القديسة مريم في الحقيقة والحقّ والدة الإله -ضد فالنتينوس وغيره- لأن جسد المسيح متخذ من مريم: إننا نُذيع في أنّ البتول القديسة هي حقاً والدة الإله. لأن المولود منها إله حقيقي. ولعمري إنها في الحقيقة والدة الإله تلك التي ولدت الإله الحقيقي المتجسد منها، ليس على أنّ لاهوت الكلمة قد أخذ بدءَ وجوده منها، بل على أنّ كلمة الله نفسه -بصفته مولوداً من الآب ولادة أزلية قبل الدهور وبصفته كائناً لا بدءَ له منذ الأزل مع الآب والروح- قد سكن في أحشائها في آخر الأيام لأجل خلاصنا وتجسّد منها بغير استحالة وولد. فلم تلد البتول مجرد إنساناً بل إلهاً حقيقياً، لا بسيطاً بل متجسّداً، لا متّخذاً جسمه من السماء ومارّاً بها كما بفتاة بل متّخذاً منها جسداً مساوياً لنا في الجوهر ومتقنماً فيه. فلو كان الجسد قد أُتي به من السماء ولم يُتَّخذ من طبيعة على مثالنا، فما هي الفائدة من التأنس؟ لأن التأنس قد جرى لهذا السبب وهو أن الطبيعة نفسها التي أخطأت وسقطت وفسدت، هي هي نفسها تغلب المتسلط الخداع وتتحرر بذلك من الفساد، على ما يقول الرسول الإلهي: “بما أن الموت بإنسانٍ، فبإنسانٍ أيضاً قيامة الأموات” (1كور15: 21). وعليه لما كان الشطر الأول صادقاً، فيكون الثاني كذلك.
وإذا كان الرسول يقول أيضاً: “آدم الأول من الأرض أرضيّ، وآدم الثاني من السماء سماويّ” (1كور15: 47)، فهو لا يقول بأن جسد آدم الثاني من السماء، بل واضح أنه ليس إنساناً بسيطاً، فهو يسمّيه آدم ويسمّيه ربّاً، دالاً على طبيعتيه كلتيهما، لأن كلمة آدم معناها أرضي -وواضح أن طبيعة الإنسان أرضية وهي التي قد جُبلت من تراب- أما كلمة ربّ فدليل على جوهره الإلهي.
جسد المسيح قد تكون من مريم: ويقول الرسول أيضاً: “قد أرسل الله ابنه الوحيد مولوداً من امرأة” (غلا4: 4). فهو لم يقل بامرأة بل من امرأة. فقد أشار إذاً الرسول الإلهي إلى أنّ الإله ابن الله الوحيد الجنس هو نفسه قد صار إنساناً من البتول وأنّ المولود من البتول هو نفسه إله ابن الله وهو قد وُلد ولادة جسدية على قدر ما صار إنساناً، ليس ساكناً في إنسان سبق تكوينه كسكناه في نبيّ، بل هو نفسه قد صار إنساناً في الجوهر والحقيقة، أي أنه قنَّم في أقنومه جسداً حياً بنفس ناطقة وعاقلة فصار هو نفسه أقنوماً له. فإن هذا هو معنى مولود من امرأة. وكيف يا تُرى قد صار كلمة الله نفسه تحت الناموس إذا لم يكن قد صار إنساناً مساوياً لنا في الجوهر؟
تسمية مريم والدة الإله توضح السرّ بكامله: ومن ثم فإنه لعدل وحق أن نسمّي القديسة مريم والدة الإله θεοτόκος، لأن هذا الاسم يوطّد سرّ التدبير كلّه، فإذا كانت الولادة والدة الإله، فالمولود منها إله بكامله وإنسانٌ أيضاً بكامله. وإلا كيف قد وُلد من امرأة الإله الذي له الوجود قبل الدهور، إذا لم يكن إنساناً؟ وإنه لواضح أنّ ابن الإنسان إنسان. وإذا كان المولود من امرأة هو نفسه إله فتتضح وحدة المولود من الله الآب بحسب الجوهر الإلهي والأزلي والمولود في آخر الأيام من البتول بحسب الجوهر الذي بدؤه في الزمن أي الناسوت. وهذا مما يدلّ على أقنوم واحد وطبيعتين وولادتين في ربّنا يسوع المسيح.
تجنب الآباء تسميتها “والدة المسيح”: وإننا لا نُسمي أبداً البتول القديسة والدة المسيح Χριστοτόκος. والسبب في ذلك أنّ نسطوريوس، لكي يمحو كلمة والدة الإله ويحطّ من كرامة من هي حقاً والدة الإله وكريمة وفوق الخليقة كلّها، استنبط هذا اللقب، احتقاراً لها. فإن داود الملك أيضاً مسيح وهرون رئيس الكهنة كذلك. ويُطلق هذا اللقب على الملك والكاهن، بل إن كل إنسان لابس الله Θεοφόρος يمكن تسميته مسيحاً، ما عدا من هو الله بالطبيعة وقد ولدته العذراء الذي تجاسر نسطوريوس وسمّاه لابس الله. أما نحن، فحاشا لنا أن نسمّيه لابس الله، حتى إننا لا نفكر بذلك بل نسمّيه إلهاً متجسداً.
في أثناء الحبل به اتحدت الطبيعة البشرية بالكلمة: وقد صار الكلمة نفسه جسداً، إذ لمّا حُبِل به من البتول، أقبل الإله مع اتخاذ طبيعتنا، فكانت تتألّه به حالما كانت تخرج إلى الوجود، حتى إن أموراً ثلاثة كانت تتم معاً بفعل الكلمة: الاتخاذ والتكوين والتأليه. وبذلك يمكننا أن نفهم ثم نقول إن البتول القديسة هي والدة الإله، ليس بسبب طبيعة الكلمة الإلهية فحسب، بل أيضاً بسبب تألّه الناسوت وإنه حالما صار الحبل به تمت أعجوبة التكوين، ذلك أن الحبّل بالكلمة ووجود الجسد في الكلمة نفسه قد حصلا فيما كانت أُمّ الله نفسه -بما يفوق الطبيعة- تقدم للجابل ما ينجبل به، ولله صانع الكل ما يتأنس به، مؤلهاً ما اتخذه له، مع محافظته على اتحاد المتحدين كما كانا عليه وهما يتّحدان. ولستُ أقول ذلك عن اللاهوت فحسب، بل عن ناسوت المسيح أيضاً -عما فيه يفوقنا وعما فيه على مثالنا-. فإن المسيح لم يكن أولاً على مثالنا ثم صار على ما يفوقنا، بل كان دائماً -ومنذ تكوينه- الاثنين معاً. لأنه منذ بدء الحبل به كان حاصلاً على وجوده في الكلمة نفسه. فهو إذاً بشرٌ بموجب طبيعته الخاصة وإلهي بالله بما يفوق الطبيعة. وكان له علاوةً على ذلك ميزات الجسد الحي وكان قد اتخذها الكلمة له -في منطق تدبيره- مخلوقة خلقاً طبيعياً بالحقيقة وبمقتضى المجرى الطبيعي.