الأب ماطوس:سأله أخٌ قائلاً: «قل لي كلمةً». فقال له الشيخ: «اطلب إلى الله أن يعطيكَ نوحاً في قلبك وتواضعاً في نفسِك وتأملاً دائماً في خطاياك، ولا تدن آخرين، ولا تجعل لك صداقةً مع صبي، ولا معرفةً بامرأةٍ، ولا صديقاً مخالفاً، ولا صلةً بإنسانٍ ما، واضبط بطنَك ولسانَك، وإن تكلم أحدٌ بحضرتِك فلا تلاججه، وإن قال لك جيداً قل نعم، وإن تكلم رديئاً فقل: أنت أخبر بما تتكلم به، ولا تمارِ ولا تماحك، فهذا هو حدُ الخلاصِ».
وسأله آخر: «قل لي كلمةً». فقال له: «اقطع عنك كلَّ مماحكةٍ في الأمورِ كلِّها، وابكِ ونح فقد قَرُبَ الوقتُ».
كذلك سأله آخر قائلاً: «ماذا أصنعُ فإن لساني يغلبني، وفي كلِّ وقتٍ أحضرُ بين الناسِ لا أستطيع أن أضبطَه، وتجدني أدينهم على كلِّ فعلٍ رديء». فأجابه الشيخ قائلاً: «إن كنتَ لا تستطيع ضبط لسانك فاهرب منفرداً لأن هذه الحالة ناتجةٌ عن ضعفٍ، فالذي يريد أن يجلسَ مع الإخوةِ ينبغي ألا يكون ذا أربعة قرونٍ بل يكون مدوّراً، حتى يمكنه التدحرج نحو الكلِّ».
وقال الشيخ: «لستُ من أجلِ الفضيلةِ أنا جالسٌ في الوحدةِ، ولكن من أجلِ الضعفِ، لأن المتقلبين بين الناسِ لهم قوتان».
وقال أيضاً: حدث أن مضى ثلاثةُ إخوةٍ إلى الأب بفنوتيوس، وسألوه كلمةً، فقال لهم الشيخ: «امضوا، وليكن عندكم الحزنُ أفضلَ من الفرحِ، والتعبُ أفضلَ من النياحِ، والإهانةُ أفضلَ من الكرامةِ، وليكن عطاؤكم أكثر من أخذِكم».
القديس مرقص تلميذ الأب سلوانس: قيل عنه إنه كانت له طاعةٌ عظيمةٌ،كما كان كاتباً. وكان الشيخ يحبه كثيراً من أجل طاعتِه. وإذ كان له أحد عشر تلميذاً آخرين، فهؤلاء كانوا يحزنون بسببِ حبهِ له أكثر منهم، فلما سمع الشيوخُ بذلك جاءوا إليه ولاموه على ذلك. فما كان منه إلا أن أخذهم وخرج وقرع على كلِّ قلايةٍ قائلاً: «أيها الأخ هلمَّ إليَّ فإني محتاجٌ إليك». فلم يتبعه ولا واحدٌ منهم فوراً. وأخيراً جاء إلى قلاية مرقص وقرع البابَ قائلاً: «يا مرقص». فلما سمع صوتَ الشيخ وثب في الحالِ وخرج خارجاً، فأرسله في خدمةٍ. فقال للمشايخ: «أيها الآباءُ، أين باقي الإخوة»؟ ثم دخل قلاية مرقص مفتشاً فوجده كان يكتب وقت ندائهِ عليه، وقد بدأ بكتابةِ الأعدادِ الكبرى التي منها ( أوميجا فوقها خط والتي تعني ثمانمائة). فعند سماعِه صوت الشيخ لم يُرسل القلمَ ليتمَّها فتركها حرف wفقط، فلما رأوا ذلك هكذا قالوا: «بالصوابِ تحبُّ هذا الأب، ونحن نحبُّه والله يحبُّه».
وحدث في بعضِ الأوقاتِ أن كان الأب سلوانس يمشي مع مشايخ في الإسقيطِ، ومرقص معه، فأبصر الشيخ خنزيراً برياً، فقال لمرقص: «أترى يا ولدي هذا الوحش الصغير»؟ قال: «نعم يا معلم». قال الشيخ: «انظر كيف أن قرونَه مستويةٌ حسنة». قال له: «نعم يا معلم». فتعجب الشيوخُ من جوابهِ وانتفعوا من عدم مراجعتِه لمعلمِه.
الأب ميليسيوس:قيل عنه إنه عبر يوماً بموضعٍ فرأى راهباً ممسوكاً متَّهماً في جريمةِ قتلٍ، فدنا الشيخ وسأل الأخَ عن أمرهِ فعلم أنه قد اتُّهم ظلماً. فقال الشيخ لماسكيه: «أين يوجد المقتول»؟ فأروه إياه. فبسط يديه وصلى إلى الله، ثم قال للميت قدام الجميع: «قل لنا من قتلك»؟ قال الميتُ: «إني دخلتُ الكنيسةَ وأعطيتُ القسَ مالاً ليحفظَه لي، فقام عليَّ وذبحني، وحملني وطرحني قدام قلاية هذا الراهبِ. فأريدُ أن يؤخذ المالُ من القسِ ويُعطى لأولادي». فقال الشيخ: «ارقد ثانيةً حتى يأتي الربُّ ويقيمك».
وسأل أخٌ الأب موتيوس قائلاً: «أريد أن أمضي لأسكنَ في موضعٍ، فماذا تريدني أن أتدبَّر هناك»؟ فقال له الشيخ: «إن سكنتَ في موضعٍ فاحذر أن لا تُخرج لك اسماً في شيءٍ من الأشياء، بل في كلِّ موضعٍ جلستَ فيه، اتبع الكلَّ مساوياً نفسكَ بهم، وكل ما تراه من أفعالِ الورعين الأتقياء الذين يُنتفَع منهم، فافعله مثلهم، وبذلك تتنيح. لأن هذا هو الاتضاع أن تساوي نفسَك بإخوتِك، حتى إذا أبصرك الناسُ تدخل وتخرج مع الإخوةِ لا يزعجونك».
الأب مرقص المصري:قيل عنه إنه مكث ثلاثين سنة لم يخرج خارجاً عن قلايتهِ، وقد اعتاد قسيسٌ أن يأتي إليه، ويقوم بخدمةِ القداس. فاحتال الشيطانُ في إيقاعه في ألم الدينونةِ، فأوعز إلى بعضِهم فأتوْا إليه بإنسانٍ مجنونٍ بروحٍ نجس، طالبين أن يصليَ عليه، فقبل كلِّ شيءٍ بدأ المريضُ يقول له: «إن قسيسك له رائحة الخطية، فلا تدعه يدخل إليك». فقال له الشيخ: «أيها الولدُ، إن كلَّ الناسِ يطرحون الجيفَ والنجاسةَ خارجاً، أما أنت فقد أدخلتها إليَّ، أما كُتب لا تدينوا لكي لا تدانوا، فهو وإن كان خاطئاً، لكن الربَّ يخلصه، لأنه كُتب: وإن هو سقط فالرب يقيمه. وقد كُتب أيضاً: وليصلِّ بعضُكم من أجلِ بعضٍ لكي تُشفوا». وإذ قال ذلك صلى صلاةً فهرب الشيطانُ من ذلك الإنسانِ، وصرفه خائباً. فلما أتى القسُ كعادته قبله الشيخ بفرحٍ، فلما أبصر الإلهُ الصالح أمانةَ الشيخ، كشف له سراً وهو أن القسيسَ عندما اعتزم الوقوف قدام المائدةِ المقدسةِ، رأى الشيخ أن ملاكاً قد انحدر من السماءِ، ووضع يدَه عليه، فصار كعمودِ نارٍ، فعجب الشيخ من ذلك المنظرِ، وإذا بصوتٍ يأتيه قائلاً: «لماذا تعجب؟ إن كان الملكُ الأرضي لا يرتضي أن يقفَ أحدُ خدامِه بين يديه بلِباسٍ قذر، فكم بالحري ملك السماوات فإنه يجلل خدامَه الواقفين بين يديه بالمجدِ».
الأب مقاريوس المدني: قيل إن أحدَ الإخوةِ استمر يتردَّد عليه مدة أربعة أشهر يومياً، وذلك ليسأله عن كلمةٍ، فكان كلما ذهب إليه لا يجده متفرغاً من الصلاةِ حتى ولا مرةً واحدةً. فعجب الأخُ لذلك وقال: «هذا ملاكٌ وليس بإنسانٍ، وانتفع جداً».
قال الأب مطونس: «كلما دنا الإنسانُ من اللهِ، فإنه يرى نفسَه خاطئاً، لأن إشعياء النبي لما أبصر الله دعا نفسَه دنساً ونجساً».
قيل: مدح الآباءُ شخصاً في وجهِه بين يدي الأب أنطونيوس، فأراد الأب أن يمتحنَه إن كان يحتمل الذمَّ، فلم يحتمل، فقال: «هذا الأخُ يشبه قريةً مزينةً من خارجٍ، لكنها من داخلٍ خاويةً، بل ملآنةً من اللصوص».
وقيل أيضاً: شكا أخٌ إلى شيخٍ قائلاً: «إني أضربُ المطانيةَ للأخِ الواجد عليَّ، وهو غير نقي الفكرِ والضمير معي». فقال له الشيخ: «لستَ تقولَ الحقَ، لأنك وأنت تضرب المطانية، تؤديها له بدونِ أن تتوبَ إليه من كلِّ قلبك». فقال له الأخُ: «نعم، بالصوابِ حكمتَ». قال له الشيخ: «من أجلِ ذلك لا يُقنعه الله أن ينقيَ ضميرَه معك، لأنك لم تضرب له المطانيةَ وأنت مُسَلِّمٌ بخطئك نحوه، بل لا زال يَعْلُق في ضميرِك أنه هو المخطئ. ضع في ضميرِك أنك أنت المخطئ، وزَكِّ أخاك وبرِّئه من الخطيةِ، وحينئذ يحقق الله ذلك في فكرِه، ويُعطِّفه نحوك».
وسأله أخٌ آخر قائلاً: «إني أصنعُ مطانيةً للأخِ، ويبقى قلبي واجداً عليه». فأجابه الشيخ: «إن هذا هو الحقدُ، وهو يتولَّد من الغضبِ، كما تتولَّد النارُ من القدحِ، فبالمطانية شفيتَ الغضبَ، ولكنك ما استأصلتَ الحِقدَ، فيجب أن تقطعَ الأوجاعَ وهي طريةٌ صغيرةٌ قبل أن تتفرَّع وتقوى فيعسُر قطعها. فلماذا لا تفهم ما تقوله قدام اللهِ في المزمور السابع: “يا ربي وإلهي، إن كنتُ صنعتُ هذا، وكان في يديَّ ظلمٌ، أو كافأتُ ظالمي شراً، إذاً أسقطُ في يدِ أعدائي خائباً، ويطلبُ العدو نفسي ويدركها”. فإن كافأنا شراً بشرٍّ فنحن ندعو على أنفسنا لا ندعو لها. والمكافأةُ (على الشرِّ) تارةً تكون بالفعلِ، وتارة بالقولِ، وتارة بالفكرِ، وهذا هو الحقدُ. فقد لا يُحزِن من أحزنه، لكنه إذا رأى أو سمع أن غيرَه قد أحزنه يفرحُ، وقد لا يرى ذلك ولكنه يشتهي أن يراه، وهذه كلها من وجوه الحقدِ، وبعضُها أصعبُ من بعض».
كذلك سأل أخٌ شيخاً قائلاً: «ماذا أعمل يا أبي، فإني عاتبٌ على أخي، وليس في نيتي سماحٌ بأن أغفرَ له»؟ فلما سمع الشيخ هذا الكلام رفع عينيه إلى السماءِ وضرب صدرَه قائلاً له: «يا شقي، إن كنتَ تُغضب ربَ السماوات والأرض، وهو يطيل روحَه عليك ويغفر لك إذا ما تبتَ إليه، فكيف لا تغفر أنت لأخيك»؟
قال شيخٌ: «لقد تركنا الطريقَ المستقيمةَ التي رسمها لنا آباؤنا، وهي أن نلومَ ذواتَنا، ورجعنا باللائمةِ على القريبِ منا، وأصبح كلُّ واحدٍ منا يحرصُ ويجتهدُ في أن يُرجعَ السببَ على أخيه في كلِّ أمرٍ ويطرح ثقلَه على قريبهِ. كما صار كلُّ واحدٍ منا متهاوناً، وفي نفسِ الوقتِ نطالب قريبَنا بحفظِ الوصايا، مع أننا لا نحفظ شيئاً منها».
حدث في أحدِ الأيامِأن جاء إلى شيخٍ أخان غاضبان على بعضِهما، وشكا إليه الأكبر منهما قائلاً: «إني إذا أمرتُ أخي بعملِ شيءٍ، فإن أمري هذا يُحزنه، كما أني أحزنُ كذلك لحزنِه، مفكِّراً أنه لو كان كاملاً في محبتهِ لي لكان يقبلُ ما أقولُه له بفرحٍ». أما الأصغرُ فقال: «يا ليتَه يكلمني بحسبِ مشيئةِ الله، لكنه يأمرني بسُلطةٍ حسب مشيئته، ولذلك لا يوافقني قلبي على طاعتهِ بحسب ما أوصى به الآباءُ». فقال الشيخ: «يعلمُ الله أني متحيرٌ كيف أن الاثنين يلومُ كلٌّ منهما الآخرَ، كما يحزنان دون أن يلومهما أحدٌ، فعِوض أن يرجع الواحدُ منهما باللائمةِ على نفسِه ويقول: حقاً إني بسُلطةٍ أكلمُ أخي ولذلك يحزن؛ نراه بالعكس يقول: إنه لم يكن كاملاً في محبته لي. كذلك الآخر فعِوض أن يقول إن أخي يكلمني بحسب مشيئة الله لمنفعتي، نراه بالعكس أيضاً يقول: إنه يأمرني بسُلطةٍ حسب مشيئته. وهكذا بقي الاثنان حزينين بدون وجه حق، وذلك لأننا نستعمل أقوالَ آبائنا باعوجاجٍ حسب نوايانا الخبيثة، فكلُّ واحدٍ منا يلقي الذنبَ على رفيقهِ، ولذلك لا ننجح ولا نفلح».
قال شيخٌ: «إن كلمتَ إنساناً كلمةً تنخسه بها، لكنه لم يحس، فلا تتب إليه ولا تعطِه مطانية، ولا تُقلق الأخَ».
وقال أيضاً: «إن عملتَ عملاً وسطَ جماعةٍ، وعرفتَ أنه يُحدِثُ عثرةً وشكاً، فأسرع واستره، ولا تتوسع فيه، ليعبرَ بغير قلقٍ».