المعزي

نعيد في عيد العنصرة لحلول الروح القدس على التلاميذ. ويدعو الإنجيل، وخاصةً عند يوحنا، الروحَ القدس بالمعزي وروح الحق. وبهذا يشرح الكثير من عمل الروح القدس.

يُغادر يسوع تلاميذه عند الصعود، ولكنه قبل ذلك يعدهم أنه لن يتركهم يتامى، بل سيرسل لهم “معزياً آخر”. حين كان يسوع مع تلاميذه كان يحفظهم في العالم من العالم. ولكن الآن الخير لنا أن ينطلق ويرسل لنا معزياً وعاضداً آخر هو الروح القدس (يوحنا 14: 16).

“في العالم سيكون لنا ضيق” لأنه لو كنا من العالم لأحب العالمُ شاكلته وما يشبهه. لكن حقيقة الإيمان وطبيعة حياة المؤمن تخالفان روح العالم. وذبيحة يسوع وصلبه هما الشاهدان على هذا الصراع بين منهجية العالم ومنهجية الإيمان. كان يسوع شهيد هذه المعركة ومثال بذلك لكل مؤمن.

لا شك أن هذا الصراع هو بين الدنيا والأسمى، بين الخير والشر، بين الإيمان والإلحاد، بين الله والشيطان، بين رغبات الإنسان الخيرة ونزواته الغريبة. ولكن ألوان وأشكال وساحات هذا الصراع تتبدل في الزمان والمكان. والسؤال لدى المؤمن ليس عند شكل الصراع بمقدار ما هو السؤال عن وجود المعزّي والمحامي والعاضد، في زمن ليس يسوعُ حاضراً فيه بالجسد. لقد صرخ يسوع وهو مع تلاميذه، في لحظات الخوف والشدة: “ثقوا لقد غلبتُ العالم”. هذه كلمة معزية جداً، إن المعلم قد “غلب” وهذه هي غلبتنا به.

الروح القدس هو المعزي اللاحق (الآخر) بعد صعود يسوع إلى السماوات. إنه يأخذ مكان يسوع، أو يجعل يسوع حاضراً بيننا كما كان بين تلاميذه. كما أن يسوع والآب واحد، بالروح القدس نصير نحن ويسوع واحداً.

إنه الروح الذي يشدّدنا ويذكّرنا بكل ما قاله يسوع (يوحنا14: 26) وبذلك يجعل صلتنا بيسوع وثيقة؛ ولذلك هو المعزي الذي نستدعيه كل حين.

والروح القدس هو معزي لأنه مؤيّدٌ على الحق، إنه روح الحق، الذي يرشدنا إلى الحقيقة كلها (يوحنا16: 13). إنه المضاد لأبي الكذب (الشيطان) والشاهد عليه وعلى أعماله في العالم (يوحنا17: 16). إن أساس التعزية في الصراع لدى المؤمن بين النور والظلمة هو أن يكون المؤمن بالنور وفي الحقيقة. لذلك إننا نعرف أن لا غلبة لنا إلا بروح الحق، هذا المعزّي. “بدوني لا تقدرون أن تعملوا شيئاً”، بحسب كلمات يسوع. والآن “بدون الروح القدس لا نستطيع أن نعمل شيئاً صالحاً”. لأن الروح يقيمنا في الحق، والروح يعزينا، وبالروح تصير غلبتنا على العالم.

“إعرفوا الحق والحق يحرركم”، هذه كلمات تعني تماماً: “حيث روح الله هناك الحرية”. من أقام في الحق يتحرر من الخوف؛ من كل خوف. فمن أقام في البِرّ لم يعد يخاف حتى الموت. ومن أقام الروح عنده تحرر من خوف العالم ووثق أنه بالروح مع يسوع سيغلب العالم.

لكن هذا الروح القدس لا يستطيع العالم أن يتقبّله (يوحنا17:14)، لأنه روح الحق. فالظلمة لا تتقبل النور لأن أعمالها توبخ منه. فمن لا يقيم في الحق ويترفع عن الكذب لا يقيم الروح عنده. إن أكبر خطيئة في الكنيسة هي الكذب ولقد كان عقابها في سفر أعمال الرسل (موت سفيرة وحنانيا) دليلاً على هولها وحجم شرّها.

الخطيئة تجاه أي شيء تُغفر، إلا تجاه الروح القدس: “من جدّف على الابن يُغفر له أما من جدّف على الروح القدس فلا يُغفر له”. تبدو هذه الآية كاللغز لكن مفتاح فهمها، كما يشرحها القديس الذهبي الفم، هو ان الروح القدس هو روح الحق. لهذا يقول يسوع إذن للفريسيين والكتبة والمعلمين: إذا جدّف الناس العامّيون على الابن ولم يعترفوا بألوهية ابن الله المتجسد، ولم يألف الناس أن يتجسد الله، فهذه خطيئة تُغفر. أما أنتم العاملون بالناموس وقد أدركتم بحق اكتمال النبوءات وعرفتم ألوهية الابن، فإن تجديفكم الآن لم يعد خطيئة عن جهل، بل هو خطيئة عن معرفة، خطيئة ليست ضد ابن الله ولكن ضد الحق، وهذه الخطيئة هي من حب الشرّ وليس من حب الخير. والشرير بالأصل لا يطلب المصالحة ولا ينتظر الغفران.

من يقيم في الكذب ضعيف، لأن الروح القدس لا يقيم معه. ثقوا بالروح سنغلب كل كذب أمامنا، بالروح سيُغلب روح العالم الذي لا يحب الحق. بالروح ستسقط كل الأقنعة عن كل الأشياء. فلا يبقى بوجود الروح رياء ولا تغوي الخديعة الإنسان الذي في الحق. بالروح سنصرخ ليذهب العالم ولتأتِ النعمة. بالروح سنصرخ ونحن في العالم “أبّا أيها الآب”، وهذه غلبتنا أننا في العالم لكننا أبناء الله.

أيها الملك السماوي المعزي، يا روح الحق، هلمّ اسكن فينا وطهّرنا من كل كذب الدنس، وحررنا أيها الصالح من كل خوف نفوسنا”.

بقلم: صاحب السيادة المتروبوليت
بولس يازجي

أيضاً وأيضاً “المعزي” نقلاً عن نشرة رعيتي ، عدد 4 الصادرة في تاريخ الأحد 28 كانون الثاني 1996

يُسهب الرسول يوحنا اللاهوتي في الكلام عن الروح القدس ويصفه بالمعزي او بالمعزي الآخر, ويربط مجيئه بذهاب يسوع. وكلمة معزي هنا تعني باليونانية “مؤيد” او “معزي” وقد قرّ التقليد الارثوذكسي على استعمال المعنى الثاني. الجدير ذكره ان هذا التعبير ” المعزي” لا نجده في الكتاب المقدس الا في كتابات اللاهوتي يوحنا.

الروح القدس هو المعزي الآخَر: ” وانا سأسأل الآب فيهب لكم معزيا آخر يكون معكم الى الأبد” (يوحنا 14: 16)، ذلك أن المعزي الاول هو يسوع المسيح نفسه. يقول الكاتب نفسه في رسالته الاولى: ” وإن خطىء احدٌ فهناك معزٍّ لناعند الآب وهو يسوع المسيح البار” (2: 1). هذا الروح المعزي يرسله الآب الى العالم, ولكن الابن ايضا يرسل الروح الى العالم. تقول الآية الانجيلية:” ولكن المعزي, الروح القدس الذي يرسله الآب باسمي” (يوحنا 14: 26), وبعدها: ” متى جاء المعزي الذي أرسله اليكم من لدن الآب” (يوحنا 15: 26). واضح في هذه الآيات ان الآب والابن يرسلان الروح القدس الى العالم.

اذا كان إرسال الروح الى العالم في الزمن, فانبثاق الروح أزليا هو من الآب. فيسوع يقول بحسب شهادة انجيل يوحنا:” روح الحق المنبثق من الآب هو يشهد لي” (15: 26).

المعزي هو ايضا ” روح الحق” (14: 17) الذي يرشد الكنيسة الى الحق فهو ” يعلّمكم جميعَ الاشياء, ويذكركم جميع ما قلته لكم” (14: 26). هذا التعليم يحفظه الروح القدس في الكنيسة وهو نفسه تعليم يسوع المسيح: ” فمتى جاء هو, اي روح الحق, أرشدَكم الى الحق كله لأنه لن يتكلم من عنده بل يتكلم بما يسمع ويخبركم بما سيحدث” (يوحنا 16: 13). وهو الذي سيمجَّد يسوع ويخبر بكل ما قام به:” سيمجدني لأنه يأخذ معا لي ويخبركم به” (يوحنا 16: 14).

لا يأتي المعزي الى العالم الا اذا ذهب يسوع منه:” انه خير لكم أن أذهب فإن لم أذهب, لا يأُتِكُم المعزي. اما اذا ذهبت فأُرسله اليكم” (يوحنا 16: 7). هذا يعني ان مجيء الروح القدس الى العالم مرتبط بسر التدبير الإلهي الذي تمّ على الصليب والقيامة, ولا يعني البتة ان المسيح قد ترك العالم. غير صحيح ابدا القول إن العهد القديم هو عصر الآب, ومدة حياة يسوع على الارض هي عصر الابن, وبعد صعود يسوع بدأ عصر الروح القدس. هذا التقسيم الزمني ترفضه الكنيسة, فالثالوث القدوس, الآب والابن والروح القدس, حاضر دائما في كل عمل خلاصي منذ الخلق الى الأبدية.

في كتاب اعمال الرسل نجد ترجمة ما ورد في انجيل يوحنا عن المعزي. فكم من مرة قال الكتاب إن التلاميذ كانوا لا يفقهون ما كان يعلّمه المسيح ولم يفهموه الا بعد القيامة. هؤلاء التلاميذ انفسهم الذين كانوا خائفين ومختبئين حين كان المسيح يُحاكَم ويُعذَّب, هم أنفسهم بعد حلول الروح القدس يوم العنصرة أعلنوا إيمانهم من دون خوف ولا تردد, وذلك بقوة الروح القدس. فها بطرس يقول في اليهود:” فلمارفعه (اي المسيح) اللهُ بيمينه, نال من الآب الروح القدس الموعود به فأفاضه, وهذا ما ترون وتسمعون” (اعمال الرسل 2: 33).

اذا كان مبرر وجود الكنيسة هو في استدعاء يسوع الرب واذا كان الرسول بولس يسمي اهل كورنثوس بالقديسين الذين مع الجميع ” يدعون في كل مكان باسم ربنا يسوع المسيح ربِّهم ربِّنا” (1 كورنثوس 1: 2).

فهذه الدعوة لا تتم الا بفعل الروح القدس, ذلك أن الرسول نفسه يقول في الرسالة عينها:” ولا يستطيع أحد أن يقول يسوع رب الا بإلهام من الروح القدس” (12: 3).

arArabic
انتقل إلى أعلى