الإعلان الإلهي

إعلان الله بواسطة خليقته:

 يقصد بالإعلان الإلهي الأفعال والطرق التي استخدمها الله كي يعرّف بها عن ذاته أو مشيئته أو مقاصده.

الخليقة ذاتها -بما فيها الإنسان- هي الإعلان الأول والدائم لله عن وجوده وقدرته وحكمته وعنايته ومحبته. وبكل تأكيد فلم تكن الخليقة، بعد خلق الإنسان الوسيلة الوحيدة لكي يتعرف بها على خالقه. بل يحدّثنا الكتاب المقدس في بداية صفحاته عن شركة شخصية مباشرة مع الله. ولكن الإنسان بعد ابتعاده الطوعي عنه بالخطيئة خسر إمكانية هذه المعرفة أو المعاينة المباشرة بسبب اظلام ذهنه وقلبه. ولم يبقَ عند البشر سوى الخليقة المنظورة والمحسوسة التي تذكرهم بالخالق غير المنظور وغير المحسوس “لكي يطلبوا الله لعلّهم يتلمسونه، مع أنه عن كل واحد منا ليس بعيداً، لأننا به نحيا ونتحرك ونوجد” (أع 17: 27-28)، كما يعلمنا الرسول بولس “لم يترك نفسه بلا شاهد” (أع14: 17).

الكتاب المقدس والتسليم الرسولي يؤكدان أن هذه الحقيقة، إذ يظهران أن الخليقة تعلن عن الله أو تخبر عنه، بحسب تعبير داوود النبي: “السماوات تذيع مجد الله والفلك يخبر بأعمال يديه” (مز19: 1). هذا الإعلان يتلقنه من يبحث بإخلاص عن خالق هذه الكائنات المذهلة التي تنتظم بإبداع في هذا الكون العجيب. فإنه، كما يقول سفر الحكمة، “بعظم جمال المبروءات يبصر خالقها على طريق المقايسة” (حك 13: 5). أو كما يعلم بولس الرسول “إذ معرفة الله ظاهرة فيهم -في البشر- لأن الله أظهرها لهم، لأن أموره غير المنظورة ترى منذ خلق العالم مدركة بالمصنوعات قدرته السرمدية ولاهوته حتى أنهم بلا عذر” (رو1: 19-20).

الإنسان إذن يستطيع أن يؤمن بوجود الله غير المنظور من خلال رؤيته لمصنوعاته المنظورة والتي تحدّث عن صانعها وخالق مادتها، لأنه لا سبب بدون مسبّب. كذلك يستطيع أن يهتدي إلى نهائية قدرة الله من عظمة الطبيعة المخلوقة والغرابة الهائلة لأبعادها كبراً أو صغراً. كما يمكنه أن يُستدل على سرمديته من قدم المخلوقات والاستمرارية الدقيقة لنظام حركتها.

أما حكمته ومحبته فتظهران من خلال عنايته الفائقة بجميع مخلوقاته الحية من أحقرها إلى أعظمها: “أنظروا إلى طيور السماء إنها لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع إلى مخازن. وأبوكم السماوي يقوتها… تأملوا زنابق الحقل كيف تنمو… الخ…” (مت6: 26-30). وبالإجمال كما يقول القديس أثناثيوس الكبير: “كل الخليقة بنظامها وانسجامها تظهر ككتاب مفتوح وتصرخ مخبرة عن سيدها وصانعها”.

ما ذُكر أعلاه لا يعني أنّ تفتيش الإنسان عن الله من خلال خليقته. هو عملية عقلانية منطقية بحته. وبالتالي فلا يمكن أن يستفيد من هذه العملية إلا الأذكياء والفهماء. في الواقع، ظلّت معرفة الله وستظل، من خلال هذه الطريقة أو غيرها، أقرب تناولاً لا للحكماء في أعين أنفسهم بل لمتواضعي الروح وأنقياء القلوب: “أحمدك أيها الآب ربّ السماء والأرض لأنك أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء وأعلنتها للأطفال” (مت 11: 25). “أحب الناس الظلمة أكثر من النور لأن أعمالهم كانت شريرة” (يو3: 19). لأن الله الذي زرع في كيان الإنسان منذ الأساس بذور كلمته الإلهية والتوق إلى معرفته، هو الذي يعلن بصورة خفية، وحتى من خلال الطبيعة، للعيون التي تبصر وللآذان التي تسمع (مت31: 16)، أي للقلوب النقية غير الموصدة.

إظلام الصورة الإلهية في الإنسان بعد السقوط، هو الذي أدّى أن تصبح ليس فقط الرؤية الإلهية غير ممكنة، بل وأيضاً إعلان الله من خلال طبيعته غير فعّال بشكل كاف، وكذلك أن يتشوه استعماله من قبل الوثنيين، الذين عبدوا الخليقة دون الخالق، كما سنرى، من أجل هذا السبب، مع اعتراف الآباء بأهمية معرفة الله من خلال الطبيعة، كوسيلة بناءة تساعد على الإيمان بالله، إلا أنهم يعتبرونها نسبية محدودة، ويحذّرون من أيّة محاولة للتعرف على الله انطلاقاً من تصوّر وجود مجال للمقارنة أو التشابه بين المخلوق والخالق. لأن نوعية طبيعة الله غير المخلوقة تختلف جذرياً عن طبيعة المخلوقات، إضافة إلى أن الله غير ممكن قطعاً أن يصبح هو نفسه موضوعاً قابلاً للمعرفة والبحث من قبل أي مخلوق، وذلك لتعاليه المطلق على كل الموجودات.

موقف الشعوب القديمة من هذا الإعلان:

لا ينكر أحد التأثير القوي للطبيعة على الإنسان من جهة اعتقاداته الدينية. لكنه يصعب كثيراً رصد هذا التأثير بدقة على الإنسان البدائي، ومنه تصور موقفه تجاه بعض الظواهر الفائقة الغرابة بالنسبة إليه، كالسماء المرصّعة بالأضواء ليلاً، وما يبدو من تحركات الشمس والقمر والكواكب والسحب، أو مفاجآت الأمطار والبروق والرعود والأعاصير، أو تنوع الحيوانات والنباتات، أو حتمية الموت، أو غموض الأحلام إلخ… الأصعب من هذا تصور موقفه الحقيقي وهو يلتمس في ظلمة جهله باحثاً عن أجوبة لمسائل كثيرة تطرح نفسها عليه وهو لا يجد لها تعليلاً، ومنها سبب ومعنى وجود كل هذه المخلوقات التي أمامه ومنها وجوده هو نفسه، وكيف انتقل من هذه التساؤلات إلى إعطاء أجوبة عبر الأساطير والاعتقادات الدينية التي صار يتناقلها.

أهمية إعلان الله عبر خليقته، رغم تشوّه استقباله بعد سقوط الإنسان، تؤكدها يوماً بعد يوم الحقيقة التي لاحظها المفكر الروماني بلوتارك منذ حوالي ألفي سنة: “قد نجد مدناً دون أسوار، ودون ملوكاً ودون أبنية، ودون نقود، ودون مسارح أو ملاعب. إلا أننا لن نجد مدينة واحدة دون معبد ودون إله. أو لا تلجأ إلى الصلاة والتعويذات والذبائح من أجل الخير..,” مقابل هذا الإجماع الغريب الذي شمل كل شعوب الأرض دون استثناء في أي زمان أو مكان وجدوا، على الإيمان بألوهة ما وبحياة ما بعد الموت نلاحظ الدور الخاص للإنسان الساقط في تكوين آرائه الدينية وتأثير البيئة عليه. فمثلاً الديانة المصرية القديمة نجد أن الشمس وهي أبرز الظواهر الطبيعية في مصر تسند قيادتها إلى رع كبير آلهة المصريين، بينما يتولى زفس كبير الآلهة عند اليونان قيادة الرعد والبرق والمطر، لأنها الأشد تأثيراً في جو أوربا المليء بالسحب والأمطار…

سفر الحكمة يولي أهمية كبرى لدور الخلائق المنظور، لكنه يتعجّب من حماقة الذين ألّهوها ولم يقدروا أن يعرفوا خالقها من خلالها فيقول: “إنّ جميع الذين لم يعرفوا الله هم حمقى من طبعهم لم يقدروا أن يعلموا الكائن من الخيرات المنظورة ولم يتأملوا المصنوعات حتى يوفوا صانعها لكنهم حسبوا النار أو الريح أو الهواء اللطيف أو مدار النجوم أو لجّة المياه أو نيري السماء آلهة تسود العام. فإن كانوا إنما اعتقدوا هذه آلهة لأنهم خُلِبوا بجمالها فليتعرفوا كم ربّها أحسن منها إذ الذي خلقها هو مبدأ كل جمال. أو لأنهم دهشوا من قوتها وفعلها فليتفهموا كم منشئها أقوى منها” (حك13: 1-4).

إلى جانب ما يسميه سفر الحكمة حماقة تعكس الديانات القديمة أيضاً فساد أخلاق وظلمة نفوس، تفضها الأساطير المنسوجة حول آلهتها من طمع وشهوانية وشذوذ وأنانية وحقد ومؤامرات إلخ…

القديس بولس يربط بوضوح بين حماقة الأفكار وظلمة القلب التي أدّت إلى العبادات الوثنية من جهة، وبين الشهوات والنجاسة التي نتجت عن هذه العبادات من جهة أخرى. “لأنهم لما عرفوا الله لم يمجدوه أو يشكروه كإله بل حمقوا في أفكارهم وأظلم قلبهم الغبي. وبينما هم يزعمون أنهم حكماء صاروا جهلاء وأبدلوا مجد الله الذي لا يفنى بشبه صورة الإنسان الذي يفنى والطيور والدواب والزحافات. لذلك أسلمهم الله أيضاً في شهوات قلوبهم إلى النجاسة لإهانة أجسادهم بين ذواتهم…” (رو1: 21-24).

على هذا النحو بدا، وكأن إعلان الله من خلال خليقته، لم يكن مجدياً بالنسبة للقدماء عامة. مع ذلك فالأفكار الإيجابية والمبادئ الأخلاقية الجديرة بالاحترام عند عدد من المفكرين والمصلحين في بعض الأمم الوثنية، مع انتظار عام لمخلص سماوي، إضافة إلى التأملات الفلسفية البناءة المتعلقة بالألوهة، ومنها على سبيل المثال البراهين التي أعطاها بعض الفلاسفة مثل سقراط وأفلاطون ،أرسطو على وجود الإله الواحد وصفاته. كل هذا يدل على أن إخبار الطبيعة عن مجد خالقها وعن صفاته لم يبقَ كلياً بلا ثمر بل ساعد في التهيئة التي بثّها الله بطرقه الخفية إلى جانب إعلانه عبر أنبياء العهد القديم، لكي يسهّل على الأمم تقبل إعلان الله بيسوع حين يأتي ملء الزمان.

إعلان الله الشخصي بواسطة ظهوراته للبطاركة والأنبياء: ادّعى البعض أنّ الدين هو مظهر فكري لوجدان وتفكير الأمم، ولذلك تعكس ديانة أي شعب درجة التطور الفكري والخلقي التي وصل إليها. خلافاً لهذه النظرية كان الشعب العبراني وحده يؤمن بإله متعال واحد للشعوب كلها، قدوس ويطلب القداسة، رغم إحاطته  بأمم تعبد أصناماً وآلهة متعددة، وتمارس رجاسات مختلفة. وحده كان اعتقاده مبنياً أنه ليس من مشابهة بين الإله وخلائقه، بما فيهم البشر ولذا كان ممنوعاً في شريعته أن يصنع تمثالاً أو صورة مما في السماء أو على الأرض. كما كان هناك نهي صارم عن إتيان أي نوع من أعمال السحر والشعوذة. هذا مع العلم أن الشعب العبراني لم يكن متطوراً لا فكرياً ولا أخلاقياً، بل على العكس كان بشهادة التاريخ والتوراة نفسها، أشدها بدائية وأبعدها عن الحضارة والفلسفة وسمو المبادئ والقيم. كان مجرد أبناء رعاة متنقلين وصلوا في نهاية تجوالهم إلى مصر فعاشوا أولاً من الرعي ثم سُخِروا فيما بعد بأشغال جسدية.

هذا الاعتقاد بالإله الواحد المتعالي والشخصي بآن يصعب تفسيره إلا بإعلانات شخصية مباشرة من هذا الإله لبطاركة وأنبياء من هذا الشعب، بتدرج يتناسب مع إمكانياته واستعداده للقبول. ولكن مع رؤيا أوسع تتجاوز حدود قوميته الضيقة وأحلامه الدنيوية. كانت تتكشف شيئاً فشيئاً عبر نبوءات الأنبياء إلى خلاص يشمل كل البشر.

وفي الواقع لا يتناقض تعالي الخالق كما ظن البعض مع نزوله لمخاطبة البشر بل يستدعيه. لأن التعالي على المخلوقات هو تعال قبل كل شيء في الحكمة والمحبة والقدرة. فأين الحكمة في أن يترك مخلوقاته العاقلة في تيهها وظلمتها غريبة عنه وبدون أي معنى أو هدف لوجودها؟ ولماذا خلقها إذن؟ وأين المحبة في أن يدعها تتعذب وتتخبط إلى ما لا نهاية؟ وألا يستطيع الذي خلق أن يخلص؟ والذي وهب الإنسان السمع والنطق والفهم أن يجد طريقه للتخاطب معه ومساعدته؟ وإن كان يستطيع فلم لا يفعل؟

بحسب أسفار العهد القديم لم تتوقف عناية الله بخليقته. ولم تنقطع علاقته، على مدى الأجيال، مع أشخاص قابلين لها. فقد كان يظهر لأنية مختارة، يعلن من خلالها ما يرتئيه لها ولبقية الشعب، في أوقات وظروف وطرق منوعة مناسبة. وهي بدورها كانت تتلقى إعلاناته أو مشيئته، في نوره أو مجده غير المخلوق، عبر رؤيا أو غيبة أو حلم أو رمز أو كلمة (نبوءة).

وكما يؤكد الكتاب المقدس، فلم يعتنِ الله ويظهر للعبرانيين وحدهم، بل كانت هناك عناية ونبوءات واستنارة ما عبر الكلمة المزروع في كل العالم، لأنه “كان النور الحقيقي الذي ينير كل إنسان آتياً إلى العالم”، كما يقول إنجيل يوحنا: “كان في العالم وكوّن العالم به ولم يعرفه العالم” (يو1: 9-10).

إنما ما يميّز ظهورات الله لإبراهيم ونسله، هو أن الله يهيئ لنفسه شعباً يعلن من خلاله، وعبر التأديب والتقويم، مشيئته، ويحقق بواسطته، في نهاية المطاف، خلاصه ونشر البشارة التي ستمتد إلى كل الشعوب.

قفزة باسكال الكبرى، في ليلة اهتدائه المشهورة، أنه تجاوز كبرياء وحكمة العالم والمفكر ليدخل في نور جديد كان يجهله من قبل. لقد قبل باتضاع، وتعرّف بطريقة مختلفة على “إله إبراهيم ويعقوب لا إله الفلاسفة والعلماء“. هكذا لم يعد الله بالنسبة إليه مجرد مبدأ أول يدبر الكون، بل إله حي يهتم بأشخاص ويخطط لخلاصهم، يختار رئيس عشيرة مجهولة ليقوده نحو المجهول في بلد غريب، من أجل وعد لن يتحقق في أيامه، بل بعد آلاف السنين، “لكي يتبارك في نسلك جميع أمم الأرض” (تك22: 18) وسيبقى هذا الوعد مجهولاً، ولن تدرك أهميته بالنسبة للبشر إلا عندما سيأتي واحد من نسله الذي هو المسيح. بولس الرسول يوضح: “لا يقول وفي الإنسان كأنه عن كثيرين بل كأنه عن واحد وفي نسلك الذي هو المسيح” (غل 3: 16).

إعلان الله الشخصي بابنه المتجسد يسوع المسيح:

أن تحدث الطبيعة عن الله، فهذا إعلان صامت خفي لا يلتقطه إلا الذين يحرّك الله قلوبهم بالإيمان. ويلتقطون منه فقط ما هو ابدي ثابت. أي ما هو متعلق بالله نفسه كوجوده وبعض صفاته.

أن يتدخل الله، عبر تاريخ الإنسان الساقط المنفي من الفردوس، فيكلم إنساناً ما بطرق متنوعة، فهذا إعلان واضح عن مشيئة الله تجاه هذا الإنسان أو تجاه شعبه، ولكن هذا الإعلان يبقى محدوداً رغم هذا بقدرة المخلوق على تقبّل كشوفات الله، والتعبير عنها والعيش بمقتضاها، أي حمل حياة الله ومشيئته وقدرته.

لذلك فالإعلان الذي يفوق بما لا يُقاس إعلان الطبيعة وكذلك كشوفات الله التي تمّت بالأنبياء، هو إعلان الله المباشر عن ذاته، والذي تمّ في ابنه المتجسد، وبشّر به الرسل: “الله بعد ما كلم الآباء بالأنبياء قديماً بأنواع وطرق كثيرة كلّمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه الذي جعله وارثاً لكل شيء الذي به أيضاً عمل العالمين، الذي وهو بهاء مجده ورسم جوهره وحامل كل الأشياء بكلمة قدرته بعد ما صنع بنفسه تطهيراً لخطايانا جلس في يمين العظمة في الأعالي…” (عبر1: 1-3)

إعلان الله بالابن إذن هو أكثر من نقل كلام الله ومشيئته، إنه مجيء “الكلمة” ذاته، نزول السماء على الأرض، إعلان ملكوت الملك السماوي ومعه التطهير والغفران لخطايا البشر، ورفع الساقطين إلى الأعالي.

الإعلان الإلهي ذاته هو إعلان عن خصوصية دقيقة من خصوصيات الثالوث القدوس، وهي أنّ الابن هو المعلن بامتياز عن الله: “الله لم يره أحد قط الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبّر” (يو1: 18). “وليس أحد يعرف الابن إلا الآب، ولا أحد يعرف الآب إلا الابن. ومن أراد الابن أن يعلن له” (مت11: 27).

لهذا السبب يدعى الابن كلمة الله وصورته (كولو1: 15) وبهاء مجده الخ… ولهذا السبب عينه فالابن المعلن، الذي هو المعلم والمخلص في العهد الجديد، هو ذاته الذي كلم الأنبياء في العهد القديم وخلّص شعبه وقاده في البرية، لكنّه حينها لم يكن متجسداً:

  • أنا في البدء ما أكلمكم أيضاً به (يو8: 25)

  • فإني لست أريد أيها الأخوة أن تجهلوا أن آبائنا جميعهم كانوا تحت السحابة وجميعهم اجتازوا في البحر وجميعهم اعتمدوا لموسى في السحابة وفي البحر وجميعهم أكلوا طعاماً واحداً روحياً وجميعهم شربوا شراباً روحياً لأنهم كانوا يشربون من صخرة روحية تابعتهم والصخرة كانت المسيح (اكو10: 1-4)

هذه الحقيقة التي عبّر عنها الكتاب بطرق مختلفة وشدد عليها الآباء، تؤكد أيضاً وحدة الإعلان الإلهي المتدرج وفق التدبير الإلهي الواحد لخلاص كل أمم الأرض. ولهذا صارت إعلانات الله بالأنبياء مراحل مهيئة لقبول الإعلان العظيم والأكمل بالابن المتجسد يسوع الذي هو الإعلان والخلاص بآن:

أنا هو نور العالم. من يتبعني فلا يمشي في الظلمة بل يكون له نور الحياة” (يو8: 12). “أنا هو الطريق والحق والحياة” (يو14: 6). “لأننا نحن قد سمعنا ونعلم أنّ هذا هو بالحقيقة المسيح مخلص العالم” (يو4: 42).

إعلان الله الشخصي، بكلمته المتأنس، تبرهنه قداسة يسوع (يو8: 46، لو5: 8) وكمال تعليمه (مت5: 17، 48) وعظمة عجائبه (يو5: 36، 10: 25، 37-38). ويتميز بأنه ينطلق من الله، الحق نفسه، هو الإنسان، وبالتالي يستجيب وحده لبحث الإنسان عن الحق والحياة وحاجته العميقة لهما (لو10: 42). من هنا فكل تفتيش إنساني عن الله أو الحق خارج هذا الإعلان لن يجدي، لأنه سيبقى في نطاق محدودية أفكار الإنسان وتخيلاته.

ولأن معرفة الابن أو الحق هي معرفة شخصية، وليست فكرية أو منطقية، يستحيل الوصول إليها إلا بالتعرف شخصياً وداخلياً على الله، المعلن عنه في الكتاب المقدس، بمعونة قوى أو مواهب الله الثالوث نفسه. إذ الإعلان الإلهي كما قبوله، ككل أفعال الله، هو عمل مشترك للأقانيم الإلهية الثلاثة. من الآب: “طوبى لك يا سمعان بن يونا. إن لحما ودماً لم يعلن لك لكن أبي الذي في السماوات” (مت16: 17) بالابنولا أحد يعرف الآب إلا الابن ومن أراد الابن أن يعلن له” (مت11: 27) في الروح القدس: “ونحن لم نأخذ روح العالم بل الروح الذي من الله لنعرف الأشياء الموهوبة لنا من الله” (اكو2: 12).

واضح أن دور الروح القدس هو المساعدة على تقبل إعلان الابن وخلاصه، وأوله الإيمان بربوبية الابن: “وليس أحد يقدر أن يقول يسوع ربّ ‘إلا بالروح القدس” (1كو 12: 3). أي الإرشاد إلى جميع الحق، الذي أُعطي من الآب بالابن، وليس إعطاء إعلان أو حق جديد: “وأمّا متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتية. ذاك يمجدني لأنه يأخذ مما لي ويخبركم” (يو16: 13-15). “المعزي الروح القدس الذي سيرسله الآب باسمي فهو يعلمكم كل شيء ويذكركم بكل ما قلته لكم” (يو14: 26).

وبكل تأكيد فالروح القدس يعطي ويعرف لا في العالم بل في الكنيسة جسد المسيح، التي تحمل الإعلان الإلهي وتتناقله جيلاً بعد جيل، وتعيشه بالروح القدس الماكث فيها إلى الأبد: “وأنا أطلب من الآب فيعطيكم معزياً آخر ليمكث معكم إلى الأبد. روح الحقّ الذي لا يستطيع العالم أن يقبله لأنه لا يراه ولا يعرفه. أمّا أنتم فتعرفونه لأنه ماكث معكم ويكون فيكم لا أترككم يتامى إني آتي إليكم” (يو14: 16-18).

على هذه الصورة وحدها يمكن أن يبقى إعلان الله بالابن حياً متجدداً، “أمساً واليوم وإلى الأبد” (عبر13: 8)، “له المجد في الكنيسة في المسيح يسوع إلى جميع أجيال دهر الدهور آمين” (أفسس3: 21).

المواقف الفلسفية الرافضة لإعلان الله الشخصي والرد عليها:

أنكر إمكانية الإعلان الإلهي الشخصي عبر العصور عدد من الأنظمة الفلسفية، ذات الفروع المتعددة. من أشهر القائلين بها:

  1. الطبيعيون (Naturalism): اعتبروا العالم كوحدة مكتفية بذاتها، تخضع فقط لنواميسها الطبيعية. وبالتالي فهي ليست بحاجة ولا يمكن أن تقبل أي تدخل أو تأثير يتجاوز هذه النواميس. من هؤلاء الماديون أي الذين يرفضون وجود الله ويفسرون العالم من خلال حتمية ميكانيكية مادية.
  2. الحلوليون (Panthesim): قالوا إن الكل هو الله ولا يوجد شيء غير إلهي، وبالتالي فلا يمكن أن يعلن الله لكائنات عاقلة لأن هذه هي أيضاً الله. إذ لا يوجد فرق جوهر بين الفكر الإلهي والفكر البشري. ولذلك يجب البحث عن الله أو عن الحقيقة في داخل الإنسان.
  3. التطوّريون (Evolutionism): أشهرهم الهيجيليون. لا يرفضون الإعلان الإلهي ولكنهم يجردونه من معناه المسيحي، معتبرين إياه مجرد محطة في تطور الفكر الذي هو في تقدم مستمر.
  4. الربوبيون (Desim): يقبلون بإله شخصي لكنه غير مبال ولا يتدخل بشؤون العالم، إذ تركه وابتعد عنه بعد أن خلق له النواميس الطبيعية التي تحكمه. وقد تأثر بالربوبيون العقلانيون (Rationalism) البروتستانت الذي أخضعوا مثلهم العالم إلى حكم النواميس الطبيعية الصارمة، فأنزلوا الإعلان الإلهي إلى مستوى الفكر والخبرة الطبيعيين، رافضين كل ما لا يمكن أن يقبله العقل البشري.
  5. اللاأدريون (Agnoticism): ينكرون كل ما يفوق الحواس ويتجاوز الظواهر الطبيعية المألوفة. وبالتالي هم يرفضون وجود الله وأصل الكون والقضايا المشابهة كالإعلان الإلهي لأنها أمور لا سبيل إلى معرفتها.

والغريب كل الغرابة في هذه الأنظمة وأمثالها أنها تنزل الخالق إلى مستوى أخفض بكثير من خليقته. كأن تصبح المصنوعات موجودة والصانع غير موجود، أو أن تتعالى النواميس الطبيعية على مبدعها فتكتفي بذاتها وترفض أي تدخل أو تأثير خارج عنها. أو أن تؤله الخليقة الحاملة طابع النسبية والتقلب والفساد فتصبح هي الأصل والغاية، البداية والنهاية. أو أن يصبح الإله مجرد قوة مبهمة لا شخصية غير عاقلة بينما تتمتع مخلوقاته بالعقل والشخصانية والحكمة. أو أن يتهم الله بالعبث وقساوة القلب، إذ يتخلى عن العالم الذي خلقه تاركاً إياه يتخبط في كوارثه ومآسيه، وهو ما يتناقض  مع المحبة والحكمة اللتين تشهد له بهما خليقته. أو حتى أن يصل الأمر لأن يُقال عن الله أن مات بعد أن خلق العالم، فيعطى بهذا للمخلوق الخلود ويرجع السرمدي إلى العدم!

نضيف أن تناقض هذه الأنظمة فيما بينها، هو بحد ذاته دليل وافٍ على التخبط والظلمة التي يعاني منها الإنسان بدون الإعلان الإلهي. “من يتبعني فلا يمشي في الظلمة بل يكون له نور الحياة” (يو8: 12).

arArabic
انتقل إلى أعلى