كنيسة المسيح كنيسة الروح

الكنيسة، بحسب دستور الإيمان، واحدةٌ، جامعةٌ، مقدّسةٌ، رسوليّةٌ. غير أنّ العهد الجديد يطلق على الكنيسة العديد من الصفات والنعوت والتشابيه والتصاوير والأمثلة. سنعرض هنا بإيجاز لأهمّ تلك الصفات المتعلّقة بالكنيسة وأهمّيّتها في اللاهوت الأرثوذكسيّ، والتي أحصاها أحد الخبراء بحوالى ثمانين صفة وصورة.

أمّا بالنسبة إلى إطلاق صفة “شعب الله الجديد” على الكنيسة، فالكتاب المقدّس يقرّ أنّ الله لم يعقد، بواسطة ابنه وفي ابنه، عهداً جديداً وحسب، بل عقد عهداً أبديّاً لا يمكن من بعد تجاوزه: “وأنتم قبلاً لم تكونوا شعباً وأمّا الآن فأنتم شعب الله. ولم تكونوا مرحومين أمّا الآن فمرحومون” (بطرس الأولى 10:2). وبات الانضمام إلى هذا الشعب الجديد الذي كوّنه فداء السيّد المسيح متاحاً أمام كلّ الشعوب. وبحسب العهد الجديد أيضاً فإنّ الجماعة المسيحيّة الأولى قد عدّت نفسها استمراراً لشعب الله في العهد القديم، وفي الوقت عينه انقطاعاً عنه.

لا شكّ في أنّ تعبيرين أساسيّين يمكنهما اختصار كلّ لاهوت الكنيسة والدلالة على معانيه كافّة. فالكنيسة إذ تتمحور حياتها حول الربّ يسوع المسيح هي “جسد المسيح”. وإذ تحيا وتقدّس المؤمنين المنتمين إليها هي “هيكل الروح القدس”. فالكنيسة، إذاً، على نحو متكامل “كنيسة المسيح” و”كنيسة الروح”. لقد وصف الرسول بولس الكنيسة بأنّها “هيكل الروح القدس”، فيؤكّد في كامل الفصل الثاني عشر من رسالته الأولى إلى أهل كورنثس أنّ الروح القدس هو ينبوع المواهب التي تجعل الكنيسة جسد المسيح.

لذلك، لا يجوز الفصل بين عمل الربّ يسوع وعمل الروح القدس في الكنيسة، ذلك أنّ الروح القدس هو الذي قاد ويقود الكنيسة إلى الحقّ إذ يأخذ ممّا للمسيح ويخبر التلاميذ، فالمسيح يقول: “ولكن متى جاء ذاك روح الحقّ فهو يرشدكم إلى جميع الحقّ (…) هو يمجّدني لأنّه يأخذ ممّا لي ويخبركم” (يوحنّا 13:16-14). كما يتناول الرسول بولس هذه المسألة بوضوح متوجّهاً بالكلام إلى أهل أفسس (2: 19):”فلستم بعد غرباء ولا نزلاء، بل أنتم مواطنو القدّيسين، وأهل بيت الله. أنتم بناء أساسه الرسل والأنبياء، ورأس الزاوية المسيح يسوع نفسه، الذي فيه ينسَّق البناء كلّه ويرتفع هيكلاً مقدّساً في الربّ. وفيه أيضاً تندمجون أنتم في البناء لتصيروا مسكناً لله في الروح”.

في التعليم اللاهوتيّ، تتحقّق وحدة الكنيسة واتّحادها التامّ بالمسيح في القدّاس الإلهيّ والمناولة من الكأس الواحدة. هذه الوحدة السرّيّة بين المسيح-الرأس والمسيحيّين-الكنيسة، توضحها بأبهى بيان صورة الجسد في لاهوت الكنيسة: فكما لا يمكن الفصل في الإنسان بين الرأس والأعضاء إلاّ على حساب الحياة نفسها، هكذا أيضاً يستحيل الفصل بين المسيح والكنيسة. كما أنّ حيوية الجسد لا تعتمد على سلامة كلّ أعضائه وحسب، بل أيضا على تعاونها في ما بينها. ويسعنا هنا أيضاً التحدّث عن تنوّع أعضاء الجسد، فلكلّ عضو وظيفته وقيمته ومبرّر وجوده في وحدة الجسد، التي لا تتحقّق بمعناها الكامل إلاّ متى أسهمت كلّ الأعضاء في ما لها من مواهب وإمكانات في خير الجسد. من هنا، ينبغي التذكير بالمساواة التامّة بين كلّ الأعضاء، فلا يفتخر أحدها على أحد.

الحياة المسيحيّة تقوم على الدخول في “شركة” مع الله والاتّحاد به. وهذه الشركة تتحقّق بواسطة سكنى الروح القدس في المؤمنين عبر مشاركتهم الفاعلة في الأسرار المقدّسة، ولا سيّما في القدّاس الإلهيّ. فالرسول بولس يقول: “كأس البركة التي نباركها أليست هي شركةً في دم المسيح؟ والخبز الذي نكسره أليس هو شركةً في جسد المسيح؟ فبما أنّ الخبز واحدٌ، فنحن، الكثيرين، جسدٌ واحدٌ، لأنّا جميعاً نشترك في الخبز الواحد” (كورنثس الأولى 16:10-17). وهذا يعني أنّ الاشتراك في الكأس الواحدة يجعل المشتركين متّحدين  بعضهم ببعض وبالمسيح اتّحاداً كيانيّاً. وفي المقابل، يحذّر الرسول بولس المتقاعسين من الدخول في شركة مع الشياطين إذا شاركوا في ذبائح الوثنيّين، فيتابع في السياق عينه قائلاً: “فلا أريدكم أن تصيروا شركاء الشياطين” (20:10).

الكنيسة “واحدة” لأنّ ربّها وفاديها واحد، وتتجلّى وحدتها عبر وحدة الإيمان والعقائد. وهي “جامعة” أي مدعوة إلى الانتشار في جهات المسكونة قاطبةً لكي يصل كلّ الناس إلى الاتّحاد بالله. وهي “مقدّسة” تستمدّ قداستها من الله الذي هو وحده قدوس ومصدر القداسة، والكنيسة تدعى مقدّسة لأنّ عمل الله يتجلّى فيها عبر التبشير بكلمته، وفي منح الأسرار، وفي مواهب الروح القدس. وهي “رسوليّة” لارتباط جماعة المؤمنين بالأصل وأمانتهم له. فالرسل، بصفتهم شهود القيامة وقابلي الروح القدس في العنصرة، هم المرجع الثابت في شؤون الإيمان الأساسيّة، قانونيّة العهد الجديد، شرعيّة الأساقفة المستندة إلى التسلسل الرسوليّ.

الكنيسة هي مكان تجلّي الله الدائم والمستمرّ في التاريخ. وهي المكان الذي يتذوّق فيه المسيحيّ الملكوت الآتي. جعل الله لنا الكنيسة حصناً مَن يحتمي به لن يرى الموت أبداً.

عن نشرة رعيتي 2006/27

arArabic
انتقل إلى أعلى