يوحنا الدمشقي – دفاق الذهب

أيقنة القديس يوحنا الدمشقي - دفاق الذهب

شقاء (الملكيين): واستغل اليعاقبة الحروب بين الروم والأمويين وأكّدوا لهؤلاء ولاء أبناء الكنيسة الجامعة لدين ملك الروم ودعوهم “ملكيين” واتهموهم بالتجسس للروم فضيّق الأمويون على هؤلاء “الملكيين” ومنعوا قيام بطاركة لهم في أنطاكية وأورشليم والإسكندرية. وقد مرّ بنا أن البطاركة الأنطاكيين مقدونيوس وجاورجيوس الأول ومكاريوس ظلّوا بعيدين عن أنطاكية مقيمين في القسطنطينية. وشمل هذا المنع ثيوفانس الأول (681-687) واسطفانوس الثالث (687-690) ولعل جاورجيوس الثاني (690-695) وخلفه الكسندروس عادا إلى أنطاكية وأقاما فيها. ولكن بطاركة اليعاقبة ظلوا هم أيضاً بعيدين عن أنطاكية مقيمين في جهات ديار بكر وملاطية. وعلى الرغم من أن أحدهم الياس نال حظوة لدى الأمويين فمنح حق إنشاء كنيسة في أنطاكية فإنه لم يسمح له بالإقامة في هذه المدينة.

الأمويين والمسيحيين: ورغب الأمويون في المال لاصطناع الأحزاب وللتمتع بأسباب الدنيا ولمتابعة الحرب فزادوا الجزية والخراج وشددوا في تحصيلهما وضيقوا على الناس حتى أخذوا الجزية في بعض الأحيان ممن دخل الإسلام. “ورأى بعض المسيحيين أن الإسلام لا ينجيهم من الجزية والعنف فعمدوا إلى لبس الأسكيم فأدرك عمال بني أمية غرضهم فوضعوا الجزية على الرهبان وأراد بعضهم اقتضاءها من الأموات فجعلوا جزية الموتى على الأحياء.

ولا يجوز التعميم في شيء من هذا فإن الأمويين عاطفوا أيضاً على بعض المسيحيين من أبناء الكنيسة الجامعة نفسها وأشهر هؤلاء منصور ابن سرجون والد دفّاق الذهب. وعطف الأمويين على بعض الأطباء وعلى الأخطل أيضاً. وكان هذا يدخل على عبد الملك ابن مروان بغير إذن وهو سكران وفي صدره صليب ولا يعترضه أحد ولا يستكفون من ذلك لأنهم كانوا يستعينون به في هجو الأنصار. وأجاد في مديح بني أمية في مناظرة جرت بينه وبين جرير فقال قوله المشهور:

شمسُ العداوة حتى يستقاد لهم وأعظم الناس أحلاماً إذا قدروا

فصاح عبد الملك الخليفة الذي جرت المناظرة في حضوره: “لا فضّ فوك أنت محامينا وشاعرنا اصعد على ظهر مناظرك”. فخلع الأخطل برده وشمر رداءه وقبض بيده على عنق جرير. فصرخ هذا يستنجد: “يا أمير المؤمنين إن مسيحياً لا يحقُّ له أن يسوم مسلماً هذه الإهانة”. فأيّده الحاضرون وقالوا: “الحق في جانبه يا أمير المؤمنين! ولكن عبد الملك لم يبدِ أي اهتمام لهذا الكلام حتى إذ وطئ النصراني بقدمه عنق غريمه قال عبد الملك: هذا حسبك”.

ومما يروى عن عبد الملك أن طبيبه كان مسيحياً نسطورياً اسمه سرحون وأنه عيّن أثناثيوس الرهاوي مربّياً لأخيه عبد العزيز.

ويروى عن عبد الملك نفسه أيضاً أنه كان يدعو المسيحيين للدخول في الإسلام ولكن بدون ضغط أو إجبار. ويروى عنه أيضاً أنه نشأ في أوساط المدينة ورغب في الدين فلما بلغه أن أباه أضحى أمير للمؤمنين أغلق القرآن وهو يقول: “ليس بعد بنينا من جامع”. وينقل البلاذري بالإسناد أن عبد الملك طلب كتدرائية دمشق “للزيادة في المسجد” وبذل للنصارى مالاً لهذه الغاية فأبوا أن يسلموها إليه فامتنع.

واحتاج عبد الملك إلى مقاومة جماعة من مناظريه على الخلافة وفيهم عبدالله ابن الزبير في مكة والمختار وابن أبي العبيد في العراق وغيرهما فوكل ذلك إلى الحجاج وأمثاله فاستخدموا العنف وحصّلوا الأموال بحق وبغير حقّ. ومما يحكى أن الحجاج كتب إلى عبد الملك يستأذنه في أخذ بقية الأموال من أهل الذمة (أهل الكتاب الذين يسكنون في الأراضي الإسلامية فيطلق عليهم أهل الذمة) فأجابه: “لا تكن على درهمك المأخوذ أحرص منك على درهمك المتروك وابقِ لهم لحوماً يعقدون بها شحوماً”.

ونقض يوستنيانوس الثاني معاهدة السنة 685. وكان عبد الملك مشغولاً في توطيد دعائم ملكه فاشترى الصلح من الروم وزاد المال السنوي الذي كان يدفعه معاوية (689). ثم استتب له الأمر في الداخل فنشأت مشادة بين عبد الملك ويوستنيانوس حول ما كتب أو نقش على القراطيس والدنانير. فإن الروم كانوا لا يزالون يستوردون الورق من مصر. وكانت قد جرت عادة الأقباط على كتابة اسم المسيح وعبارة التثليت على أعلى الطوامير. فأمر عبد الملك باستبدال هذه العبارة “قل هو الله أحد”. وكتب في صدور كتبه إلى الروم: “قل هو الله أحد”. وذكر النبي مع التاريخ. فكتب إليه يوستنيانوس: إنكم قد أحدثتم كذا وكذا فاتركوه وإلا أتاكم في دنانيرنا من ذكر نبيكم ما تكرهون. وكانت العملة الرائجة في البلدان الإسلامية لا تزال دنانير رومية ودراهم فارسية. فغضب عبد الملك وخشي ما قد يحدثه هذا التهديد من أثر سيء في نفوس المسلمين. فأشار خالد ابن يزيد على عبد الملك بالتمسك بما أحدثه في القراطيس وقال: “يا أمير المؤمنين حرّم دنانيرهم فلا يتعامل بها واضرب للناس سككاً ولا تعف هؤلاء الكفرة -المسيحيين- مما كرهوا في الطوامير”. فسك عبد الملك دناينره الأولى في السنة 692 وأرسل المبلغ السنوي المفروض عليه لملك الروم من هذه الدنانير الجديدة. فغضب يوستنيانوس لخلو هذه الدنانير من صورة أباطرة الروم ولحملها عبارات لم تخلُ من التحدي: “أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله” فرفض يوستنيانوس قبول هذه الدنانير وتحرك بجيوشه إلى الحدود الإسلامية 693. وأنزل عبد الملك الصلبان واستشهد البطريرك الأنطاكي الكسندروس الثاني وجماعة من المؤمنين. وترمل الكرسي الأنطاكي أربعين سنة.

وتوفي عبد الملك في خريف السنة 705 وتولى بعده ابنه الوليد (705-715). وكان جباراً عنيداً فأمر بجميع أسرى الروم فقتلوا ثم ضغط على المسيحيين ولا سيما التغالبة للدخول في الإسلام. وطمع الوليد في بقية كتدرائية دمشق والتي تعرف اليوم باسم الجامع الأموي “فجمع النصارى وبذل لهم مالاً عظيماً على أن يعطوه إياها فأبوا وأدخلها في المسجد” وسار سليمان أخيه (715-717) على هذه الخطة عينها.

وهذا ما جاء في كتاب تاريخ دمشق لابن عساكر في هدم كنيسة مار يوحنا وبناء الجامع الأموي: قال هشام والصواب سليمان قرأت على أبي محمد السلمي عن عبد العزيز بن أحمد وأنبأنا أبو محمد بن الأكفاني ثنا إبراهيم بن هشام بن يحيى بن يحيى الغساني حدثني أبي عن جدي يحيى بن يحيى قال لما اهتم الوليد بن عبد الملك بهدم كنيسة مريحنا -مار يوحنا- ليهدمها ويزيدها في المسجد دخل الكنيسة ثم صعد منارة ذات الأضالع المعروفة بالساعات وفيها راهب يأوي إلى صومعة له فأحدره من الصومعة فأكثر الراهب كلامه فلم تزل يد الوليد في قفاه حتى أحدره من المنارة انتهى حديث عبد الكريم زاد ابن الأكفاني ثم هم بهدم الكنيسة فقال له جماعة من نجاري النصارى ما نجسر على أن نبدأ في هدمها يا أمير المؤمنين نخشى أن نفترا أو يصيبنا شئ فقال الوليد تحذرون وتخافون يا غلام هات المعول ثم أتي بسلم فنصبه على محراب المذبح وصعد فضرب المذبح حتى أثر فيه أثرا كثيرا ثم صعد المسلمون فهدموه وأعطاهم الوليد مكان الكنيسة التي في المسجد الكنيسة التي تعرف بحمام القاسم بحذاء دار أم البنين في الفراديس فهي تسمى مريحنا مكان هذه التي في المسجد وحولوا شاهدها فيما يقولون هم إليها إلى تلك الكنيسة قال يحيى بن زكريا انا رأيت الوليد بن عبد الملك فعل ذلك بكنيسة دمشق.

أما عمر ابن عبد العزيز (717-720) فإنه أوجب البر بالعهود وإعطاء كل ذي حق حقه فأمر عامله في دمشق أن يرد إلى النصارى كنيستهم. فكره ذلك أهل دمشق وقالوا نهدم مسجدنا بعد أن أذنا وصلينا! ثم أقبلوا على النصارى فسألوهم أن يعطوا جميع كنائس الغوطة التي أُخذت عنوة على أن يصفحوا عن كنيسة يوحنا فرضوا بذلك. ثم شدد عمر في تنفيذ عهد عمر ابن الخطاب جد أمه.

[وهنا لنا وقفة، مع عمر بن عبد العزيز، لم ترد في تاريخ أنطاكية وهي كالتالي:

جاء في تفسير سورة التوبة والآية 28 منها والتي نصّها: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ…” لابن كثير الدمشقي التالي: قال الإمام أبو عمرو الأوزاعي: كتب عمر بن عبد العزيز، رضي الله عنه: أن امنعوا اليهود والنصارى من دخول مساجد المسلمين، وأتبع نهيه قول الله: { إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ }.
هنا نرى أن عمر بن عبد العزيز كان يعتبر ويرى المسيحيين نجس ولا يجوز أن يدخلوا المساجد، ومن ثم نراه يعيد الكنائس التي أُخذت عنوة ويردّها إلى المسيحيين، وقد جاء محاضرة ألقاها المهندس نهاد منير سمعان في المركز الثقافي بحمص في 6 آذار 2001: {لقد ورد في أغلب كتب التاريخ العربي أن الخليفة عمر بن عبد العزيز اختار أن يدفن في دير القديس سمعان في حمص (الطبري .. المسعودي ..ياقوت الحموي .. وغيرهم) ولكن أحداً منهم لم يذكر عن أي سمعان .. هل كان عمودياً أم متبالهاً … قال الفرزدق :

أقول لمَّا نعى الناعـون لي عمراً لقد نعيتم قَوَامَ الحق والديــنِ … قد غَيَّبَ الرَّامِسون اليوم إذ رَمَسوا بِدير سمعان قِسطاسَ المَوازِينِ

والمعروف أن الخليفة عمر كان قد تزهد في آخر أيامه واعتكف في الدير وكره الحكم وشؤونه .. واشترى من الديراني (أي صاحب الدير) مساحة قبر لمدة سنة وطلب منه أن يدفن فيها ).} انتهى الاقتباس الذي تم من موقع زيدل أون لاين.

وكل الغرابة نراها في تقلّب نظرة عمر بن عبد العزيز بين هذين الموقفين. بدايةً يعتبرهم نجس ويمنع دخولهم المساجد ومن ثم نراه يريد أن يعيد الكنائس التي حوُلت إلى مساجد ويختمها بالتصوف والعيش وطلب الدفن في الدير… الشبكة]

أسرة يوحنا الدمشقي: ولا نعلم شيئاً عن أصل الأسرة التي انحدر منها دفّاق الذهب. ولا نجد شيئاً في المراجع الأولية يؤيد قول فون كريمر العلامة الألماني أن هذه الأسرة بزنطية الأصل وليس لنا أن نقول مع الآب اسحق الأرملي أن هذه الأسرة كانت عربية أو آرامية جارت اليعاقبة وقالت قولهم. فالقديس الدمشقي ابتعد عن أديار اليعاقبة ونسك هو وأقاربه في دير أرثوذكسي في فلسطين هو دير القديس سابا. وشهادة ابن البطريق افتيخيوس أن أبا يوحنا طلب إلى خالد أن يعطي الأمان “له ولأهله ولمن معه ولأهل دمشق سوى الروم” لا تعني أن منصوراً كان سريانياً يعقوبياً. والتلمحري المتوفي في السنة 845 يرى في سرجيوس ابن منصور الكاتب الدمشقي رجلاً خلقيدونياً لا يعقوبياً.

وتوطنت أسرة منصور دمشق ونعمت في أيام موريقيوس (582-602) بالنفوذ والاحترام. فمنصور في عرف افتيخيوس شغل منصباً مالياً هاماً وكاد يكون عامل موريقيوس في ولاية فينيقية اللبنانية. ودمشق آنئذ كانت من أهم مدن هذه الولاية. وأبقى هرقل منصوراً في منصبه بعد دخول الفرس إلى سورية. ومنصور هذا هو الذي فاوض المسلمين باسم سكان دمشق بعد تخلي الروم عنها وهو الذي حظي بعطف أولئك بعد دخولهم إليها وتسلمهم أزمة الحكم فيها فبقي في المنصب الذي شغله في أيام الروم إذا كانت الدواوين كلّها باللغة اليونانية في ذلك العصر، إلى أن استبدلها عبد الملك بالعربية. ولم يدخل سرجيوس ابن منصور في الإسلام كما زعم ابن عساكر وابن شاكر فكلامهما في هذا الموضوع مصنوع وحديثهما مُزلف. وثيوفانس الراهب الذي دوَّن بين السنة 810 والسنة 814 يؤكد تعلق سرجيوس بالدين المسيحي وينعته بما تعريبه “كان مسيحياً كاملاً”.

وتقوى معاوية بعد أن نودي بعثمان خليفة سنة 644. ونوى الاستئثار بالسلطة في سورية. ثم صار خليفة أموياً في دمشق فاستعان بالنصارى في الحرب والسلم وكلّف ابن آثال بخراج حمص وأبقى أفراد أسرة المنصور في مراكزهم في دمشق.

وأخلص سرجيوس لمعاوية النصح واجتهد له في المشورة فاتسعت صلاحياته وشملت ديوان المقاتلة بالإضافة إلى المالية فكلّفه معاوية وهو على سرير الموت أن يسيّر الأمور بعد موته حتى يعود ابنه يزيد من الحملة التي كان يقودها في آسية الصغرى. وأبقى يزيد سرجيوس على ما كان عليه. وهكذا فعل معاوية الثاني.

وأحب عبد الملك أن يستبدل اليونانية بالعربية في الدواوين المالية وما تبعها وأن يغير بعض النظم في هذه الدواوين فلم يرضَ سرجيوس عن ذلك فولى عبد الملك سليمان ابن مسعود وهو “أول مسلم ولي الدواوين”. وتوفي سرجيوس بين السنة 703 والسنة 705.

وخلف سرجيوس ابنين أحدهما يوحنا دفّاق الذهب، وهو منصور المؤرخين المسلمين، والآخر والد اسطفانوس السبئيتي ولا نعرف اسمه. وترهب اسطفانوس في دير القديس سابا أيضاً. وتبعه ابن عمٍّ له اسمه غريغوريوس وقد اشتهر بتنظيم الترانيم. وفي القرن التاسع اعتلى السدة البطريركية الأورشليمية بطريركان من أفراد هذه الأسرة نفسها هما سرجيوس (842-858) وإيليا الثالث (879-907)

أيقنة القديس يوحنا الدمشقي - دفاق الذهبمولد القديس ونشأته: ولد قديسنا في دمشق وإليها نُسب. ومن هنا القول أنه يوحنا الدمشقي. ومن هنا أيضاً لقبه الآخر دفّاق الذهب. فالتعبير اليوناني Chrysorroas “دفّاق الذهب” أُطلق أولاً على نهر دمشق ومنعش غوطتها وأول من أطلقه على يوحنا الدمشقي هو المؤرخ ثيوفانس الذي دوَّن بين السنة 810 والسنة 814. وهو يوحنا في المراجع اليونانية ويوحنا ابن منصور في المراجع القبطية وقوريني ابن منصور في تاريخ ابن العبري وابن سرجون في كتاب الأغاني. أمّا سنة ولادته فإنها مجهولة. وقد حصرها أصحاب سير القديسين بين السنتين 670 و680. ويرى الأب نصرالله أن قديسنا ولد حوالي السنة 655. وقد جاء اجتهاده في محله.

ونشأ يوحنا في بيت غنى ووجاهة وعلم. ولا بد أن تكون دمشق قد نعمت بمدرسة عالية كغيرها من مدن ذلك العصر. فماري ابن سليمان يقول إن الأساقفة حذوا حذو فوطيون كاثوليكوس النساطرة فأنشأوا المدارس في مراكز أبرشياتهم. ولكن سرجيون آشر التهذيب الخصوصي ففتش عن مُهذب لائق يعني بتعليم ولده يوحنا وولده بالتبني قوزما وتهذيبهما. ووافق هذا وقوع راهب صقلي في يد القرصان المسلمين اسمه قوزما أيضاً. فلما جاء القرصان بهذا الراهب وبغيره من ركاب السفينة المأسورة إلى دمشق رأى سرجيوس هذا الراهب ورأى البعض من رفاقه يجثون أمامه طالبين البركة. فرثى لحاله واقترب وتحدث إليه فلمس فيه ضالته المنشودة. فمثل أمام الخليفة واستوهبه الراهب فأعطاه إياه. فأخذ سرجيوس وأقامه على تربية ابنيه يوحنا وقوزما. وكان هذا الراهب يدعى قوزما أيضاً وكان ماهراً في العلوم والآدب والفنون فأخذ يلقن الولدين اللغة اليونانية وآدابها والعلوم والفلسفة والموسيقى. ثم لمس في الولدين ميلاً إلى الإلهيات فلقنهما مبادئ علم اللاهوت. ولما أتمّ الولدان علومهما استأذن الراهب ولجأ إلى دير القديس سابا فدعي إلى الدرجة الأسقفية وسيم أسقفاً على ميّومة ميناء غزة.

يوحنا والدولة الأموية: وعوَّلت السلطات الإسلامية على تعريب الدواوين في دمشق العاصمة وفي الولايات ولكن الولاة ألحّوا بوجوب الاحتفاظ بالكتبة والموظفين النصارى. ومن هنا قول سليما ابن عبد الملك: “لم نستغنِ عنهم ساعة ولم يحتاجوا إلينا ساعة واحدة في سياستهم”. فخلف يوحنا أباه في الإدارة “وصار كاتباً لأمير البلد متقدماً عنده صاحب سرّه وجهره وأمره ونهيه”. ومن المبالغ فيه القول أن القديس أصبح مستشار الخليفة الأول.

وقام يوحنا بأعباء منصبه أحسن قيام مسخِّراً لذلك مواهبه وعلمه ومبادئه المسيحية السامية. ثم خُيّر بين البقاء في مركزه وبين المحافظة على إيمانه فهجر العالم غير آسف.

ويقول الراهب ميخائيل في سيرة يوحنا الدمشقي أنه لما رأى يوحنا ما صارت إليه الكنيسة من الاضطهاد والاضطراب في أثناء حرب الأيقونات هب يدافع عن الإيمان القويم فألّف في ذلك ودهم رأيه بالبراهين اللاهوتية والمنطقية وذلك بلغة يونانية فصحى. فراع الأمبراطور ما رآه من هذا الخصم العنيد ففكر في إهلاكه بالحيلة. فأمر بتزوير رسالة تنسب إلى يوحنا وتوجه إلى الأمبراطور ويجيء فيها وصف ما يلاقيه المسيحيين على يد المسلمين من الذل والهوان ويبين فيها مواقع الضعف في الدولة الأموية. ثم تظاهر الأمبراطور لاوون بصداقة الخليفة عمر ابن عبد العزيز وكتب إليه يطلعه على خيانة يوحنا. فانخدع الخليفة واستشاط غضباً فأمر بيوحنا فقطعت يده وطُرد من الخدمة. ويضيف الراهب ميخائيل أن يوحنا عاد إلى بيته يجر أذيال العار والدم يقطر من يده البريئة الطاهرة. فانطرح أمام أيقونة العذراء وبكى كثيراً وصلى وتضرع ونام. فتراءت له البتول واقتربت إليه وأعادت له يده المقطوعة. وكان هو قد تسلم يده المقطوعة ليدفنها. فلما أفاق وشاهد يديه كاملتين ذهب إلى عمر وأراه يده كاملة. فدهش الخليفة وطلب إليه أن يعود إلى وظيفته. لكن يوحنا باع ما عنده ووزع ثمنه على الفقراء والأديار والكنائس وقصد دير القديس سابا وتضرع إلى الآباء أن يقبلوه في عدد صغار المبتدئين. ويلاحظ هنا أن أعمال المجمع المسكوني السابع خالية من أية إشارة إلى قطع اليد والأعجوبة وإن المؤرخين وقدرينوس وأفراميوس وزوناراس ونيقيقورس ساكتون عن هذا الخبر بكامله. واقدم سيرة كُتبت عن القديس يوحنا الدمشقي وتعود للقرن التاسع على يد الراهب ميخائيل المسمعاني تذكر قصة قطع اليد وأيقونة تعود إلى القرن الثامن الميلادي أضاف القديس يوحنا عليها يد ثالثة بقيت هذه الأيقونة في دير القديس ساباً من منتصف القرن الثامن حتى القرن الثالث عشر حين زار القديس سابا رئيس أساقفة صربيا الدير، فقدمت له هذه الأيقونة المقدسة كبركة له فحملها معه إلى صربيا وبعدها انتقلت إلى الجبل المقدس اثوس ومن ذلك الحين إلى اليوم لا تزال الأيقونة قائمة على مقام الرئاسة وسط الكنيسة وهذه الأيقونة تعرف: بـ”أيقونة العذراء ذات الثلاثة أيدي”.

يوحنا الراهب: واعتزل يوحنا قومه وابتعد عن ضوضاء العالم وأكاذيبه فانتقل من القصور والرياض إلى الصوامع والقفار. وكان اسمه قد ملأ الدنيا رغم حداثته فخشي رهبان القديس سابا أن يكون شوقه للحياة الرهبانية ريحاً عاصفة فيعود بعد مدة إلى بيته وسابق عهده. فامتحنوه فأقاموا عليه مرشداً طاعناً في السن شديداً على نفسه وعلى غيره. فأمر ألا يسير بموجب إرادته في أمر من الأمور وألا يفتر في البكاء عن ذنوبه الماضية وألا يستعلي بسبب ما عنده من العلوم. “وألا يعمل عملاً دون رأيه ومشورته. ولا يكتب رسالة إلى أحد”. فلبَّى يوحنا وخضع ولم يخالف لمرشده أمراً فكان كبياً في نسكه وتواضعه بقدر ما كان في مكانته الاجتماعية ومنصبه الحكومي. وعلم يوحنا أن أحد رفقائه الرهبان فقد والده فرثى لحاله وحادثه معزياً وذكر قول شاعر من شعراء اليونانية فنقله إليه: وهذه الأرض لا تبقي على أحد ولا يدوم على حال لها شأن. فوبخه مرشده على إظهار معارفه الأدبية وعاقبه بالسجن في غرفته فأصغى للقول وقَبِله وأذعن.

ثم رغب الرؤساء في ترقية يوحنا فلم يرضَ المرشد واستملهم إلى أن تثبت فضيلته. فأمر يوحنا أن يحمل كمية من السلال التي كان يحوكها الرهبان ويذهب بها إلى دمشق بلد يوحنا ليبيعها في أسواقها! وزاد المرشد ثمن السلال وأوصاه ألا يعود حتى يبيعها جميعاً. فشد يوحنا على حمار الدير وحمَّله جبلاً من السلال وساقه في طريق دمشق. ووصل إلى مسقط رأسه وتجوّل في عاصمة الأمويين عارضاً سلاله فلم يجد من يشتريها لارتفاع سعرها. وما لبث أن عرفه الناس.

فتألبوا حوله لينظروا ذلك الوجه الكبير الذي أمسى راهباً حقيراً بائع سلال. وأمطروه الأسئلة وتغامزوا واستنكروا أسعاره فسخروا منه. أما هو فحافظ على هدوئه ولم يقابل ما سمع إلا بالصمت والإطراق. ثم أطل عليه أحد خدمه القدماء فابتاع السلال كلّها وأنهى عذابه ومحنته. وعاد يوحنا إلى الدير منتصراً على شيطان الكبرياء والظهور.

لقد وقفت أمام أبواب هيكلك ولم أقص الأفكار المنكرة. لكن أنت أيها المسيح الإله يا من برر العشار ورحم الكنعانية وفتح للص أبواب الفردوس افتح لي أحشاء محبتك للبشر واقبلني وأنا أدنو إليك وألمسك كما قبلت الزانية ونازفة الدم. (متالوبس ليوحنا الدمشقي)

يوحنا الكاهن والواعظ: وانقطع قديسنا إلى الدرس وتعمق في اللاهوت على يد يوحنا الرابع البطريرك الأورشليمي (706-734) وسيم كاهناً واعظاً فكان يصعد من الدير إلى المدينة المقدسة ليعلم ويعظ في كنيسة القيامة وغيرها. وتجلت مواهبه في هذه الفترة من حياته فجاءت عظاته ومصنفاته بليغة العبارة لطيفة الكتابة قوية الحجة.
وأمر يزيد الثاني الخليفة الأموي بتحطيم جميع الأيقونات في الكنائس وتبعه في ذلك زميله ومعاصره لاوون الثالث أمبراطور الروم كما سنرى في حينه، فانبرى قديسنا للدفاع عن الدين القويم فوعظ وصنف وهدد باللعنة والقطع (726-730). ولدى تنازل جرمانوس عن الكرسي القسطنطيني (730) اشترك يوحنا في أعمال المجمع الأورشليمي وخصَّ الأساقفة على المناداة بهرطقة الأمبراطور وقطعه. وجاء في بعض المراجع أن يوحنا طاف في مدن فلسطين وسورية وبلغ القسطنطينية نفسها مناقشاً مدافعاً. ولكنه قول ضعيف. والراجح عند رجال الاختصاص أن يوحنا قضى هذا الدور من حياته بين دير القديس سابا والمدينة المقدسة وأنه لم يبرح هذه المنطقة إلا مرة واحدة في السنة 734 ليعالج الضربة التي وجهها الخليفة هشام الأموي إلى أخيه والد اسطفانوس السبئيتي.

يوحنا دفّاق الذهب: وتآليف يوحنا الدمشقي عديدة بعضها لاهوتي فلسفي وبعضها جدلي وبعضها زهدي رهباني وبعضها تفسيري والبعض الآخر تسبيحي طقسي. ولكن الدمشقي لاهوتي في الدرجة الأولى “فما نثر ولا نظم ولا ناظر ولا علم إلا إثباتاً للحقيقة المنزلة أو تمهيداً لها أو دفاعاً عنها أو تبياناً لأسرارها”. وأشهر ما صنَّف في اللاهوت ينبوع المعرفة والمقدمة في العقائد والإيمان الحق والثالوث الأقدس وإيضاح الإيمان. وأشهر هذه المصنفات وأكملها ينبوع المعرفة وقد جاء في ثلاثة فصول فلسفية وكتاب الهراطقة وتفصيل الإيمان الأرثوذكسي. وقال الدمشقي في الطريقة التي اتبعها في عرض ينبوع المعرفة: “سأبين أولاً أحسن ما عند الحكماء لأنه هبة من لله للبشر وسأورد هذيان الهراطقة لنعرف ضلالهم فنزداد تعلقاً بالحقيقة ثم أشرح بعون الله الحقيقة التي تقوض الضلال وتطرد البهتان” وأضاف محدداً علاقة الفلسفة بالإيمان فقال: “وبما أن الرسول يقول امتحنوا كل شيء وتمسكوا بما هو حسن فسندرس تعاليم الحكماء الوثنيين لعلنا نجد عندهم ما يحسن اتخاذه ونجني للنفس ثمرة تفيدنا. هذا وكل صانع يحتاج إلى أدوات لصناعته ولا بد للملكة من خادمات. فلنجمع التعاليم التي تخدم الحقيقة بعد أن ننتزعها من طغيان الكفر ولا نسيء استخدام الخير ولا نستخدم فن الجدل لإغواء البسطاء. ولو كانت الحقيقة لا تحتاج إلى براهين مختلفة فلنستخدم المنطق أيضاً لدحض البهتان وتحطيم أعداء الإيمان. أجل يجب أن نكتفي بما أوحى الله إلينا بواسطة ابنه وأنبيائه ورسله ويجب أن نثبت فيه غير ناقلين حدود الأبدية ولا خارجين عنها”.

وأساس الإيمان عند دفّاق الذهب هو الوحي الإلهي لا براعة العقل البشري فالنفس بحاجة دائمة إلى معلّم والمعلّم المنزّه عن الضلال هو المسيح. ولنسمع صوته في الكتاب المقدس فإن النفس التي تقرع بنشاط وثبات باب روضة الكتاب المقدس الغناء لكالشجر المغروس عند مجاري المياه. والدمشقي شديد التمسك بالتقليد الرسولي لأن الكتاب المقدس نفسه يوجب هذا التمسك.

وحاول الهراطقة الدفاع عن أضاليلهم بفلسفة أرسطو. فصرخ الدمشقي بهم: “أتجعلون أرسطو قديساً وثالث عشر الرسل! أم تعتبرون الوثني أكثر من الكتبة الملهمين!” ثم انبرى يحارب هؤلاء بسلاحهم بفلسفة أرسطو. ولم يكن عمله هذا أمراً يسيراً فموقف أرسطو من القوى فوق الطبيعة مناقض لعقائدنا المنزلة ولا سيما سر الثالوث الأقدس والتجسد الإلهي. ولكن الدمشقي وفِّق إلى إصلاح بعض نظريات أرسطو ولا سيما فيما يتعلّق باللاهوت الطبيعي وعلم الأخلاق وخلود النفس. وأخذ عن أرسطو كثيراً من التحديدات ولكنه أضاف إليها أشياء وأشياء كالفرق بين الطبيعة والجوهر والأقنوم واستعان بها على إنشاء تعابير خاصة بعلم اللاهوت مستقلة عن المذاهب الفلسفية العديدة دقيقة خالية من الالتباس الذي أدى فيما مضى إلى الجدل والخصام والشقاق. وهكذا فإن قديسنا أدرك قوة فلسفة أرسطو فانتزعها من أيدي أعداء الإيمان وسخّرها فنصرها ووضعها في خدمة رجال اللاهوت الذين أتوا بعده كبطرس اللومباردي وتوما الأكويني فأصبح بحق مؤسس اللاهوت السكولاستيكي.
ويعتبر الدمشقي في تاريخ الفكر المسيحي لاهوتي سر التجسد الإلهي. فقد عالج هذا السر العجيب في أكثر مؤلفاته اللاهوتية فوق كل التوفيق إلى الاستخراج من عقيدة الاتحاد الأقنومي جميع ما نقول به في الإيمان واللاهوت. ودعم استنتاجاته المنطقية بنصوص الكتاب المقدس وشهادات الآباء فلم يترك مجالاً للشك في صحة ما ذهب إليه.

وصنَّف الدمشقي في الجدل فجاءت رسائله متينة الحجة صحيحة الاستدلال فردت أهل البدع صاغرين قميئين. وأشهر ما كتب في الجدل رسائله الثلاث في الدفاع عن الأيقونات. وقد سطّرها فيما يظهر بين السنة 726-730 فحوت وجه الصواب في إكرام القديسين وحددت المسائل المتعلقة بهذا الموضوع ولا نزال حتى يومنا هذا نعتمد كلام هذا القديس العظيم في موقفنا من الأيقونات.

ولم تبكم قرارات المجمع الخامس من قال بالطبيعة الواحدة فجاء الدمشقي يكمل عمل افلوغيوس الأنطاكي وتيموثاوس القسطنطيني وانسطاسيوس الأنطاكي وانسطاسيوس السينائي فكتب رسالته الشهيرة في التريصاجيون ووجهها إلى الأرشمندريت جوردانس فأيد فيها الموقف التقليد من آغيوس المثلثة موجهة إلى الأقانيم الثلاثة لا إلى الابن فقط وأنه بالتالي لا يجوز أن يضاف إليها قول بطرس القصار “أنت الذي صُلبت من أجلنا”. وكتب الدمشقي رسالة ثانية باسم بطرس متروبوليت دمشق إلى أسقف دار اليعقوبي مفتداً موقف اليعاقبة مثبتاً رأيه بالمنطق وبأقوال الآباء. وعاصر الدمشقي إيليا الأول بطريرك اليعاقبة (723+). وكان هذا أرثوذكسياً فلما طالع مؤلفات سويروس الأنطاكي جنح إلى القول بالطبيعة الواحدة فسقَّفه اليعاقبة على كرسي أوفيمية ثم رقّوه بطريركاً عليهم. فوجه إليه لاوون أسقف حرّان الأرثوذكسي رسالة في موضوع جنوحه عن العقيدة الأرثوذكسية فأجابه البطريرك الجانح برسالة يحتج فيها عن نفسه وأشار فيها إلى رسالتين وضعهما الدمشقي في موضوع الجدل لا نعرف لهما نصاً.

ومن آثار قديسنا رسالتان في الرد على النساطرة يثبت فيهما ألوهية السيد المخلص ووحدة شخصيته وردَّ أيضاً على من قال بالمشيئة الواحدة ناسجاً على منوال القديسين صفرونيوس ومكسيموس.

وكانت المانوية قد عادت إلى الظهور في منتصف القرن السابع متّخِذة ثوباً جديداً فعرفت بالبولسية. واضطربت بها الألسنة وتفشّت في أرمينا والجزيرة وسورية. وتدرَّع أصحابه بالآية: “حيث العابدون الحقيقيون يعبدون الآب بالروح والحق” فرفعوا الأيقونات ومنعوا السجود للصليب المقدس واستغنوا عن إكرام العذراء والقديسين. فأمسك قديسنا يراعه وجال جولة موفقة في ميدان العقيدة ولا سيما الخريستولوجية منها وصنّف رسالتين في الرد على المانويين البولسيين.

ثم أطلّ المسلمون حاملين القرآن حافظين الحديث فاضطر الدمشقي أن يدافع عن الأسرار واحداً واحداً. فجاء الفصل المئة والواحد رداً صريحاً على العقيدة الإسلامية. وثبت تلاميذه في الإيمان بطريقة السؤال والجواب فظهر حواره الأول والثاني مع المسلمين. ولم يخل كتابه يبنوع المعرفة من الرد على المسلمين ففصوله في الواحد الأوحد والثالوث الأقدس والتجسد الإلهي جميعها ردود على أهل الجدل من المسلمين.

وعُني الدمشقي أيضاً بالزهد والترهب. وأشهر ما صنف في هذا الموضوع كتاب التوازي Parallyla. وقد جاء هذا الكتاب في أبواب ثلاثة فبحث الأول منها في الثالوث والتوحيد وضم الثاني رأي الدمشقي في الإنسان ومشاغله وجاء الثالث بحثاً مستفيضاً في الفضائل والرذائل. فقابل المؤلف كل رذيلة بفضيلة معينة. ومن هنا اللفظ التوازي في عنوان الكتاب كله.

وجاء في التقليد أن قديسنا وضع كتاب المعزي الاوكطوئخوس اليوناني Octoichos ولعله نسقه ونظمه وأضاف إليه. وجاء أيضاً أنه نظم عدداً كبيراً من قوانين الخدمة وأنه لعب دوراً هاماً في تنظيم تيبيكون القديس سابا وأنه لحّن معظم الاكطوئخوس كما لحن عدداً كبيراً من القوانين والطروباريات وأنه أدخل تحسيناً ملموساً في الموسيقى البيزنطية الكنسية. وجاء أيضاً أنه هو أول من نظم السنكسار الرومي.

الدمشقي والآداب العربية: ولا نعلم ما إذا كان قديسنا كتب شيئاً في لغتنا العربية. ولكنه خلّف أثراً ملموساً في علم الكلام وفن الجدل الإسلاميين العربيين. فالخطة التي رسمها لتأليف كتابه ينبوع المعرفة هي الخطة عينها التي اتبعها علماء الكلام فيما بعد. فهم يبدأون مثله بمقدمة فلسفية ثم ينتقلون مثله أيضاً إلى بحث في الملل والنحل قبل الخوض في صلب الموضوع. ولا يقف الكلاميون عند هذا الحد في الأخذ من يوحنا الدمشقي فإنهم ينسجون على منواله في تنسيق الكلام عن العقيدة فيعالجون موضوع الله وصفاته أولاً ثم ينتقلون مثل الدمشقي إلى الكلام في الله وأعماله ثم يحلون البحث في النبوة محل البحث في المسيح.

الوفاة والتكريم: وتختلف المراجع في تعيين السنة التي توفي فيها يوحنا الدمشقي اختلافاً كبيراً. فقد تكون السنة 750 وقد تكون السنة 780. ولكن الأب فايهي يرى العبارة الواردة في أعمال مجمع هييرية Hieria سنة 754 دليلاً قاطعاً على أنّ يوحنا الدمشقي توفي قبل هذا المجمع. وهذه العبارة تنص على أن الثالوث الأقدس كان قد “أمات” الثلاثة جرمانوس القسطنطيني وجاورجيوس القبرصي ويوحنا الدمشقي. ثم يرى الأب العالم في كلام لاونديوس الدمشقي عن اسطفانوس السبئيتي ما يعين على تعيين سنة وفاة يوحنا الدمشقي وجعلها سنة 749. فاسطفانوس التحق بعمه يوحنا في دير القديس سابا وهو في التاسعة من عمره. وبقي معه في الدير خمسة عشر عاماً وتوفي في التاسعة والستين من العمر في السنة 794. فلو طرحنا 69 من 794 عرفنا سنة ولادة اسطفانوس وجعلناها السنة725. ثم لو أضفنا تسع سنوات إلى هذه السنة عرفنا السنة التي دخل فيها اسطفانوس الدير (734) ولو أضفنا إلى هذه السنة الخمسة عشر عاماً التي قضاها اسطفانوس في جوار عمه يوحنا بلغنا السنة 749 سنة وفاة قديسنا.

وفاضت روح قديسنا في السنة 749 في دير القديس سابا ودفن فيه. ثم نقلت عظامه في أواخر القرن الثاني عشر أو أوائل القرن الثالث عشر إلى القسطنطينية إلى كنيسة جميع القديسين في جوار كنيسة الرسل. ثم نهب الصليبيون هذين المقامين. وجاء الأتراك بعدهم فهدموها لإنشاء جامع السلطان محمد الثاني.

وملأ يوحنا الدمشقي الكنيسة بعبير فضائله وعلمه فأكرمه المؤمنون في حياته وبعد وفاته. وردد المجمع المسكوني السابع (787) صدى هذا الإكرام فأعلن قداسة يوحنا الدمشقي في جلسته السابعة وهتف: “ليكن ذكره خالداً”. ثم نظّم اسطفانوس المرتل مديحاً ليوحنا في أواخر القرن الثامن فأتحفنا بما لا نزال نردد ونرتل في الرابع من كانون الأول من كل عام:

ماذا ندعوك أيها القديس. أيوحنا المتكلم باللاهوت أم داود المرنم. أكثارة ملهمة من الله. أم ناياً رعائياً. فإنك تحلي السمع والعقل وتبهج محافل الكنيسة. وبأقوالك المفضية عملاً تزين الأقطار. فابتهل في خلاص نفوسنا.

arArabic
انتقل إلى أعلى