القديس بطرس (صخر) :
شاب بسيط مهنته صيد السمك ليعيل أسرته .. يمكن أن نختصر حياته بهذا الموقف، سأل يسوع في إنجيل متى : “من يقول الناس أني أنا؟ قال قوم يوحنا المعمدان …” هذا الجواب خطأ، أضاف يسوع : “وأنتم من تقولون أني أنا”، متوجهاً بسؤاله إلى التلاميذ، قال بطرس، الأشد حماساً، قائد جوق الرسل : “أنت المسيح ابن الله الحي “. أجابه يسوع : “طوبى لك يا سمعان فإنه ليس لحم ولا دم كشف لك هذا ” وتابع الرب : “أنت بطرس وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي “، أي على إيمان واعتراف بطرس . ثم يمنحه شرفاً لا أغلى ولا أسمى ولاأرفع . “وأعطيك مفاتيح ملكوت السماوات..”. لقد أعطى الرب لبطرس قوًة أشد من صلابة الصخر ليواجه العالم ولو حاربه كل العالم. كان بطرس فم الجوق الرسولي مفوضاً من الرب في رعاية وقيادة اخوته بسبب الغيرة والمحبة التي كانت فيه “إرْعَ خرافي “. هذه الغيرة وتلك المحبة سوف تقودانه إلى الآلام والشهادة.
إنّ القدّيس بطرس الرسول، الذي استشهد في مدينة رومية بعد أن بشّر فيها بالربّ يسوع، كان له مكانة خاصّة في جماعة الرسل الأتباع المباشرين للسيّد المسيح. فإنجيل متّى، عندما يعدّد الرسل، يطلق على بطرس لقب “الأوّل” (باليونانيّة بروتوس): “أوّلهم سمعان الملقّب ببطرس…” (10: 2). لكنّ بطرس مع كونه “الأوّل” لم يكن وحيداً، بل هو “الأوّل في المجموعة” وليس الرأس أو الرئيس، إذ إنّ الرأس الوحيد هو الربّ يسوع المسيح. والأوّل لا يختزل الآخرين في شخصه، ففي مجمع أورشليم كان لرأي بطرس أهمّيّة، ولكنّه لم يكن الرأي النهائيّ والحاسم. والرسل الآخرون كان لهم دورهم أيضاً، فهم جميعاً أساس الكنيسة، أمّا حجر الزاوية، الذي بدونه ينهار البناء، فهو السيّد المسيح: “فأنتم بُنيتم على أساس الرسل والأنبياء، وحجر الزاوية هو المسيح يسوع نفسه” (أفسس 2: 20).
تحدّد دورَ بطرس ثلاثُ عبارات نطقها السيّد المسيح، هي: “أنت صخرٌ وعلى هذا الصخر سأبني كنيستي” (متّى 16: 18). “وأنت متى رجعتَ، ثبّتْ إخوانك” (لوقا 22: 32)، “يا سمعان أتحبّني أكثر من هؤلاء؟… إرعَ حملاني” (يوحنّا 21: 1-15). تجدر الإشارة إلى أنّ اثنتين من هذه العبارات الثلاث تلاها إنذار قاسٍ. فبعد أن يعد المسيح بطرس بأن يكون صخراً تبنى عليه الكنيسة يؤنّبه قائلاً: “ابتعد عنّي يا شيطان! أنت عقبة في طريقي، لأنّ افكارك هذه أفكار البشر لا أفكار الله” (متّى 16: 23). ثمّ بعد أن طلب المسيح من بطرس أن يثبّت إخوته، نسمع المسيح يقول له: “أقول لك يا بطرس لا يصيح الديك اليوم حتّى تنكرني ثلاث مرّات” (لوقا 22: 34).
يرى الكثير من آباء الكنيسة أنّ “الصخر” هو الإيمان الذي اعترف به بطرس بقوله “أنت المسيح ابن الله الحيّ” (متّى 16: 16)، مجيباً عن سؤال السيّد: “ومَن أنا في قولكم أنتم؟”0 بهذا المعنى يكون كلّ مؤمن والمؤمنون جميعاً، عند اعترافهم بالإيمان، بطرس آخر تبنى عليه الكنيسة. فأوريجانس (+ 254) يقول: “إذا قلنا نحن أيضاً: أنت المسيح ابن الله الحيّ، نصبح بالتالي بطرس، لأنّ كلّ مَن يتمثّل بالمسيح يصبح بطرس”. ويضيف القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم (+ 408) على قول يسوع “على هذا الصخر سأبني كنيستي”، العبارة التالية “أي على اعترافك بالإيمان سأبني كنيستي”، وقد قال قوله هذا الكثير من الآباء الأنطاكيّين، كثيوذوريطس القورشيّ (+ 460) والقدّيس يوحنّا الدمشقيّ (+ 750).
وفي الغرب أيضاً نجد ثمّة مَن نحا نحو هذا التفسير للفظ “الصخر”. فالقدّيس أمبروسيوس أسقف ميلانو (+ 397) قال: “إجهدوا لكي تكونوا صخراً. لا تبحثوا عن الصخر خارج ذواتكم بل في داخلكم. صخركم هو عملكم، إنّه روحكم (…) إنّه الإيمان، والإيمان أساس الكنيسة”. أمّا المغبوط أغسطينس أسقف هيبّو (+430) فيقول: “إنّ الكنيسة تقوم على الذي اعترف به بطرس بقوله أنت المسيح ابن الله الحيّ”. هكذا يكون بطرس قد استمدّ اسمه من هذا الصخر، فالمسيح لم يقل لبطرس أنت صخرة، بل قال: “أنت صخر” (باليونانيّة بتروس). والصخرة هي المسيح الذي اعترف به بطرس، كما تعترف به الكنيسة كلّها: “والصخرة هي المسيح” (كورنثس الأولى 10: 4).
لقد منح السيّد المسيح كلّ الرسل، وليس بطرس وحده، سلطان الربط والحلّ: “خذوا الروح القدس. مَن غفرتم خطاياهم تُغفر لهم ومَن أمسكتم عليهم الغفران يُمسك عليهم” (يوحنّا 20: 22-23). هذان الربط والحلّ يعنيان، في كلام ذلك العصر، سلطة إقصاء البعض عن الجماعة أو إعادتهم إليها. مهمّة الرعاية، إذاً، لا تنحصر بشخص واحد هو بطرس، بل هي تشمل كلّ الذين أعطيت لهم موهبة الرعاية. في هذا السياق يقول أغسطينس في إحدى عظاته: “لم يكن بطرس التلميذ الوحيد الذي يستحقّ أن يرعى حملان السيّد؛ ولئن تحدّث السيّد المسيح إلى واحد فقط، فهذا للتشديد على الوحدة ليس إلاّ”. لهذا، الكنيسة كلّها هي التي تسلّمت مفاتيح ملكوت السموات. يقول ترتليانس (+220): “تذكّروا أنّ السيّد سلّم المفاتيح إلى بطرس، وبواسطته إلى الكنيسة، وهذه المفاتيح يحملها كلّ شخص يعترف بالإيمان عندما يُسأل عنه”.
لا شكّ أنّ الكنيسة اعترفت بأوّليّة بطرس في الجماعة لأنّها رأت فيه ذاك الذي نفّذ في حياته قول السيّد المسيح: “مَن أراد أنّ يكون الأوّل فيكم، فليكن لجميعكم خادماً” (مرقس 10: 44). ولكنّ هذه الأوّليّة لا تفترض سلطة قانونيّة على باقي الرسل بل هي أوّليّة في الخدمة، كما يقول القدّيس أمبروسيوس: “الأوّليّة هي أوّليّة اعتراف وليست أوّليّة شرف، إنّها أوّليّة إيمان لا أوّليّة سلطة”. لقد أدّى الانحراف عن هذا المفهوم للأوّليّة في الغرب المسيحيّ إلى تعظيم دور أسقف رومية وسلطته على حساب باقي الأساقفة المنتشرين في المسكونة كافّة. وهذا ممّا أدّى إلى الانشقاق بين الشرق والغرب واستمراره إلى اليوم. العودة إلى بطرس الرسول تعني العودة إلى الإيمان الصافي، إلى الشهادة الأولى التي قالها بطرس باسم الرسل جميعاً في خطبته الأولى يوم العنصرة: “فيسوع هذا قد أقامه الله ونحن كلّنا شهود على ذلك” (أعمال الرسل 2: 32). وقد قدّم القدّيس بطرس دمه شهادة من أجل هذا الإيمان الذي حمله وبثّه في العالم كلّه.
بولس رسول الأمم:
اسمه الأصلي شاول، والده فريسي أصيل من طرسوس، تربّى على الروح اليونانية، واللغة والقانون الروماني وصرامة المجمع اليهودي . “شاول شاول لماذا تضطهدني؟ ” إنه كلام يسوع الناصري إلى بولس على طريق دمشق . يُجيب بعد أن تفجّر نورٌ في أعماقه كأنه من ينابيع سرية .
“ماذا أفعل يا رب “. استسلم المارد الجبّار، أذعن الذي ألقى المسيحيين في السجون وَقبِلَ بما يأمره به الرب . “إني مُرسلك إلى بلاد بعيدة “. بهذه الكلمات صنع يسوع من بولس رسولاً للأمم. فهِم بولس دعوته أنها جاءت من يسوع بالذات، ميزُته أنه لم يُرسَل من قِبَلِ بشر . قام بعددٍ من رحلاته التبشيرية ، وكتب رسائل عديدة أصبحت جزءاً من الكتاب الم قدس. رحلته الأخيرة بدأت من فلسطين حيث ُقيِّد بالسلاسل متوجهاً إلى رومية لشهد ويستشهد فيها، وكتب أثناء ذلك رسائل كثيرة. تعرض بولس خلال هذه الرحلات إلى الاضطهادات والمصاعب والمشقات، عانى من الجلدات والضرب بالعصي والرجم . عرف بولس ضعفه وعدم قدرته على تحملّ كل ذلك، فكانت كلمات يسوع تشدده : “تكفيك نعمتي لأن قوتي في الضعف تكمل “. إن البشارة التي أذاعها في كل المسكونة، وجميع الأعمال التي قام بها هي عمل يسوع في بولس.
يبقى سؤال : لماذا عيدهما في يوم واحد وهما على ما هما عليه من القداسة والبشارة المسيحية ؟
نعيّد لهما معاً لأن التقليد الكنسي يذكر أنهما استشهدا معاً في ٢٩ /حزيران سنة ٦٥ م في روما .
بطرس وبولس هامتا الرسل تظهرهما الأيقونة التراثية متعانقين، والأيقونات في عهد لاحق تجعلهما حاملي الكنيسة، فترمز بذلك إلى أن تعليمهما كان أساساً ومرتكزاً لها. عيد القديسين بطرس وبولس هو عيدنا في هذه الديار المشرقية لأنهما مؤسسي كنيستنا وكرسينا الأنطاكي المقدس واتخذتهما شفيعين لها.
سلاسل بطرس:
يستند العيد الذي نحتفل به في 16 كانون الثاني إلى ما ورد في الإصحاح الثاني عشر من سفر أعمال الرسل بشأن القبض على بطرس الرسول وسجنه وتقييده بسلاسل ثمَّ إطلاقه من قبل ملاك الرَّب.
ففي تلك الأيام أساء هيرودوس الملك، وهو هيرودوس أغريباس الأول، حفيد هيرودس الكبير، الذي حكم اليهودية والسامرة ما بين العامين 41و 44م، أقول أساء إلى عدد من رجال الكنيسة إرضاء لليهود. فألقى القبض على يعقوب، أخي يوحنا الحبيب، وقتله بحد السيف. كما أمسك بطرس الرسول وألقاه في السجن مزمعاً أن يقدمه بعد الفصح إلى الشعب لأن الزمن كان الفطير. وقد سلمه إلى أربعة أرابع من العسكر ليحرسوه.
في تلك الأثناء كانت الكنيسة تصلي بلجاجة إلى الله من أجله. وقبل أن يمثل بطرس للمحاكمة، في الليلة التي سبقت وقوفه أمام الحكَّام، والمفترض أن تكون الأخيرة قبل لفظ الإعدام بحقه على غرار يعقوب، كان مقيداً بسلسلتين إلى عسكريين، واحداً عن اليمين والآخر عن اليسار. وكان قدام الباب حراس يحرسون السجن، فحلّت بالعسكر والحراس غفوة عميقة ونزل ملاك الرب بنور بهي أضاء السجن، وضرب جنب بطرس وأيقظه قائلا له: “قم عاجلاً!” للحال سقطت السلستان من يديه. ثم قال له: “تمنطق والبس نعليك!”. ثم قال له: “البس رداءك واتبعني!”. فلبس رداءه وتبعه وهو لا يعلم أن ما جرى له كان في اليقظة لا في الحلم كما ظن. ثم اجتاز الملاك وبطرس المحرس الأول والثاني إلى أن وصلا إلى الباب الخارجي المؤدي إلى المدينة فانفتح لهما من ذاته. فخرجا وابتعدا قليلاً مسافة زقاق واحد. وإذ أضحى بطرس في مأمن فارقه الملاك، فعاد الرسول إلى نفسه وتيقن من تدبير الله فسبح وشكر.
ثم أنه جاء إلى بيت مريم، وهي أم يوحنا الملقب مرقص، حيث كان كثيرون مجتمعين وهم يصلون. فلما قرع الباب جاءت جارية اسمها رودا، التي معنى اسمها وردة، لتسمع. وإذ عرفت أنه بطرس ارتبكت من الفرح، وبدل أن تفتح له تركته يخبط على الباب. فقالوا لها أنت تهذين! فأصرت أنه هو إياه وأنها سمعت صوته. فقالوا إنّه ملاكه! وفيما استغرق من في الداخل في الأخذ والرد لبث بطرس يقرع. فلما فتحوا له ورأوه اندهشوا، فأخبرهم بما جرى له وكيف أخرجه الرب من السجن. ثم غادرهم إلى موضع آخر.
أما السلاسل التي جرى تقييد الرسول بها فقد حصل عليها، فيما بعد، مسيحيون أتقياء وحفظوها فتنوقلت من جيل إلى جيل إلى أن استقرت في كنيسة على اسم سلسلة الرسول بطرس في القسطنطينية، بقرب كنيسة الحكمة المقدسة، حيث جرت بواساطتها، وعلى مدى أجيال أعداد من العجائب والأشفية. الكنيسة التي ضمت سلسلته تم تكريسها في السادس عشر من كانون الثاني، كما يبدو، فحُسب العيد في مثل هذا اليوم. هذا فيما درج الغرب على التعييد لها في الأول من أب، وهو ذكرى إنشاء كنيسة تحمل الاسم نفسه في رومية، الكنيسة عريقة في قدمها، ولكن لا نعرف ما إذا كانت السلسلة التي وصلت إلى رومية هي إيَّاها التي كابدها الرسول في أورشليم. بعض الآراء تقول بأن التي في رومية كابدها الرسول هناك لا في أورشليم.
يُذكر أن بعضاً من سلسلة الرسول بطرس موجود اليوم في دير ديونيسيوس وبعضها في دير ايفيرون ودير القديس بندلايمون في جبل آثوس.