أوحت لدان براون بضعفها سوى قصص من عالم الخيال المحض.
هل فعلا أعلن الإمبراطور قسطنتين ألوهية يسوع المسيح في القرن الرابع؟
يقول براون: إن الكنيسة تحت وطأة سلطة الإمبراطور قسطنتين قد دمرت الوثائق الأبوكريفية، وتبنّت التعاليم الجديدة التي تؤكد ألوهية المسيح. و أقر المجتمعون بأن يسوع هو إبن الله وذلك للمرة الأولى في المجمع المسكوني الأول في نيقية سنة (325 م) وبتصويت محدود.
إن هذه التعاليم ليست سوى كمية من الهراء في عيني أي باحث مستقل وجدي، كانت إلهية المسيح التعليم الرئيسي للقديس بولس الذي كان شاهد عيان للمسيح الناهض من الموت ويرتبط مباشرة مع تعليم الرسول بطرس والتلاميذ الآخرين الأصليون (غلاطية 1: 12 – 18 ) (غلاطية 2: 1 – 10 )، (فيليبي 2: 6 – 11)، (كولوسي 1: 15 – 18)، (أعمال 15: 1 – 29). إن عملية جمع كتاب العهد الجديد قد تمت على مدى فترة زمنية طويلة، وانتهت بمعظمها في نهاية القرن الثاني وهي ثمرة للتقليد الرسولي الذي حفظ في ضمير الكنيسة وفي عملية الجمع كانت بعض الكتب مثل كتاب الرؤيا ورسالة يعقوب ورسالتي بطرس مختلفا حولها. أما الكتب الأبوكريفية المختلفة جذريا عن التقليد الكنسي المحفوظ فلم تكن أصلا جزءا من عملية الجمع هذه.
فالإتهام بمنع هذه الروايات سخيف لأن الكنيسة المضطهدة لم يكن لديها من سلطة لقمع أحد، وقد كان للكتب الأبوكريفية وملفقيها فرصة للنجاح في المجتمع البيزنطي – الروماني كما الكتب القانونية. أما فشلها فسببه فقرها للمادة الإستمرارية. والمجمع النيقي لم يقترح على تعليم لاهوت يسوع ولا على إدعاء آريوس عنه، بل اقترح على اللغة السليمة والكافية لتوضيح الإيمان الرسولي الذي حفظ طوال تلك القرون الثلاثة. تلك اللغة كانت في كلمة هوموأوسيوس Homo ousios) المساوي للآب في الجوهر ( الذي دحض مفهوم آريوس الخاطئ بأن يسوع هو إله دون الآب مكانة. وجاء تصويت الأساقفة 348 ضد صوتين معارضين.
أين يتركنا كل هذا بالنسبة لرواية براون والفيلم؟
حبذا لو أن الذين قرؤا الكتاب والذين قد شاهدوا الفيلم يتجاوزون إلى ما وراء القصة، نحو خطة الكاتب وغيره في ثقافتنا وما يطرحونه أمامنا، دعونا نضع ختطهم لمناقشة مفتوحة في مجتمعنا الحر.
يقول الرسول بولس في الرسالة الثانية إلى كورنثوس: ” لأننا لا نستطيع شيئا ضد الحق بل لأجل الحق “. المناقشة الحرة والنزيهة ستقود الناس إلى الصواب وخير البشرية لأن هذا هو جوهر الحق، أما مشكلة براون، إذا جاز لي، واضحة وهي في عدم وجود الأمانة الفكرية الكافية، وإنها تضلل الناس. وبدون الأمانة يكون الحوار الحقيقي أمرا مستحيلا.
حقيقة أم خيال؟
لا يبدو براون سواء في كتابه أو في تصريحاته مستعدا لمراجعة آرائه، لكنه عوضا من ذلك نراه يمزج بين الأمور. فمن جهة يدعي بأنه يكتب خيالا على أساس من الحقائق. لكن أي نوع من الحقائق وما هو حجمه ؟ لقد نسف الباحثون أسس روايته. فما الذي بقي من عمله؟ أليس من الضروري أن يعيد الكاتب النظر في مسألة خيالاته التاريخية ؟ الكاتب التاريخي يمكن أن يكتب خياله ويعرض رؤياه، لكن من الضروري أيضا أن يذكر الآراء المعارضة بخصوص الأحداث والشخصيات التاريخية. ثم يحلل القضايا ويفلسفها ليدعم آراءه. لأن عكس ذلك يتحول من روايات خيالية إلى عدم أمانة، ومن حرية التعبير الأدبية إلى سخرية وخلط وتضليل للقراء.
عليه، يمكننا أن نستخلص بأن كتاب براون هو نسيج من الخيال، وهو يستغل حجم يسوع وتأثير المسيحية التقليدية على الثقافة ويحمل الكتاب رسالة خبيثة للقراء في محاولة للتستر عن الغرض الحقيقي منه عبر أنصاف حقائق ومعطيات غير صحيحة للأحداث التاريخية. في النتيجة يتضح لنا بانها ما هي سوى انتقادات عنيفة للكنيسة الرومانية الكاثوليكية. واستطرادا هجوم على الإيمان المسيحي التقليدي والقيم المرتبطة بشخص يسوع المسيح، الإله والإنسان. كما ينكر العهد الجديد لمصلحة الكتب الأبوكريفية المرفوضة من الكنيسة، إنه دفاع عن الأنثوية والجنس بكل أنواعه. فهي رسالة بديلة عن الرسالة المسيحية التي تتوافق ونظريات ” العصر الحديث “، عصر الفكر السائد اليوم في وسائل الإعلام والثقافة. فهي فلسفة هؤلاء الحجاج الذين لا ينتمون إلى أي ثقافة بل إلى الذات وعدم الالتزام بالحقيقة، إنما إلى حياة بلا قيم مطلقة .
الذياكون إيفانغيلوس إيفانغيليديس
تعريب المتروبوليت بولس صليبا
ملاحظة: إيفانغيليديس خدم كشماس في كنيسة الثالوث الأقدس في كنيسة الروم الأرثوذكس في New Rochelle في نيويورك. وقبل ذلك كان شماسا لدى المتروبوليت ايفانجيلوس من نيوجيرسي ومساعداً في مطرانية الروم الأرثوذكس في أميركا. كما عمل كمساعد مدرس في قسم تاريخ الفن في جامعه ييل.